المجلس الثامن والخمسون بعد المئتين
قال الله تعالى مُخاطباً لنبيِّه (صلّى الله عليه وآله) ومُثنياً عليه : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )(1) . وسأل رجل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن حسن الخُلق , فتلا قوله تعالى : ( خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ )(2) . ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) : (( هو أنْ تصل مَن قطعك ، وتُعطي مَن حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك )) . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّما بُعثت لاُتمِّمَ مكارمَ الأخلاق )) . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( أثقلُ ما يُوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله ، وحُسنُ الخُلق )) . وقال رجل لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) : أوصني . فقال : (( اتَّقِ اللهَ حيثُ كُنت )) . قال : زدني . قال : (( اتبع السّيئةَ الحسنة تمحها )) . قال : زدني . قال :(( خالق النّاس بخُلق حسن )) . وقيل له : يا رسول الله , إنّ فلانة تصوم النّهار وتقوم الليل وهي سيّئة الخُلق , تُؤذي جيرانها بلسانها . قال : (( لا خيرَ فيها , هي من أهل النّار )) . وقال أبو الدّرداء : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( أوّل ما يُوضع في الميزان حسن الخُلق والسّخاء )) . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّكم لنْ تسعوا النّاس بأموالكم , فسعوهم ببسط الوجه وحُسن الخُلق )) . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّ أحبَّكم إليَّ وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة , أحسنكم أخلاقاً )) .
وقد فصّل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) مكارم الأخلاق ، ومرضى الأفعال في بعض أدعية الصّحيفة الكاملة , فقال : (( وَأَغْنِنِي وَلاَ تَفْتِنِّي بِالبطَرِ ، وَأَعِزَّنِي وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلاَ تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ ، وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيَّ الْخَيْرَ ، وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ ، وَهَبْ لِي مَعَـالِيَ الأخْـلاَقِ ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ ، وَلا تَـرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَـةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا ، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِرَاً إلاّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا .
أللَّهُمَّ ، لا تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنِّي إلاّ أَصْلَحْتَهَا ، وَلا عَائِبَةً اُؤَنَّبُ بِهَا إلاّ حَسَّنْتَهَا ، وَلاَ اُكْـرُومَـةً فِيَّ نَاقِصَةً إلاّ أَتْمَمْتَهَا ، وَوَفِّقْنِي لِطَاعَةِ مَنْ سَدَّدَنِي وَمُتَابَعَةِ مَنْ أَرْشَدَنِي ، وَسَدِّدْنِي لأنْ اُعَـارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْـحِ ، وَأَجْـزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ ، وَاُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ ، وَاُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ ، واُخَـالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إلَى حُسْنِ الذِّكْرِ ، وَأَنْ أَشْكرَ الْحَسَنَةَ وَاُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَـةِ ، وَحَلِّنِي بِحِلْيَـةِ الصَّالِحِينَ .
وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ المُتَّقِينَ فِيْ بَسْطِ الْعَدْلِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ ، وَإطْفَاءِ النَّائِرَةِ ، وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ ، وَإصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَإفْشَاءِ الْعَارِفَةِ ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ وَخَفْضِ الْجَنَـاحِ ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ ، وَسُكُونِ الرِّيـحِ ، وَطِيْبِ الْمُخَالَقَـةِ ، وَالسَّبْقِ إلَى الْفَضِيلَةِ ، وإيْثَارِ التَّفَضُّلِ ، وَتَرْكِ التَّعْيِيرِ وَالإفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ ، وَالـقَوْلِ بِالْحَقِّ وَإنْ عَـزَّ ، وَاسْتِقْلاَلِ الخَيْـرِ وَإنْ كَثُـرَ مِنْ قَـوْلِي وَفِعْلِي ، وَاسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وَإنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي ، وامنعني مِنْ السَّرَفِ ، وحصّنْ رزقي مِنْ التَّلفِ )) .
وأهل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله) هم أحسن النّاس أخلاقاً , لا يلحقهم في ذلك لاحق , ولا يسبقهم سابق ، ومنهم تعلّم النّاس مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ، ومنهم مولانا الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) , وله في مكارم الأخلاق أخبار كثيرة تنبو عن الحصر , منها : إنّه مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً على كساء فسلّم عليهم , فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم ، وقال : (( لولا أنّه صدقة لأكلتُ معكم )) . ثمّ قال : (( قوموا إلى منزلي )) . فأطعمهم وكساهم ، وأمر لهم بدراهم .
ومن مكارم أخلاقه ، إنّه جنى غلامٌ له جناية توجب العقاب فأمر بضربه , فقال : يا مولاي , ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) . قال : (( خلّو عنه )) . فقال : يا مولاي , ( وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ ) . قال : (( قد عفوتُ عنك )) . قال : يا مولاي , ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )(3) . قال : (( أنت حُرٌّ لوجه الله , ولك ضعف ما كُنتُ أعطيك )) .
وحيّته جارية بطاقة ريحان , فقال لها : (( أنت حرّة لوجه الله تعالى )) . فقيل له : تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها ! قال : (( كذا أدّبنا الله ، قال الله تعالى : وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا(4) . وكان أحسنَ منها عتقُها )) .
أمثل هذا الإمام في فضائله التي لا تُبارى , يُزال عن حقّه وتتعدّى عليه بنو اُميّة ، وتخفيه حتّى أخرجته من حرم جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى حرم الله , ثمّ دسّت إليه الرجال لتغتاله في الحرم ، فخرج إلى العراق فجهّز إليه الدعيُّ ابن الدعيِّ عبيد الله بن زياد الجيوش ـ بأمر يزيد بن معاوية ـ وضيّق عليه , ومنعه التوجّه في بلاد الله العريضة حتّى قُتل عطشان ظامياً ، وحيداً فريداً غريباً , وقُتلت أنصاره وسُبيت عياله ؟!
فعلتُمْ بأبناءِ النَّبيِّ ورهطهِ أفاعيلَ أدناها الخيانةُ والغدرُ
* * *
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة القلم / 4 .
(2) سورة الأعراف / 199 .
(3) سورة النّساء / 86 .
(4) سورة آل عمران / 134 .
المجلس الثامن والخمسون بعد المئتين
- الزيارات: 1307