• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

ثالثاً: في مجال مقاومة الفساد

وإذا كان من أهم واجبات المصلح، وخاصّة الإلهي، مقاومة الفساد، ومحاربة المفسدين في الأرض، فإنّ الإمام زين العابدين عليه السلام قام بدور بارز في أداء هذا المهمّ .
وقد تميّز عصر الإمام عليه السلام، بمشاكل اجتماعيّة من نوع خاصّ، وقد تكون موجودة في كثير من الأوقات، إلاّ أنّ بروزها في عصره كان واضحاً، ومكثّفاً، كما أنَ الإمام زين العابدين قام بمعالجتها بأسلوبه الخاصّ، مما أعطاها صبغة فريدة، تميّزت في نضال الإمام عليه السلام، أهمها
1- مشكلة العصبيّة، والعنصريّة . .
2-مشكلة الفقر العام . .
3 -مشكلة الرقّ والعبيد..
ولنبحث عن كل واحدة، وموقف الإمام عليه السلام في معالجتها:
1-مقاومة العصبيّة والعنصريّة: .
إن الأمويين بعد إحكام قبضتهم على الحكم اعتمدوا سياسة التفرقة العنصرية بين طوائف الأمة، والعصبية القبليّة بين مختلف طبقاتها، محاولين بذلك تفتيت المجتمع الإسلامي، وتقطيع أواصر الوحدة بين أفراد الأمة الإسلامية، تلك الوحدة التي شرّعها الله بقوله تعالى: (إنّ هذه أمتّكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) سورة الأنبياء: (21) الاَية: 92
ودفعاً لها على التفرّق الذي نهى عنه الله بقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَقوا ).[ سورة آل عمران: (3) الاَية: 103 ]
حتّى وصل الأمر إلى: أنّه تتابع فخر النزاريَة على اليمنيّة، وفخر اليمنيَة على النزاريَة، حتّى تخرّبت البلاد، وثارت العصبيّة في البدو والحضر كما يقول المسعودي (235) .
وقال ابن خلدون: إن عصبيّة الجاهلية نُسِيَتْ في أول الإسلام، ثم عادت كما كانت، في زمن خروج الحسين عليه السلام عصبية مضر لبني اُميّة كما كانت لهم قبل الإسلام (236)
. فقاموا بأعمال تسير على هذه السياسة الخارجة عن حدود الدين والشرع، مثل تأمير العرب، وتقديم العربي ولو كان خاملاً على الكفوئين من غير العرب، والسعي في تعريب كل شرائح وأجهزة الدولة، بتنصيب العرب في مناصب الديوان، والقضاء، وحتّى الفقه.
وتجاوزوا كلّ الأحكام الشرعية في التزامهم بأساليب الحياة العربية الجاهلية، فتوغّلوا في اللهو والاستهتار بالمحرَمات، والظلم، والقتل، حتّى تجاوزوا أعرافاً عربية سائدة بين العرب قبل الإسلام، فخانوا العهد، وأخفروا الذمّة، وهتكوا العرض (237) .
ولقد بلغت تعدّياتهم أن كان معاوية: يعتبر الناس العرب، ويعتبر الموالي شبه الناس (238)
وقد استغلّ الجاهلون هذا الوضع، فكان العرب لا يزوجون الموالي (239) .
وجاء في بعض المصادر أن حاكم البصرة بلال بن أبي بُردة ضرب شخصاً من الموالي، لأنه تزوجّ امرأةً عربيّة (240)
ووصلت عدوى هذا المرض إلى علماء البلاط أيضاً فاتبعوا سياسة الأسياد، فقد وجّهت إلى الزُهْريّ تهمة أنه لا يروي الحديث عن الموالي، فسئل عن ذلك ?
فاعترف بذلك(241).
قال أحمد أمين المصريّ: لم يكن الحكم الأموي حكماً إسلامياً يُسوّى فيه بين الناس، ويكافأ فيه المحسن عربياً كان أو مولىً، ويعاقب من أجرم عربياً كان أم مولى، ولم تكن الخدمة للرعيَة على السواء، وإنّما كان الحكم عربيّاً، والحكّام فيه خدمة للعرب على حساب غيرهم، وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية، لا النزعة الإسلاميّة (242) .
ولقد قاوم الإمام زين العابدين عليه السلام هذه الردّة الاجتماعية عن الإسلام بكل قوّة، وتمكّن بحكم موقعه الاجتماعي، وأصالته النسبيّة أن يقتحم على بني أمية، بلا رادع أو حرج .
قال الدكتور صبحي: في ما كان الأمويون يقيمون ملكهم على العصبيّة العربيّة عامة، كان زين العابدين عليه السلام يشيع نوعاً من الديمقراطيّة الاجتماعية (243) بالرغم مما يجري في عروقه من دمٍ أصيلٍ، أباً و اُمَاً، وقد أقدم على ما زعزع التركيب الاجتماعيّ للمجتمع الإسلاميّ الذي أراد له الأمويّون أن يقوم على العصبيّة (244) .
وقد قاوم الإمام زين العابدين عليه السلام ذلك، نظرياً بما قدّمه من تصريحات، وعمليّاً بما أقدم عليه من مواقف :
فكان يقول: لا يفخر أحد على أحدٍ، فإنّكم عبيد، والمولى واحد (245) .
وكان يجالس مولىً لاَل عمر بن الخطاب، فقال له رجل من قريش هو نافع بن جبير: أنت سيّد الناس، وأفضلهم، تذهب إلى هذا العبد وتجلس معه ?
فقال عليه السلام: أتي من أنتفع بمجالسته في ديني (246) أو قال: إنما يجلس الرجل حيث ينتفع (247) .
