إشارات
الإشارة الأولى : قرأنا في رواية العيّاشي (رحمه اللّه) لفظة (سمّتاه) ، وفي رواية الفيض (قدّس سرُّه) لفظة (سقَتاه) ، والمعنى إلى مؤدّىً واحد ، أي وضعَتا للنبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) السمّ ، أو جعلتا السمّ في ما يُشرب من ماءٍ أو لبن مثلاً ، فشرِبَه (صلّى اللّه عليه وآله) وسُقيَ معه السُمَّ الذي دُسّ فيه .
الإشارة الثانية : رواية العيّاشي تبدأ بـ ( تدرون ... ؟! ) ورواية الفيض تبدأ بـ ( أتدرون ... ؟! ) ، وكلتاهما تريدانِ السؤال ، مرّة بهمزة الاستفهام ، ومرّة بالاستغناء عنها .
وصيغة الاستفهام هنا لم تأت طلباً لفهم مجهول ، فالأمر بالنسبة للسائل ـ وهو المعصوم (صلوات اللّه عليه) ـ معلوم واضح ، وكم سائلٍ عن أمره وهو يعلم ، وإنّما جاءتْ هذه الصيغة لاستثارة الموضوع واستقطاب الأفهام إلى أمرٍ مهمٍّ مطويٍّ مجهولٍ بالنسبة للناس .
الإشارة الثالثة : استشهد الإمامُ الصادق (سلام اللّه عليه) بأنسب آية في قضيّة وفاة النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) بأيّ سببٍ كانت ؛ وذلك لأنّ قوله تعالى : ( أفإنْ مات أو قُتل ) ـ كما يرى بعضُ أهل الفهم ـ مُثيرٌ لشبهةِ قتلٍ يقع على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ، فكأنّ الآية تريد أنْ تقول : إنّ من الجائز أنْ يُقتَل الأنبياء حتّى المصطفى الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله) رغم أنّه سيّدُهم وأشرفهم .
إذاً ، فلا غرابة أنْ يكون شهيداً ، ثمّ لا غرابة أنْ يكون هنالك من المقرَّبين مَنْ تُسوّل له نفسُه بأنْ يرتكب مثلَ هذه الجريمة العظمى . ثمّ لا غرابة أنْ يكون هنالك ممّنْ ينقلبُ على عقبيهِ علناً بعد رحيل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ، أو يرتدّ الكثير ، ويبقى أهلُ الصبر في أشدّ العناء ، ولكنَّ اللّه (تعالى) مجازيهم ، هو نعم المولى ونعم النصير .
وهو القائل (عزّ مِن قائل) في تتمّة الآية المباركة : ( ... ومَن ينقلبْ على عقِبَيهِ فلن يَضُرَّ اللّه شيئاً وسيجزي اللّهُ الشاكرين )(1) .
روى ابن شهر آشوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ( أَفَإِنْ مَاتَ أَو قُتِلَ انْقَلَبْتُم عَلى أَعقابِكُم ومَنْ ينقلبْ على عقِبَيهِ فلن يضرَّ اللّه شيئاً وسيجزي اللّهُ الشاكرين ) , يعني بالشاكرين : عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ، والمرتدّين على أعقابهم : الذين ارتدّوا عنه(2) . أجل ، فهو (سلام اللّه عليه) الصابر الشاكر مِن قبلُ ومِن بعد .
روى الشيخ الطبرسيّ (قُدّس سرُّه) بإسناد عن جملة من الرواة ينتهون إلى الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) , يروي عن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) خطبة الغدير ، وفيها : (( معاشرَ الناس ، هذا عليٌّ أخي ووصيّي ، وواعي علْمي ، وخليفتي على اُمّتي وعلى تفسير كتاب اللّه (عزّ وجلّ) ، والداعي إليه ، والعامل بما يرضاه ، والمحارب لأعدائه ، والموالي على طاعته ، والناهي عن معصيته , خليفةُ رسول اللّه ، وأميرُ المؤمنين ، والإمام الهادي ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بأمر اللّه .
معاشر الناس ، أُنذرُكم أنّي رسول اللّه قد خلتْ مِن قبليَ الرسل ، أفإنْ مِتُّ أو قُتلتُ انقلبتُم على أعقابكم ، ومَنْ ينقلب على عقِبَيه فلن يضرَّ اللّه شيئاً وسيجزي اللّه الشاكرين . أَلا وإنّ عليّاً هو الموصوف بالصبر والشكر ، ثمّ مِن بعدهِ وُلْدي مِن صُلبه ))(3) .
