• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

ثالثاً: في مجال الشريعة والأحكام

يتميَز الإمام في نظر الشيعة، بأنَه ليس وليّاً للأمر، وحاكماً على البلاد والعباد فحسب، بل هو مَصدر لتشريع الأحكام أيضاً، باعتبار معرفته التامَة بالشريعة وارتباطه الوثيق بمصادرها .
والانحراف الذي حصل عن أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يكن في جانب حكمهم وولايتهم فقط، بل الأضرّ من ذلك هو الانحراف عن أحكام الشريعة التي كانوا يحملونها والحكّام الذين استولوا على أريكة الخلافة بأشكال من التدابير السياسيّة حتّى بلغ أمرها أن صارت (ملكاً عضوضاً) كانوا يُدركون أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام هم أولى منهم في كلا جانبي الحكم والولاية، وكذلك في جانب الفقه والعلم بالشريعة .
وكما أزْوَوا أئمّة أهل البيت عن الحكم والولاية على الناس، حاولوا أيضاً إزواءهم عن الفقه وإبعاد الناس عنهم، وذلك باختلاق مذاهب فقهيّة روّجوها بين الناس، وعارضوا الأحكام التي صدرت من أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وحاربوا فقهاءهم بشتّى الأساليب، فكان من أعظم اهتمامات الأئمّة وأتباعهم هو إرشاد الناس إلى هذا المعين الصافي للشريعة الإسلاميّة كي ينتهلوا منه .
وقد كان اهتمام الإمام السجّاد عليه السلام بليغاً بهذا الأمر، حيث كان يعيش بدايات الانحراف ولقد دعا الإمام عليه السلام إلى فقه أهل البيت عليهم السلام لكونه أصفى المناهل وأعذبها، وأقربها من معين القرآن الكريم، وسنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (فأهل البيت أدرى بما في البيت) .
ففي كلام له يشرح اختلاف الاُمَة، يقول: .
وكيف بهم ?
وقد خالفوا الاَمرين، وسبقهم زمان الهادين، ووُكلوا إلى أنفسهم، يتنسّكون في الضلالات في دياجير الظلمات .
وقد انتحلت طوائف من هذه الأمة مفارقة أئمّة الدين والشجرة النبويّة أخلاص الديانة، وأخذوا أنفسهم في مخاتل الرهبانيّة، وتغالوا في العلوم، ووصفوا الإسلام بأحسن صفاته، وتحلّوا بأحسن السنّة، حتّى إذا طال عليهم الأمد، وبَعُدَتْ عليهم الشُقّةُ، وامتُحِنوا بمحن الصادقين: رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهُدى، وعلم النجاة .
وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن، فتأوّلوه بآرائهم، واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا، يقتحمون أغمار الشبهات، ودياجير الظلمات، بغير قَبَسٍ نور من الكتاب، ولا أثرةِ علم من مظانّ العلم، زعموا أنهم على الرشد من غيّهم .
وإلى مَن يفزعُ خَلَفُ هذه الأمة ? .
وقد درست أعلام الملّة والدين بالفُرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً، والله تعالى يقول: (ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جأتهم البيّنات) .[ (سورة البقرة (2) الاَية (213)]
فَمن الموثوق به على إبلاغ الحجّة ? وتأويل الحكمة ? إلاّ إلى أهل الكتاب، وأبناء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، الذين احتجَ الله بهم على عباده، ولم يدع الخلقَ سُدى من غير حجّة .
هل تعرفونهم ?
أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة، وبقايا صفوة الذين أذهب الله عنهم الرجَس، وطهّرهم تطهيراً، وبرّأهم من الاَفات، وافترض مودّتهم في الكتاب (191) .
وقال عليه السلام لرجل شاجره في مسألة شرعيّة فقهيّة: يا هذا لو صرت إلى منازلنا، لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا، أيكونُ أحد أعلم بالسنّة منّا ? (192) .
وقال لرجل من أهل العراق:
أما لو كنت عندنا بالمدينة لأريناك مواطن جبرئيل من دورنا، استقانا الناسُ العلمَ، فتراهم علموا وجهلنا ?(193) .
ولنفس الهدف السامي، قاوم الإمام السجّاد عليه السلام الانحراف الفقهي الذي مُنِيَتْ به الاُمَة، بالتزام الشريعة وأخذها من أناس تعلّموا الفقه من طرق لا تتصل بمنابع الوحي الثرّة الصافية المأمونة .