ومن المعلوم أن ما ينتفع به الإمام عليه السلام من هذا المولى ليس إلاّ بنفس المجالسة، فإنّ هذه المجالسة تحقّق للإمام غرضه السياسي من إعلان معارضته لسياسة بني اُميّة المبتنية على طرد الموالي وعدم احترامهم، فإذا جالسه الإمام زين العابدين عليه السلام وهو مَنْ لا يُنكر شرفه نسبا وحسباً فإنّ ذلك نسف لتلك السياسة التي تبنّتها الدولة ورجالها .
وقال له طاوس اليماني وقد رآه يجزع ويناجي ربّه بلهفة: يابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع، ...، وأبوك الحسين بن علي، واُمّك فاطمة الزهرأ، وجدّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ?
فالتفت الإمام عليه السلام إليه وقال: هيهات، هيهات، ياطاوس، دَعْ عنّي حديث أبي، واُمّي، وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه، ولو كان ولداً قرشيّاً، أما سمعت قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون) .[ سورة المؤمنون (23) الاَية: 101 ]
والله، لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تُقَدمُها من عمل صالح (248) وأعتق الإمام زين العابدين عليه السلام مولاةً له، ثم تزوَجها، فبلغ ذلك عبدالملك بن مروان الخليفة الاموي، فعدّها تحدياً لعرف السلطة الحاكمة، فكتب إلى الإمام يحاسبه ويعاتبه على ذلك، ومما جاء في كتابه: (إنّك علمتَ أنّ في أكفائك من قريش مَن تتمجَد به في الصهر، وتستنجبه في الولد، فلا لنفسك نظرت، ولا على ولدك أبقيت ...) .
وهذا كلام مع أنه يَنُم عن التعزّي بعزاء الجاهلية في عنصريتها وغرورها فهو تعريض بالإمام عليه السلام أنه ليس بحكيم، وأنه بحاجة إلى أن يتمجَد بمصاهرة واحد من قريش، وأن ولده لا ينجب إلاّ بمثل ذلك، متغافلاً عن أن الإمام عليه السلام بنفسه هو مصدر الحكمة والمجد والنجابة . فأجابه الإمام زين العابدين عليه السلام بكتاب، جاء فيه :
(أمّا بعد: فقد بلغني كتابك، تعنّفني فيه بتزويجي مولاتي، وتزعم: (أنه كان في قريش من أتمجّد به في الصهر، وأستنجبه في الولد) .وإنه ليس فوق رسول الله مرتقى في مجدٍ، ولا مستزاد في كرمٍ . وكانت هذه الجارية ملك يميني، خرجتْ منّي إرادةً لله عزوجل بأمر ألتمس فيه ثوابه، ثم ارتجعتها على سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن كان زكيّاً في دين الله تعالى فليس يُخلّ به شي من أمره . وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمَم به النقيصة، وأذهب به اللؤم، فلا لؤم على امرىٍ مسلم، وإنّما اللؤم لؤم الجاهلية .
والسلام) (249) .
وقد عرّض الإمام عليه السلام في هذا الكتاب بأن ما يقوم به حكّام بني أمية من تبنّي العصبية هو مخالف للإسلام ولسنّة الرسول، بل قَلَبَ عليه كلّ الموازين التي اعتمدها في كتابه إلى الإمام، وجعل العتاب مردوداً عليه، والنقص والعار وارداً على الجاهلية التي يتبجّح بها من خلال العصبية .
وقال عليه السلام: لا حَسَبَ لقرشي، ولا عربي إلاّ بالتواضع، ولا كرم إلاّ بالتقوى، ولا عمل إلاّ بالنيّة، ولا عبادة إلاّ بالتفقّه، ألا وإن أبغض الناس إلى الله مَن يقتدي بسنّة إمام، ولا يقتدي بأعماله (250) .
وقال عليه السلام: العصبية التي يأثم صاحبُها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبيّة أنْ يُعينَ قومه على الظلم (251) .
وهذا حسم قيّم في هذا المجال، حيث أن الميل إلى العُصبة والقبيلة أمر طبيعيّ، جرت عليه العادة، فإذا كان على أساس الحب والولاء فهو أمر جيّد، لكن إذا كان على أساس المحاباة، وظلم الاَخرين وعلى حساب حقوق الأباعد، أو كان من باب إعانة الظالم، فهذا هو المردود في الإسلام .
والذي يدّعيه أصحاب النعرات العُنصريّة، وأهل الغرور والجهل، الفارغين من القيم، كبني اُميّة، هو النوع الثاني .
إنّ هذه التصريحات، وتلك المواقف، بقدر ما كانت مثيرةً للسلطة المتبنية لسياسة العصبية والعنصرية، حتّى أثارت أحاسيس الملك نفسه، فهي في الوقت ذاته كانت منيرةً للدرب أمام الاُمَة الإسلامية بكلّ طوائفها وأجناسها وألوانها وشعوبها وقبائلها، تلك المغلوبة على أمرها، تفتح أمامها أبواب الأمل بالإسلام ورجاله المخلصين، الذين يقود مسيرتهم في ذلك العصر الإمام زين العابدين عليه السلام .
2-ضدّ الفقر: .
من المشاكل الاجتماعية الخطيرة، التي يستغلّها الحكام لإحكام سيطرتهم على الأمة هي مشكلة الفقر والعوز والحاجة إلى المال، فإن السلطات تحاول اتّباع سياسة التجويع من جهة، لإخضاع الناس وترغيبهم في العمل مع السلطات، وثم سياسة التطميع والتمويل من جهة أخرى، لتعويد الناس على الترف وزجّهم في الجرائم و الاَثام .
