• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

البحث الأول: الإمامة ومستلزماتها

التمهيد
البحث الأول: الإمامة ومستلزماتها
الإمامة: هي رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا (8) والإمام: هو الذي له هذه الرئاسة (9).
وقال الشيخ المفيد: الإمامة في التحقيق على موضوع الدين واللسان: هي التقدم في ما يقتضي طاعة صاحبه و الاقتداء به في ما تقدَم به (10).
وقد عرَفها القاضي الآبي من متكلّمي الإمامية بقوله: الإمامة: التقدم لأمر الجماعة (11).
وقال فخر المحقّقين: الإمام هو الذي له الرئاسة العامّة في اُمور الدين والدنيا، نيابةً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (12)
فإذا كانت الإمامة بهذه السعة في شمول نفوذها، وهي كذلك عند المسلمين الشيعة، الذين يعتقدون بإمامة السجاد عليه السلام، فلا يمكن أن تفرَغ من السياسة فضلا عن أن يكون للإمام نفسه التخلّي عنها، واعتزالها .
خصوصاً إذا لاحظنا رأي الشيعة في الإمامة، فهم يعدونها من الاصول الاعتقادية، ويعظّمون شأنها، فيلتزمون بوجوب النصّ عليها من الله تعالى، باعتبار أنّ العلم بتحقّق شروطها، لا يكون إلا ممن يعلم الغيب ويطّلع على السرائر وليس هو إلا الله تعالى (13)
ولذلك: اختصّت الإمامة عند الشيعة بهالة من القدسية، وبإطار من العظمة، وبوفرة من الاهتمام، تجعلها عندهم بمنزلة النبوَة في المسئوليات، إلا أن النبوّة تمتاز بالوحي المباشر من الله تعالى، وقد استوحوا هذه المنزلة من قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيَ بعدي ...(14) الحديث الذي يُعتبر من أدلة إمامة عليّ عليه السلام .
وقد جاء التعريف الجامع للإمامة على رأي الشيعة الإمامية في حديث الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر عليه السلام، حيث قال:
... إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء .
إنّ الإمامة خلافة الله عز ّ و جلّ، وخلافة الرسول، ومقام أمير المؤمنين ... إنّ الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين .
إنّ الإمامة آس الإسلام النامي، وفرعه السامي ،... إلى آخر كلامه في ذكر الإمام وأوصافه، وواجباته (15)
ومن يُنكر أن تكون السياسة من صميم شؤون النبوَة، ومسئوليات النبيّ المهمة ? وأنّى تُبْعَد السياسة من اهتمامات نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم ?.
وقد اتفق الزيدية مع الإمامية على مجمل الذي ذكرناه، إلا أنهم عبَروا عن شرط الإمامة، بالخروج، وأضافوا: الدعوة إلى نفسه (16) .
ومن مذهبهم: أن كلّ فاطميّ، خرج وهو عالم، زاهد، شجاع، سخيّ، كان إماماً واجب الاتباع (17) .
وأضاف بعضهم: أن يكون قائماً، شاهراً لنفسه، رافعاً لرايته (18)وهو المراد بشرط الدعوة إلى نفسه .
والمراد بالخروج واضح، وهو إعلان العصيان على الحكومات الجائرة، الغاصبة للسلطة، وعدم الانقياد لحكمها .
وقد أدخل متأخّرو الزيدية كلمة السيف على هذا الشرط، فعبَروا عنه بالخروج بالسيف .(19)
ولعله باعتبار ملازمة الخروج للمقاومة، التي لا تخلو من مقارعة بالسيف ولذلك لم تخل حالات الخروج المعروفة في التاريخ من استعمال السيوف ووقوع ضحايا وشهداء.
أما لو اقتصرنا على مدلول الخروج الذي فسّرناه، فلم يختلف المذهب الزيدي عن الإماميّ، في الخروج على حكم السلطات وعدم الاعتراف بالحكّام غير الشرعيين، ورفض كل أشكال التحكّم الخارج من إطار الإمامة الحقّة .
