• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

إمبراطوريّتا الرُّوم وإيران إِبّان عهدِ الرِّسالةِ

 - أسلاف رسول الإسلام (ص)
1 - بطل التوحيد : إبراهيم الخليل عليه السَّلام
إن الهدف من استعراض حياة النبيّ العظيم إبراهيم الخليل عليه السَّلام هو التعريف بأجداد النبيّ محمَّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأسلافه، لانتهاء نسبه الشريف إلى النبيّ إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السّلام، وحيث ان لهاتين الشخصيتين العظيمتين وبعض أسلاف النبيّ العظام نصيباً هاماً في تاريخ العرب والإسلام، لهذا ينبغي الحديث عن أحوالهم بصورة مختصرة، خاصّة أنَّ حوادث التاريخ الإسلامي ترتبط ارتباطاً كاملاً - كحلقات سلسلة واحدة - بالحوادث السابقة، او المقارنة لبزوغ الإسلام.
فعلى سبيل المثال تُعتَبر كفالة «عبد المطلب» لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وحمايته له، وجهود «ابي طالب» ودفاعه الطويل عن النبيّ، وعظمة الهاشميين وسموّ مقامهم واخلافهم، وجذور معاداة الأمويين لهم، الاسس والقواعد الموضوعية لحوادث التاريخ الإسلامي، ولهذا كان لا بدّ من تخصيص فصل كامل في التاريخ الإسلامي لهذه الابحاث.
إنّ في حياة حامل راية التوحيد النبيّ «إبراهيم الخليل» عليه السَّلام نقاطاً مشرقة وبارزة جداً.
فجهاده العظيم في سبيل ارساء قواعد التوحيد واقتلاع جذور الوثنية ممّا لا ينسى.
وهكذا حواره اللطيف والزاخر بالمعاني مع عبَدة النجوم والكواكب في عصره والذي ذكره القرآن الكريم لمعرفتنا، افضل واسمى درس توحيدي لطلاب الحقيقة وبغاة الحق.
مولد إبراهيم :
لقد وُلدَ بطلُ التوحيد في بيئةٍ مظلمة كانت تسربلها ظلمات الوثنية، وعبادة البشر... في بيئة كان الإنسان فيها يخضع لأصنام نحتها بيديه، كما يخضع لكواكب ونجوم.
ولقد وُلد حامل لواء التوحيد : «إبراهيم الخليل» عليه السّلام في «بابل» الذي يعدّها المؤرخون إحدى عجائب الدنيا السبع، ويذكرون حولها قصصاً واُموراً كثيرة تنبئ عن عظمتها وأهمية حضارتها، فيقول «هيرودتس» المؤرخ المعروف - مثلاً - : لقد كانت بابل بنية بشكل مربَّع طول كل ضلع من اضلاعه الاربعة (120 فرسخاً) ومحيطه (480 فرسخاً)(1).
إنَّ هذا الكلام مهما كان مبالغاً فيه إلا أنه على كل حال يكشف عن حقيقة لا تقبل الإنكار، إذا ما ضُمّ إلى ما كتبه الآخرون عن تلك المدينة التاريخية.
غير اننا لا نرى من تلك المدينة اليوم ومن مناظرها الجميلة، وقصورها الرائعة، إلا تلاً من التراب في منطقة بين «دجلة» و«الفرات»، فالموت يخيّم على كل تلك المنطقة، اللّهم الا عندما يكسر علماء الآثار بتنقيباتهم جدار الصمت أحياناً، بحثاً عن آثار تلك المدينة، ويستخرجون بقاياها الموقوف على معالم من حضارة اصحابها وسكانها.
لقد فتح رائد التوحيد ومُرسي اركانه «إبراهيم الخليل» عليه السَّلام عينيه
في دولة «نمرود بن كنعان».
وكان نمرود هذا رغم أنه يعبدُ الصنم يدّعي الألوهيّة ويأمر الناس بعبادته.
وقد يبدو هذا الامر عجيباً جداً فكيف يمكن ان يكون الشخص عابد صنم ومع ذلك يدّعي الاُلوهية في الوقت نفسه، إلا أن القرآن الكريم يذكر لنا نظير هذه المسألة في شأن «فرعون مصر»، وذلك عندما هزّ النبي موسى بن عمران عليه السّلام قواعد العرش الفرعوني بمنطقه القويّ، وحجته الصاعقة، فاعترض أنصار فرعون وملأه على هذا الأمر، وخاطبوا فرعون بلهجة معترضة قائلين : «أتذرُ موسى وقومه لِيُفسِدوا في الأرض ويذرك وآلهتك»(2).
ومن الواضح جدّاً أن «فرعون» كان يدعي الالوهية فهو الذي كان يقول : «أنا ربُّكُم الأعلى»(3) وهو القائل : «ما علِمت لكُم مِن الهٍ غيري»(4) ولكنه كان في الوقت نفسه عابد صنم ووثنياً.
بيد أنّ هذه الازدواجية ليست بأمر غريبٍ عند الوثنيين، ولا يمنع مانع في منطقهم أن يكون الشخصُ نفسه وثنياً يعبد الصنم، ومع ذلك يدَّعي أنه الهٌ ويدعو الناس إلى عبادته فيكون الهاً معبوداً، يعبد الهاً أعلى منه، لأن المقصود من المعبود والاله ليس هو خالق الكون بل هو من يتفوَّق على الآخرين بنحو من أنحاء التفوق ويمتلك زمام حياتهم بشكل من الإشكال.
هذا والتاريخ يحدثنا أن العوائد في بلاد الروم كانت تعبد كبارها ومع ذلك كان اولئك الكبار المعبودين انفسهم يتخذون لأنفسهم معبوداً أو معبودات اُخرى.
إن أكبر وسيلة توسَّل بها «نمرودُ» في هذا السبيل هو استقطاب جماعة من الكهنة والمنجمين الذين كانوا يُعدّون الطبقة العالمة والمثقَّفة في ذلك العصر.
فقد كان خضوعُ هذه الطبقة يمهّد لاستعمار الطبقة المنحطة وغير الواعية من الناس.
هذا مضافاً إلى أنه كان يُناصر «نمرود» بعضُ من ينتسب إلى «الخليل»
عليه السّلام بوشيجة القربى مثل «آزر» الذي كان يصنع التماثيل، وكان عارفاً بأحوال النجوم والفلك أيضاً، وكان هذا هو الآخر أحد العراقيل التي كانت تمنع الخليل من انجاح مهمته، لأنه مضافاً إلى مخالفة الرأي العام له، كان يواجه مخالفة أقاربه ايضاً.
لقد كان نمرود غارقاً في عالم خيالي عندما دق المنجمون فجأة أول ناقوس للخطر وقالوا له : سوف تنهار حكومتُك، ويتهاوى عرشك وسلطانك على يد رجل يولد في تلك البيئة، الأمر الذي أيقظ أفكاره النائمة، فتساءل من فوره : وهل وُلد هذا الرجل ؟ فقيل له : لا، انه لم يولد بعد. فأمر من فوره بعزل الرجال عن النساء (وذلك في الليلة التي انعقدت فيها نطفة ابراهيم الخليل عليه السّلام عدو نمرود، وهادم ملكه، ومزيل سلطانه وهي الليلة التي حددها وتكهن بها المنجمون والكهنة من انصار نمرود) ومع ذلك كان جلاوزة «نمرود» يقتلون كل وليد ذكر، وكان على القوابل ان يسجِّلن اسماء المواليد في مكتبه الخاص.
ولقد اتفق أن انعقدت نطفةُ «الخليل» في نفس الليلة التي منع فيها أي لقاء جنسي بين الرجال، وازواجهم.
لقد حملت اُم إبراهيم به كما حلمت اُم موسى به، وامضت فترة حملها في خفاء وتستر، ثم لجأت بعد وضع وليدها العزيز الى غار بجبل على مقربة من المدينة حفاظاً عليه، وراحت تتفقده بين حين وآخر من الليل والنهار، قدر المستطاع.
وقد أرضى هذا الاسلوبُ الظالمُ «نمروداً» وأراح باله بمرور الزمن، اذ أيقن بانه قد قضى به على عدو عرشه، وهادم سلطانه، وتخلص منه.
لقد قضى «إبراهيم» عليه السَّلام ثلاثة عشر عاماً في ذلك الغار الذي كان يتصل بالعالم الخارجي عبر باب ضيّق، ثم أخرجته اُمه من ذلك الغار بعد ثلاثة عشر عاماً، ودخل «إبراهيم» في المجتمع، فاستغرب المجتمع النمرودي وجوده وانكروه(5).
لقد خرج «إبراهيم» من الغار، مؤمناً باللّه بفطرته، وقوّى توحيده الفطري، بمشاهدة الأرض والسماء، والنظر في سطوع الكواكب والنجوم والتأمل في ما يجري في عالم النبات من نمو وحركة إلى غير ذلك ممّا يجري في عالم الطبيعة العجيب.
لقد واجه إبراهيم عليه السَّلام بعد خروجه من الغار جماعة من الناس بهرتهم أحوال الكواكب وعظمة أمرها، ففقدوا عقولهم تجاه هذه الظاهرة، كما راى جماعةٌ اُخرى أحطّ فكريّاً من سابقتها يعبدون اصناماً منحوتة، بل واجه ما هو اسوأ بكثير من أعضاء الطوائف والجماعات الضالة اذ رأى رجلاً يستغل جهل الناس وغبائهم ويدعي الالوهية ويفرض عليهم عبادته والخضوع له !!
لقد كان إبراهيم عليه السّلام يرى أنّ عليه أن يهيّئ نفسه لخوض المعركة في هذه الجبهات الثلاث المختلفة، وقد نقل القرآن الكريم قصة نضال النبيّ «إبراهيم» عليه السّلام في هذه الاصعدة والجبهات الثلاث وسننقل لك في ما يأتي وباختصار ما ذكره القرآن في هذا المجال.
إبراهيم ومكافحته للوثنية :
كانت ظلمات الوثنية قد خيّمت على منطقة بابل (موضع ولادة الخليل) برمتها.
فالآلهة المدَّعاة، والمعبودات (السماوية والارضية) الباطلة قد سحرت عقول مختلف فئات الشعب، فبعضها في نظرهم هي أرباب القدرة والسلطة، وبعضها الآخر وسيلة الزلفى والتقرب الى اللّه إلى غير ذلك من التصورات السخيفة في هذا الصعيد.
وحيث أن طريقة الأنبياء في هداية البشرية وارشادهم هي الاستدلال بالبراهين، والاحتجاج بالمنطق، لانهم إنما يتعاملون مع قلوب الناس وعقولهم، ويبتغون ايجاد حكومة تقوم على أساس الإيمان واليقين، ومثل هذه الحكومة لا يمكن اقامتها بالسيف او بالنار والحديد. لهذا يبدأون حركتهم بالتوعية الفكرية.
إن علينا أن نفرق بين الحكومات التي يريد الأنبياء تأسيسها، وحكومة
الفراعنة والنماردة.
ان هدف الطائفة الثانية هو : الرئاسة والزعامة، والحفاظ عليها بكل وسيلة ممكنة في حياتهم، وإن تلاشت وتهاوت من بعدهم.
ولكن الانبياء والرسل يريدون حكومة تبقى قائمة في جميع الحالات وماثلة في جميع الاوقات، في الخلوة والجلوة، في وقت الضعف، وفي وقت القوة، في حياتهم وبعد مماتهم... انهم يريدون أن يحكموا على القلوب لا على الابدان، وهذا الهدف لا يتحقق ابداً عن طريق القوة واستخدام العنف والقهر !! انما يتحقق عن طريق الحجة والبرهان.
لقد بدأ النبيُ «إبراهيم» عملَه بمكافحة ما كان عليه أقرباؤه الذين كان في طليعتهم وعلى رأسهم «آزر» وهو الوثنية وعبادة الاصنام، ولكنه لم ينته من هذه المعركة ولم يحرز إنتصاراً كاملاً في هذه الجبهة بعد إلا وواجه عليه السّلام جبهة اُخرى، وكانت هذه الجماعة أعلى مستوى من افراد الجماعة السابقة في الفهم والثقافة. لان هذه الجماعة - على خلاف أقرباء إبراهيم قد نبذت عبادة الأوثان والأصنام(6)، والمعبودات الارضية الحقيرة، وتوجهت بعبادتها وتقديسها الى الكواكب والنجوم والاجرام السماوية.
ولقد بيَّن «الخليل» عليه السَّلام في حواره العقائدي مع عُبّاد الاجرام السماوية، ومكافحته لمعتقداتهم الفاسدة، سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية التي لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك، وذلك ببيان بسيط مدعوم بأدلة لا تزال الى اليوم موضع اعجاب كبار العلماء، ورواد الفلسفة والكلام.
والأهم من ذلك - في هذا المجال - أن القرآن الكريم نقل أدلة «إبراهيم الخليل» عليه السّلام باهتمام خاص وعناية بالغة ولهذا ينبغي لنا أن نتوقف عندها قليلاً، وهذا ما سنفعله في هذه الصفحات.
حوار الخليل مع عبدة الكواكب :
ذات ليلة وقف إبراهيم عليه السّلام عند ابتداء مغيب الشمس يتطلع في السماء - وهو ينوي هداية الناس - وبقي ينظر الى النجوم والكواكب من أول الغروب من تلك الليلة الى الغروب من الليلة التالية، وخلال هذه الساعات الاربع والعشرين حاور وجادل ثلاث فرق، من عبدة النجوم وابطل عقيدة كل فرقة منها بأدلة محكمة، وبراهين متقنة قوية.