فيقول عليه السلام: إنَ دين الله لايُصاب بالعقول الناقصة، والاَراء الباطلة، والمقاييس الفاسدة، لا يُصابُ إلاّ بالتسليم .
فمن سلَمَ لنا سَلِمَ، ومَن اقتدى بنا هُدِيَ، ومَن كان يعملُ بالقياس والرأي هَلَك، ومَن وَجَدَ في نفسه مما نقوله، أو نقضي به حرجاً، كَفَرَ بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم، وهو لا يعلم (194) .
وهكذا كان شديد النكير على تلك البوادر المضلّلة، وحارب بدعة تقليد غير أهل البيت عليهم السلام من المذاهب المنسوبة إلى البعداء عن ينابيعه نسبيّاً وحتّى سببيّاً، أولئك الذين روَجت الحكومات والدول الظالمة فقههم، لأنهم كانوا مسالمين لهم، ومنضوين تحت ضلالهم، من المتّكئين على آرائك الخلافة المزعومة .
وهذا الذي حذّر الرسول الأكرم منه في أحاديث مستفيضة، أوردنا نصوصها في كتاب (تدوين السنة الشريفة) وتحدّثنا عن دلالتها (195) .
وقد تمكَن الإمام زين العابدين عليه السلام من توضيح معالم فقه أهل البيت عليهم السلام وإرساء قواعده، وإغناء معارفه، وتزويد طلاّبه وتربيتهم، حتّى أقرّ كبارُ العلماء بأنّه (الأفقه) من الجميع، وفيهم عدّة من فقهاء البلاط ووعّاظ السلاطين:
قال أبو حازم: ما رأيت هاشميّاً أفضل من علي بن الحسين، وما رأيتُ أحداً كان أفقهَ منه (196) .
ومثله قال الزهري محمد بن مسلم بن شهاب (197) .
وقال الشافعي إمام المذهب: إن علي بن الحسين أفقه أهل البيت (198) .
وإذا لم يكن للحكّام المسيطرين، باسم الخلافة الإسلامية، نصيب من علم الشريعة وفقه الدين، بل كانت أعمالهم مخالفة لأحكام الله وسنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإذا كان فقهاء البلاط، وأصحاب المذاهب، يفخرون بالتلمذ عند علماء أهل البيت عليهم السلام (199) .
فإن إعلان الإمام السجاد عليه السلام عن حقيقة مذهب أهل البيت الفقهي وتبيين موقعيَته المتقدّمة على جميع المذاهب الفقهيّة، والدعوة إلى الالتزام به، هو نسف عملي لقواعد الخلافة المزعومة التي كان المتّكىء على أريكتها من أجهل الناس بالفقه، وكل الناس أفقه منه حتّى المخدّرات في الحجال وكذلك هو تقويض لأعمدة التزوير التي رفعت فساطيط المذاهب الرسميّة المدعومة من قبل دار الخلافة، و التي تبعها الهمج الرعاع من العوام أتباع كلّ ناعق .
وأخيراً: في إعمار الكعبة المعظّمة .
وللإمام موقف عظيم يدلّ على المراقبة التامّة لما يجري، مع التصدّي لاعتداءات الحكَام الظلمة على الرموز الأساسية للدين، وهو: موقفه من إعادة تعمير الكعبة، في ما رواه الكليني و الصدوق، بسندهما عن أبان بن تغلب، قال: لما هَدم الحجّاج الكعبة، فرّق الناسُ ترابها، فلمّا جاءوا إلى بنائها وأرادوا أن يبنوها، خرجتْ عليهم حيّة، فمنعتْ الناسَ البناء حتّى انهزموا . فأتوا الحجّاج، فأخبروه، فخاف أن يكون قد مُنع بناءَها، فصعد المنبر، وقال: اُنشد الله عَبْداً عنده خبرُ ما ابتُلينا به، لما أخبرنا به .
قال: فقام شيخ فقال: إن يكن عندَ أحَدٍ علم، فعند رجُلٍ رأيته جاء إلى الكعبة، وأخذ مقدارها، ثم مضى .
فقال الحجّاج: مَنْ هو ? .
قال: عليّ بن الحسين . .
قال: مَعْدِنُ ذلك، فبعثَ إلى علي بن الحسين، فأخبره بما كان من منع الله إيّاه البناء .