وأمّا بناء على الالتزام بالخروج بالسيف شرطاً في الإمامة فإنَ الإمام علي بن الحسين السجاد، وأبناءه الأئمة عليهم السلام لم يقوموا بدور علنيّ في هذا المجال، حتّى نُسِبَ إليهم معارضة كلّ حركةٍ مسلّحة ضدّ الأنظمة الحاكمة . ولكنّ هذه التهمة بعيدة عن ساحة الأئمة عليهم السلام: .
أولاً: لأنّ عمل الأئمة علي والحسن والحسين عليهم السلام في قياداتهم للحروب واشتراكهم في المعارك، هو الحجّة عند الشيعة، ويكفي دليلاً على بُطلان هذه التهمة، لأنّ الإمامة شأنها واحد، فلو كان للأئمة السابقين أن يقوموا بعمل مسلّح، فمعناه جواز ذلك للا حقين، وأن ذلك لا ينافي الإمامة . فنسبة معارضة الحركة المسلّحة إلى أيّ إمام ثبتتْ إمامتُه، وكان مستجمِعاً لشرائطها، نسبة باطلة، فكيف تجعل دليلاً على نفي الإمامة عن أحد ? .
وثانياً: إنّ الإمام السجاد عليه السلام هو في أوّل القائمة التي وُجهت إليها هذه التهمة، مع أنّا نجد موقفه من السيف ينافي هذه التهمة تماماً ويُبطلها، فهو في الحديث التالي يعتبر إشهار السيف عملاً لمن هو سابق بالخيرات .
ففي تفسير قوله تعالى: (ثُمَ أوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِم لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِد وَمِنْهُمْ سَابِق بِالْخَيْرَاتِ بإذنِ اللهِ ذْلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبيرُ) فاطر: 35 الآية 32 .
قال عليه السلام: نزلت والله فينا أهل البيت ثلاث مرات .
قال الراوي: أخبرنا: مَنْ فيكم الظالم لنفسه ? .
قال عليه السلام: الذي استوت حسناته و سيئا ته، وهو في الجنة .
قال الراوي: والمقتصد ? .
قال عليه السلام: العابد لله في بيته حتّى يأتيَهُ اليقين .
قال الراوي: فقلت: السابق والخيرات ? .
قال عليه السلام: مَنْ شهر سيفه، ودعا إلى سبيل ربه .(20)
فاعتقاد الإمام السجاد عليه السلام أنّ الفضل والسبق يتحقّق بإشهار السيف، يقتضي بُطلان نسبة معارضة الحركة المسلحة إليه عليه السلام .
وثالثاً: إنّ هذا الشرط الخروج بالسيْف ليس شرطاً على إطلاقه، وليس قابلا لأن يكون شرطاً للإمامة كذلك .
ومن ثَمَ، فإنّ التُهمة المذكورة مردودة وباطلة .
وقد يكون مَنْ قلّل من شدّتها وحِدَتها، فعمد إلى تخفيفها، وعبَر عنها بدعوى عدم صحة الإمامة لو أَرخى الإمام ستره، وأغلق بابه (21) كان ينظر إلى هذه الملاحظة .
فإنّ هذه الصيغة يمكن التأمّل فيها، والبحث عنها، من حيث أنّها لا تتجاوز شرط الخروج بالمعنى الذي عرفناه، لأنها يمكن أن تكون فرضاً للحدّ الأقل من الفروض الممكنة للخروج، وأن إشهار السيف هو الحدّ الأكثر له.
ومع أنّ إغلاق الباب، وإرخاء الستر ليس ذكراً إلا لأبعد الاحتمالات الممكنة، فإنّا لم نَجِدْ في سيرة الإمام السجاد عليه السلام وكذلك الأئمة من ولده مثل هذا الإرخاء وهذا الستر.
