• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

ثانياً: موقفه من أعوان الظلمة

لقد شدّد الإسلام النكير على إعانة الظالمين، واعتبره ظلماً وتعديّاً وتجاوزاً للحدود، حتّى عُدّ في بعض النصوص من الكبائر التي تُوعدَ عليها بالنار .
ففي رواية معايش العباد التي ذكر فيها وجوه الاكتساب وأحكامها، قال الصادق عليه السلام .
 وأما وجه الحرام من الولاية: فولاية الوالي الجائر، وولاية ولاته، الرئيس منهم، وأتباع الوالي، فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم ،...
لأنّ كلّ شي من جهة المعونة لهم معصية، كبيرة من الكبائر، وذلك: أنّ في ولاية الوالي الجائر درس الحقّ كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب، وقتل الأنبياء والمؤمنين، وهدم المساجد، وتبديل سنّة الله وشرائعه .
فلذلك حرم العمل معهم، ومعونتهم، والكسب معهم (57) .
ومما لا يخفى على أحد: أنّ الجائرين لم يصلوا إلى مآربهم، لو لم يجدوا أعوانا على ما يقومون به من مظالم ومآثم . وقد عبَر الإمام عليه السلام عن ذلك لمن راح يذرف الدموع على ما يجري على أهل البيت من المصائب والظلم، ما معناه: أنّ المسؤول عن ذلك ليسوا هم الظالمين فقط، بل مَنْ توسّط في إيصال الظلم وتمكين الظلمة، وتمهيد الأمر لهم، كلهم مشاركون في الجريمة .
ولذلك أيضاً ورد اللعن على (مَنْ لاقَ لهم دواة، أو قطّ لهم قلماً، أو خاط لهم ثوباً، أو ناولهم عصاً) .
مع أن هذه الأدوات لا تباشر الظلم، وإنّما هي جوامد لا تعقل، إلاّ بوسائط وبعد مراحل، وقد يستفاد منها للخير والصلاح، ولكنّ القيام بخدمة الظالم، ولو بهذه الأمور، يكون من المعونة له . وقد اعتمد الإمام زين العابدين عليه السلام على هذه القاعدة الإسلامية، وجعلها ركيزة في مقاومة النظام الفاسد، وحاول تجريده من سلاح الوعّاظ المحيطين به، المتزلّفين، الذين تمرّر السلطة على وجودهم ما تقوم به من إجراء يحسّنون بذلك أفعالها أمام العوامّ، ويوقّع علماء الزور على آثامها .
ففي الحديث أنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان يقول: العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به: شركاء ثلاثة (58) .
وكان يُحذر الناس من التورّط في أعمال الظلمة، ولو بتكثير سوادهم والحضور في مجالسهم، والانخراط في صحبتهم، لانّ الظالم لا يريد الصالح لكي يستفيد من صلاحه، وإنّما يريده: إمّا لتوريطه في مظالمه وآثامه، او أن يجعله جسراً يعبر عليه للوصول إلى مآربه وأهدافه الفاسدة .
فكان الإمام عليه السلام يقول: .
لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم، إلاّ أوشك أن يقول فيه من الشرّ ما لا يعلم، ولا اصطحب اثنان على غير طاعة الله، إلاّ أوشك أن يتفرّقا على غير طاعة الله (59) .
فبعض ظاهري الصلاح يتصوّر أنّ اصطحاب الظالمين لا يضرّه شيئاً، وإنّما يفيد من خلاله خدمةً، أو على الأقلّ يكفيه شرّاً ويدفع عنه ضرراً !!. ولكّنه تصوّر خاطىء، مرتكز على الغفلة عن الذي قلناه من استغلال الظالم لصحبة الصالحين لتوريطهم، أو تمرير أغراضه عبر سمعتهم، وهو لا يصحبهم على أساس الطاعة قطعاً، فلابدّ أن يتفرّقا على غير طاعة الله أيضاً، وهذا أقلّ الأضرار الحاصلة من هذه المصاحبة الخطرة .
كما أنّ الذي يعيش مع الظالم، ولو لفترة قصيرة، فإنّ اصطحابه لا يخلو من كلمات التزلّف والمجاملة، والملاطفة بما لا واقع لكثير منه، ولو بعمل مثل الاحترام والتبجيل، وهذا كلّه ممّا يزيد من غرور الظالم وهو تصديق لما يقول، وتوقيع على ما يفعل .
