طباعة

ليلة الوحشة

 

ليلة الوحشة
    باتت العائلة المفجوعة ليلة الحادية عشرة من المحرم بحالة لا يستطيع أي قلم شرحها ووصفها ، ولا يستطيع اي مصور أن يصور جانباً واحداً من جوانب تلك الليلة الرهيبة.
    قبل أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة باتت العائلة المكرمة وهي تملك كل شيء ، وهذه الليلة أظلمت عليها وهي لا تملك شيئاً.
    رجالها صرعى مرملون بدمائهم ، وأطفالها مذبحون ، والأموال قد نهبت ، والأزر والمقانع سلبت ، والظهور والمتون قد سودتها السياط وكعاب الرماح.
    ليس لهم طعام حتى يقدموه إلى من تبقى من الأطفال ، ولا تسأل عن المراضع اللواتي جف اللبن في صدورهن جوعاً وعطشاً.
    واستولت على العائلة ـ وخاصةً الأطفال ـ حالة الفواق ، وهي حالة تشنج تحصل للإنسان حينما يبكي كثيراً ، فتتشنج الرئة ، ويخرج النفس متقطعاً.
    يا للفاجعة ، يا للمأساة ، يا للمصائب.
    لا غطاء ، ولا فراش ، ولا ضياء ، ولا أثاث ، ولا طعام.
    قد أحدقت السيدات بالإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وهو بقية الماضين ، وثمال الباقين ، وهن يتفكرن بما خبأ لهن الغد من أولئك السفاكين.
    فالفاجعة لم تنته بعد ، والظلم ـ بجميع أنواعه ـ بالنتظار آل رسول الله الطيبين الطاهرين ، والحوادث المؤلمة سوف تمتد إلى غد وما بعد غد ، وإلى أيام وشهور ، مما لا بالبال ولا بالخاطر.
    وسوف تبدأ رحلة طويلة مليئة بالآلام والأهات والدموع.
    وحكي أن السيدة زينب ( عليها السلام ) تفقدت العائلة في ساعة من ساعات تلك الليلة ، وإذا بالسيدة الرباب لا توجد مع النساء ، فخرجت السيدة زينب ومعها أم كلثوم ، وهما تناديان : يا رباب .. يا رباب.
    فسمعها رجل كان موكلاً بحراسة العائلة ، فسألها ماذا تريدين ؟!
    فقالت السيدة زينب : إن إمرأةً منا مفقودة ولا توجد مع النساء.
    فقال الرجل : نعم ، قبل ساعة رأيت امرأة منكم إنحدرت نحو المعركة !
    فأقبلت السيدة زينب حتى وصلت إلى المعركة ، وإذا بها ترى الرباب جالسة عند جسد زوجها الإمام الحسين ( عليه السلام ) وهي تبكي عليه بكاءً شديداً وتنوح ، وتقول في نياحتها :
وا حسيناه وأين مني حسين                   أقصـدته أسنة الأدعيـاء
غادروه فـي كربلاء قتيلاً          لا سقى الله جانبي كربلاء
    فأخذت السيدة زينب ( عليها السلام ) بيدها وأرجعتها معها إلى حيث النساء والأطفال.
    وفي هذا الجو المتوتر ، والوضع المقرح للفؤاد ، يقول الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : « فتحت عيني ليلة الحادية عشر من المحرم ، وإذا أنا أرى عمتي زينب تصلي نافلة الليل وهي جالسة ، فقلت لها : يا عمة أتصلين وأنت جالسة » ؟
    قالت : نعم يابن أخي ، والله إن رجلي لا تحملني !! (1)
________________________________________
1 ـ كتاب « زينب الكبرى » للشيخ جعفر النقدي ، ص 58.