فهم عليهم السلام وإن لم يشهروا السلاح الحديدي لكنهم لم يغلقوا أبوابهم، بل نجد سيرتهم مليئة بالنشاط القيادي، حتّى في أصعب الحالات، وأقسى المواقف والظروف، وأكثرها حساسية، كما في حالة الأسر التي مرّ بها الإمام السجاد عليه السلام، وحالة السجن التي مرّ بها الإمام الكاظم عليه السلام، فإنهم لم ينقطعوا فيها عن أداء دورهم المتاح لهم .
هذا بغضّ النظر عن عملهم الدؤوب في إرشاد الناس وهدايتهم إلى الحق في اُصول العقائد، ومن ذلك إعلان إمامة أنفسهم، وتعريفهم بالحق الصحيح من فروع الأحكام وعلم الشريعة، وتربيتهم على الأخلاق الفاضلة، وتعليمهم سنن الحياة الحرّة الكريمة، هذا العمل الذي هو الهدف لكل الأنبياء في رسا لاتهم، ولكل المصلحين في نضالهم، وهو من أميز وظائف الأئمة، وأبرز واجبات الإمامة .
والظالمون من الحكّام غير الإلهيين يقفون أمام مثل هذا العمل، ويعدّونه تحدّياً لسلطانهم، ومنافياً لمصالحهم، وبناء على ذلك: فالقائم به يكون معارضاً سياسياً خارجا عليهم ولو بغير سيف.
وإصرار الأئمة من أهل البيت عليهم السلام على هذا العمل، إلى جانب مَنْ كان يقوم منهم بنشاط مسلّح، يدل على أن الجهاد في هذا المجال له من الأهمية والأثر في الوصول إلى الأهداف المنشودة من الإمامة، ما يوازي الحاصل من الجهاد المسلّح، على أقلّ الاحتمالات .
ويمكن التأكّد من ذلك، من خلال الممارسات العنيفة للحكّام الظالمين تجاه أولئك الأئمة الذين لم يحملوا السلاح، بنفس الشكل الذي واجهوا به المجاهدين المسلّحين .
فعمليات المراقبة، والمطاردة، والجلب إلى مراكز القوّة والجند عواصم الحكم، بل السجن، والتهديد، والضغط على بعض الأئمة الاثني عشر، من الأمور التي كانت قائمة ومستمرة، على الرغم من عدم مد أيديهم إلى الأسلحة الحديدية .
إنّ ذلك يدلّ بوضوحٍ على أنّ الحكّام عرفوا أن هؤلاء الأئمة يحاربونهم بأسلحة أفتك من السيف .
كما يعرف كلّ المناضلين: أن الحرب الفكرية والاختراق الثقافي من أساليب ما يُسمّى بالحرب الباردة، هي أشد ضراوة، وأعمقُ أثراً في الخصم، وأنفذُ في كيانه، من الحرب بالأسلحة .
وهل يجرؤ عارف بالتاريخ الإسلامي على إنكار الأثر البارز للأئمّة الاثني عشر عليهم السلام في هذا المجال ? فضلاً عن نسبة إغلاق الباب وإرخاء الستر إليهم.
لولا الخطأ في الحكم ? أو التعمّد في تخطّي الحقائق ? .
وعلى كلّ، فإنّ حالة إرخاء الستر، وإغلاق الباب لا تمثّل إلا أبعد الفروض المحتملة، والممكنة الوقوع في حياة الأئمة عليهم السلام .
كما أنّ حالة إشهار السيف تمثّل أقوى الفروض، وأشد الحالات وأحوجها إلى مثل ذلك .
فكلا الفرضين محتمل في الإمامة .
فكما أنّ من الممكن فرض حالة إشهار السيف في ما إذا تحقّقت الظروف المناسبة للحركة المسلّحة، وتوافرت الشروط والإمكانات اللازمة للخروج بالسيف، إذ لم نجد نصّاً يمنع الحركة، فضلاً عن أن يجوّز للإمام تفويت تلك الفرص، وتبديد تلك الإمكانات .