كما أنّ فيه تغريراً للناس البسطاء الذين يرون الصالحين في صحبة الظالم، فيعتبرون ذلك تصويباً لتصرّفاته، وإسباغاً للشرعيّة عليها . بل، إنّ مجرّد سكوت مَنْ يصحب الظالم، على ما يرى من فعله، هو جريمة يحاسب عليها .
وقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يسعى بكلّ الوسائل من النصح والموعظة والإرشاد، إلى التخويف والتهديد، إلى الفضح والتشهير، في سبيل إقناع المتصلين بالأمويين من علماء السوء، ليرتدعوا، ويتركوا الارتباط بالبلاط، هادفاً من وراء ذلك فضح الحكّام، وتجريدهم عن كلّ أشكال الشرعية .
ومن أعلام البلاط الذين ركَز الإمام عليه السلام جهوده في سبيل قطع ارتباطه بالحكّام هو: الزُهْريّ . الذي أكسبه الأمويّون زوراً وبهتاناً شهرةً عظيمةً ،وروّجوا له، ونفخوا في جلده، حتّى جعلوه من أوثق الرواة في نظر الناس .
بينما كان من المنحرفين عن الإمام علي عليه السلام (60) .
وقال محمّد بن شيبة: شهدتُ مسجد المدينة، فإذا الزهريّ، وعروة بن الزبير جالسان يذكران علياً عليه السلام فنالا منه (61) .
واشتهر أنه كان يعمل لبني اُمية (62) و كان صاحب شرطتهم (63) ولا يختلف الناس أنه كان يأخذ جوائزهم (64) .
ولم يزل مع عبد الملك وأولاده هشام وسليمان ويزيد، وقد استقضاه الأخير (65) .
وجميع أهل البيت عليهم السلام يجرحونه، وتكلّم اُناس فيه من غيرهم:
قال عبد الحق الدهلوي: إنّه قد ابتلي بصحبة الأمراء، وبقلّة الديانة، وكان أقرانه من العلماء والزهّاد يأخذون عليه و ينكرون ذلك منه .
وكان يقول: أنا شريك في خيرهم دون شرّهم ! فيقولون له: ألا ترى ما هم فيه، وتسكت ?(66)
ولذلك أيضاً كانوا يعلنون: (مَنْ كان يأتي السلطان، فلا يحضر مجلسنا) (67) .
وفي علوم الحديث للحاكم: قيل ليحيى بن معين: الأعمش خير أم الزهري ?
فقال: برئتُ منه إن كان مثل الزهري، إنّه كان يعمل لبني أميّة، والأعمش مُجانب للسلطان، وَرِع (68) .
وفي ميزان الذهبي في ترجمة خارجة بن مصعب أنه قال: قدمتُ على الزهري وهو صاحب شرطة بني أمية فرأيته يركب وفي يده حَرْبَة، وبين يديه الناس، وفي أيديهم الكافركوبات ! فقلت: قبّح الله ذا من عالم، فلم أسمع منه (69) .
وقد عدّه ابن حجر في من أكثر من التدليس وقال: وصفه الشافعي و الدارقطني وغير واحد بالتدليس (70) . وقال القاسم بن محمد من أئمة الزيدية: أمّا الزهريّ فلا يختلف المحدثّون وأهل التاريخ في انّه كان مدلّساً (71)، وأنّه كان من أعوان الظلمة بني أمية، وقد أقرّوه على شرطتهم (72) .
وقال الشيخ محمد محمد أبو شهبة: اعتبروا من الجرح الذهاب إلى بيوت الحكّام، وقبول جوائزهم، ونحو ذلك مما راعوا فيه إنّ الدوافع النفسيّة قد تحمل صاحبها على الانحراف (73) .
وقد جرح أبو حازم سلمة بن دينار، الزهريَ لما أرسل إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك، ومعه ابن شهاب الزهري، فدخل أبو حازم فإذا سليمان متكىء، وابن شهاب عند رجليه، فقال أبو حازم كلمات لاذعة لابن شهاب، منها قوله: (إنّك نسيتَ الله، ما كلّ مَنْ يُرسل إليّ آتيه، فلولا الفَرَقُ من شرّكم ما جئتكم ...) (74)
ولقد تكلّم فيه شيخ أهل الجرح والتعديل يحيى بن معين بكلام خشن حول قتل الزهري لغلامه وقال: إنه ولي الخراج لبعض بني اُمية (75) .