فعندما أقبل الليلُ وخيّم الظلام على كل مكان وهو يخفي كل مظاهر الوجود ومعالمه في عالم الطبيعة ظهر كوكبُ «الزُهرة» من جانب الاُفق وهو يتلألأ. فقال إبراهيم لِعباد هذا الكوكب - وهو يتظاهر بموافقتهم جلباً لهم، ومقدمة للدخول معهم في حوار - : «هذا ربي».
وعندما افل ذلك الكوكب وغاب عن الانظار قال : «لا احب الآفلين».
وبمثل هذا المنطق الجميل أبطل عقيدة عبدة الزهرة، واظهر خواءها وفسادها.
ثمّ إنه عليه السّلام نظر الى كوكب القمر المنير الذي يسحر القلوب بنوره وضوئه، فقال - متظاهراً بموافقة عبدة القمر - : «هذا ربي» ثم ردّ باسلوب منطقي محكم تلك العقيدة أيضاً، عندما امتدت يد القدرة المطلقة ولملمت أشعة القمر من عالم الطبيعة، وعندما إتخذ ابراهيم عليه السّلام هيئة الباحث عن الحقيقة ومن دون أن يصدم تلك الفرق المشركة ويجرح مشاعرها اذ قال : «لَئن لم يهدِني ربِّي لأكُوننّ مِن القوم الظالين»(7) لأن القمر قد أفل أيضاً كما أفل سابقُه فهو كغيره أسير نظام عُلويٍّ لا يتخلف، وما كان كذلك لا يمكن ان يُعدَّ رباً يُعبد، ويتوجه اليه بالتقديس والتضرع.
ولما ولّى الليل وأدبر، واكتسحت الشمس الوضاءة باشعتها حجب
الظلام، وبثت خيوطها الذهبية على الوهاد والسهول، والتفت عبدَة الشمس الى معبودهم، تظاهر ابراهيم بالاقرار بربوبيتها اتباعاً لقواعد الجدل والمناظرة ولكن افول الشمس وغروبها اثبت هو الآخر بطلان عبادتها ايضاً بعد أن اثبت خضوعها للنظام الكوني العام، فتبرأ «الخليل» عليه السّلام من عبادتها بصراحة.
وعندئذ أعرض عليه السّلام عن تلك الطوائف الثلاث وقال : «إنّي وجَّهتُ وجهي للّذي فطر السَّماواتِ والأرض حنِيفاً وما أنا مِن المُشركين»(8).
لقد كان المخاطبون في كلام إبراهيم عليه السّلام هم الذين يعتقدون بأن تدبير الكائنات الارضية، ومنها الانسان، قد انيطت إلى الاجرام السماوية وفوضت اليها !!
وهذا الكلام يفيد أن الخليل عليه السّلام لم يقصد المطالب الثلاث التالية :
1 - اثبات الصانع (الخالق).
2 - توحيد الذات وأنه واحد غير متعدد.
3 - التوحيد في الخالقية، وأنه لا خالق سواه.
بل كان تركيزه عليه السّلام على التوحيد في «الربوبية» و«التدبير» وادارة الكون، وانه لا مدبّر ولا مربي للموجودات الأرضية إلا اللّه سبحانه وتعالى، ومن هنا فانه عليه السّلام فور إبطاله لربوبية الاجرام السماوية قال : «وجّهتُ وجهِي للّذي فطر السماواتِ والأرض...» وهو يعني ان خالق السماوات والأرض هو نفسه مدبرها وربُها، وانه لم يفوّض أي شيء من تدبير الكون، - لا كله ولا بعضه - الى الاجرام السماوية، فتكون النتيجة : أن الخالق والمدبر واحد لا أن الخالق هو اللّه والمدبر شيء آخر.
ولقد وقع المفسرون، والباحثون في معارف القرآن في خطأ، والتباس عند التعرض لمنطق «إبراهيم» عليه السّلام وشرح حواره هذا، حيث تصوروا أن الخليل عليه السّلام قصد نفي «اُلوهية» هذه الأجرام يعني الالوهية التي تعتقد بها
جميع شعوب الأرض ويكون هذا الكون الصاخِب آية وجوده.
بينما تصوّر فريق آخر ان «إبراهيم» كان يقصد نفي «الخالقية» عن هذه الأجرام السماوية، لأنه من الممكن ان يخلق إله العالم كائناً كامل الوجود والصفات ثم يفوض اليه مقام الخالقية في حين أن هذين التفسيرين غير صحيحين، بل كان هدف الخليل عليه السّلام - بعد التسليم بوجود اله واجب الوجود، وتوحيده، ووحدانية الخالق - البحث في قسم آخرمن التوحيد، الا وهو التوحيد «الربوبي»، وبالتالي اثبات أن خالق الكون هو نفسُه مدبر ذلك الكون أيضاً، وعبارة : «وجّهتُ وجهِي...» أفضل شاهد على هذا النوع من التفسير.
من هنا كان التركيز الأكبر في بحث ابراهيم على مسألة «الربّ» و«الربوبية» في صعيد الاجرام كالقمر والزهرة والشمس(9).
هذا واستكمالاً للبحث الحاضر لابدَّ من توضيح برهان النبيّ «ابراهيم» عليه السّلام.
لقد استدل «ابراهيم» في جميع المراحل الثلاث باُفول هذه الاجرام على أنها لا تليق بتدبير الظواهر الارضية وبخاصة الإنسان.
وهنا ينطرح سؤال : لماذا يُعتبر اُفول هذه الاجرام شاهداً على عدم مدبِّريتها ؟
إن هذا الموضوع يمكن بيانُه بصور مختلفة، كل واحدة منها تناسب طائفة معينة من الناس.
ان تفسير منطق «الخليل» عليه السّلام واسلوبه في إبطال مدبِّرية الاجرام السماوية وربوبيّتها بأشكال وصور مختلفة أفضل شاهد على أن للقرآن الكريم أبعاداً مختلفة وأن كل بُعدٍ منها يناسب طائفة من الناس.
(10) لقد بيّنا مراتب التوحيد من وجهة نظر القرآن الكريم في كتابنا «معالم التوحيد في القرآن الكريم» وأثبتنا هناك أنّ التوحيد في الذات غير التوحيد في الخالقية، وأن هذين النوعين من التوحيد غير التوحيد في الربوبية، وهي غير المراتب الاُخرى للتوحيد، فراجع الكتاب المذكور تقف على هذه الحقيقة.
واليك ما يلي التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال :
الف : إن الهدف من اتخاذ الربّ هو أن يستطيع الكائن الضعيف في ظل قدرة ذلك الرب من الوصول الى مرحلة الكمال ولابدّ ان يكون لمثل هذا الربّ ارتباطٌ قريب مع الموجودات المراد تربيتها بحيث يكون واقفاً على أحوالها، غير منفصل عنها، ولا غريب عليها.
ولكن كيف يستطيع الكائن الذي يغيب ساعات كثيرة عن الفرد المحتاج اليه في التربية ويُحرم ذلك الفرد من فيضه وبركته، ان يكون رباً للموجودات الأرضية ومدبراً لها ؟!
من هنا يكون اُفول النجم، وغروبه، الذي هو علامة غربته وانقطاعه عن الموجودات الارضية خير شاهد على أن للموجودات الأرضية ربّاً آخر، منزهاً عن تلك النقيصة عارياً عن ذلك العيب.
باء : انّ طلوع الأجرام السماوية وغروبها وحركتها المنظمة دليل على أنها جميعاً خاضعة لمشيئة فوقها، وانها في قبضة القوانين الحاكمة عليها، والخضوع لقوانين منظمة هو بذاته دليل على ضعف تلك الموجودات، ومثل هذه الموجودات الضعيفة لا يمكن أن تكون حاكمة على الكون، أو شيء من الظواهر الطبيعية، وأما استفادة الموجودات الارضية من نور تلك الأجرام وضوئها فلا يدل أبداً على ربوبية تلك الأجرام، بل هو دليل على أن تلك الأجرام تؤدّي وظيفة تجاه الموجودات الأرضية بأمر من موجود أعلى.
وبعبارة اُخرى : إن هذا الأمر دليل على التناسق الكوني، وارتباط الكائنات بعضها ببعض.
جيم : ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات ؟ هل الهدف هو أن تسير من النقص إلى الكمال أو بالعكس ؟
وحيث أن الصورة الثانية غير معقولة، وعلى فرض تصورها لا معنى لأن يسير المربّي والمدبر للكون من مرحلة الكمال الى النقص والفناء، يبقى الفرضُ الاول وهو بنفسه دليل على وجود مربٍّ آخر يوصل هذه الموجودات القوية في ظاهرها
من مرحلة الى مرحلة، هو - في الحقيقة - الربُّ الذي يبلغ بهذه الموجودات وما دونها إلى الكمال.
طريقة الأنبياء في الحوار والجدال :
لقد اسلفنا في ما سبق أن «ابراهيم» - بعد خروجه من الغار - واجه صنفين منحرفين عن جادة التوحيد هما :
1 - الوثنيون.
2 - عبدة الاجرام السماوية.
ولقد سمعنا حوار «ابراهيم» عليه السّلام وجداله مع الفريق الثاني، وعلينا الآن أن نعرف كيف حاور الوثنيين وعبدة الاصنام ؟
إن تاريخ الانبياء والرسل يكشف لنا عن أنهم كانوا يبدأون دعوتهم من انذار الاقربين ثم يوسعون دائرة الدعوة لتشمل عامة الناس كما فعل رسول الإسلام في بدء دعوته حيث بدأ بانذار عشيرته الاقربين لما امره اللّه تعالى بذلك اذ قال : «وأنذِر عشيرَتك الأقربين»(11). وبذلك أسّس دعوته على إصلاح اقربائه وعشيرته.
ولقد سلك «الخليل» عليه السّلام نفس هذا المسلك أيضاً إذ بدأ عمله الاصلاحي باصلاح اقربائه.
ولقد كان لآزر بين قومه مكانة اجتماعية عليا فهو - مضافاً إلى معلوماته في الصناعة وغيرها - كان منجماً ماهراً، وذا كلمة مسموعة ورأي مقبول في بلاط «نمرود» في كل ما يخبر به من أخبار النجوم، وكل ما يستخرجه وما يستنبطه من الامور الفلكية ويذكره من تكهنات.
لقد ادرك «ابراهيم» ان بجلبه لآزر (عمّه) يستطيع ان يسيطر على اوساط الوثنيين، ويجردهم من ركيزة هامة من كبريات ركائزهم، ولهذا بادر الى منع
عمّه آزر - وبافضل الاساليب - عن عبادة الاوثان، بيد أن بعض الأسباب أوجبت أن لا يقبل «آزر» بنصائح «ابراهيم» عليه السّلام، والمهم لنا في هذا المجال هو ان نتعرف على كيفية دعوة الخليل وعلى اسلوب حواره مع «آزر».
ان الامعان في الآيات التي تنقل حوار «ابراهيم» عليه السّلام مع «آزر» توضح لنا أدب الانبياء، واسلوبهم الرائع في الدعوة والارشاد، ولنقف عند حوار ابراهيم ودعوته، ليتضح لنا ذلك.
يقول القرآن الكريم عن ذلك : (إذ قال لأبيهِ يا أبتِ لِم تعبُد ما لا يسمعُ ولا يُبصر ولا يُغني عنك شيئاً. يا أبتِ إنِّي قد جائني مِن العِلم ما لم يأتِك فاتّبعني أهدِك صِراطاً سوياً. يا ابتِ لا تعبُد الشيطان إن الشّيطان كان لِلرّحمن عصِيّاً. يا أبت إنّي اخافُ أن يمسَّك عذابٌ مِن الرَّحمن فتكُون لِلشّيطان وليّاً).
فاجابه «آزر» قائلاً : (أراغبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيمُ لئن لم تنته لأرجُمنَّك واهجُرني مليّاً).
ولكن «ابراهيم» بسعة صدره وعظمة روحه تجاهل رد «آزر» العنيف ذلك وأجابه قائلاً : «سلامٌ عليك سأستغفِرُ لك ربِّي»(12).
وأيّ جواب أفضلُ مِن هذا البيان وأيُّ لُغة أليَن مِن هذه اللغة واحبّ الى القلب، واكثر رحمة ولطفاً.
هل كان آزر والدَ إبراهيم ؟
ان الظاهر من الآيات المذكورة وكذا الآية (115) من سورة «التوبة» والآية (13) من سورة الممتحنة هو : أنّ «آزر» كان والد إبراهيم عليه السّلام.
وقد كان إبراهيم يسميه أباً في حين كان «آزر» وثنياً، فكيف يصح ذلك وقد اتفقت كلمة علماء الشيعة عامة على كون والد النبيّ الكريم «محمّد»
صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وجميع الأنبياء مؤمنين باللّه سبحان موحدين اياه تعالى.
ولقد ذكر الشيخ المفيد رضوان اللّه عليه في كتابه القيم «أوائل المقالات»(14) ان هذا الامر هو موضع اتفاق علماء الشيعة الامامية كافة بل وافقهم في ذلك كثير من علماء السنة ايضاً.
وفي هذه الصورة ما هو الموقف من ظواهر الآيات المذكورة التي تفيد اُبوّة «آزر» لإبراهيم، وما هو الحل الصحيح لهذه المشكلة ؟؟
يذهب أكثر المفسّرين إلى أن لفظة «الأب» وان كانت تُستعمل عادة في لغة العرب في «الوالد»، إلا أن مورد استعمالها لا ينحصر في ذلك.
بل ربما استعملت - في لغة العرب وكذا في مصطلح القرآن الكريم - في : (العمّ) أيضاً. كما وقع ذلك في الآية التالية التي استعملت فيها لفظة الأب بمعنى العم اذ يقول سبحانه :
(إذ قالَ لِبنيه ما تعبُدون مِن بعدي قالُوا نعبُد إلهك وإله آبائك إبراهيم واسماعيل وإسحاق إلهاً واحِداً ونحن لهُ مسلمون)(15).