فكذلك إذا اجتمعت شروط الإمامة غير السيف فإنّ تحدّي الظالمين عَبْرَ وسائل أخرى، تعبّر عن الخروج والتصدّي لحكمهم، هو المتعيّن للكشف عن عدم الرضا باستمرار الأنظمة الجائرة، ولا يمكن أن يُعتبر ذلك نقطة ضعف، أو يُجعل دليلاً على التخلّي عن الحركة المسلّحة .
ومن هنا نعلم أن السيف ليست له موضوعية، وهو ليس شرطاً بإطلاق الكلمة، من دون تقييد بوقتٍ، ولا محدوديّة بإمكانيات .
بل، لا ريب في أن الخروج بالسيف، مشروط بما يحقّق الأهداف المطلوبة منه، وهي لا تتحقّق بالخروج العشوائي، بل، لابدّ أن يتأهَب الخارج لها، ويُعدّ للأمر ما يلزم له من قوّة وعُدّة .
و إلا، فإنّ الانفراد في الساحة و الاستبداد بالرأي من دون أنصار، أو بأنصار غير كفوئين، أو من غير خُطّة مدَبرة مدروسة، أو في ظروف غير مؤاتية .
إن الخروج ولو بأقوى سيف في مثل ذلك لا يمكن أن يكون شرطاً لشيٍ متوقّع، فضلاً عن أن يكون شرطاً لشي هامّ مثل الإمامة .
هذا إذا صدق على مثل ذلك اسم غير الانتحار.
وقد أرشد الإمام السجاد عليه السلام إلى هذه الحقيقة في احتجاجه على من اعترض عليه بترك الجهاد، والالتزام بالحجّ، بقوله: تركتَ الجهاد صعوبته، وأقبلتَ على الحجّ ولينه، والله عزّ و جلّ يقول: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتَلون إلى قوله وبشّر المؤمنين) .(التوبة: 9 الآية 111).
فقال الإمام عليه السلام: إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ .(22)
وهو المستفاد من كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الشقشقية: أما والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت أوّلها بكاس آخرها (23)
ولو كان الخروج واجباً على كل حال، وغير مشروط، لما قال الإمام هذا الكلام .
وفي الجامع الكافي للشريف العلوي: قال الحسن عليه السلام: ويحقّ على من أراد الله والانتصار للدين: أن لا يُظهر نفسه، ولا يعود بسفك دمه ودماء المسلمين، وإباحة الحريم، إلا ومعه فئة المتديّنين يوثق بطاعتهم ووفائهم .(24)
إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى إلى علي عليه السلام، قال: يا أخي، عليك بالصبر، إلا أن تجد أعواناً وأنصاراً، فاشهر سيفك حينئذٍ، فإن لم تجد أعواناً وأنصاراً، فاحقن دمك، فإنّ القوم لم ينسوا قتل ساداتهم في مواقفك التي شرّفك الله تعالى بها في دينه .(25)
نعم، قد يضطرّ الواقع إنساناً أبيّاً، إلى الإقدام على الخروج المسلّح، وإن لم توجد شروطه، لحاجة الوضع إلى إثارة، فيضحّي بنفسه فداءً من أجل قضيّته . وهذا وإن كان لا يُسمّى في قاموس اللغة خروجا ولا في مصطلح الفقه جهاداً ولا يمكن أن يُعتبر في حسابات العقل واجباً ولا في موازين المنطق شرطاً لشيء، فضلاً عن الإمامة .