وقال يحيى بن معين في معرفة رجاله: هجا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان أعمى: الزُهرْيَ وصالح بن كيسان، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر، في بيت واحد فقال: ليس بإخوان الثقات ابنُ مسلم *** ولا صالح ولا الطويل معاويهْ (76)
فنفى ابن معين الوثاقة عن الزهري على لسان الشاعر، وهو لو لم يوافق عليه ولم يعتقده لم ينقله أو لردّ عليه، لكنه لم يفعل . وقال القاسم بن محمّد: أليس كان بنو أمية وأتباعهم يلعنون عليّاً عليه السلام على المنابر، وابن شهاب يسمع ويرى، فماله ما يغضب ويُظهر علمه ? (77) .
وقال السيّد مجد الدين المؤيّدي: أمّا كون الزهريّ من أعوان الظلمة فمما لا خلاف فيه، وقد قدح فيه نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم . وابن شهاب ممن لا يعدّلون، بطاعة بني أميّة، وتلبيسه وتحريفه لمكان كثرة وفادته اليهم معروف، وهو لسان بني أميّة (78) .
وقال المؤيد بالله في شرح التجريد: الزهريّ عندنا في غاية السقوط (79) .
واستعمل الإمام زين العابدين عليه السلام أساليب عديدة لإتمام الحجّة على الزهريّ، ليعتبر به هو وأمثاله، وكان التركيز عليه لكونه أكبر علماء البلاط، وأعرفهم عند العوام:
فمن أساليبه: إسماعهُ المواعظ في المناجاة .
قال الزهريّ: سمعتُ علي بن الحسين سيّد العابدين يحاسب نفسه ويناجي ربّه، ويقول: . حتّام إلى الدنيا غرورك: وإلى عمارتها ركونك ... ? (80) .
ولما سأله الزهري: أيّ الأعمال أفضل عند الله تعالى ? فقال عليه السلام: ما من عمل بعد معرفة الله تعالى ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من بغض الدنيا، وإن لذلك لشعباً كثيرة، وللمعاصي شعباً: فأول ما عُصي الله به: الكبر ... ثم الحسد . فتشعّب من ذلك حب النساء، وحب الدنيا، وحبّ الرئاسة، وحبّ الراحة، وحبّ الكلام، وحبّ العلوّ والثروة، فصرن سبع خصال .
فاجتمعن كلهنّ في حبّ الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء: (حبّ الدنيا رأس كل خطيئة) والدنيا دنياوان: دنيا بلاغ: ودنيا ملعونة (81) . ومنها: التنبيه الخاصّ: .
قال المدائني: قارف الزهريّ ذنباً استوحش منه، وهام على وجهه، فقال له علي ابن الحسين: يا زهريّ، قنوطك من رحمة الله التي وسعت كلّ شي أعظم عليك من ذنبك فقال الزهري: (الله أعلم حيثُ يجعل رسالته) . [ الأنعام (6) الاَية (124) ]فرجع إلى ماله وأهله (82) .
وكان يقول بعد ذلك: علي بن الحسين أعظم الناس عليَ منَة (83) .
ومنها: التصغير والتهوين:
فحيثما كان الزهري وعروة بن الزبير ينالان من الإمام علي عليه السلام، بلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام فجاء حتّى وقف عليهما، وقال: أمّا أنت يا عروة، فإنّ أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك .
وأمّا أنت يا زهريّ، فلو كنت بمكة لأريتك كيرَ أبيك (84) .
ومنها: التكذيب لتزلّفاته: .
ففي الحديث أن الزهريّ قال لعلي بن الحسين عليه السلام: كان معاوية يُسكته الحلم، وينطقه العلم فقال الإمام عليه السلام: كذبتَ يا زهريّ، كان يُسكته الحَصَر، وينطقه البَطَر (85) .