فإنّ ممّا لا ريب فيه أن «اسماعيل» كان عماً ليعقوب لا والداً له، فيعقوب هو ابن اسحاق، واسحاق هو أخو اسماعيل.
ومع ذلك سمّى أولادُ يعقوب «اسماعيل» الذي كان (عمَّهم) أباً.
ومع وجود هذين الاستعمالين (استعمال الاب في الوالد تارة، وفي العم تارة اُخرى) يصبح احتمال كون المراد بالاب في الآيات المرتبطة بهداية «آزر» هو العمّ أمراً وارداً، وبخاصة إذا ضممنا الى ذلك قرينة قوية في المقام وهي : اجماع العلماء الذي نقله المفيد رحمه اللّه على طهارة آباء الانبياء واجدادهم من رجس الشرك والوثنية.
ولعل السبب في تسمية النبي «ابراهيم» عمّه بالأب هو أنه كان الكافل
لابراهيم ردحاً من الزمن، ومن هنا كان «ابراهيم» ينظر اليه بنظر الأب، وينزله منزلة الوالد.
القرآن ينفي اُبوّة «آزر» لإبراهيم :
ولكي نعرف رأي القرآن الكريم في مسألة العلاقة بين «آزر» و«ابراهيم» عليه السّلام نلفت نظر القارئ الكريم الى توضيح آيتين :
1 - لقد أشرقت منطقةُ الحجاز بنور الايمان والإسلام بفضل جهود النبيّ «محمَّد» صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وتضحياته الكبرى، وآمن اكثر الناس به عن رغبة ورضا، وعلموا بأن عاقبة الشرك، وعبادة الاوثان والاصنام هو الجحيم والعذاب الاليم.
إلا أنهم رغم ابتهاجهم وسرورهم بما وُفقوا له من إيمان وهداية، كانت ذكريات آبائهم واُمهاتهم الذين مضوا على الشرك والوثنية تزعج خواطرهم وتثير شفقتهم، واسفهم.
وكان سماع الآيات التي تشرح أحوال المشركين في يوم القيامة يحزنهم ويؤلمهم، وبغية ازالة هذا الالم الروحي المجهد طلبوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يستغفر لآبائهم واُمهاتهم كما فعل «إبراهيم» في شأن «آزر» فنزلت الآية في مقام الرد على طلبهم ذاك، اذ قال سبحانه :
(ما كان لِلنَّبيِّ والَّذين آمنوا أن يستغفِروا لِلمُشركين ولو كانُوا اُولي قربى مِن بعد ما تبيَّن لهُم أنَّهُم أصحاب الجحيم. وما كان استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا عن موعِدَة وعدها إيّاهُ فلمّا تبيّن لهُ أنَّه عدُوٌ للّه تبرَّأ مِنه إنّ إبراهيم لأوّاهٌ حليمٌ)(16).
إنَّ ثمت قرائن كثيرة تدل على أنّ محادثة النبيّ «إبراهيم» وحواره مع «آزر» ووعده بطلب المغفرة له من اللّه سبحانه قد انتهى إلى قطع العلاقات،
والتبرّي منه في عهد فتوَّة «إبراهيم»، وشبابه، أي عندما كان «إبراهيم» لا يزال في مسقط رأسه «بابل» ولم يتوجه بعد الى فلسطين ومصر وأرض الحجاز.
إننا نستنتج من هذه الآية أن «إبراهيم» قطع علاقته مع «آزر» - في أيام شبابه - بعد ما أصرّ «آزر» على كفره، ووثنيته، ولم يعد يذكره الى آخر حياته.
2 - لقد دعا «إبراهيم» عليه السّلام في اُخريات حياته - أي في عهد شيخوخته - وبعد أن فرغ من تنفيذ مهمته الكبرى (تعمير الكعبة) واسكان ذريته في أرض مكة القاحلة، دعا وبكل اخلاص وصدق جماعة منهم والداه، وطلب من اللّه إجابة دعائه، إذ قال في حين الدعاء :
(ربّنا اغفِر لي ولوالديّ ولِلمؤمِنين يومَ يقِوم الحِساب)(17).
إن هذه الآية تفيد بصراحة - أن الدعاء المذكور كان بعد الفراغ من بناء الكعبة المعظمة، وتشييدها، يوم كان إبراهيم يمر بفترة الشيخوخة، فاذا كان مقصودُه من الوالد في الدعاء المذكور هو «آزر» وانه المراد له المغفرة الالهية كان معنى ذلك أن «ابراهيم» كان لم يزل على صلة ب«آزر» حتى أنه كان يستغفر له في حين أن الآية التي نزلت رداً على طلب المشركين أوضحت بأن «إبراهيم» كان قد قطع علاقاته ب«آزر» في أيّام شبابه، وتبرّأ منه، ولا ينسجم الاستغفار مع قطع العلاقات.
إن ضمَّ هاتين الآيتين بعضهما الى بعض يكشف عن أنّ الذي تبرّأ منه «ابراهيم» في أيام شبابه، وقطع علاقاته معه، واتخذه عدواً هو غير الشخص الذي بقي يذكره، ويستغفر له الى اُخريات حياته(18).
إبراهيم محطِّم الأصنام :
لقد حلَّ موسم العيد، وخرج أهلُ بابل المغفّلون الجهلة إلى الصحراء للاستجمام، ولقضاء فترة العيد، وإجراء مراسيمه، وقد أخلوا المدينة.
ولقد كانت سوابق «إبراهيم»، وتحامله على الأصنام، واستهزاؤه بها قد أوجدت قلقاً وشكاً لدى أهل بابل، ولهذا طلبوا منه - وهم الذين يساورهم القلق من موقفه تجاه اصنامهم - الخروج معهم إلى الصحراء، والمشاركة في تلك المراسيم، ولكن اقتراحهم هذا بل إصرارهم واجه رفض إبراهيم الذي رد على طلبهم بحجة المرض اذ قال : «إنّي سقِيم» وهكذا لم يشترك في عيدهم، وخروجهم وبقي في المدينة.
حقاً لقد كان ذلك اليوم يوم ابتهاج وفرح للموحد والمشرك، وأمّا للمشركين فقد كان عيداً قديماً عريقاً يخرجون للاحتفال به، واقامة مراسيمه وتجديد ما كان عليه الآباء والاسلاف الى الصحراء حيث السفوح الخضراء والمزارع الجميلة.
وكان عيداً لإبراهيم بطل التوحيد كذلك، عيداً لم يسبق به مثيل، عيداً طال انتظارُه، وافرح حضوره وحلوله، فها هو إبراهيم يجد المدينة فارغة من الاغيار، والفرصة مناسبة للانقضاض على مظاهر الشرك والوثنية، وحدث هذا فعلاً.
فعندما خرج آخر فريق من اهل بابل من المدينة، إغتنم «إبراهيم» تلك الفرصة ودخل وهو ممتلئ ايماناً ويقيناً باللّه في معبدهم حيث الأصنام والأوثان المنحوتة الخاوية، وأمامها الأطعمةُ الكثيرة التي احضرها الوثنيون هناك بقصد التبرك بها، وقد لفتت هذه الاطعمةُ نظر «الخليل» عليه السّلام، فأخذ بيده منها كسرة خبز، وقدمها مستهزئاً الى تلك الاصنام قائلاً : لماذا لا تأكلون من هذه الاطعمة ؟
ومن المعلوم أن معبودات المشركين الجوفاء هذه لم تكن قادرة على فعل أي شيء أو حركة مطلقاً فكيف بالاكل.
لقد كان يخيم على ذلك جوّ ذلك المعبد الكبير سحابة من الصمت القاتل ولكنه سرعان ما اخترقته اصوات المعول الذي اخذ «إبراهيم» يهوي به على رؤوس تلك التماثيل الجامدة الواقفة بلا حراك، وايديها.
لقد حطم «الخليل» عليه السّلام جميع الاصنام وتركها ركاماً من الاعواد المهشمة، والمعدن المتحطم، واذا بتلك الاصنام المنصوبة في اطراف ذلك الهيكل
قد تحولت الى تلة في وسط المعبد.
غير ان «ابراهيم» ترك الصنم الأكبر من دون ان يمسه بسوء، ووضع المعول على عاتقه، وهو يريد بذلك ان يظهر للقوم بأن محطِّم تلك الأصنام هو ذلك الصنمُ الكبير، إلا أن هدفه الحقيقي من وراء ذلك كان امراً آخر سنبينه في ما بعد.
لقد كان «إبراهيم» عليه السّلام يعلم بأنّ المشركين بعد عودتهم من الصحراء، ومن عيدهم سيزورون المعبد، وسوف يبحثون عن علة هذه الحادثة، وأنهم بالتالي سوف يرون ان وراء هذا الظاهر واقعاً آخر، اذ ليس من المعقول ان يكون صاحب تلك الضربات القاضية هو هذا الصنم الكبير الذي لا يقدر أساساً على فعل شيء على الاطلاق.
وفي هذه الحالة سوف يستطيع «إبراهيم» عليه السّلام أن يستفيد من هذه الفرصة في عمله التبليغي، ويستغل اعتراضهم بأن هذا الصنم الكبير لا يقدر على شيء أبداً، لتوجيه السؤال التالي اليهم : اذن كيف تعبدونه ؟ !!
فمنذ أن اخذت الشمس تدنو الى المغيب ويقتربُ موعد غروبها، وتتقلص اشعتها وتنكمش من الرَّوابي والسهول، أخذ الناسُ يؤوبون إلى المدينة أفواجاً افواجاً.
وعندما آن موعد العبادة، وتوجّهوا إلى حيث اصنامهم، واجهوا منظراً فظيعاً وامراً عجيباً لم يكونوا ليتوقَّعونه !!
اجل إن اللّه الذي منح الحرارة للنّار والاضاءة للقمر، والاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب الاسباب، ومعطلها.
غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ، فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد «إبراهيم» ونفيه، وقد فتح هذا الأمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم، وتهيأت بذلك اسبابُ رحلته الى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز.
هجرة الخليل عليه السّلام :
لقد حكمت محكمة «بابل» على «إبراهيم» بالنفي والإبعاد من وطنه، ولهذا اضطرّ عليه السّلام ان يغادر مسقط رأسه، ويتوجه صوب فلسطين ومصر، وهناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم التي كان من جملتها جارية تدعى «هاجر».
وكانت زوجته «سارة » لم تُرزق بولد الى ذلك الحين، فحركت هذه الحادثة عواطفها ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرزقُ منها بولد، تقرّ به عينُه وتزدهر به حياته.
فكان ذلك، وولدت «هاجر» لإبراهيم ولداً ذكراً سمي باسماعيل، ولم يمض شيء من الزمان حتى حبلت سارة هي أيضاً وولدت - بفضل اللّه ولطفه - ولداً سمي باسحاق(19).
وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى «إبراهيم» بان يذهب بإسماعيل واُمه «هاجر» إلى جنوب الشام (أي ارض مكة) ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف الى ذلك الحين... واد لم يسكنه احدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية
الذاهبة من الشام الى اليمن، والعائدة منها الى الشام، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً، وأما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة، خالية عن أي ساكن مقيم.
لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لإمرأة عاشت في ديار العمالقة وألفت حياتهم وحضارتهم، وترفهم وبذخهم.
فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين.
وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الامر، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته «هاجر» وولده «إسماعيل» في ذلك الواد قال لزوجته «هاجر» وعيناه تدمعاه : «إن الذي أمرني أن اضعكُم في هذا المكان هو الذي يكفيكم».
ثمّ قال في ضراعة خاصة : (ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزُق أهلَهُ مِن الثمرات من آمن مِنهُم بِاللّه واليومِ الآخر)(20).
وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت اليهما وقال داعياً : (ربّنا إنّي أسكنتُ مِن ذُرِّيتي بِواد غير ذي زرعٍ عند بيتك المُحرم ربَّنا ليُقيموا الصّلاة فاجعل أفئدةً مِن النّاس تهوي إليهم وارزُقهم مِن الثّمراتِ لعلَّهُم يشكرُون)(21).
إنّ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها امراً صعباً، وعملية لا تطاق، إلا أن نتائجها الكبرى التي ظهرت في ما بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل، لأنّ بِناء الكعبة، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع، وخلق نواة نهضة، عميقة، دينية، انبثقت على يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم، كلُّ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.
عين زمزم كيف ظهرت ؟
لقد غادر «إبراهيم» عليه السّلام أرض مكة تاركاً زوجته وولده «إسماعيل» بعيون دامعة، وقلب يملأه الرضا بقضاء اللّه والامل بلطفه وعنايته.
فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب، وجف اللبن في ثديي «هاجر»، وتدهورت أحوال الرضيع «إسماعيل»، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره، وهي تشاهد حال وليدها الذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.
فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتى وصلت إلى جبل «الصفا» فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل «مروة»، فاسرعت إليه مهرولة، غير ان الذي رأته وظنته ماء لم يكن الا السراب الخادع، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب الى الصفا والمروة أملاً في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر، والذهاب والاياب المتعدد بين الصفا والمروة عادت الى وليدها قانطةً يائسةً.
كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتى على الانين.
ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه «إبراهيم»، اذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت اقدام «اسماعيل».
فسرت تلك الام المضطربة - التي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته، وكانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشاً، وجهداً - سروراً عظيماً بمنظر الماء، وبرق في عينيها بريق الحياة، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق، فشربت من ذلك الماء العذب، وسقت منه رضيعها الظامئ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس، وسحُب القنوط التي تلبدت وخيمت على حياتها.