وهم بهذه السياسة يسيطرون على عصب الحياة في البلاد، وهو المال، يستفيدون منه في القضاء على مَنْ لا يرضى بهم، وفي جذب مَنْ يرضون به من ضعفاء النفوس أمام هذه المادّة المغرية .
وقد ركن معاوية إلى هذه السياسة في بداية سيطرته على البلاد، فأوعز إلى ولاته في جميع الأمصار: انظروا مَنْ قامت عليه البينّة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه (252) .
ولا ريب في أن رفع المستوى المعيشي لدى أفراد الأمة هو واحد من أهمّ الأهداف المرسومة لأيَة محاولة ثورية، أو عمل إصلاحي، حتّى لو لم تكن دينية، فكيف بها إذا كانت إلاهيَة، يقودها شخص الإمام العادل ?
إنّ التحرّك للإصلاح، والناس في بؤس وتخلّف اقتصادي، سوف يكلفهم الكثير الذي قد يعجزون عنه، ولو تمكّن قائد ما أن يرفع من المستوى الاقتصادي للأمة، فهم يكونون في حالة أفضل لتقبّل اُطروحة الإصلاح، ويكون أوكد على صمودهم أمام الضغوط التي تفرض عليهم من قبل الظالمين والمعتدين .
ثم إنّ السعي في هذا المجال، والمال حاجة يوميّة لكل أحد، أوكد في تعميق الصلة بين القيادة والقاعدة، من حيث تحسّس القيادة لأمسّ الحاجات، وأكثرها ضرورة وأسرعها نفعاً، فتكون دليلاً على حقَانيَة سائر الأهداف التي تعلن للخطة الإصلاحية ولقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يزاول عمليّة تموين الناس بدقة فائقة، خاصّةً عوائل الشهداء والمنكوبين في معارك ضد الدولة، يقوم بذلك في سرية تامَة، حتّى خفيت في بعض الحالات على أقرب الناس إليه عليه السلام . والأهم من ذلك: أن الفقراء أنفسهم لم يطّلعوا على أن الشخص الممون لهم هو الإمام زين العابدين عليه السلام إلاّ بعد وفاته، وانقطاع اُعطياته .
فعن أبي حمزة الثمالي: إن علي بن الحسين عليه السلام كان يحمل الخبز بالليل، على ظهره، يتبع به المساكين في ظلمة الليل، ويقول: (إنّ الصدقة في سواد الليل تطفىء غضب الرَبّ) (253) .
وعن محمد بن إسحاق، قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلمّا مات علي بن الحسين عليه السلام فقدوا ما كان يؤتَوْن به بالليل (254)
وعن عمرو بن ثابت، قال: لمّا مات علي بن الحسين عليه السلام وجدوا بظهره أثراً، فسألوا عنه ? فقالوا: هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل (255) .
وهذه الدقة في السرية كانت من أجل إلهاء عيون الدولة عن مواقفه .
مع أن الهدف الأساسي من هذا العمل وهو تمويل الناس وتمو ينهم كان يتحقّق بتلك الطريقة الهادئة .
ومع أن معرفة الناس للأمر ولو بعد حين كان أوقع في النفوس وأكثر تأثيراً في حبّ الناس لأهل البيت عليهم السلام .ومع ما في ذلك من البعد عن الرياء، والسمعة، والمباهاة .
وقد وصلت سرية عمله عليه السلام إلى حدّ أنه كان يتَهم بالبخل :
قال شيبة بن نعامة: كان علي بن الحسين يُبَخَل، فلمّا مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة (256) .
وقال ابن عائشة، عن أبيه، عن عمّه: قال أهل المدينة: ما فقدنا صدقة السرّ حتّى مات علي بن الحسين (257)
وهذا واحد من أساليب عمله في رفع هذه المشكلة، وقد اتّبع أساليب اُخرى، نقرأ عنها الأحاديث التالية :
إنه عليه السلام كان يعتبر المشكلة الاقتصادية محنةً كبيرة أن يجد الفقر متفشياً في الدولة الإسلامية، وهي السعة بحيث لا يمكن معالجتها بسهولة :
ففي الحديث: شكا إليه عليه السلام بعض أصحابه ديناً، فبكى الإمام عليه السلام فلمّا سئل عن سبب بكائه ? قال عليه السلام: وهل البُكاء إلاّ للمحن الكبار ? وأي محنة أكبر من أن يرى الإنسان أخاه المؤمن في حاجة لا يتمكّن من قضائها، وفي فاقةٍ لا يطيق دفعها (258) .
وأسلوب آخر في التركيز على مقاومة المشكلة :
عن الرضا عن أبيه، عن جده :، قال: قال علي بن الحسين: إنّي لأستحيي من الله عز وجل أن أرى الأخ من إخواني، فاسأل الله له الجنة، وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: (لو كانت الجنة بيدك لكنتَ بها أبخل وأبخل وأبخل) (259) .
إنه رفع لمستوى مقاومة المشكلة إلى مستوى مثاليّ رائع، وخطاب موجّه إلى كل من يعمل في الدنيا على حساب نعيم الاَخرة، لا على معطياتها الدنيوية فقط، إنّه معنىً عرفاني دقيق، ورفيع، وبديع .
وأسلوب آخر ،يدلّ على إصرار الإمام عليه السلام لتجاوز المشكلة :
قال عمرو بن دينار: دخل علي بن الحسين على محمّد بن اُسامة بن زيد، في مرضه، فجعل محمّد يبكي، فقال: ما شأنك ? قال محمّد: عليَ دين .
قال: كم هو ? قال: خمسة عشر ألف دينار أو بضعة عشر ألف دينار .
قال الإمام: فهي عليَ (260) .
وقد جاء في الحديث أن الإمام عليه السلام قاسم الله تعالى ماله مرتين (261) .
هذا من جهة .