إلا أنّه يحتوي على فضيلة هذه العناوين كلّها بأعظم شكل، إذ أنه يُعد في قاموس النهضات بطولة وفي وجدان الشعوب تضحية وفي روح الدين فداء وعلى صفحات التاريخ خلوداً ويكون قاعدةً لإصلاحات كبيرة، وباروداً انفجارات مهيبة، بعيدة أو قريبة، كما كانت نهضة الإمام الحسين الشهيد عليه السلام .(26)
وأخيراً: فإنّ من الممكن نفي اشتراط الإمامة بالخروج بالسيف خاصّة، على أساس المفهوم من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم دالا على إمامة الحسن والحسين عليهما السلام بقوله: ابناي هذان إمامان، قاما أو قعداً .(27) فإن القيام لو كان شرطاً للإمامة، والقعود لو كان منافياً لها، لما كان حتّى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يثبتها للحسنين عليهما السلام مع فرض القعود .
ثم إنَ الحسنين عليهما السلام، قد استجمعا هذا الشرط، فقاما وناضلا، فما هو المبرّر لفرض القعود في حقّهما ? وإبراز إمامتهما مع القعود ? فليس من الحكمة إظهار هذا المعنى، لو كان حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم موجّها إليهما بالخصوص .
إلا أنّ من الواضح أنّ المراد تعميم الحكم المذكور على الإمامة نفسها، باعتبارها واقعاً واحداً، وعلى الأئمة جميعهم، باعتبارهم قائمين بأمرٍ بعينه . والمفهوم من الحديث: أنّ الإمامة إذا ثبتتْ حَسَبَ الموازين المتّفق عليها، التي أهمّها النصّ، فإنّ القيامَ بالأمر والقعود، متساويان .
إذَنْ : فالذي يمكن أن يكون شرطاً لابدّ أن يعمّ الحركة المسلّحة المباشرة، وأن تكون هي وحدةً تمثّل تحقّق ذلك الشرط الذي تبتني عليه الإمامة، بل هي متعيّنة، عندما تتهيّأ ظروفها وتتكامل إمكاناتها، أو كما يُشخص الإمام نفسه ضرورة القيام بها.
ويتحقّقُ ذلك الشرط ضمن وحدات اُخرى تمثّله، وتوصل إلى الأهداف المطلوبة لأجلها الإمامة .
وذلك الشرط هو الإصلاح في الأمة .
وقد عُبرَ عنه في مصادر قدماء الزيدية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
في ما رواه الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، قال: بُلّغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: مَنْ أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذرّيتي فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله .(28)
ولم يختلف أحد من الأمة خاصة الشيعة - إمامية و زيدية - في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا على الإمام فحسب، بل على الأمة جمعاء .(29)
لكن هذا الواجب: .
أوّلاً: ليس من أصول الدين، بل من فروع العمل، ولذا كان وجوبه عامّاً على كلّ الأمة، فلا يمكن أن يؤخذ شرطاً خاصاً، لأصل دينيّ، كالإمامة، ولا على شخصٍ معيّن، كالإمام .
ثانياً: إنّ وجوبه ليس مطلقاً، بل هو مشروط ومقيّد بحالات (30)، فلا يعلّق عليه أمر ضروري مطلق، كالإمامة التي يعدّها الشيعة من أثافي الإسلام وأعمدته (31)
فمن القيود، عدم التقية :.
قال الإمام السجاد عليه السلام: التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتقي تقاةً .
قيل: وما تقاته ?
قال عليه السلام: يخاف جبّاراً عنيداً، أن يَفْرُطَ عليه أو أن يطغى (32).
ومنها، ظنَ التأثير :.
فإنْ لم يظنّ لم يجب .
بل جعل منها في الفقه ا لزيدي شرط: أن لا يؤدّي إلى مثله أو أنكر، أو تلفه، أو عضو منه، يقبح غالباً .
واحترز بقيد الغالب عمّا لو حصل بتلف القائم إعزاز لدين، كما كان من الحسين عليه السلام وزيد عليه السلام (33) .
فهو قد جعل حركة الحسين وزيد عليهما السلام مثلاً للأمر المعروف والنهي عن المنكر، ولا ريب في أنهما كذلك، وفي المنظار العام، بل هما من أروع الأمثلة وأعلاها.