ولقد ادى ظهور هذه العين التي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق فوق تلك البقعة التي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور، وارتادتها الحمائم، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت تساقط الطيور وتحليقها، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر، وبعد بحث طويل وكثير، انتهيا الى حيث حلت الرحمة الالهية، وعندما اقتربا إلى «هاجر» وشاهداً بام عينيهما «امرأة» و«طفلاً» عند عين من الماء الزلال الذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة، وتخيم عند تلك العين لتطرد عن «هاجر» وولدها مرارة الغربة، ووحشة الوحدة، وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا من تلك القبيلة، ويصاهرهم، وبذلك يحظى بحمايتهم له، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم له.
فانه لم يمض زمانٌ حتى إختار «إسماعيل» زوجة من هذه القبيلة، ولهذا ينتمي ابناء «إسماعيل» الى هذه القبيلة من جهة الاُم.
تجديد اللقاء :
كان إبراهيم عليه السّلام بعد أن ترك زوجته «هاجر» وولده «إسماعيل» في ارض «مكة» بأمر اللّه، يتردد على ولده بين فينة واُخرى.
وفي احدى سفراته ولعلّها السفرة الاُولى دخل «مكة» فلم يجد ولده «إسماعيل» في بيته، وكان ولده الذي أصبح رجلاً قوياً، قد تزوج بامرأة من جرهم.
فسأل «إبراهيم» زوجته قائلاً : اين زوجك ؟ فقالت : خرج يتصيَّد، فقال لها : هل عندك ضيافة ؟ قالت : ليس عندي شيء وما عندي أحد، فقال لها إبراهيم : «اذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه».
وذهب إبراهيم عليه السّلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه «إسماعيل» له وقد قال لها ما قال.
ولمّا جاء إسماعيل عليه السّلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد ؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخّفِة بشأنه، قال : فماذا قال لك ؟ قالت : قال لي أقرئي زوجك السلام وقولي له: فليغيّر عتبة بابه !!
فطلقها وتزوج اُخرى، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة(22).
وقد يتساءل أحد : لماذا لم يمكث إبراهيم عليه السّلام هناك قليلاً ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد، وقد قطع تلك المسافة الطويلة، وكيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز ؟!
يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة بأن يعود اليها سريعاً، ففعل ذلك حتى لا يخلف. وهذا من اخلاق الانبياء.
ثمّ إن «إبراهيم» سافر مرة اُخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه، وليبني الكعبة التي تهدمت في طوفان «نوح»، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.
إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض «مكة»قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيم عليه السّلام، لأن إبراهيم دعا بُعيد فراغه من بناء الكعبة قائلا:
(ربِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنُبني وبنِيَّ أن نعبُدَ الأصنام)(23) على حين دعا عند نزوله مع زوجته، وابنه إسماعيل في تلك الأرض قائلاً :
(ربِّ اجعل هذا بلداً آمِناً)(24).
وهذا يكشف عن ان مكة تحولت الى مدينة عامرة في حياة الخليل
عليه السّلام، بعد ان كانت صحراء قاحلة، وواد غير ذي زرع.
* * *
ولقد كان من المُستحسن استكمالاً لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة، ونستعرض التاريخ الاجمالي لذلك، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، في التاريخ.
2 - قُصيُّ بنُ كلاب :
إن أسلاف الرَّسول العظيم صلّى اللّه عليه وآله هم على التوالي : عبدُ اللّه، عبد المُطَّلِب، هاشم، عبدُ مناف، قُصّيّ، كِلابٌ، مُرَّة، كعب، لُؤيّ، غالِب، فِهر، مالِك، النضر، كِنانة، خُزيمة، مُدركة، إلياس، مُضر، نزار، معدّ، عدنان(25).
من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله إلى عدنان هو ما ذُكر، فلا خلاف فيه، إنما وقع الخلاف في عدد، واسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيل عليه السَّلام، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اذ قال : «إذا بلَغ نسبي إلى عدنان فأمسِكُوا»(26) هذا مضافاً إلى أن النبيّ نفسه كان اذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك، ونهى عن ذكر من بعده الى إسماعيل، وقد روي عنه صلّى اللّه عليه وآله أنه قال : كذِب النسّابُون.
ولهذا فإننا نكتفي بذكر من اُتفِق عليه، ونعمد الى الحديث عن حياة كلِّ واحد منهم.
ولقد كان كلُّ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين، ومشهورين في تاريخ
العرب، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام، ولهذا فاننا نقف عند حياة «قصيّ» ومن لحقه إلى والد النبيّ «عبد اللّه» ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافه صلّى اللّه عليه وآله ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة(27).
أمّا «قُصيّ» وهو الجدّ الرابع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فاُمّه «فاطمة» التي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : «زهرة» و«قصي» إلا أن زوج فاطمة قد توفي، وهذا الاخير لم يزل في المهد، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة، وسافرت معه الى الشام، وبقي «قصيّ» يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة، واشتد ذلك الخلاف حتى انتهى إلى طرده من قبيلتهم، ممّا أحزن ذلك اُمَّه، واضطرت الى إرجاعه الى «مكة». وهكذا اتت به يد القدر إلى «مكة»، وسبّبت قابلياته الكامنة التي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة وبخاصة قريش.
وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات العالية، وشغل المناصب الرفيعة، مثل حكومة «مكة» وزعامة قريش، وسدانة الكعبة المعظمة، وصار رئيس تلك الديار دون منازع.
ولقد ترك (قصيّ) من بعده آثاراً كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة، وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور وحل المشاكل يدعى بدار الندوة.
وقد توفي «قصيّ» في القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما : «عبد الدار» و«عبد مناف».
3 - عبد مناف :
وهو الجدّ الثالث لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واسمه «المغيرة» ولقبه
«قمر البطحاء»، وكان أصغر من اخيه «عبد الدار» إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه، وكان شعاره التقوى، ودعوة الناس الى حسن السيرة وصلة الرحم، بيد انه مع ما كان له من المكانة القوية لم ينافس اخاه «عبد الدار» في المناصب العالية التي كان يشغلها.
فقد كانت الزعامة لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما «قصيّ».
ولكن بعد وفاة هذين الأخوين وقع الخصام والتنازع بين أبنائهما على المناصب، وانتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات، وتقرر ان يتولى ابناء عبد الدار سدانة الكعبة، وزعامة دار الندوة، ويتولى ابناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.
وقد بقي هذا التقسيم المتفق عليه ساري المفعول الى زمن ظهور الإسلام(28).
4 - هاشم :
وهو الجدُّ الثاني لنبي الإسلام واسمه «عمرو» ولقبه «العُلاء» وهو الذي وُلِد مع «عبد شمس» توأمين، وأخواه الآخران هما : «المطلب» و«نوفل».
هذا وثمة خلاف بين أرباب السيَر وكتاب التاريخ في : أن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين، وأن هاشماً ولد واصبعٌ واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة «عبد شمس» وقد نزعت بسيلان دم، فتشاءم الناس لذلك(29) يقول الحلبي في سيرته : فكانوا يقولون : سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما أي بين بني العباس
(30) لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اُسّست ورُفع قواعدُها بل حدث كل ذلك تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات، وكانت هذه المناصب التي استمرت الى زمن ظهور الإسلام عبارة عن :
1 - سدانة الكعبة.
2 - سقاية الحجيج.
3 - رفادتهم وضيافتهم.
4 - زعامة المكيين وقيادة جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.
(وهم من اولاد هاشم) وبين بني امية (وهم من اولاد عبد شمس)(31).
وكأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة التي وقعت بين بني امية وابناء علي عليه السّلام في حين أن تلك الحوادث الدامية التي تسببها بنو امية واُهرقت فيها دماء ذرية رسول اللّه وعترته الطاهرة، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية ولم يشر اليها مطلقاً ؟!
ثم ان من خصوصيات أبناء «عبد مناف» حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي، وما جاء فيه من أشعار، أنهم توفوا في مناطق مختلفة.
فهاشم - مثلاً - توفي في «غزة» وعبد شمس مات في مكة، ونوفل في ارض العراق، والمطلب في ارض اليمن(32).
وكان من سجايا هاشم واخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هلَّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته، وأسند ظهره الى الكعبة المشرفة، وخطب قائلاً : «يا معشر قريش إنكم سادة العرب وأحسنها وجوهاً، وأعظمها احلاماً (اي عقولاً) وأوسط العرب (اي أشرفها) أنساباً، وأقرب العرب بالعرب أرحاماً.
يا معشر قريش إنكم جيرانُ بيت اللّه تعالى اكرمكُم اللّه تعالى بولايته، وخصكم بجواره، دون بني إسماعيل، وانه يأتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من اكرم أضياف اللّه انتم، فاكرموا ضيفه وزوّاره، فانهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح، فاكرموا ضيفه وزوّار بيته، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرجٌ من طيب مالي وحلاله ما لم يُقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يُدخل فيه حرامٌ، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم، إلا طيباً لم يؤخذ ظلماً، ولم يقطع فيه رحمٌ، ولم يؤخذ غصباً»(33).
ولقد كانت زعامة «هاشم» وقيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم.
ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة، وبالتالي ادى الى عدم احساسهم بالقحط، وآثار الجدب.
كما أنّ من خطواته البارزة واعماله النافعة جداً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير «غسان» من المعاهدة، الأمر الذي دفع بأخيه «عبد شمس» إلى أن يعاهد أمير الحبشة، وبأخويه الآخرين «المطلب» و«نوفل» الى ان يعاهدا أمير اليمن وملك ايران تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان، من العدوان والتعرض.
وقد أزالت هذه المعاهداتُ الكثير من المشاكل، وكانت وراء ازدهار التجارة في «مكة المكرمة» حتى عهد بزوغ شمس الإسلام.
ثم ان من أعمال «هاشم» وخطواته النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم اذ يقول : «رحلة الشتاء والصيف» وهما رحلة إلى الشام، وكانت في الصيف، ورحلة الى اليمن، وكانت في الشتاء، وقد استمرت هذه السيرة حتى ما بعد ظهور الإسلام ايضاً.
اُميّة بن عبد شمس يحسد هاشماً :
ولقد حسد «اُمية بن عبد شمس» ابن أخي هاشم عمّه «هاشماً» على ما حظي به من المكانة والعظمة، والنفوذ الى قلوب الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه، وما كان يقوم به من بذل وانفاق، وحاول جاهداً ان يقلده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنه رغم كل ما قام به من جهود ومحاولات لم يستطع أن يتشبه به ويتخذ سيرته، وكما لم يستطع بايقاعه وطعنه به ان يُقلل من شأنه بل زاده رفعة وعظمة.
لقد كان لهيب الحسد في قلب «اُمية» يزداد اشتعالاً يوماً بعد يوم، حتى
دفع به الى ان يدعو عمّه «هاشماً» للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرياسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن، وكانت عظمة «هاشم» وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه (اُميّة) إلا أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار (اُميّة) بشرطين :
1 - أن يعطي المغلوبُ خمسين من النياق سود الحدق تنحر بمكة.
2 - جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.
ومن حسن الحظِّ أن ذلك الكاهن نطق بمدح «هاشم» بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : «والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر... لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر» الى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر أُمية الى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين(34).
وقد استمرت آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى 130 عاماً بعد ظهور الإسلام، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.
ثم ان القصة السابقة مضافاً الى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في البيئة الشامية، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي التي مهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.
هاشم يتزوَّج...
كانت «سلمى» بنت «عمرو الخزرجي» امرأة شريفة في قومها، قد فارقت زوجها بطلاق، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد، ولدى عودة «هاشم» من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش، ولنبله وكرمه، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن لا تلد ولدها
إلا في اهلها، وحسب هذا الاتفاق بقيت «سلمى» مع زوجها «هاشم» في مكة بعض الوقت حتى اذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت الى : «يثرب» وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة». وقد اشتهر في ما بعد ب «عبد المطلب».
وكتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه «المطلب» : يا أخي أدرك عبدك شيبَة. ولذلك سُمّي شيبة بن هاشم : «عبد المطلب».
وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب، وينتضلون بالسهام، ولما سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً : «أنا ابنُ سيّد البطحاء» فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال : أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر «المطلب» أخا «هاشم» بما سمعه ورآه، فاشتاق «المطلبُ» الى ابن أخيه فذهب الى المدينة، ولما وقعت عيناه على ابن اخيه «شيبة» عرف شبه أخيه هاشم، وتوسَّم فيه ملامحه، ففاضت عيناه بالدموع، وتبادلا قُبُلات الشوق، والمحبة، وأراد أن يأخذه معه الى «مكة» وكانت اُمُّه تمانع من ذلك، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه الى «مكة» واخيراً تحققت اُمنية العم فقد استطاع «المطلبُ» أن يحصل على اذن اُمه، فاردفه خلفه وتوجّه حدب «مكة» تدفعه رغبة طافحة الى إيصاله إلى والده هاشم.
وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه، ولهذا ظنَّ أهل «مكة» عند دخوله مع عمه «مكة» أنه غلام اقتناه «المطلبُ» فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب، وكان المطلب ينفي هذا الامر، ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلته، وعُرف «شيبة» بعبد المطلب(35).
وربما يقال : أن سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في حجر عمّه
«المطلب» وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.
5 - عبدُ المطّلب :
عبدُ المطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأول للنبي صلّى اللّه عليه وآله كان رئيس قريش وزعيمها المعروف، وكانت له مواقف بارزة، وأعمال عظيمة في حياته، وحيث أن ما وقع من الحوادث في أيام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.