ومن جهة اُخرى: نجد الإمام عليه السلام يؤكّد على تداول الثروة ويحثّ على تنميتها، واستثمار الأموال، وعدم تجميدها، لأن تجميدها هو التكنيز المذموم، للخسارة الواضحة فيها، ولاحتمال سقوط القيمة الشرائية لها، وتسبيبها لعدم ازدهار السوق الإسلامية، بينما تداولها يؤدّي إلى نقيض كلّ ذلك .
فقد قال الإمام عليه السلام: استنماء المال تمام المروءة (262) وفي نصّ آخر: استثمار المال (263) .
وإذا قارنَا هذه المواقف من الإمام عليه السلام بما كان يجري على أيدي بني أميّة من
البذخ والترف والإسراف والإهدار لأموال بيت المال، ومن منع الموالين لعلي عليه السلام من الرزق والعطاء، ومن حاجة الشخصيات مثل محمد بن اُسامة بن زيد، فضلاً عن عوائل الشهداء المغضوب عليهم من قبل الدولة .
لو قارنّا بين الأمرين: لعلمنا بكل وضوح أن لأعمال الإمام عليه السلام بُعْداً سياسيّاً، وهو الوقوف أمام استغلال السلطة للأزمة الإ قتصادية عند الناس، ومنع استدراج الظالمين لذوي الحاجة والمحنة وخاصة المنكوبين إلى مهاوي الانتماء إليها أو حتّى الفساد والجريمة، بالمال الذي استحوذت الدولة عليه، وأن لا تطبّق به سياسة التطميع بعد التجويع .
3-ضدّ الرقّ:
إن تحرير الرقيق يُشكل ظاهرة بارزةً في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام بشكل ليس له مثيل في تاريخ الإمامة، فهو أمر يسترعي الانتباه والملاحظة .
وإذا دقَقنا في الظروف والملابسات التي عايشها الإمام، وقمنا ببعض المقارنات بين أعمال الإمام، والأحداث التي كانت تجري من حوله، والظروف التي تكتنف عملية الإعتاق الواسعة التي تبنّاها الإمام زين العابدين عليه السلام، تتضح الصورة الحقيقيَة لأهداف الإمام عليه السلام من ذلك .
فيلاحظ أولاً:
1-أنّ أعداد الرقيق، والعبيد، كانت تتواتر على البلاد الإسلامية، فكان الموالي في ازدياد بالغ مذهل، على أثر توالي الفتوحات (264) .
2-أن الأمويين كانوا ينتهجون سياسة التفرقة العنصرية، فيعتبرون الموالي شبه
الناس (265) .
3-أن الجهاز الحاكم على الدولة الإسلامية، أخذاً من نفس الخليفة، إلى جميع الأمراء وموظفي الدولة، لا يمثّل الإسلام، بل كان كل واحد يعارض معنوياته
وأخلاقه، وإن تنادى بشهاداته واسمه .
4-إن انتشار العبيد والموالي، وبالكثرة الكثيرة، ومن دون أي تحصين أخلاقي، أو تربية إسلامية، لأمر يؤدّي لا محالة إلى شيوع البطالة، والفساد، وهو ما تركزَ عليه الدولة الظالمة التي تعمل في هذا الاتجاه بالذات .
ويلاحظ ثانياً:
1-أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان يشتري العبيد والإماء، ولكن لا يُبقي أحدَهم عنده أكثر من مدّة سنة واحدة فقط، وأنه كان مستغنياً عن خدمتهم (266) .
فكان يعتقهم بحجج متعدّدة، وبالمناسبات المختلفة .
إذن، فلماذا كان يشتريهم ? ولماذا كان يعتقهم ?
2-إنه عليه السلام كان يعامل الموالي، لا كعبيد أو إمأ، بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية، ممّا يغرزُ في نفوسهم الأخلاق الكريمة، ويحبّب إليهم الإسلام، وأهل البيت الذين ينتمي إليهم الإمام عليه السلام .
3-إنّه عليه السلام كان يُعلم الرقيق أحكام الدين ويملؤهم بالمعارف الإسلاميّة، بحيث يخرج الواحد من عنده محصّناً بالعلوم التي يفيد منها في حياته، ويدفع بها الشبهات، ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح .
4- إنه عليه السلام كان يزود كلّ مَنْ يُعتقه بما يُغنيه، فيدخل المجتمع الجديد ليزاول الأعمال الحُرَة، كأي فرد من الاُمَة، ولا يكون عالة على أحدٍ . إن المقارنة بين هذه الملاحظات، وتلك، تعطينا بوضوح القناعة بأنّ الإمام كان بصدد إسقاط السياسة التي كان يُزاولها الأمويون في معاملتهم مع الرقيق . إنّ عمل الإمام زين العابدين عليه السلام أنتج نتائج عظيمة، هي:
1-حرّر مجموعة كبيرة من عباد الله، وإمائِهِ الذين وقعوا في الأسر، وتلك حالة استثنائية غير طبيعيّة، ومع أن الإسلام كان قد أقرَها لأمور يعرف بعضها من خلال قراءة التاريخ، إلاّ أن الشريعة قد وضعت طرقاً عديدة لتخليص الرقيق وإعطائهم الحرية، وقد استغل الإمام عليه السلام كلّ الظروف والمناسبات لتطبيق تلك الطُرق، وتحرير العبيد والإماء .
وفي عمله تطبيق للشريعة وسننها، كما يدلّ عليه الحديث التالي :
فعن سعيد بن مرجانة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (مَن أعتق رقبةً مؤمنةً أعتق الله بكل إربِ منها إرباً منه من النار، حتّى أنه يعتق باليد اليد، وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج) . فقال علي بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة قال سعيد: نعم . فقال الإمام: ادع لي مطرفاً لغلام له أفره غلمانه فلمّا قام بين يديه، قال: إذهب، فأنت حر لوجه الله (267) .