ومنها: الرسالة التي وجّهها الإمام عليه السلام إليه:
ويبدو أنّ الزهريَ لم يأبه بكلّ النصائح والتوجيهات السابقة، فتوغّل في دوّامة الحكم الغاشم، والتحق بالبلاط الشاميّ، فلم يتركه الإمام عليه السلام، بل أرسل إليه رسالة دامغة، يصرّح فيها بكل أغراضه، ويكشف له، ولأمثاله، أخطار الاتصال بالأجهزة الظالمة .
وقد رواها العامة والخاصة، ونصّ الغزّالي على أنها كتبت إلى الزهري (لما خالط السلطان) (86) .
ألا أبلغ معاوية بن حـــــرب * فلا قرت عـيون الشــامتيـــنا
أ في شهر الصيام فجعتمونا * بخير الناس طــــــرا أحمعينا
قتلتم خير من ركب المطايــا * وأفضلهم ومن ركب السفينا
فرفع معاوية عمودا كان بين يديه فضرب رأسها ونثر دماغها أين كان خلمه ذلك اليوم ؟!
نقل ذلك في الغدير (11 /79) عن نسخة مخطوطة من محاظرات الراغب الأصبهاني لكنه لم يوجد في مطبوعة المحاظرات !!!
ورواها من أعلامنا ابن شعبة، ونعتمد نسخته هنا (87) قال: كتابه عليه السلام إلى محمّد بن مسلم الزُهْريّ، يعظه: .
كفانا الله، وإيّاك، من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحتَ بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك، فقد أثقلتك نِعمُ الله بما أصحّ من بدنك، وأطال من عمرك، وقامت عليك حجج الله بما حمّلك من كتابه، وفقّهك من دينه، وعرّفك من سنّة نبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فرضي لك في كلّ نعمةٍ أنعم بها عليك، وفي كلّ حُجّة احتجّ بها عليك الفرض بما قضى، فما قضى إلاّ ابتلى شكرك في ذلك، وأبدى فيه فضله عليك، فقال: (لئن شكرتم لأزيدنّكم، ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد) .[ إبراهيم (14) الاَية (7) ]
فانظر: أيَ رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك: كيف رعيتها ? وعن حججه عليك: كيف قضيتها ? . ولا تحسبنّ الله قابلاً منك بالتعذير، ولا راضياً منك بالتقصير .
هيهات هيهات ليس كذلك أخذ على العلماء في كتابه إذ قال: (لِتبِيّنُنَه للناس ولاتكتمونه) .[ آل عمران (3) الاَية (187) ]
واعلم أنّ أدنى ما كتمتَ، وأخفّ ما احتملت أن آنست وحشة الظالم، وسهّلت له طريق الغيّ بدنوّك منه حين دنوت، وإجابتك له حين دُعيت !.
فما أخوفني أن تبوء بإثمك غداً، مع الخونة، وأن تُسأل عمّا أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة، إنك أخذت ماليس لك ممَن أعطاك، ودنوت ممّن لم يردَ على أحدٍ حقّاً، ولم تردَ باطلاً حين أدناك، وأحببتَ مَنْ حادَ الله !.
أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلّما إلى ضلالتهم .
داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يُدخلون بك الشكَ على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم . فلم يبلغ أخصّ وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم إلاّ دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصّة والعامّة إليهم .
فما أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، وما أيسر ما عمّروا لك في كَنَف ما خربّوا عليك ? .
فانظر لنفسك، فإنّه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول .
وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً ? .
فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه: (فَخَلَف من بعدهم خَلْف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيُغفر لنا) .[ الأعراف (7) الاَية (169) ].
إنّك لست في دار مقام، أنت في دارٍ قد آذنتْ برحيل، فما بقاء المرء بعد قرنائه ?. طوبى لمن كان في الدنيا على وجلٍ، يا بؤس مَن يموت وتبقى ذنوبه من بعده . إحذر فقد نُبّئتَ، وبادر فقد اُجّلتَ . إنّك تعامل مَن لا يجهل، وإنّ الذي يحفظ عليك لا يغفل .
تجهّز فقد دنا منك سفر بعيد، وداوِ دينك فقد دخله سقم شديد .