لاشك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر - في المآل - ببيئته وعاداتها، وتقاليدها، التي تصبغ فكره، بصبغة خاصة، وتطبع عقليته بطابع معين.
بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تأثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة، ويصون نفسه من التلوث بشيء من أدرانها وأقذارها.
وبطلُ حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة، وسطوراً لامعة تنبئ عن نفسيته القوية، وشخصيته الشامخة.
فان الذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية، ومعاقرة الخمر، والربا، وقتل الأنفس البريئة، والفحشاء حتى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة، ولكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء، ويمنع عن الزواج بالمحارم، والطواف بالبيت المعظم عرياناً، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ، لهو - حقاً - نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم، ويقل نظيرهم في المجتمعات.
أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي، يجب ان يكون إنساناً طاهر السُّلوك، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط، والفساد.
هذا ويستفاد من بعض قصصه وكلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة، وكان يردِّدُ دائماً : «لن يخرج من الدنيا ظلومٌ حتى ينتقم منه، وتصيبُه عقوبة... واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه، ويعاقبُ فيها المسيء باساءته»(36) أي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.
ولقد كان «حرب بن اُمية» من أقربائه، وكان من اعيان قريش ووجوهها أيضاً، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من «حرب»، ولما علم «عبدُ المطّلب» بذلك قطع علاقته بحرب، وسعى في استحصال دية اليهودي المقتول من «حرب» ودفعها إلى اولياء القتيل، وهذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل.
حَفرُ زمزم :
منذ أن ظهرت عين زمزم نزل عندها قبيلة جُرهم التي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة، وكانت تستفيد من مياه تلك العين، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في «مكة»، واقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين، ونضوب مائها بالمرة(37).
ويقال : أن قبيلة «جُرهُم» لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة
(38) لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات، وهذه الحقيقة مضافاً الى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة، راجع سورة الاعراف الآية 96.
واضطرت إلى مغادرة تلك الديار، وايقن زعيمها «مضاض بن عمرو» بانه سرعان ما يفقد زعامته، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان، والسيوف الغالية الثمن التي كانت قد اُهديت الى الكعبة، في قعر بئر زمزم، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى أثره إعفاء كاملاً حتى لا يهتدي خصومه الى مكانه ابداً، حتى اذا عادت إليه زعامته وعاد الى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين، واستفاد منه. ثم نشب القتال بين «جرهم» و«خزاعة» واضطرت «جرهم» وكثير من ابناء اسماعيل الى مغادرة «مكة المكرمة»، والتوجه إلى ارض اليمن، ولم يرجع أحدٌ منهم الى «مكة» ابداً.
ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد «خزاعة» حتى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب (الجدّ الرابع لنبي الإسلام) إلى سدة الزعامة والرئاسة، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة الى «عبد المطلب» فعزم على أن يحفر بئر «زمزم» من جديد، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتى اذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيّئ هو وولده «حارث» مقدمات ذلك.
وحيث أنه «يوجد في المجتمع دائماً من يتحجّج ويجادل - بسبب سلبيته - ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد، انبرى منافسو «عبد المطلب» إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم، وقالوا له : «إنها بئر أبينا اسماعيل، وان لنا فيها حقاً فاشركنا معك» ولكن «عبد المطلب» رفض هذا الطلب لبعض الاسباب، فقد كان «عبد المطلب» يريد ان يتفرد بحفر زمزم، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك إلا إذا قام بحفر زمزم بوحده دونه مشاركة من قريش.
وقد آل هذا الأمر الى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا الى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به، فتوجه «عبد المطلب» ومنافسوه الى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك، وقرب الوفاة اخذوا
يفكرون في كيفية الدفن اذا هلكوا وماتوا، فاقترح «عبد المطلب» ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع (ماعدا من بقي منهم على قيد الحياة) قد اُقبروا، ولم تغد أبدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا الاقتراح(39)، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة، وعيون ذابلة، وفجأة صاح عبد المطلب : «واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لانضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ» وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه، واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين، ولم يمض شيء حتى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : «قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع، ولا شريك»(40).
فعمد «عبد المطلب» وولده الوحيد الحارث الى حفر البئر، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر، وفجأة عثر «عبد المطلب» على الغزالين المصاغين من الذهب، والسيوف المرصعة المهداة الى الكعبة، فشبَّ نزاع آخر بين «قريش» وبين «عبد المطلب» على هذه الاشياء، واعتبرت «قريش» نفسها شريكة في هذا الكنز، وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذه المشكلة، فخرجت القرعة باسم «عبد المطلب»، وصار جميع ذلك الكنز اليه دون «قريش»، ولكن عبد المطلب خص بتلك الأشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها.
التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر :
رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة، والخصال المحبَّبة.
وللمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أوثقوها بالأيمان، المغلظة المؤكدة، والتزموا بها إلى الاخير، وربما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن.
ولقد أحسَّ «عبد المطلب» عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده، ولهذا نذر اذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِع احداً على نذره هذا.
ولم يمض زمان الا وبلغ عددُ ابنائه عشرة، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الذي نذر، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة.
ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلاً عن تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد، التاركين لاداء النذر، ومن هنا قرر أن يشاور أبناءه في هذا الامر، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة(41).
وتمت عملية القرعة، فاصابت «عبد اللّه» والد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه، وتوجّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.
ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حزِن الناس والشباب خاصة لذلك حزناً شديداً وبكوا وضجوا، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.
(42) هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان «عبد المطلب» وقوّة عزمه، وصلابة إرادته، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.
فاقترحت قريشٌ على عبد المطلب بان يفدي «عبد اللّه»، واظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك، فتحيّر «عبد المطلب» تجاه تلك المشاعر الساخنة، والاعتراضات القوية، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره، ويفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة، فقال له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلاً.
فوافق «عبد المطلب» واكابر قريش على هذا الاقتراح، وتوجهوا بأجمعهم نحو «يثرب» قاصدين ذلك الكاهن، ولما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم ؟ قالوا : عشرٌ من الابل.
فقال : إرجعوا إلى بلادكم، وقرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم «أي عبد اللّه» القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً، حتى يرضى ربُّكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُّكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.
فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهبة لدى الناس، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل «عبد اللّه» يتشحط في دمه.
ولهذا فانهم فور عودتهم إلى «مكة» بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتى اذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل، ونجا «عبد اللّه» من الذبح، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس، بيد أن «عبد المطلب» طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلاً : «لا واللّه حتى أضرب ثلاثاً»، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع(43).
حادثة عام الفيل :
عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية او ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما يتحول - بفعل اعجاب الناس عامة به - الى مبدأ للتاريخ.
فقيام النبي موسى يعتبر مبدأ للتاريخ عند اليهود، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.
وهذا يعني أن كل امّة من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الذي تعتبره بداية تاريخها.
وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا، والاتحاد السوفياتي، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.
ولكن الشعوب غير المتحضرة التي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلاً من الثورات والتحوّلات الاجتماعية، وهذا ما حدث عند العرب وقبل الإسلام.
فانهم - بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة - اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة - كالحرب والزلزال، والمجاعة والقحط او الحوادث غير الطبيعية، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.
ولهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب، آخرها : ضجة عام الفيل وهجوم «أبرهة» على «مكة» بهدف الكعبة المشرفة، التي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ - بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.
ونظراً لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الذي وقع عام 570 واتفقت فيه
ولادة النبي الكريم صلّى اللّه عليه وآله فاننا نتناول هذه القصة بالعرض والتحليل :
ما هي عوامل هذه الحادثة ؟
لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة، وسوف ننقل - هنا - الآيات التي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.
يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان ملك اليمن «تُبان أسعد» والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب (المدينة)، وقد كانت ل«يثرب» في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود(44)، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين، والمشركين العرب.
ولقد تركت دعوتُهم وما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية، واجتهد في بثها ونشرها. ثم ملك من بعده ابنه «ذو نواس» الذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.
بيد أن اهل نجران الذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية، وقاوموا «ذا نواس» مقاومة شديدة، فشق ذلك على ملك اليمن، واغضبه فتوجه احد قادته الى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعسكر هذا الجيش على مشارف نجران، واحتفر قائده خندقاً كبيراً، واوقد فيه ناراً عظيمة، وهدّد المتمردين بالاحراق بالنار. ولكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى، واستقبلوا الموت حرقاً، وغدوا طعمة للنيران.
يقول المؤرخ الإسلاميُّ «ابنُ الاثير الجزري» بعد ذكر هذه القصة : لما قتل
«ذو نواس» من قتل في الاُخدود لاجل العود عن النصرانية أفلَت منهم رجلٌ يقال له «دوس» فقدم على «قيصر» فاستنصره على «ذي نواس» وجنوده واخبره بما فَعل بهم، فقال له قيصر : بعدت بلادك عنا، ولكن ساكتبُ الى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم، فكتب قيصر الى ملك الحبشة يأمره بنصره، فأرسل معه ملكُ الحبشة سبعين ألفاً، وأمّر عليهم رجلاً يقال له «أرياط» وفي جنوده «ابرهة الأشرم» فساروا في البحر حتى نزلوا بساحل اليمن، وجمع «ذو نواس» جنوده فاجتمعوا وكتب الى زعماء قومه من اهل اليمن يدعوهم الى الاجتماع لمقاتلة عدوّهم، فلم يجيبوه، فانهارت حكومته أمام حملة جيش الحبشة، وسيطر الاحباش على ارض اليمن، وجُعِل «أبرهة» اميراً عليها من قِبَل «النجاشي» بعد مقتل «ارياط» على يد «أبرهة» في صراع على السلطة(45).
وهذه القصة هي التي تعرف في القرآن الكريم بقصة «اصحاب الاُخدود» وقد جاء ذكرها في سورة البروج اذ يقول اللّه تعالى : (قُتِل أصحابُ الاُخدود. النار ذات الوقود. إذ هُم عليها قُعود. وهُم على ما يفعلُون بالمؤمنين شُهودٌ. وما نقمُوا مِنهُم إلا أن يُؤمنوا باللّه العزيز الحميد. الّذي لهُ مُلك السماواتِ والارضِ واللّهُ على كُلِّ شيء شهيد)(46).
وقد ذكر المفسرون هذه القصة في شأن نزول هذه الآيات بصورة مختلفة(47).
ثم ان «ابرهة» الذي اسكره الانتصار والغلبة على منافسه، وتمادى في الشهوات بنى في صنعاء كنيسة عظيمة تقرّباً الى ملك الحبشة، وارضاء له ثم كتب كتاباً الى «النجاشي» ملك الحبشة يقول فيه: «إني قد بنيتُ لك ايها الملك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمُنته حتى أصرف اليها حج العرب».
وقد أدى معرفة العرب بما جاء في هذا الكتاب إلى ردّة فعل شديدة لديهم، الى درجة أن امرأة مِن قبيلة «بني افقم» تسللت ذات ليلة الى تلك الكنيسة واحدثت فيها، فأثار هذا العمل الذي كان يدل على مدى ازدراء العرب بكنيسة «أبرهة» واحتقارهم لها، غضب «أبرهة»، هذا من جانب ومن جانب آخر كان «ابرهة» كلما زاد في تزيين تلك الكنيسة زاد ذلك من حقد العرب، وحنقهم عليه، واحتقارهم لكنيسته، فتسبب كل ذلك في أن يحلف أبرهة على السير إلى الكعبة وهدمها، فسيَّر لذلك جيشاً عظيماً، وقدّم أمامهُ الفِيلة المقاتلة، وخرج متوجهاً صوب مكة وهو يعتزم هدم الكعبة بيت اللّه الحرام !!
فلما عرف زعماء العرب بغايته، وادركوا خطورة ذلك العمل وايقنوا بان استقلال العرب وسيادتهم تتعرض لخطر السقوط، لم يمنعهم ما عهدوه من قوة «ابرهة» وانتصاراته بل خرج بعضهم الى حربه فقاتلوه بكل شجاعة وبسالة مدفوعين بدافع الغيرة والحفاظ على الشرف المهدَّد بالخَطر.
فقد خرج «ذو نفر» وهو من أشراف أهل اليمن وملوكهم، ودعا قومه ومن أجابه من سائر العرب الى حرب «أبرهة» ولكن سرعان ما تغلّب «ابرهة» عليه بجيشه الكبير، ثم خرج له بعد ذلك «نفيل بن حبيب» وبقي يقاتله مدة طويلة فهزمه «ابرهة» واُخِذ له اسيراً، فطلب «نفيل» العفو منه فاشترط عليه أن يدلّه على طريق مكة ليعفو عنه، فدلّه نفيل حتى الطائف، واوكل الدلالة على بقية الطريق الى شخص آخر يدعى «ابو رغال» فدلّه أبو رغال على الطريق حتى أرض «المغمَّس» وهي منطقة قريبة من «مكة» فنزل «أبرهة» وجيشه بالمغمَّس، فارسل أبرهة رجلاً من الحبشة - على عادته - الى ضواحي «مكة» فاستولى على أموال قريش من الإبل والغنم فساق اليه في جملة ذلك مائتي بعير لعبد المطلب، ثم أمر رجلاً آخر يدعى «حُناطة» ليدخل «مكة» ويبلغ أهلها عنه ما جاء من اجله، وهو هدم البيت المحرّم الكعبة المعظمة، وقال له : سل عن سيد اهل هذا البلد وشريفها، ثم قل له : ان الملك يقول لك : «إني لم آت لحربكم، انما جئتُ لهدم هذا البيت، فان تعرّضوا دونه بحرب فلا حاجة لي في
دمائكم» فإن هو لم يرد حربي فأتني به.