إن الإمام زين العابدين عليه السلام لا يخفى عليه ثواب عتق الرقبة، وإنما أراد أن يؤكّد على سنّة العتق من خلال تقرير الراوي على سماع الحديث وليكون عمله قُدوةً للاَخرين كي يقوموا بعتق ما يملكون من الرقاب .
2- إن الرقيق المعتقين يشكّلون جيلاً من التلامذة الذين تربّوا في بيت الإمام عليه السلام وعلى يده، بأفضل شكل، وعاشوا معه حياة مفعمة بالحقّ والمعرفة، والصدق والإخلاص، وبتعاليم الإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق كريمة .
فقد كانت جماعة الرقيق تحتفظ بكل ذلك في قرارات النفوس، في شعورهم أو لا شعورهم، وينقلونه إلى الأجيال المتعاقبة، وفي ذلك حفظ الإسلام .
ولا ريب أن الإمام زين العابدين عليه السلام لو أراد أن يفتح مدرسة لتعليم مجموعة من الناس، فلا بدّ أنه كان يواجه منعاً من الجهاز الحاكم، أو عرقلةً لعمله، أو رقابةً شديدة على أقل تقدير
3- إن الإمام عليه السلام استقطب ولا الأعداد الكبيرة من هؤلاء الموالي المحرَرين، إذ لا يزال ولاء العتق يربطهم بالإمام عليه السلام، ولا ريب أنهم أصبحوا جيشاً، فإن عددهم بلغ في ما قيل خمسين ألفاً، وقيل: مائة ألف (268)
. فعن عبد الغفّار بن القاسم أبي مريم الأنصاريّ، قال: كان عليّ بن الحسين خارجاً من المسجد فلقيه رجل فسبّه فثارت إليه العبيد والموالي، فقال عليّ بن الحسين: مَهلاً عن الرجل، ثمَ أقبل على الرجل، فقال له: ما سُتر عنك من أمرنا أكثر، أ لك حاجة نعينك عليها ? فاستحيى الرجل فألقى عليه خميصةً كانت عليه، وأمر له بألف درهم . فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنّك من أولاد الرسول (269) .
وقدكان لهؤلاء العبيد موقف دفاعيّ آخر، عن أهل البيت، لمّا سمعوا أنباء ضغط ابن الزبير على آل أبي طالب في مكّة، وشيخهم محمد بن الحنفيّة عمّ الإمام زين العابدين عليه السلام، في ما رواه البلاذري بسنده عن المشايخ يتحدثّون: أنّه لما كان من أمر ابن الحنفيَة ما كان، تجّمع بالمدينة قوم من السودان، غضباً له، ومراغمة لابن الزبير
فرأى ابن عمر غلاماً له فيهم، وهو شاهر سيفه فقال له: ر باح !. قال ر باح: والله، إ نّا خرجنا لنردّكم عن باطلكم إلى حقّنا . فبكى ابن عمر، وقال: اللهم إن هذا لذنوبنا (270) .
وقال عبد العزيز سيد الأهل: وجعل الدولاب يسير، والزمن يمر وزين العابدين يَهَبُ الحرية في كل عامٍ، وكل شهر، وكل يوم، وعند كل هفوةٍ، وكل خطأٍ، حتّى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار، والجواري الحرائر، وكلّهم في ولاء زين العابدين (271) .
حقاً لقد تحيّن الإمام عليه السلام الفرص، واهتبل حتّى الزلّة الصغيرة تصدر من أحد الموالي ليهب له الحريّة، فكان يكافئ الإساءة بالإحسان ليكون أعذب عند الذي يُعْتق، وأركز في خَلَده، فلا ينساه .
إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام استنفد كلّ وسيلة للتحرير .
وإليك بعض الأحاديث عن ذلك:
1-نادى علي بن الحسين عليه السلام مملوكه مرتين، فلم يجبه، ثم أجابه في الثالثة، فقال له الإمام: يا بُنيَ أما سمعت صوتي ?
قال المملوك: بلى .
قال الإمام: فما بالك لم تُجبني ? .
قال المملوك: أمِنْتُكَ . !
قال الإمام: الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني (272) .
2- عن عبد الرزاق، قال: جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه المأ يتهيّأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه، فشقّه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله عز وجل يقول: (والكاظمين الغيظ) . فقال لها: قد كظمت غيظي .
قالت: (والعافين عن الناس) .
فقال لها: قد عفا الله عنك .
.قالت: (والله يحبّ المحسنين) [ آل عمران (2) الاَية 124 ]
قال: اذهبي، فأنت حرّة (273) .
فكأنَ هذا الحوار كان امتحاناً واختباراً، نجحت فيه هذه الجارية، بحفظها هذه الاَية، واستشهادها بها، فكانت جائزتها من الإمام عليه السلام أن تُعتقَ ق
3-قال عبد الله بن عطاء: أذنب غلام لعلي بن الحسين ذنباً استحقَ منه العقوبة، فأخذ له السوط، فقال: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله) .[ الجاثية (45) الاَية (14 ]
فقال الغلام: وأما أنا كذلك، إني لأرجو رحمة الله وأخاف عقابه . فألقى السوط، وقال: أنت عتيق (274) .
فلقد لقَنه الإمام عليه السلام بقراءة الاَية، وهو يختبر معرفته بمعناها وذكاءه، فأعتقه مكافأةً لذلك .