ولا تحسب أني أردتُ توبيخك وتعنيفك وتعييرك، لكنّي أردتُ أن ينعش الله ما فات من رأيك، ويردّ إليك ما عزُب من دينك، وذكرت قول الله تعالى في كتابه: (وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين) .[ الذاريات (51) الاَية (55) ].
أغفلتَ ذكر مَن مضى من أسنانك وأقرانك، وبقيتَ بعدهم كقَرن أعضب . انظر: هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به ? أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه ? أم هل تراهم ذكرت خيراً أهملوه ? وعلمت شيئاً جهلوه ? .
بل: حظيت بما حلّ من حالك في صدور العامّة، وكلفهم بك، إذ صاروا يقتدون برأيك، ويعملون بأمرك، إن أحللت أحلّوا، وإن حرّمت حرّموا، وليس ذلك عندك، ولكن أظهرهم عليك رغبتهم في ما لديك ذهابُ علمائهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وحبّ الرئاسة، وطلب الدنيا منك ومنهم .
أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرّة ? وما الناس فيه من البلاء والفتنة ? .
قد ابتليتهم، وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم ممّا رأوا، فتاقت نفوسهم إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغتَ، أو يدركوا به مثل الذي أدركتَ، فوقعوا منك في بحرٍ لا يدرك عمقه، وفي بلاء لا يقدّر قدره . فالله لنا ولك، وهو المستعان . أمّا بعد: فأعرض عن كلّ ما أنت فيه حتّى تلحق بالصالحين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقةً بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، ولا تفتنهم الدنيا، ولا يفتنون بها . رغبوا، فطلبوا، فما لبثوا أن لحقوا .
فإن كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ، مع كبر سنّك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فكيف يسلم الحدث في سنّه ? الجاهل في علمه ? المأفون في رأيه ? المدخول في عقله ? .إنّا لله وإنّا اليه راجعون .
على من المعوّل ? وعند مَن المستعتب ? .
نشكو إلى الله بثّنا، وما نرى فيك، ونحتسب عند الله مصيبتنا بك .
فانظر: كيف شكرك لمن غذَاك بنعمه صغيراً وكبيراً ? .وكيف إعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلاً ? .
وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيراً ? .
وكيف قربك أو بعدك ممّن أمرك أن تكون منه قريباً ذليلاً ? .
مالك لا تنتبه من نعستك ? وتستقيل من عثرتك ? فتقول: والله ما قمتُ لله مقاماً واحداً أحييتُ به له ديناً أو أَمَت له فيه باطلاً ? .
فهذا شكرك من استحملك ? .
ما أخوفني أن تكون كما قال الله تعالى في كتابه: (أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيّاً) .[ مريم (19) الاَية (59) ]
استحملك كتابه، واستودعك علمه، فأضعتهما .فنحمد الله الذي عافانا ممّا ابتلاك به . والسلام (88) . .
إنّ هذه الرسالة تدلّ على سياسة الإمام عليه السلام من جهتين: فأولاً: محتواها يدلّ على انّ الإمام كان يراقب الأوضاع بدقّة فائقة، فهو يضع النقاط على مواضعها من الحروف، ولا تشذّ عنه صغار الأمور فضلاً عن كبارها ? ومثل هذا لا يصدر إلاّ ممّن لم ينعزل عن الحياة الاجتماعية، ولم يزهد في السياسة .
وثانياً: إنّ إرسال مثل هذه الرسالة إلى الزهري، وهو من أعيان علماء البلاط، لابدّ أن لا تخفى عن أعين الحكّام، أو على الأقل يحتمل أن يرفعها الزهري إلى أسياده من الحكّام وفي هذا من الخطورة على الإمام الذي أرسل الرسالة ما هو واضح وبيّن، وقد وصفهم فيها بالظلم والفساد، ونهى، وحذّر، وحاول صرف الزهري عن اصطحابهم .
فالسياسة تطفح من جُمَل هذه الرسالة .
لكنّ الإمام عليه السلام في هذه المرحلة لا يأبه بكل الاحتمالات، والأخطار المتوقّعة، بل يصارح أعوان الظلمة بكلّ ما يجب إعلانه من الحقّ، كما صارح الظالمين أنفسهم بالمواجهة، والاستفزاز .