فدخل «حُناطة» مكة ولما سأل عن سيد قريش وشريفها، وقد كانت قبائل قريش المختلفة قد تجمعت في اطراف البلد جماعات جماعات تتذاكر في امر «ابرهة» وما يجب اتخاذه من موقف تجاهه.
فدلّوه على بيت «عبد المطلب»، ولما دخل على «عبد المطلب» أبلغه مقالة «أبرهة» فقال له عبد المطلب : «واللّه ما نُريدُ حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت اللّه الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السّلام، فان يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وان يخلي بينه وبينه فواللّه ما عندنا دفع عنه»؟
فسرّ «حناطة» رسول ابرهة بمنطق عبد المطلب ومقالته التي كانت تحكي عن قوة ايمانه، وعن روحه المسالمة فطلب منه أن يصحبه الى «أبرهة»، قائلاً : فانطلق معي اليه، فانه قد امرني أن آتيه بك.
عبدُ المطّلب يذهب الى مُعسكر أبرهة :
فتوجه عبد المطلب هو وجماعة من ولده إلى معسكر ابرهة، فاعجب «أبرهة» بوقار رئيس قريش وهيبته إعجاباً شديداً، وبهر به حتى أنه نزل له من تخته اجلالاً، واخذ بيده، واجلسه الى جنبه، فسأله عن طريق مترجمه متأدباً : ما الذي اتى به وماذا يريد ؟ فاجابه عبد المطلب قائلاً : حاجتي أن يردَّ الملكُ عليَّ مائتي بعير أصابها لي.
فقال «أبرهة» لترجمانه : قل له : قد كنت اعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتُها لك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه ؟!
فقال له عبد المطلبُ : إني أنا ربُّ الإبل، وان للبيت رباً سيمنعه، فقال «أبرهة» مغتراً بنفسه : ما كان ليمتنع مني.
ثم أمر بان ترد الابل إلى أصحابها.
* * *
إنتظار قريش :
ولقد انتظرت قريش عودة «عبد المطلب» من معسكر «أبرهة» بفارغ الصبر لتعرف نتيجة ما دار بينه وبين أبرهة، وعندما عاد «عبد المطلب» اخبرهم الخبر، وامرهم بالخروج معه من مكة، والتحرز في رؤوس الجبال من معرّة الجيش فخرجوا الى الشعاب، والجبال، ثم لما كان الليل نزل عبد المطلب مع جماعة من قريش الى الكعبة واخذ بحلقة بابها يدعون اللّه ويستنصرونه على أبرهة وجنده وقال «عبد المطلب» مناجياً اللّه سبحانه : «اللّهم أنت أنيسُ المستوحشين ولا وحشة معك، فالبيت بيتُك والحرمُ حرمك والدارُ دارُك ونحن جيرانك تمنعُ عنه ما تشاء وربُّ الدار أولى بالدار» ثم قال :
لا همّ إن(1) العبد يمنع رح***له فامنع حِلالك(2)
لا يغلِبنَّ صليبُهم***ومحالهم عدواً مِحالك(3)
وقال أيضاً :
يا ربِّ لا أرجُو لهم سواكا***يا ربِّ فامنع مِنهمُو حِماكا
إن عدوَّ البيتِ من عاداكا***إمنعهُم أن يخربُوا فِناكا
ثم انه ترك حلقة الباب، ولجأ الى الجبل لينظروا ما سيجري.
وفي الصباح وعندما كان «أبرهة» وجنده يستعدون للتوجه الى «مكة»، واذا بأسراب من الطيور تظهر من جهة البحر يحمل كل واحد منها ثلاثة احجار، حجر في منقاره، وحجرين في رجليه، فاظلم سماء الجيش بتحليق تلك الطيور فوق رؤوس الجند، وتركت تلك الاحجار الصغيرة الحقيرة في ظاهرها اثرها العجيب فقد رجمت تلك الطيور جنود «ابرهة» بتلك الاحجار بامر اللّه، فكانت لا تصيب منهم أحداً إلا تحطم راسه، وتمزق لحم بدنه، وهوى صريعاً،
(1) لا هم أصلها : اللّهم والعرب تحذف الالف واللام وتكتفي بما بقي.
(2) الحلال جمع حلة وهي جماعة البيوت.
(3) المحال : القوّة والشدّة.
وهلك من توه، فاصابت واحدةٌ من تلك الاحجار رأس «ابرهة» نفسه فارتعدت فرائصه وايقن بغضب اللّه وسخطه عليه، فنظر الى جنوده وهم أشلاء مبثوثون هنا وهناك على الأرض كورق الشجر في فصل الخريف، فصاح بِمن لم يزل على قيد الحياة من جنده بامرهم بأن يتهيّأوا للعودة الى اليمن، من حيث أتوا، فاخذ بقية الجند طريق اليمن هاربين، غير أن هذه البقية قد هلكت شيئاً فشيئاً في أثناء الطريق حتى أن أبرهة نفسه بعد أن لم يصل الى صنعاء إلا بعد ان تفرّق لحمُ بدنه، وسقطت اعضاؤه وجوارحُه ومات بصورة عجيبة.
وقد دوَّى صوتُ هذه الواقعة العجيبة والرهيبة في العالم آنذاك، وقد ذكرها القرآن الكريمُ في سورة الفيل اذ يقول تعالى : (ألم ترَ كيف فعلَ ربُّك بِأصحابِ الفِيلِ. ألم يجعل كيدَهُم في تضليلٍ. وأرسل عليهِم طيراً أبابيل. ترميهِم بِحِجارَة مِن سِجِّيل. فجعلَهُم كعصفٍ مأكُول).
وما ذكرناهُ هنا - في هذه الصفحات - ليس هو في الحقيقة إلا خلاصة ما ورد في كتب التاريخ الإسلامي، وصرح به القرآنُ الكريم(48).
واستكمالاً لهذا البحث نعمد هنا إلى دراسة نظرية المفسر المصري الكبير الشيخ «محمَّد عبده» والعلامة المعروف الدكتور «هيكل» وزير الثقافة المصري السابق في هذا المجال.
كلمة حول المعجزة :
لقد أوجد التقدم العلميُّ الأخير في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والفضائية، وما استلزم ذلك من تهافت طائفة كثيرة من الفرضيات، ضجة عجيبة في الغرب، فمع أن جميع تلك التطورات كانت مجرد تطورات علمية تجري في مجال المسائل الطبيعية أو الفلكية، ولم يكن لها اية صلة بالمعتقدات الدينية
____________________________________________________________________________________
فإنّ هذا التحول والتطور وتلك الكشوف أوجدت شكاً عجيباً لدى بعض الناس انسحب على جميع المعارف والمعتقدات الدينية الموروثة على وجه الاطلاق !
والسرّ في ذلك هو أن العلماء رأوا بأن الفرضيات القديمة، التي بقيت تسيطر على الأوساط العلمية لمدة طويلة من الزمان، قد اصبحت اليوم عرضةً للبطلان والسقوط تحت مطارق التجربة وبواسطة الاختبارات العلميّة، والتحقيقات المختبرية، فلم يعُد - بعد هذا - مجالٌ للقول بفرضية الافلاك التسعة التي طلع بها «بطليموس»، ولا بفرضية مركزية الارض، ولا غيرها من عشرات الفرضيات، فقالوا في أنفسهم : ومن أين تَرى لا تكون بقية المعلومات والمعارف الدينية من هذا القبيل ؟!
وقد تفاقم هذا النوع من الشك في قلوب جماعة من العلماء بالنسبة الى جميع المعتقدات والمعارف الدينية ونمى بشكل قويّ في فترة قصيرة، وعمَّ الاوساط العلمية كأيّ مرض !!
هذا مضافاً إلى أنّ محاكم التفتيش وتشدّد الكنيسة وأربابها كان لها النصيب الاكبر في ظهور هذه الحالة بل في نموّها، واطرادها، لأن الكنيسة كانت تقضي على العلماء الذين نجحوا في اكتشاف القوانين العلمية تحت التعذيب والاضطهاد القاسي بحجة أنها تخالف الكتاب المقدس، وتعارض مقرَّرات الكنيسة !!
وممّا لا يخفى أنَّ مثل هذه الضُّغُوط، وهذا الاضطهاد والتعجرف ما كان ليمرَّ من دون حدوث ردة فعل، وقد كان من المتوقع منذ البداية أن العلماء في الغرب لو اتيحت لهم الفرصة لانتقموا من الدين بسبب سوء تصرف الكنيسة، وسوء معاملتهم لهم خاصة، وللناس عامة.
وقد حدث هذا فعلاً فكلّما تقدم العلمُ خطوةً، واطّلع العلماء على العلاقات السائدة بين الكائنات الطبيعية، واكتشفوا المزيد من الحقائق الكونية، والعلل الطبيعية لكثير من الحوادث والظواهر المادية، وكذا علل الامراض، قلّ اعتناؤُهم بالقضايا الميتافيزيقية،، وما يدور حول المبدأ والمعاد والافعال الخارقة للعادة
كمعاجز الانبياء، وازداد عدد المنكرين لها والشاكين فيها، والمترددين في قبولها يوماً بعد يوم !!
لقد تسبّب الغرورُ العلميُّ الذي أُصيب به العلماء في الغرب في أن ينظر بعض اولئك العلماء الى جميع القضايا الدينية بعين الازدراء والتحقير، وأن يمتنعوا حتى عن التحدث في المعاجز التي يخبر بها التوراة والانجيل، ويعتبروا عصا موسى عليه السَّلام، ويده البيضاء، ونفخة المسيح عليه السّلام التي كانت تشفي المرضى وتحيي الموتى من الأساطير، وراحوا يستائلون - في عجب واستنكار - : وهل يمكن أن تتحول قطعةٌ من الخشب اليابس إلى أفعى، أو ثعبان، أو هل يمكن ان تعود الحياة إلى ميّتٍ بكلمات من الدعاء ؟
لقد تصور العلماء الذين أسكرتهم فتوحاتهم العلمية، أنهم ملكوا مفاتيح جميع العلوم، ووقفوا على جميع العلاقات بين الكائنات الطبيعية والظواهر الكونية، ومن هنا تصوَّرُوا أنه لا توجد أيةُ علاقة بين قطعة الخشب والثعبان، او بين جملة من الدعاء والتفاتةٍ من بشر وعودة الروح الى الموتى، ولهذا أخذوا ينظرون الى هذه الامور بعين الشك والترديد، وربما بعين الانكار والرفض المطلق !!
وقد سرى هذا النوعُ من التفكير الى اوساط بعض العلماء المصريين الذين تأثروا بهذا الاتجاه اكثر من غيرهم، مع بعض التعديل في ذلك الموقف، وشيء من الاختلاف في النظرة المذكورة، ولهذا اتبعوا تلك السيرة في تحليل الوقائع والحوادث التاريخية والعلمية من هذا النوع، والسِرّ في تأثر بعض علماء مصر بهذه النظرة قبل واكثر من غيرهم هو احتكاك هذه الجماعة بالأفكار الواردة من الغرب قبل غيرهم، ومن هذه المنطقة سرت بعضُ النظريات والآراء الغربية إلى البلاد الإسلامية الاُخرى.
لقد اختار هؤلاء طريقاً خاصاً قصدُوا به الحفاظ على حرمة الكتاب العزيز، والاحاديث القطعية ومكانتها من جهة، وكسب نظر العلماء الماديين الطبيعيين الى انفسهم من جهة اُخرى، أو ارادوا ان لا يختاروا ما لا يمكن التوفيق بينه وبين القوانين العلمية الطبيعية وتطبيقه عليها.
لقد وجد هؤلاء من جهة أن القرآن الكريم يخبر عن سلسلة من المعجزات والخوارق التي لا يمكن تفسيرها بالعلوم العادية المتعارفة، لأن العلم لا يستطيع أن يدرك العلاقة بين العصا الخشبية اليابسة والثعبان، ومن جهة اُخرى كان القبول بالنظريات التي لا يمكن إثباتها بالحسّ والتجربة أمراً في غاية الصعوبة لهم.
ولهذا السبب، وفي خِضمِّ الصراع بين هذين العاملين : العلم والعقيدة، اختار هؤلاء الكتاب والعلماء نهجاً يستطيعون به وضع نهاية لهذا الصراع، والتنازع، فيحافظون على ظواهر القرآن والاحاديث من جانب، ويتجنبون القول بما يخالف منطق العلم من جانب آخر، ويتلخص هذا النهج في تفسير جميع المعاجز وجميع خوارق العادة التي جرت على أيدي الأنبياء بالموازين العلمية الحاضرة الرائجة في هذا العصر بصورة تبدو وكأنها اُمورٌ طبيعية، وبهذا يكونون قد حافظوا على مكانة القرآن الكريم والاحاديث القطعية المسلّمة، ولم يتفوهوا بما يخالف العلم الحديث ويتعارض مع معطياته.
ونحن هنا نذكر من باب النموذج والمثال : التفسير الذي ذكره العلامة المصري المعروف «محمّد عبده» لقصة اصحاب الفيل وما جرى لهم :
فهو يقول عند تفسيره لسورة الفيل :
«فيجوز لك ان تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الامراض، وان تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بارجل هذه الحيوانات، فاذا اتصل بجسد دخل في مسامّه فاثار فيه تلك القروح التي تنتهي بافساد الجسم وتساقط لحمه، وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يُعدّ من أعظم جنود اللّه في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأن هذا الحيوان الصغير - الذي يسمونه الآن بالميكروب - لا يخرج عنها».
وقال أحد الكتاب مؤيداً هذا الاتجاه بقوله : «إن الطير المستعمل في الكتاب العزيز يراد منه مطلق ما يطير، ويشمل الذباب والبعوض ايضاً»
ولا بدَّ - قبل دراسة هذه الأقوال - أن نستعرض مرة اُخرى الآيات النازلة في اصحاب «الفيل».