فقال له علي بن الحسين: يا حجّاج عمدتَ إلى بناء إبراهيم، وإسماعيل 8 وألْقيتَه في الطريق و انتهبه الناسُ، كأنك ترى أنه تُراث لك .
إصعد المنبر، فأنشد الناسَ أنْ لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلاّ ردّه .
قال: ففعل، فردّوه، فلمّا رأى جميع التراب، أتى علي بن الحسين فوضع الأساس، وأمرهم أن يحفروا .
قال: فتغيّبت عنهم الحيّة، وحفروا حتّى انتهى إلى موضع القواعد .
فقال لهم علي بن الحسين: تنحوْا، فتنَحَوْا، فدنا منها فغطّاها بثوبه، ثم بكى، ثم غطّاها بالتراب، ثم دعا الفعلة، فقال: ضَعُوا بناءكم .
فوضعوا البناء، فلمّا ارتفعت حيطانه، أمر بالتراب فاُلقي في جوفه .
فلذلك صار البيت مرتفعاً يُصْعَدُ إليه بالدرج (200) .
فالمراقبة واضحة في أخذ الإمام (مقادير الكعبة) لئلاّ تضيع المعالم الأثريّة لأكبر محورٍ لرحى الدين، وهي الكعبة الشريفة .
وإذا كانت تلك المراقبة تتمّ في ظرف ولاية مثل الحجّاج الملحد السفّاح الناصب لاَل محمد العداء المعْلَن، فلن تخفى أهميّتها، ودلالتها القاطعة على التحدّي .
ومواجهة الحجّاج بمثل ذلك الكلام (كأنّك ترى أنه تراث لك ) تصّدٍ لانتهاكه لحرمة الكَعْبة المعظّمة، والتلاعب بها حسب رغباته الخاصة .
وأهم ما في الأمر جرّ الحجّاج إلى التصريح بأن الإمام (هوَ مَعْدِن ذلك) وهي شهادة لها وقعها في الإلزام و الإبكات للخصم اللدود .
وأخيراً: نزول الإمام عليه السلام إلى القواعد وَحْدَه وربطه لنفسه بها بذلك الشكل أمام أعين الناظرين، إثبات لحقّه في إقامتها دون غيره .
وهل كلّ ذلك يتهيّأ إلاّ من التدبير العميق، والتخطيط الدقيق، ممّن يحمل هدفاً سامياً في قلب شُجاع، لا يملكه في تلك الظروف الحرجة، شخص غير الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام .

__________________________
(191) كشف الغمة للاربلي (2: 98 99) وانظر جامع أحاديث الشيعة للبروجردي (1 :40) الإمام زين العابدين للمقرّم (ص 242) .
(192) نزهة الناظر، للحلواني (ص 45) .
(193) بصائر الدرجات، للصفار (ص 32) .
(194) إكمال الدين (ص 324 ب 31 ح 9) .
(195) لاحظ الصفحات (352 359) و (425) من: تدوين السنة الشريفة .
(196) تاريخ دمشق الحديث (45) مختصر تاريخ دمشق (17: 240) وسير أعلام النبلاء (4: 394) وكشف الغمة (2: 80) .
(197) تاريخ دمشق (الحديث 37) وسير أعلام النبلاء (4: 389) وصفوة الصفوة (2 :99) .
(198) رسائل الجاحظ (ص 106) وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (15: 274) عن الرسالة للشافعي في خبر الواحد .
(199) كان أبو حنيفة إمام المذهب يقول: (لولا العامان لهلك النعمان) يشير إلى العامين اللذين حضر فيهما عند الإمام الصادق عليه السلام، وكان قبل ذلك قد أخذ من الإمام الباقر عليه السلام وأخيه زيد الشهيد . انظر الإمام جعفر الصادق، للجندي (ص 162) والنظم الإسلامية، لصبحي الصالح (ص 209) وموقف الخلفاء العباسيين لعبد الحسين علي أحمد (ص 37) ولاحظ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد (15: 274) وموقف الخلفاء (ص 31) عن الشكعة في الأئمة الأربعة (ص 52) وعن أبي زهرة في: أبو حنيفة (72) .
(200) نقله ابن شهر آشوب في المناقب (4: 152) ، عن الكافي وعلل الشرائع للصدوق.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page