وبإسنادٍ للشيخ الطوسي إلى ابن عبّاس أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان يقول في حياة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) : (( إنّ اللّه (عزّ وجلّ) يقول : (وما محمّدٌ إلاّ رسول قد خلت مِن قبلهِ الرسل أفإنْ ماتَ أو قُتل انقلبتُم على أعقابكم) ، واللّهِ لا ننقلبُ على أعقابنا بعد إذْ هدانا اللّه . واللّهِ لئنْ مات أو قُتل لأُقاتلنّ على ما قاتل عليهِ حتّى أموت . واللّهِ إنّي َلأخوه وابنُ عمّه ووارثُه ، فمَنْ أحقُّ به منّي ؟! ))(4) .
وهكذا نلاحظ إثارة الاحتمال للقتل واقعاً على النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) في الآية الشريفة ، وفي خطبة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ، وحديث أمير المؤمنين (عليه السّلام) .
الإشارة الرابعة : إنّ الفعلينِ (سمَّتاه) و (سقَتاه) قد دخلَ عليهما ضمير التثنية (الألف) بعد تاء التأنيث ؛ فالألف فاعل ، والهاء ضمير متّصل مبنيٌّ على الضمّ في محلّ نصب مفعول به ، عائد بالمعنى على النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) .
أمّا الألف ـ وهو هنا ضمير متّصل أيضاً مبنيٌّ على السكون في محلّ رفع فاعل ـ فهو عائد على مثنّى مؤنث . قال الفيض الكاشانيّ (رحمه اللّه) توضيحاً لقول الإمام الصادق (عليه السّلام) : (إنّهما سقتاه) : يعني الامرأتين(5) .
فضمير التثنية إذاً كناية عن المرأتينِ اللتين قال اللّه (عز ّوجلّ) فيهما : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)(6) .
فالفعلانِ (تتوبا) و (تظاهرا) ، والاسم (قلوبكما) دخل عليهم ألف التثنية ، وهو ضمير عائدٌ على مثنّى مؤنث ، فمَنْ هما يا تُرى ؟ نترك التعريف بهما للرواية : عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ، عن ابن عبّاس ، قال : وجدتْ حفصةُ رسولَ اللّه مع أمّ إبراهيم(7) في يوم عائشة ، فقالت : لأُخبرنّها . فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) : (( اكتمي ذلك ... )) .
فأخبرت حفصةُ عائشةَ بذلك ، فأعلم اللّهُ نبيَّهُ فعرّف حفصةَ أنّها أفشت سرَّه ، فقالت له : مَنْ أنبأَك هذا ؟ قال : (( نبّأنيَ العليمُ الخبير )) . فآلى رسولُ اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) مِن نسائهِ شهراً ، فأنزل اللّهُ (عزّ اسمُه) : (إنْ تتوبا إلى اللّه فقد صغَتْ قلوبُكما) .
قال ابنُ عبّاس : فسألتُ عمرَ بن الخطّاب : مَنِ اللتانِ تظاهرتا على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ؟ فقال : حفصة وعائشة(8) .
وروى كثير من علماء العامّة وحفّاظهم بأسانيدهم عن ابن عبّاس قال : لم أزل حريصاً أن أسأل عمرَ عن المرأتين من أزواج رسول اللَّه اللّتَين قال اللَّه تعالى : ( إنْ تتوبا إلى اللّه فقد صغَتْ قلوبُكما ) , حتّى حجّ عمر وحججتُ معه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، مَنْ المرأتان من أزواج النبيّ (صلّى اللَّه عليه وآله) اللتان قال اللَّه تعالى : ( إنْ تتوبا إلى اللّه فقد صغَتْ قلوبُكما ) ؟
فقال عمر : واعجباً لك يابن عبّاس! ـ قال الزهري : كَرِه واللَّهِ ما سأله ولم يكتمه ـ ثمّ قال : هما حفصة وعائشة ...(9) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 144 .
(2) مناقب آل أبي طالب 2 / 120 .
(3) الاحتجاج 1 / 62 .
(4) أمالي الشيخ الطوسيّ / 502 ـ المجلس 18 , ح 6 ، وعنه : تفسير نور الثقلين للحويزيّ 1 / 401 , ح 389 .
(5) تفسير الصافي 1 / 359 .
(6) سورة التحريم / 3 ـ 4 .
(7) أي ماريّة القبطيّة (رحمة الله عليها) .
(8) أمالي الشيخ الطوسيّ / 151 ـ المجلس 6 , الحديث الأوّل .
(9) الكشف والبيان للثعلبيّ 9 / 346 ، وتفسير ابن كثير 4 / 638 ، والدرّ المنثور للسيوطيّ 6 / 243 , حيث نقل الخبر عن عبد الرزّاق , وابن سعد , وأحمد بن حنبل , والعَدَنيّ , وعبد بن حميد , والبخاريّ , ومسلم , والترمذيّ , وابن حبّان , وابن المنذر , وابن مردويه ، بأسانيدهم جميعاً عن ابن عبّاس .