يقول اللّه تعالى : (ألم تر كيفَ فعلَ ربُّك بِأصحابِ الفِيلِ ألم يجعَل كيدهُم في تضلِيل. وأرسَلَ عليهِم طيراً أبابِيل. ترميِهم بِحِجارَةٍ مِن سِجّيل. فجعلهُم كعصفٍ مأكُولٍ).
إن ظاهر هذه الآيات يفيد أن جيش أبرهة اُصيب بالغضب والسخط الالهي، وان هلاكه وفناءه كان بهذه الأحجار التي حملتها تلك الطيور، وألقت بها على رؤوس الجند وأبدانهم.
إن الامعان في مفاد هذه الآيات يعطي أن موتهم كان بسبب هذه الاسلحة غير الطبيعية (الصغيرة الحقيرة في ظاهرها، القوية الهدامة بفعلها وأثرها).
وعلى هذا فانَّ أي تفسير يخالف ظاهر هذه الآيات لا يمكن الذهاب اليه وحمل الآيات عليه ما لم يقم على صحته دليل قطعي.
نقاطٌ تقتضي التأمل في التفسير المذكور :
1 - إنَّ التفسير المذكور لا يستطيع كذلك أن يجعل كل تفاصيل هذه الحادثة أمراً طبيعياً، بل هناك جوانب في تلك الواقعة التاريخية العجيبة لا بد من تفسيرها بالعوامل والاسباب الغيبية، لأنه مع فرض أن هلاك الجند وتلاشي أجسادهم تم بواسطة ميكروب : «الحصبة» و«الجدري»، ولكن من الذي ارشد تلك الطيور الى تلك الاحجار الصغيرة الملوثة بميكروب الحصبة والجدري، فتوجهت بصورة مجتمعة الى تلك الاحجار الخاصة بدل التوجه إلى الحبّ والطعام، ثم كيف بعد حمل تلك الأحجار بمناقيرها وأرجلها حلَّقت فوق معسكر «أبرهة» ورجمت جنده كما لو أنّها جيشٌ منظّم موجّه ؟؟
هل يمكن إعتبار كل ذلك أمراً عادياً، وحدثاً طبيعياً ؟
ترى لو أننا فسَّرنا طرفاً من هذه الحادثة العظيمة والعجيبة بالعوامل الغيبية، وبارادة اللّه النافذة فهل تبقى مع ذلك أية حاجة الى أن نفسّر جانباً من هذه الحادثة بتفسير طبيعي مألوف، ونركض وراء التوجيهات الباردة، لنجعلها امراً مقبولاً.
2 - إنَّ الكائنات الدقيقة، او ما يسمى الآن ب«الميكروب» لا شك انها عدوة لمطلق الإنسان، وليست بصديقة لهذا أو ذاك، ومع ذلك كيف توجهت الى جنود «ابرهة» وقتلتهم دون غيرهم، وكيف نسيت المكيّين بالمرة ؟!
انَّ التاريخ المدوَّن يثبت لنا أن جميع الضحايا في هذه الواقعة العظيمة كانوا من جند «ابرهة» ولم يلحق فيها : أي أذى - إِطلاقاً - بقريش، وغيرهم من سُكان الجزيرة العربية، في حين أن الحصبة والجُدريَّ من الأمراض المعدية، التي تنقلها العوامل الطبيعية كالرياح وغيرها من منطقة إلى اُخرى، ورُبما تُهلِك اهل قطر باجمعهم.
فهل مع هذا يمكن أن نعدّ هذه الحادثة حدثاً طبيعياً عادياً ؟!
3 - ان اختلاف هذا الفريق في تحديد نوعية الميكروب، يضفي على هذا الادعاء مزيداً من الإبهام، ويجعله أقرب الى البطلان.
فتارة يقولون : انَّه ميكروب الوباء وتارةً اُخرى يقولون : انَّه داء الحصبة والجدري، في حين اننا لم نجد مستنداً صحيحاً لهذا الخلاف، ومبرراً وجيهاً لهذا الاختلاف، اللّهم إلا ما احتمله «عكرمة» من بين المفسرين، وعكرمة هو نفسه موضع نقاش بين العلماء والا لما ذهب «ابن الاثير» من بين المؤرخين وارباب السير الى ذكر هذا الرأي في صورة الاحتمال الضعيف، والقيل، ثم عاد فردّ هذا القول فوراً.
والأعجب من الجميع ما أعطاه مؤلف كتاب «حياة محمَّد» الدكتور هيكل وزير المعارف المصري السابق من تفسير، عند ذكر قصة الفيل.
فهو بعد ذكر تلك القصة سرد آيات سورة الفيل، ومع أنه اتى بقول اللّه تعالى «وأرسل عليهم طيراً أبابيل» قال عن هلاك جنود أبرهة : «ولعلّ جراثيم الوباء جاءت مع الريح من ناحية البحر، وأصابت العدوى أبرهة نفسه»(49) فاذا كان الذي جاء بهذا الميكروب هو الريح، فلماذا حلّقت طيورُ الأبابيل على رؤوس جيش أبرهة، وألقت بالأحجار الصغيرة على رؤوسهم ودون غيرهم، واي أثر كان لهذه الاحجار في هلاك أُولئك الجنود وموتهم ؟
فالحق هو : أن لا يُتبع هذا النمط من التفكير، وأن لا نسعى لتفسير معجزات الأنبياء - الكبرى بمثل هذه التأويلات والتفسيرات، بل إن طريق المعجزات والإعجاز أساساً يختلف عن طريق العلوم الطبيعية التي تتحدد دائرتها بمعرفة العلاقات العادية بين الظواهر الطبيعية، ولهذا يجب علينا أن لا نعمد - ارضاء لهوى جماعة ممّن لا يمتلكون أية معلومات دينية، وليست لديهم أية معرفة بهذا النوع من القضايا - الى التنازل عن أُسُسنا الدينية المسلّمة، في حين لا توجد أية حاجة مُلزمة إلى مثل ذلك التنازل والاعتذار !.
نقطتان هامّتان :
وهنا لابد من أن نذكّر بنقطتين هنا :
الاُولى : يجب ان لا يظن أحدٌ - خطأً - أننا بما قلناه هنا نريد تصحيح كل ما تلوكه ألسنُ الناس، وتنسبه الى الانبياء العظام، أو إلى عباد اللّه الكرام، من دون أن يكون له أي سند صحيح أو وجه معقول بل وربما اتَّسم بطابع الخرافة في بعض الاحيان والموارد.
بل مقصودنا هو : أن نثبت - وطبقاً للمصادر الصحيحة والقطعية المتوفرة - أن الأنبياء كانوا يقومون - لاثبات ارتباطهم بما وراء هذه الطبيعة - بأعمال خارقة للعادة، خارجة عن الناموس الطبيعيّ المألوف، تعجز العلومُ الطبيعية الرائجة عن
إدراك عللها، وأسبابها.
فهدُفنا هو الدفاع عن هذه الطائفة من المعاجز.
الثانية : إننا لا نقول مطلقاً : أنّ وجود المعجزة هو تخصيصٌ لقانون العلية العامّ، بل اننا في الوقت الذي نحترمُ فيه هذا القانون المسلّم نعتقد بأن لجميع حوادث هذا العالم عللاً خاصة واسباباً معينة، وأنه من المستحيل أن يوجد شيء بعد عدمه من دون علة، بيد أننا نقول ان لهذه الطائفة من الظواهر والوقائع (اي المعاجز) عللاً غير طبيعية، وان هذه العلل ميسّرة ومتاحة لأنبياء اللّه ورسله والرجال الإلهيين خاصة، وليس في مقدور أحد - لم يستطع لا عن طريق الحس ولا عن طريق التجربة أن يكتشف هذه العلل - أن يتنكّر لها، وينكرها، بل ان جميع الاعمال الخارقة التي يقوم بها أنبياء اللّه ناشئة عن علل لا يمكن تفسيرها بالعلل الطبيعية المألوفة، ولو أنها خضعت للتفسير والتوجيه لخرجت عن كونها معجزة، ولم يصدُق في حقها عنوان الاعجاز.
ولكي نقف على حقيقة هذا الامر، ونعرف مدى بطلان المذهب المذكور (مذهب تفسير الخوارق والمعاجز بالتفسير المادي والمألوف المحض) ينبغي أن نتبسط قليلاً في شرح مسألة الاعجاز ونبحث في مدى علاقتها بقانون العلية العام.
بحثٌ علميٌ حول المعجزة في خمس نقاط :
إن الحديث العلميَّ عن المعجزة لا بدَّ أن يتركّز على عدة نقاط أساسية هي :
1 - ما هي المعجزة وما هو تعريفها ؟
2 - هل الإعجاز يهدم القوانين العقلية المسلّمة ؟
3 - هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير عادية فقط ؟
4 - كيف تدل المعجزة على صدق ادعاء النبوة ؟
5 - كيف وبماذا نميز المعجزة عن الخوارق الاُخرى ؟
إنّ الاجابة على هذه الأسئلة كفيلة بتوضيح حقيقة المعجزة، وبيان مدى بطلان الاتجاه المذكور نعني : تفسير المعاجز بالتفسير المادي الطبيعي.
على أننا - نظراً لضيق المجال - سنختصر الجواب على هذه الأسئلة، وعلى من أراد التوسع أن يرجع إلى كتب الكلام والعقيدة.
1 - ما هي المعجزةُ وما هو تعريفها ؟
لقد عرَّف علماء العقيدة المعجزة بتعاريف مختلفة أتقنها وأكملها هو : انّ المعجزة أمرٌ خارقٌ للعادة، مقرونٌ بالدعوى، والتحدّي، مع عدم المعارضة، ومطابقة الدعوى.
ويعني الشرطُ الأولُ (اي كون المعجزة أمراً خارقاً للعادة) أن كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية الحادثة مرتبطة بعلة حتماً، فلا يمكن صدورها من دون علة، وهذا الكون مشحون بالعلل التي يكتشفها البشر شيئاً فشيئاً وتدريجاً عبر وسائله العادية أو العلميّة، ولكنّ المعجزة مع كونها ظاهرة واقعية ولهذا فهي كغيرها مرتبطةٌ بعلة، بيد أنها تختلف عن غيرها من الظواهر في أنّ من غير الممكن كشف عللها من الطريق العادية أو بواسطة التجارب والتحقيقات العلمية، ولا يمكن تفسيرها وتبريرها بالعِلَل العادية أو بما يكتشف العلمُ من العلل لمثل هذه الحوادث، والمقصود من خرق العادة هو أن تقع المعجزةُ على خلاف ما عهدناه وتعوَّدنا عليه في الظواهر الاُخرى وعلِلها، مثل إشفاء المرضى من دون علاج ودواء كما هو المعهود، واخراج الماء من صخرة صماء من دون حفر أو تنقيب كما هو المألوف، وتحويل العصا الى أفعى من دون تبييض وتفريخ وتوالد وتناسل، بل بمسح من يد، أو بعبارة من لسان، او بضرب من عصا !!
من هنا نكتشفُ أن كل ظاهرة يقف الناس العاديّون بالطرق العادية أو العلماء خاصة بالطرق العلمية على عللها وأسبابها لا تكون معجزة لأنّه في هذه
الصورة لم يقع أي شيء على خلاف العادة والمألوف، ليدل على مزية في الانبياء.
فان مثل هذه الظاهرة التي يكون لها علةٌ عاديةٌ يعرفها جميعُ الناس، أو سببٌ علمي خاصٌ يعرفها علماء ومتخصصو ذلك العلم يمكن أن يقوم بايجاد أمثالها جميعُ الناس، فلا يكون حينئذٍ معجزة.
ولا يعني هذا - وكما اسلفنا - أنَّ المعجزة لا تنتهي الى أية علة، أصلاً، بل هي تستند إلى علة غير متعارفة وغير عادية، ولمزيد التوضيح سنبحث في هذا المجال عند الاجابة على السؤال الثالث.
ويُقصد من الشرط الثاني (أي كون الاعجاز مقروناً بالدعوى) أن يدّعي صاحبُ المعجزة النبوة والسفارة من جانب اللّه تعالى، ويأتي بالمعجزة دليلاً على صحة دعواه هذه، إذ في غير هذه الصورة لا يكون الأمرُ الخارق للعادة معجزةً بل يُطلق عليه في الاصطلاح الديني لفظ «الكرامة» كما كان لمريم بنت عمران التي كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً فاذا سألها من أين لها ذلك ؟ قالت : هو من عند اللّه(50).
ويعني الشرطُ الثالثُ أن يكون الاعجاز مقروناً بدعوة الناس الى الإتيان بمثله، وعجز الناس عن هذه المعارضة، وعدم قدرتهم على الاتيان بمثله مطلقاً إذ في هذه الصورة يتضح أنّ النبي يعتمد على قوة الهية غير متناهية، قوة خارجة عن حوزة البشر العادي.
واما الشرط الرابع فيعني أن الامر الخارق للعادة إنّما يكون عملاً إعجازياً، ويستحق وصف المعجزة الدالّة على ارتباط الآتي بها بالمقام الالهيّ، إذا وافق الامرُ الواقعُ ما يدعي أنه قادر على الإتيان به.
فلو قال : سأجعلُ هذا البئر الجاف الفارغ من الماء، يفيض بالماء باشارة اعجازية، ثم يقع ما قاله كان هذا الأمر معجزة حقاً، وأما إذا قال : سأجعل هذا
الماء القليل الموجود في البئر يفيضُ ماء، بالإعجاز، ولكن جفَّ ذلك البئرُ على عكس ما قال، لم يكن ذلك إعجازاً، بل كان تكذيباً لمدعيها.