4- وكان عند الإمام عليه السلام قوم، فاستعجل خادم له شوأاً كان في التنّور، فأقبل به الخادم مسرعاً، وسقط السفود من يده على بُنَيّ للإمام عليه السلام أسفل الدرجة، فأصاب رأسه، فقتله، فوثب الإمام عليه السلام، فلمّا رآه، قال للغلام: إنك حرّ، إنك لم تتعمَده، وأخذ في جهاز ابنه (275
ولعملية الإعتاق على يد الإمام عليه السلام صور مثيرة أحياناً، تتجاوز الحسابات المتداولة :
ففي الحديث المتقدّم عن سعيد بن مرجانة، وجدنا أن الإمام عليه السلام قد أعتق غلاماً اسمه (مطرف) وجأ في ذيل الحديث، أن عبدالله بن جعفر الطيَار كان قد أعطى الإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الغلام (ألف دينار) أو (عشرة آلاف درهم) (276) .
ففي إمكان الإمام عليه السلام أن يبيع الغلام بهذا الثمن الغالي، ويعتق بالثمن مجموعة من الرقيق أكثر من واحد، ولكن الإصرار على إعتاق هذا الغلام بالخصوص مع غلاء ثمنه يحتوي على معنى أكبر من العتق :
فهو تطبيق لقوله تعالى: (لن تَنَالُوا البرّ حتّى تُنفِقوا ممّا تُحِبون) سورة.آل عمران (3) الاَية: 92
وهو إيماء إلى أن الإنسان لا يعادَل بالأثمان، مهما غلت وعلت أرقامها .
ولعلّ السبب الأساسي هو: أن غلا ثمن الغلام لا يكون إلاّ من أجل أدبه، وذكائه، وحنكته، وقوّته، وغير ذلك مما يجعله فرداً نافعاً، فإذا صار حرّاً، وهو متّصف بهذه الصفات، يفيد المجتمع ككلّ، فهو أفضل عند الإمام عليه السلام من أن يكون عبداً يستخدمه شخص واحد لأغراضه الخاصَة، مهما كانت شريفة وبهذا واجه الإمام زين العابدين عليه السلام مشكلة الرقّ، واستفاد منها، في صالح المجتمع والدين (277) .
وبما أنه عليه السلام كان يحتلّ موقعاً رفيعاً بين الاُمَة الإسلامية جمعاء :
إمّا لأنّه إمام مفترض الطاعة، عند المعتقدين بإمامته عليه السلام .
أو لأنه من أفضل فقهأ عصره، والمعترف بورعه وتقواه وعلمه، عند الكافّة أو لأنه من سادات أهل البيت الذين يمتازون بين الناس بالطهارة والكرامة والشرف والمجد .
فقد كان عمله حجّةً معتبرةً، وقدوةً صالحة، للمسلمين كافّةً، يقتدون به في تحرير الرقيق، ومحو العنصريّة المقيتة
وبعد هذه الصور الرائعة :
فهل يصح أن يقال: (إن زين العابدين عليه السلام كان منعزلاً عن السياسة، أو مبتعداً عنها) وهو يقوم بهذا النشاط الاجتماعي الواسع .
وأخيراً: مع كتاب (رسالة الحقوق):
إن رسالة الحقوق التي نظَمها الإمام زين العابدين عليه السلام تدل على اهتمام الإمام بكل ما يدور حوله في المجتمع الإسلامي، وعنايته الفائقة بسلامته النفسية والصحيّة، ورعايته لأمنه واستقراره، وحفاظه على تكوينته الإسلامية .
وإذا نظرنا إلى ظروف الإمام عليه السلام من جهة، وإلى ما يقتضيه تأليف هذه الحقوق، من سعة الأفق وشموليته من جهة أخرى، وقفنا على عظمة هذا العمل الجبّار الذي صنعه الإمام قبل أربعة عشر قرناً .
إن صنع مثل هذا القانون في جامعيته ودقّته وواقعيته، لا يصدر إلاّ من شخص جامع للعلم والعمل، مهتمّ بشؤون الاُمة، ومتصد لإصلاحها فكرياً وثقافياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وإدارياً، وصحيّاً، ونفسياً، ولا يصدر قطعاً من شخص منعزلٍ عن العالم، وعن الحياة الاجتماعية، ولا مبتعدٍ عن السياسة واُمور الحكم والدولة ولذلك فإنا نجد الرسالة تحتوي على حقوقٍ مثل: حقّ السلطان، وحق الرعِيّة، وحقّ أهل الملّة عامّة، وحقّ أهل الذمّة، وغيرها ممّا يرتبط باُمور الدولة والحكم وتنظيم الحياة الاجتماعية، إلى جانب الشؤون الخاصة العقيديّة والعبادية والماليّة، وكل ما يرتبط بحياةٍ حرّةٍ كريمة للفرد، وللمجتمع الذي يعيش معه، ومثل هذا لا يصدر ممّنْ يعتزل الحياة الاجتماعية .
ورسالة الحقوق عمل علمي عظيم يستدعي دراسة موضوعية عميقة شاملة، نقف من خلالها على أبعاد دلالتها على حركة الإمام زين العابدين عليه السلام الاجتماعية، وخاصَة من المنظار السياسي، وما استهدفه من بيانها ونشرها .
ونقدّم هنا مقطعين هامّينِ، يرتبطان مُباشرةً باُمور الإدارة والحياة الاجتماعية، وهما حقّ السُلطان على الرعيّة، وحقّ الرعيّة على السُلطان :
قال عليه السلام في حقوق الأئمّة: وأما حقّ سائسك بالسُلطان:
فانْ تعلم أنّك جُعِلتَ له فتنةً، وأنّه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السُلطان .
وأنْ تخلصَ له في النصيحة، وأن لا تُماحكه، وقد بُسِطَتْ يدُه عليك، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه .
وتذلّل وتلطّف لإعطائه من الرضا ما يكفّه عنك، ولا يضرّ بدينك، وتستعين عليه في ذلك بِالله .
ولا تعازّه ولا تعانده، فإنّك إنْ فعلتَ ذلك عَقَقْتَهُ وعَقَقَتَ نفسك، فعرَضْتَها لمكروهه، وعرَضتَهُ للهلكة فيك، وكنتَ خليقاً أن تكون مُعيناً له على نفسك، وشريكاً له في ما أتى إليك من سو ء.
ولا قوّة إلاّ بالله (278) .
وقال عليه السلام في حقوق الرعيّة: وأمّا حقّ رعيتك بالسُلطان:
فأنْ تعلم أنّك إنّما استرعيتَهم بفضل قوّتك عليهم، فإنّه إنّما أحلّهم محلَ الرعيَة لك ضعفهم وذلّهم .
فما أولى مَنْ كفاكَهُ ضعفُه وذلّه حتّى صيَره لك رعيّةً وصيَر حكمك عليه نافِذاً، ل ايمتنع عنك بعِزّةٍ ولا قُوةٍ، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلاّ بالله بالرحمة و الحياطة و الأناة .
وما أولاكَ إذا عرفتَ ما أعطاك الله من فضل هذه العزّة والقُوّة التي قهرتَ بها أنْ تكون لله شاكراً، ومَنْ شكر الله أعطاهُ في ما أنعم عليه .
ولا قُوّة إلاّ بالله (279) .
إنّ الإمام عليه السلام في هاتين الفقرتين إنّما يخاطب مَنْ هم من عامّة الناس سُلطاناً ورعيّةً ممّنْ لابُدَ أنْ تربط بينهم السياسة، إذ لابُدّ للناس من أَمير، على ما هو سُنّة الحياة وطبيعة التكوينة الاجتماعية، فلابدّ أن تكون لهم حُقوق، وتثبت عليهم واجبات، تُرتّب بذلك حياتهم ترتيباً طيّباً كي يعيشوا في صفاء ووُدّ وخير وسعادة .والإمام عليه السلام هنا يقطع النظر عن الولاية الإلهية التكوينية، ومنصب الإمامة المفروضة تشريعياً على الناس .
ولذلك عبّر بالسلطان) و (الرعيّة) ولم يفرض في السُلطان ولاية إلهيّة، وإنّما فرضها سُلطةً حاصلةً بالقوّة والقهر، وهذا ما يتمكّن من تحصيله حتّى غير الأئمّة الإلهيين، وإن كان السلاطين يحاولون الإيحاءَ بأنّهم ينوبون عن الله في الولاية والسلطة، وأنّهم ظلّ الله على الأرض، ولذلك يُلقّنون الناسَ فكرة (الجبر) حتّى يربطوا وجودهم بإرادة الله (280) .
لكنّ الإمام السجّاد عليه السلام فَرَغَ الحديثَ عن السُلطان من كلّ هذه المعاني، وإنّما تحدَث عن حقّه كمتسلطٍ بالقوّة على الرعيّة، فهو في هذه الحالة لابُدّ أنْ يعرف واجباتِه ويؤدّيها ويعرفَ حقوقه فلا يطلب أكثر منها .
كما أنّ الرعيّة المواجهة لمثل هذا السُلطان لابُدّ أنْ تعرف حدود المعاملة الواجبة عليها تجاهُه، وما يحرم عليها فلا تقتحمه، رعاية للمصالح الاجتماعيّة العامّة بشرياً .
وبما أنّ السلاطين في هذا المقام لم تفرض لهم العصمة، اللازمة في الولاة الإلهيّين، فلابدّ أنْ يحذروا من المخالفات الشرعيّة، كما لابدّ للرعيّة أنْ يحذروا من التعرّض لبَطْشهم وسطوتهم، فهُناك حقوق مرسومة لكلّ منهما السُلطان والرعيّة لابدّ من مراعاتها، حدَدها الإمام عليه السلام .
فعلى السلطان أنْ لا يغترّ بقدرته الموقوتة المحدودة
1- :أنْ يكون رؤوفاً رحيماً بالبشر الذين استولى عليهم . .
2- أنْ يعرف قدر نعمة السلطة، حتّى يوفّق للمزيد، حَسَبَ الموعود بالمزيد لمَنْ شكر . ويتنعّم بما هو فيه من فضل وسلطة . وأما الرعيّة، فَعليها
1-أن تخلص في النصيحة للسُلطان، وتبذل الولا ء في سبيل إنجاح المهمّة الاجتماعيّة والحكمة والتدبير من (لابدّية الأمير) في سبيل الخير .
2- وأنْ لاتلجأ إلى العداء والبغضاء حتّى لا يلجأ السُلطان إلى العدوان والفتك، فيحصل العقوق بين الراعي والرعيّة فيشتركان في إثم الفَساد في الأرض .
ومن المعلوم في المقامين أنّ مخاطب الإمام عليه السلام إنّما هم المؤمنون بالله تعالى، ولذا جعل كلاّ منهما (فتنةً إلهيّة) للاَخر، ليعتبر بهذا الموقع الخطر الذي يتبوؤه كلّ منهما .
فالحديث مع الذين لا يُخالفِون أمر الله ولا يعادونه، وإنّما يَسيرون موافِقين للإسلام، ويعتمدون على ما سَنَهُ من أحكام، ولا يضرّون بالدين، وإلاّ فالأمر يختلف، والحديث يتفاوتُ، والحقوق تكون غيرها، والواجبات سواها . والحاصل: أنّ ما حدّده الإمام عليه السلام إنّما هو عن السُلطان والرعية، إذا لم يتهدّد كيان الإسلام وأحكامه وشعائره خطر من قبل السلطة، بدليل التذكير فيه بنعم الله وحوله وقوّته وأنّه لا حول ولا قوّة إلاّ به .