وذكره للإمام الحسين عليه السلام مع أنّ إمامته ثابتة بالنصّ عند الشيعة إماميّة وزيديّةً دليل على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب آخر، من دون دخالةٍ له في أمر الإمامة .
والذي نستخلصه من هذا البحث:
أنّ الإمامة إنّما هي منصب إلهي يعتمد على النصَ خاصّاً كما يقوله الإمامية، أو عاماً كما يقوله الزّيدية وإذا ثبت النص على إمام بعينه كان الحجة على الأمة، مهما فعل من قيام أو قعود .
نعم، إن من المستلزمات الواضحة للإعلان عن الإمامة هو التحرّك في سبيل مصلحة الدين والمسلمين، والتحرق من أجل مشاكلهم وماَسيهم، والسعي في حلّ
أزماتهم بكلّ الطرق والسُبل، ولو بتجريد السيف .
ولعلّ اشتراط الخروج والدعوة الذي يظهر من كلمات الزيدية، يُراد كونه شرطاً لتعريف الأمة بالإمام، والإعلان عن بد حركته الجهاديّة، لا شرطاً في الإمامة وثبوتها للإمام، وبهذا يقترب المذهبان .
ولنختم هذا البحث بكلام اثنين من علماء الشيعة: من كبار علماء الزيدية، ومن كبار علمائنا الإماميّة :.
أمّا من الزيديّة: فعن الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام على ما نقل الشريف العلوي في(الجامع الكافي) لمّا سُئل عن خروج زيد عليه السلام وقعود جعفر عليه السلام ? انّه قال: خروج زيد صلّى الله عليه طاعة، وقعود جعفر عليه السلام طاعة، وليس للناس أن يحكموا عليهما (34)
وأمّا الإماميّ فهو الشيخ المحدث الحافظ، المتكلّم، الفقيه، أبو القاسم، علي بن محمد بن علي الخزّاز القمي ،فإنّه قال في كتابه القيّم كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر بعدما أورد النصوص المتضافرة على إمامتهم عليهم السلام ما نصه فإن قال قائل: فزيد بن عليّ، إذا سمع هذه الأخبار، وهذه الأحاديث من ثقات المعصومين، وآمن بها، واعتقدها، فلماذا خرج بالسيف ? وادّعى الإمامة لنفسه ? وأظهر الخلاف على جعفر بن محمد ? وهو بالمحل الشريف الجليل، معروف بالستر والصلاح، مشهور عند الخاص والعام بالعلم والزهد ? وهذا ما لا يفعله إلا معاند أو جاحد، وحاشا زيداً أن يكون بهذا المحل .
فأقول في ذلك، وبالله التوفيق: .
إن زيد بن علي عليه السلام خرج على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا على سبيل المخالفة لابن أخيه جعفر بن محمد عليهما السلام .
وإنما وقع الخلاف من جهة الناس، وذلك أنَ زيد بن علي عليه السلام لَمّا خرج، ولم يخرج جعفر بن محمد عليهما السلام توهَم قوم من الشيعة أنَ امتناع جعفر كان للمخالفة .
وإنما كان لضربٍ من التدبير .
فلمَا رأى الذين صاروا للزيدية سلفاً قالوا: ليس الإمام مَنْ جلس في بيته وأغلق بابه وأرخى ستره وإنّما الإمام مَنْ خرج بسيفه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
فهذا كان سبب وقوع الخلاف بين الشيعة، وأما جعفر و زيد عليهما السلام، فما كان بينهما خلاف (35)

___________________________________
(8) شرح المواقف، للجرجاني (8: 345) وانظر أنوار التمام لأحمد زبارة المطبوع مع الاعتصام (5: 404) .
(9) التعريفات، للجرجاني (ص 16) .
(10) الإفصاح، للمفيد (ص 27) .
(11) الحدود والحقائق (ص 15 رقم 16) .