وقد وقفنا على شي من مواجهة الإمام عليه السلام للمتظاهرين بالزهد والصلاح ممن كان يميل باطناً إلى الدنيا، ويحبّ الرئاسة والوجاهة، وأوضح مصاديق ذلك: هم عُلماء البلاط ووعّاظ السلاطين الذين ارتبطوا بالولاة والحكّام، ليستمتعوا باللذات من خلال الحضور معهم، والتطفّل على موائدهم .

________________________
(57) تحف العقول (ص 332) .
(58)بلاغة علي بن الحسين عليه السلام (224) عن الاثني عشرية، للعاملي .
(57) تاريخ دمشق (الحديث 128) ومختصره لابن منظور (17: 24) .
(60) شرح نهج البلاغة (4: 102).
(61 )شرح نهج البلاغة (4: 102) والاعتصام بحبل الله المتين (2: 258) .
(62) تهذيب التهذيب (4: 225) .
(63 )الجامع لأخلاق الراوي (2: 203) .
(64 )الاعتصام (1: 285) .
(65) لاحظ وفيات الأعيان، لابن خلكان (3: 371) .
(66 )رجال المشكاة، للدهلوي .
(67 )رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1 530) ضمن كلام الفزاري، ونقل ابن حجر الكلام في ترجمته في تهذيب التهذيب (1 :152) إلاّ أنه حذف هذه الجملة !.
(68 )الاعتصام (2: 257) ومعرفة علوم الحديث للحاكم (ص 54) .
(69 )الاعتصام (2: 257) وميزان الاعتدال (1: 625) والكامل لابن عديّ (3: 922) .
(70) تعريف أهل التقديس (ص 109) رقم (102) .
(71 )لاحظ طبقات المدلسين لابن حجر (ص 15) وانظر الجامع لأخلاق الراوي (1 :191 )الحديث 131 .
(72) الاعتصام (2: 257) .
(73) دفاع عن السنة (ص 31) وانظر قصة حماد بن سلمة مع أمير البصرة، في الجامع لأخلاق الراوي (1 :7 -568) وحلية الأولياء (6: 249) .
(74) الاعتصام (2: 258) والكلام بطوله في الإمامة والسياسة (2: 105 110) .
(75) انظر جامع بيان العلم للقرطبي (2 :160) وصرَح بأنه ترك الكلام الخشن لأنه لا يليق بمثله، ولكن لم نجد ذكراً لمثل ذلك في رجال ابن معين، ولعلّ الطابعين أيضاً تركوا ذلك رعاية لما يليق بالزهري، وان كان فيه إساءة إلى ابن معين وإلى التراث بالخيانة فيه
(76) معرفة الرجال (2: 50) رقم (80) .
(77 )الاعتصام (2: 260).
(78) لوامع الأنوار (ص 79) .
(79) لوامع الأنوار (ص 110) وقد ألّف سماحة السيد بدر الدين الحوثي حول (الزهري) كتاباً حافلاً في فصلين، فليراجع
(80 )إلى آخر ما ذكره عليه السلام .
(81 )الكافي (2: 130) المحجة البيضاء (5: 365) .
(82 )مختصر تاريخ دمشق (17: 245) وكشف الغمة (2: 302) وبحار الأنوار (46: 7) .
(83 )تاريخ دمشق (الحديث 125) ومختصره لابن منظور (17: 246) .
(84 )شرح نهج البلاغة (4: 102) . ب (3)
(85 )الاعتصام (2: 257) وانظر نزهة الناظر (ص 43) وعن معاوية وكذب ما نسب إليه من صفة الحلم إقرأ ما نقل عن شريك لما ذكر عنده باحلم فقال: هل كان معاوية إلا معدن السفه؟!والله لقد أتاه قتل أمير المؤمنين -وكان متكئا فاستوى حاليا ثم قال: يا جارية غنيني بايوم قرت عيني يأنشأت تقول :
(86 )إحياء علوم الدين (2: 143) وانظر المحجة البيضاء في إحياء الإحياء (3: 260) .
(87)تحف العقول (ص 274) والمحجة البيضاء (3: 260) .
(88)روى الرسالة في تحف العقول (274 - 277) ورواها الحائري في: بلاغة علي بن الحسين (ص 122 -126)ورواها المقرم في: الإمام زين العابدين (ص 4 -159) ولاحظ إحياء علوم الدين للغزالي (2: 143) .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page