وإلاّ، لم يكن الخطاب بمثل هذا الكلام المعتمد على الإيمان بالله الاعتقاد بالواجب والإحساس بالخدمة للناس والإصلاح في المجتمع، والاعتماد على قوة الله وحوله، كما هو الحال في كلّ الحقوق الأخرى التي ذكرها في (رسالة الحقوق) فانه وجّه الخطاب إلى الأمة الإسلامية في داخل الوطن الإسلامي، وفي الحدود التي يلتزم رعاياها بشريعة الإسلام وقواعده .
وسنثبت نصّاً موثوقاً لرسالة الحقوق في الملحق الأوّل من ملاحِق الكتاب بعون الله (281) .

________________________
(235)مروج الذهب (2: 197) .
(236) نقله على جلال في كتاب: الحسين (2: 188) .
(237) لاحظ: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، لأبي الحسن الندوي . واقرأ ثورة زيد (ص 77 وما بعدها) .
(238) تاريخ دمشق، مختصر ابن منظور (17: 284) .
(239 )وسائل الشيعة، كتاب النكاح، الباب (26) الحديث (4) تسلسل (25060) ولاحظ العقدالفريد، للأندلسي (3: 360 -364) .
(240) لاحظ: طبقات ابن سعد (7: 26 ق 2) . وانظر تهذيب الكمال، للمِزي (4 :272) .
(241) المحدث الفاصل، للرامهرمزي (ص 409) رقم (431) والجامع لأخلاق الراوي، للخطيب (1: 192) .
(242) ضحى الإسلام (1 :187) .
(243)يلاحظ أن هذا الكاتب نفسه يقول عن الإمام: (لكن الإقبال على الله، واعتزال شؤون العالم ... كان منهجه في حياته الخاصة) وقد سبق كلامه في المقدمة (ص 10 -1) .
(244)نظرية الإمامة، للدكتور صبحي (ص 257.)
(245)بلاغة علي بن الحسين عليه السلام (ص 217) .
(246) سير أعلام النبلاء (4: 388) وانظر حلية الأولياء (3: 137) وصفوة الصفوة (2: 98) .
(247)تاريخ دمشق (الحديث 30) ومختصر ابن منظور (17: 233) وطبقات ابن سعد (5: 216)
(248)مناقب ابن شهر آشوب (3: 291) كشف الغمة (4: 151) بحار الأنوار (46: 82) ونقل عن مجالس ثعلب (2: 462) .
(249)الكافي، الفروع (5: 344) .
(250)تحف العقول (ص 28) .
(251) بلاغة علي بن الحسين (ص 203) .
(252) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (11: 45) .
(253) تاريخ دمشق (الحديث 76) مختصر ابن منظور (17: 238) .
(254) تاريخ دمشق (الحديث 77) مختصر ابن منظور (17: 238) .
(255)تاريخ دمشق (الحديث 79) مختصر ابن منظور (17: 238) .
(256)تاريخ دمشق (الحديث 80) مختصر ابن منظور (17: 239) .
(257)حلية الأولياء (3: 361)، تاريخ دمشق (الحديث 81) مختصر ابن منظور (17: 239)، وسير أعلام النبلاء (4: 393) .
(258) أمالي الصدوق (ص 367) ونقله في عوالم العلوم (ص 29) في حديث طويل .
(259) تاريخ دمشق (الحديث 84) ومختصر ابن منظور (17: 239) وتهذيب التهذيب (7: 306) .
(260)تاريخ دمشق (الحديث: 83) مختصر ابن منظور (17: 239) .
(261)تاريخ دمشق (الحديث 75) .
(262)تحف العقول (ص 283) .
(263)أي هامش المصدر السابق .
(264) لاحظ فجر الإسلام لأحمد أمين (ص 90) .
(265) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور (17: 284) .
(266)لاحظ الإقبال للسيد ابن طاوس (ص 477) .
(267)أخرجه البخاري في صحيحه (3: 188) كتاب العتق والكفارات، ومسلم في صحيحه (10: 152) في العتق، والترمذي في صحيحه (4: 114) في النذور رقم (1541) وانظر حلية الأولياء (3: 136) .
(268)لاحظ بحار الأنوار (46: 104 105) .
(269)صفوة الصفوة لابن الجوزي (2: 100)، تاريخ دمشق (الحديث 112) وكشف الغمة (2: 81) وبحار الأنوار (46: 99) وعوالم العلوم (ص 115) .
(270) أنساب الأشراف (الجز الثالث) (ص 295) .
(271) زين العابدين، لسيد الأهل (ص 47) .
(272)تاريخ دمشق (الحديث 90) مختصر ابن منظور (17: 240) وشرح الأخبار (3: 260) .
(273)تاريخ دمشق (الحديث 90) مختصر ابن منظور (17: 240) .
(274)تاريخ دمشق (الحديث 113) مختصر ابن منظور (17: 244) .
(275)تاريخ دمشق (الحديث 118) مختصر ابن منظور (17 244) .
(276)تاريخ دمشق (الحديث 82) مختصر ابن منظور (17: 239
(277)واقرأ صوراً مثيرة من تعامله مع عبيده وإمائه في عوالم العلوم (ص 151- 155) .
(278) رسالة الحقوق، الحق رقم15
(279) رسالة الحقوق، الحقّ رقم 18
(280)كما شرحنا جانباً من ذلك في بحث سابق، لاحظ (ص 88 91) في الفصل الثاني .
(281)لاحظ الصفحات (254 - 296) من كتابنا هذا


أضف تعليق

كود امني
تحديث

Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page