(12) النكت الاعتقاديّة (ص 53) جواب السؤال (91)
(13) الإفصاح للمفيد (ص 27) وانظر الأحكام للهادي إلى الحق (2: 460 461) وإكمال الدين للصدوق (ص 9) .
(14) حديث المنزلة من المتواترات، قاله الكتاني في نظم المتناثر (ص 195 رقم 233) وأورده من حديث ثلاث عشرة نفساً، وقال: وقد تتبع ابن عساكر طرقه في جز، فبلغ عدد الصحابة فيه نيفاً وعشرين . وفي (شرح الرسالة) للشيخ جسوس: حديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى متواتر جاء عن نيف وعشرين صحابياً . وقد رواه من أصحاب الكتب: البخاري في صحيحه (4: 208) و (5: 129) ومسلم في صحيحه (2: 360) وأحمد في مسنده (1 :173) وانظر الاعتصام (5: 390)
(15) أورده الصدوق في الأمالي (ص 536 540) وهو تمام المجلس (97) وهو آخر مجلس في الكتاب
(16) الملل والنحل، للشهرستاني (1: 156) وانظر (ص 154) .
(17) الملل والنحل، للشهرستاني (1: 27) .
(18) المجموعة الفاخرة، ليحيى بن الحسين (ص 219) .
(19) لاحظ أوائل المقالات للمفيد (ص 44) ومعتزلة اليمن (17 18) .
(20)تفسير الحِبَريّ (ص 354) الحديث (88) وانظر الحديث (89) وتخريجاته، وكذلك الحديث (90) وشواهد التنزيل للحسكاني (2: 104) رقم (782) وفي الحديث (783) نحوه عن زيد الشهيد .
(21) كفاية الأثر، للخزّاز (ص 300 -302) ولاحظ معتزلة اليمن (ص17 -18) .
(22) الاحتجاج، للطبرسي (ص 315) وانظر الكافي (4 :257) ح 24، وثواب الأعمال (71: 7) ووسائل الشيعة (11: 95) تسلسل (14330) .
(23) الإفصاح للمفيد (ص 46) نهج البلاغة (315) .
(24) الاعتصام (5 :408) .
(25) المقنع في الإمامة، للسُدّآبادي (ص 99) وانظر (ص 109) .
(26) تحدّثنا عن ذلك في رسالة ذكرى عاشوراء والاستلهام من معطياتها فقهياً وأدبيّاً . ولا تزال مخطوطة .
(27) حديث متفق عليه بين المسلمين: صرَح بذلك الشيخ المفيد في النُكَت (ص 48) الفقرة (82) ورواه الصدوق في علل الشرائع (1: 211) عن الحسن عليه السلام، والخزّاز في كفاية الأثر (ص 117) من حديث أبي أيّوب الأنصاري، والمفيد في الإرشاد (ص 220) وابن شهر آشوب في المناقب (3: 394) وقال: أجمع عليه أهل القبلة، ورواه مجد الدين في التحف (ص 22) وأرسله في حاشية شرح الأزهار (4 :522) نقلاً عن كتاب الرياض، ورواه الناصر في ينابيع النصيحة (ص 237) وقال: لا شبهة في كون هذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول وبلغ حدَ التواتر فصحَ الاحتجاج به .
(28) درر الأحاديث النبوية بالأسانيد اليحيوية (ص 48) .
(29) شرح الأزهار (4: 582) .
(30) شرح الأزهار (4 :583) .
(31) لاحظ وسائل الشيعة (ج 1 ص 13 - 29) الباب الأول .
(32) حلية الأولياء، لأبي نعيم (3: 140) .
(33) شرح الأزهار (4 :584) وانظر الاعتصام (5 :425 و 543) .
(34) نقله السيد مجد الدين المؤيدي في: لوامع الأنوار (ج 1 ص 447)
(35) كفاية الأثر للخزّار (ص 300 -302) وانظر ثورة زيد بن علي (ص 140 -147) .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page