طباعة

المجلس التاسع والخمسون بعد المئتين


المجلس التاسع والخمسون بعد المئتين
أوجب الله تعالى التوبة على كلّ مذنب بقوله : ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ )(1) . ومعنى التّوبة : هي النّدم على الذّنب والعزم على عدم العود إليه . ووجوبها ثابت بالعقل والنّقل , وهي واجبة على الفور بدون تأخير . وقد وعد الله تعالى بقبول التّوبة ، بقوله : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السّيِّئَاتِ )(2) . وقوله تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى )(3) .
ومِن كرم الله تعالى وفضله على عباده , إنّ مَن نوى منهم السّيئة ولم يفعلها لم تُكتب عليه , فإنْ فعلها انتظره الملك الموكّل بكتابة السّيئات سبع ساعات , فإنْ تاب قبل مضي سبع ساعات لم تُكتب عليه , وإنْ يتُب كُتبت عليه سيئة واحدة , وإذا نوى الحسنة ولم يفعلها , كُتبت له حسنة واحدة , فإنْ فعلها كُتبت له عشر حسنات .
وقال زين العابدين (عليه السّلام) في دعاء وداع شهر رمضان من أدعية الصّحيفة الكاملة , مشيراً إلى التّوبة : (( أَنْتَ الَّذِيْ فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَاباً إلَى عَفْوِكَ وَسَمَّيْتَهُ التَّوْبَـةَ ، وَجَعَلْتَ عَلَى ذلِكَ البَابِ دَلِيلاً مِنْ وَحْيِكَ لِئَلاَّ يَضِلُّوا عَنْهُ ، فَقُلْتَ تَبَارَكَ اسْمُكَ : تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ(4) . فَمَا عُذْرُ مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ ذلِكَ الْمَنْزِلِ بَعْدَ فَتْحِ الْبَابِ وَإقَامَةِ الدَّلِيْلِ ؟ )) .
وأشار (عليه السّلام) إلى شيء من حدود التّوبة وشروطها في دعائه في ذكر التّوبة وطلبها من أدعية الصّحيفة , فقال : (( أللَّهُمَّ ، إنِّي أَتُـوبُ إلَيْـكَ فِي مَقَامِي هَذَا مِنْ كَبَائِرِ ذُنُوبِي وَصَغَائِرِهَا ، وَبَوَاطِنِ سَيِّئآتِي وَظَوَاهِرِهَا ، تَوْبَةَ مَنْ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِمَعْصِيَة ، وَلاَ يُضْمِرُ أَنْ يَعُودَ فِي خَطِيئَة ، وَقَدْ قُلْتَ يَا إلهِي فِي مُحْكَمِ كِتابِكَ إنَّكَ تَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِكَ ، وَتَعْفُو عَنِ السَّيِّئآتِ ، وَتُحِبُّ التَّوَّابِينَ ، فَاقْبَلْ تَوْبَتِي كَمَا وَعَدْتَ ، وَأعْفُ عَنْ سَيِّئآتِي كَمَا ضَمِنْتَ ، وَأَوْجِبْ لِي مَحَبَّتَكَ كَمَا شَـرَطْتَ ، وَلَـكَ يَـا رَبِّ شَـرْطِي أَلاّ أَعُودَ فِي مَكْرُوهِكَ ، وَضَمَانِي أَلاّ أَرْجِعَ فِي مَذْمُومِكَ ، وَعَهْدِي أَنْ أَهْجُرَ جَمِيعَ مَعَاصِيكَ .
أللَّهُمَّ ، وَإنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِي بِالتَّوْبَةِ إلاَّ بِعِصْمَتِكَ ، وَلا اسْتِمْسَاكَ بِي عَنِ الْخَطَايَا إلاَّ عَنْ قُوَّتِكَ . أللَّهُمَّ ، أَيُّما عَبْد تَابَ إلَيْكَ وَهُوَ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ فَاسِخٌ لِتَوْبَتِهِ ، وَعَائِدٌ فِي ذَنْبِهِ وَخَطِيئَتِهِ ، فَإنِّي أَعُوذُ بِكَ أنْ أَكُوْنَ كَذلِكَ ، فَاجْعَلْ تَوْبَتِي هَذِهِ تَوْبَةً لا أَحْتَاجُ بَعْدَهَا إلَى تَوْبَة ، تَوْبَةً مُوجِبَةً لِمَحْوِ مَا سَلَفَ ، وَالسَّلاَمَةِ فِيمَـا بَقِيَ .
أللَّهُمَّ ، وَإنِّي أَتُوبُ إلَيْكَ مِنْ كُلِّ مَا خَالَفَ إرَادَتَكَ مِنْ خَـطَرَاتِ قَلْبِي ، وَلَحَـظَاتِ عَيْنِي ، وَحِكَايَاتِ لِسَانِي . أَللَّهُمَّ ، إنْ يَكُنِ النَّدَمُ تَوْبَةً إلَيْكَ فَأَنَا أَنْدَمُ اْلنَّادِمِينَ ، وَإنْ يَكُنِ التَّرْكُ لِمَعْصِيَتِكَ إنَابَةً فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنِيبينَ ، وَإنْ يَكُنِ الاسْتِغْفَارُ حِطَّةً لِلذُّنُوبِ فَإنِّي لَكَ مِنَ الْمُسْتَغْفِرِينَ )) .
 وكان الحُرّ بن يزيد التميمي اقترف ذنباً عظيماً في خروجه لحرب الحسين (عليه السّلام) , ومنعه عن الرّجوع وضيّق عليه , ثمّ لمّا تاب تاب الله عليه واستشهد بين يدي الحسين (عليه السّلام) , فرافق الحسين وجدّه وأباه (صلوات الله عليهم) في أعلى درجات الجنان , وذلك لمّا رأى الحُرُّ أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين (عليه السّلام) , قال لعمر بن سعد : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟! قال : أي والله , قتالاً أيسره أنْ تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي .
فأخذ الحُرّ يدنو من الحسين (عليه السّلام) قليلاً قليلاً ، وأخذه مثل الأفكل ( وهي : الرّعدة ) ، فقال له المهاجر بن أوس : إنّ أمرك لمريب ! والله ، ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا ! ولو قيل لي : مَن أشجع أهل الكوفة ؟ ما عدوتك , فما هذا الذي أرى منك ؟! فقال الحُرّ : إنّي والله , اُخيّر نفسي بين الجنّة والنّار ، فوالله , لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت وحُرّقت . ثمّ ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين (عليه السّلام)
ويده على رأسه ، وهو يقول : اللهمّ , إليك اُنيت فتب عليّ , فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيّك .
وقال للحسين (عليه السّلام) : جعلت فداك يابن رسول الله , أنا صاحبك الذي حبستك عن الرّجوع , وسايرتك في الطّريق , وجعجعت بك ( أي : ضيّقت عليك ) في هذا المكان , وما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم , ولا يبلغون منك هذه المنزلة . والله , لو علمتُ أنّهم ينتهون منك إلى ما أرى , ما ركبت مثل الذي ركبت ، وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي وإلى ربّي , مواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك , فهل ترى لي من توبة ؟ فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( نعم يتوب الله عليك , فانزل )) . قال : أنا لك فارساً خير منّي راجلاً , اُقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النّزول يصير آخر أمري . فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( فاصنع يرحمك الله ما بدا )) . فقاتل حتّى قُتل , وفاز بالشّهادة .
ولمّا جيء بسبايا أهل البيت إلى دمشق ، واُوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السّبي , جاء شيخ فدنا من نساء الحسين (عليه السّلام) وعياله , وتكلّم بما كان من عظم الذّنوب , ثمّ لمّا وعظه زين العابدين (عليه السّلام) وأبان له ما كان يجهله , تاب فتاب الله عليه ونال درجة الشّهادة ؛ وذلك أنّه قال لهم : الحمد لله , الذي أهلككم وقتلكم , وأراح البلاد من رجالكم , وأمكن أمير المؤمنين منكم .
فلم يقابله زين العابدين (عليه السّلام) بسبٍّ ولا شتم حيث علم أنّه جاهل ، بل جاءه باللين والموعظة الحسنة , وقال : (( يا شيخ , هل قرأت القرآن ؟ )) . قال : نعم . قال : (( فهل عرفت هذه الآية : قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى(5) ؟ )) . قال : نعم . قال : (( فنحن القُربى )) . (( فهل قرأت : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ (6) ؟ )) . قال : نعم . قال : (( فنحن القُربى )) . (( فهل قرأت : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى(7) ؟ )) . قـال : نعم . قال : (( فنحن القُربى )) . (( وهل قرأت : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(8) ؟ )) . قال : نعم . قال : (( فنحن أهل البيت الذين اختصنا الله بآية الطّهارة )) . فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به ، وقال : بالله إنّكم هم ؟! قال (عليه السّلام) : (( تالله ، إنّا لنحن هم من غير شكّ ، وحقِّ جدّنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) .
فبكى الشيخ ورمى عمامته ، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وقال : اللهمَّ ، إنّي
أبرأ إليك من عدوِّ آل محمَّد من جنّ وإنس . ثمّ قال : هل لي من توبة ؟ فقال له : (( نعم , إنْ تبت تاب الله عليك , وأنت معنا )) . فقال : أنا تائب . فبلغ يزيدَ خبرُه فأمر به فقُتل .
ذرِّيَّةٌ مثلُ ماءِ المُزنِ قدْ طَهرُوا        وطُيِّبوا فصفتْ أوصافُ ذاتِـهمُ
أئمَّـةٌ أخـذَ اللهُ العهـودَ لهُـمْ      على جميعِ الورَى منْ قبلِ خلقِهمُ

ــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النّور / 31 .
(2) سورة الشّورى / 25 .
(3) سورة طه / 82 .
(4) سورة التحريم / 8 .
(5) سورة الشّورى / 23 .
(6) سورة الإسراء / 26 .
(7) سورة الأنفال / 41 .
(8) سورة الأحزاب / 33 .