هذا هو خلاصة ما يمكن أن يُقال حول تعريف المعجزة والاعجاز وهو يساعد على فهم طبيعة العمل الإعجازيّ.
2 - هل الاعجاز يهدم القوانين العقلية المسلَّمة ؟
وبهذا يتضح جواب السؤال المطروح في هذا المجال وهو أن يقال : إن قانون العليّة (أي : ارتباط كل معلول حادث بعلة) ممّا ارتكز عليه الذهنُ البشريُ وقبله العلمُ والفلسفة، ولذلك فاننا نلاحظ : كلّما وقف الإنسانُ على ظاهرة مهما كانت - بحثَ عن علّتها فوراً فاذا رأى حية - مثلاً - عرف بان علتها الطبيعية هي أن تبيض حيّة، ثم خروج حيّة من البيض بعد سلسلة من التفاعلات فكيف يمكن القبول بالمعاجز مع أنها لا تنشأ عن مثل هذا العلل ولا تمرُّ بمثل هذه المقدمات والمراحل والتفاعلات الطبيعيّة، مثل انقلاب العصا إلى ثعبان، أو نبوع الماء من الصخر من دون حفر أو تنقيب.
أليس هذا هدماً، أو تخصيصاً لذلك القانون العقليّ المسَلَّم العام ؟
فان الجواب على هذا السؤال هو ان مثل هذا السؤال لا يطرحه إلا الَّذين يحصرُون العلل والعلاقات بين الاشياء في العلل والعلاقات المادية الطبيعية.
ولكن الحق هو أنّ أيّة ظاهرة مادية يمكن أن يكون لها نوعان من العلل :
1 - العلةُ العادية التي تخضع للتجربة.
2 - العلةُ غير العادية التي يعرفها الناس ولم تكن متعارفة ولا تخضع للتجربة العلمية.
وهذا يعني أنه لا توجد أية ظاهرةُ في هذا العالم بدون علة.
وتوضيحُ هذا أن أصل وجود الحية ونبوع الماء من الصخرة وتكلم الطفل - مثلاً - أمرٌ ممكنٌ، ولا يُعدّ من المحالات، لأنها لو كانت من المحالات لما تحقق وجودها أبداً.
نعم إنها بحاجة إلى علة لكي تتحقق، والعلة - سواء في المعاجز أو غيرها - يمكن أن تكون إحدى الامور التالية :
أ - العلة الطبيعية العادية وهي ما ألفناها وإعتدنا عليها مثل ظهور شجرة من نواة بعد سلسلة من التفاعلات.
ب - العلة الطبيعية غير العادية وغير المعروفة وهذا يعني أنه قد يكون لظاهرة معينة نوعان من العلل، وطريقان للتحقق والوجود أحدهما معروف ومعلوم، والآخر مجهول وغير معلوم، والانبياء بحكم اتصالهم بالعلم والقدرة الالهية، يمكن أن يقفوا على هذا النوع مِن العلل - عن طريق الوحي - ويوجدوا الظاهرة.
ج - تأثير النفوس والارواح :
فانَّ بعض الظواهر يمكن أن تكون ناشئة من تأثير أرواح الأنبياء ونفوسهم القوية، كما نلاحظ ذلك في مجال المرتاضين الهنود الذين يبلّغون درجة يستطيعون معها أن يقوموا بما يعجز عنه الأفرادُ العاديُّون، وذلك بفضل الرياضات النفسية التي يخضعون لها. وهو ما يسمى باليوجا أحياناً، وقد كتبت حوله كتب ودراسات.
وقد أشار الى هذا جملةٌ من علماء الإسلام وفلاسفته منهم الفيلسوف الإسلامي الشهير صدر الدين الشيرازي حيث يقول :
«لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوةٌ الهيةٌ تكون بقوتها كأنها نفسُ العالم فيطيعُها العنصرُ طاعة بدنها لها، فكلّما ازدادت النفسُ - تجرداً وتشبّهاً بالمبادئ القصوى ازدادت قوةً وتأثيراً في ما دونها.
وإذا صار مجردُ التصوّر والتوهم سبباً لحدوث هذه التغيّرات في هيوليّ البدن لأجل علاقة طبيعيّة، وتعلّقٍ جبلِّي لها إليه، لكان ينبغي أن تؤثر في بدن الغير وفي هيوليّ العالم مثل هذا التأثير، لأجل مزيد قوة شوقية، واهتزاز علوي للنفس
(51) راجع كتاب الطاقة الانسانية لأحمد حسين.
ومحبة الهية لها، فيؤثر نفسُه في إصلاحها، وإهلاك ما يضرّها ويفسدها»(52).
د - العللُ المجردة عن المادة :
فيمكن ان تكون للظواهر عللٌ مجردة عن المادة كالملائكة، بان تقوم الملائكة بأمر من اللّه سبحانه بتدمير قرية، او تقوم بمعجزة بعد طلب النبيّ منها ذلك.
والملائكة مظاهرُ القدرة الالهية في الكون، وهي التي تدبّر اُمور الكون بأمر اللّه تعالى كما يقول القرآن الكريم : «فالمُدبِّراتِ أمراً» وهي بالتالي جنود اللّه في السماوات والأرض «وللّه جنودُ السماواتِ»(53).
فلا بد من ارجاع الظواهر الطبيعية الواقعة الى أحد هذه العوامل الاربعة، ولا يمكن أبداً حصر العلة في العلة الطبيعية العادية المعروفة كما تصور منكرو الاعجاز، بل يمكن أن تكون كلُ واحدة من هذه العلل سبباً لحدوث الظاهرة الطبيعية، فاذا لم نشاهد علة ظاهرة من الظواهر لم يجز لنا أن نُبادر - فوراً - إلى تصوّر أنها ناشئةٌ من غير علة.
ويجب ارجاع معاجز الأنبياء الى إحدى الطرق الاخيرة، والقول بأن الانبياء استخدموا - في ايقاع الخوارق والمعاجز - إما العلل المادية غير المعروفة للعُرف، والعلم، وأما نفوسهم القوية التي حصلت لهم بفعل الجهاد الرُوحيّ العظيم والرياضات النفسية الشديدة فهي علة تلك الأفعال الخارقة للعادة.
كما ويمكن ان تكون جميع تلك الافعال العجيبة ناشئة عن جملة من العلل والعوامل الغيبية المدبِّرة للكون بامر اللّه ومشيئته.
إذن فلا تتحقق المعجزة بدون علة كما يُتصوَّر، ولا يهدم الاعجاز القوانينَ العقلية المسلّمة.
يطيعه العنصرُ طاعة الجسد***للنفس فالكلُ كجسمهُ يُعدَ
 - هل المعجزة تصدر عن علل مادية غير معروفة فقط ؟
قد يتصور البعض أن المعاجز تصدر عن علل مجردة عن المادة فقط نافين أن تكون لها أيّة علل مادية معروفة او غير معروفة، في حين لا يصح هذا السلب الكلي، اذ ما اكثر الخوارق التي تنشأ عن اُمور عادية وعبر سلسلة من التفاعلات الطبيعية.
فعندما يرقُد مرتاض هنديٌ ليمرّ عليه تراكتور من دون ان تحدث في جسمه أية جراحات أو اصابات فان هناك اُموراً مادية كثيرة دخلت في هذا الامر لخارق مثل : وقوع هذا الحدث في اطار الزمان الخاص، والمكان الخاص، ومثل جسم المرتاض، وماكنة الحراثة.
فان جميع هذه الاشياء المادية اثرت في ظهور هذا العمل الخارق.
وهكذا عندما تنقلب عصا الكليم عليه السّلام إلى حية على نحو الاعجاز فان العصا شيء مادي وهكذا الحال في غيره من الموارد.
ولهذا لا يمكن ان نتجاهل تأثير العوامل والامور المادية في ظهور الاُمور غير العادية ، وننكر دخالتها بمثل هذا الإنكار.
وهذه هي اكثر النظريات اعتدالاً في هذا المجال.
وفي مقابل ذلك التفريط(54) أفرط آخرون اذ قالوا : ان جميع المعاجز والخوارق ناشئة من علل مادية غير معروفة.
وحتى ما يقوم به المرتاضون يعود الى هذه العوامل الطبيعية التي لا يعرفها ولا يقف عليها حتى النوابغ من الناس فضلاً عن العاديين، لأن العوامل الطبيعية على نوعين : المعروفة وغير المعروفة، والناس يستفيدون في حياتهم اليومية - في الأغلب - من القسم الاول، بينما يستخدم الانبياء والمرتاضون تلك العوامل الطبيعية غير المعروفة التي وقفوا عليها وادركوها دون غيرهم.
والسبب في وصفنا هذه النظرية بالافراط والتطرُّف هو عدم وجود دليل لاثباته، بل يمكن ان يقال ان مثل هذا الموقف ناشئ عن الانهزامية تجاه العالم المادي، أو انه لارضاء الماديين، والنافين لما لا يدخل في إطار العالم المادي فان الماديين يرفضون أي عالم آخر غير الطبيعة وآثارها وعلاقاتها وخواصها، وحيث أن ارجاع المعجزات إلى العلل المجردة عن المادة يخالف منطق الماديين، ويضادد اتجاههم وتصورهم لهذا عمد أصحاب هذه النظرية (نظرية إرجاع المعاجز والخوارق إلى علل طبيعية غير معروفة وغير عادية) إلى مثل هذا التفسير إقناعاً للماديين، وارضاء لهم فقالوا : ان جميع الخوارق والمعاجز ناشئة من علل طبيعية ومادية على الإطلاق، غاية ما في الأمر أنها علل غير معروفة، شأنها شأن كثير من العوامل الطبيعية المجهولة.
ونحن بدورنا نترك هذه النظرية في دائرة الاجمال وبقعة الإمكان، لعدم الدليل لا على طبقها ولا على خلافها.
4 - كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة ؟
إن صفحات التاريخ مليئة بذكر من ادّعوا النبوّة خداعاً وكذباً، واستثماراً للناس، مستغلِّين سذاجة الاغلبية الساحقة من جانب، وانجذابهم الفطري إلى قضايا التوحيد والايمان من جانب آخر.
فكيف وبماذا يُميَّز النبيّ الصادق عن مدّعي النبوة ؟؟
إن المعجزة هي إحدى الطرق التي تدل على صحة إدعاء النبوة.
وإِنما تدلُّ المعجزة على صدق ادّعاء النبوّة، وارتباط النبيّ بالمقام الربوبي لأن اللّه الحكيم لا يمكن أن يزوّد الكاذب في دعوى النبوة بالمعجزة، لأن في تزويد الكاذب تغريراً للناس الذين يعتبرون العمل الخارق دليلاً على ارتباط الآتي بها بالمقام الربوبيّ.
والى هذا أشار الامامُ جعفر الصادق عليه السّلام بقوله في جواب من سأله عن علة اعطاء اللّه المعجزة لانبيائه ورسله:
«ليكُون دليلاً على صدق من أتى به، والمعجزة علامةٌ للّه لا يعطيها إلا انبياءه ورسله، وحججه، ليعرف به صدق الصادق مِن كذب الكاذِب»(55).
5 - بماذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق ؟
لا شكَّ في أنّ السحرة والمرتاضين يقومون بأفعال خارقة للعادة مثيرة للعجب والدهشة حتى ان البسطاء ربما يذهب بهم الاندهاش إلى حدّ الاعتقاد بأن القائمين بهذه الخوارق مزوّدون بقوىً غامضة غيبيةٍ لا يتوصلُ اليها البشر.
فكيف يمكن اذن أن نُميّز بين المعاجز وتلك الخوارق والعجائب ؟
إن التمييز بين هذه وتلك يمكن أن يتم اذا لاحظنا العلائم الفارقة بين المعجزة وغير المعجزة من الاعمال الخارقة للعادة، كاعمال السحرة والمرتاضين(اصحاب اليوجا) ونظائرهم.
وهذه الفوارق هي عبارة عن الامور التالية :
1 - إن القوة الغامضة الحاصلة لدى المرتاضين والسحرة ناشئة بصورة مباشرة من التعلم والتحصيل عند اساتذة تلك العلوم، وذلك طيلة سنين عديدة من الزمان.
بينما لا يرتبط الاعجاز بالتعلّم والتلمّذ أبداً، والتاريخ خير شاهد على هذا الكلام.
2 - إن أفعال السحرة والمرتاضين العجيبة قابلة للمعارضة والمقابلة بأمثالها، وربما بما هو اقوى منها، على عكس الإعجاز، فالمعجزات غير قابلة لأن تعارض وتقابل بمثلها ابداً.
3 - المرتاضون والسحرة لا يتحدُّون أحداً بأفعالهم ولا يطلبُون معارضة أحد لهُم وإلا لافتضحُوا وكُبتوا.
بينما يتحدى الانبياء والرسل بمعاجزهم جميع الناس ويدعونهم لمعارضتهم
والاتيان بمثل معاجزهم لو قدروا، واستطاعوا.
فهذا هو القرآن الكريم ينادي بأعلى صوته على مر العصور : (قُل لئن اجتمعت الإنسُ والجنّ على أن يأتُوا بِمثلِ هذا القرآنِ لا يأتُون بِمثلهِ ولو كان بعضُهُم لِبعض ظهيراً).
وذلك لأن أفعال السحرة الخارقة مهما كانت فانها تستند الى الطاقة البشرية المحدودة، ولا تتجاوزها بينما يعتمد الانبياء والرسل العنصر الغيبي، والإرادة الإلهية.
4 - إن أفعال السحرة والمرتاضين الخارقة للعادة اُمورٌ محدودة ومقتصرةٌ على ما تعلَّموها وتمرنوا عليها، بينما لا تكون معاجز الأنبياء والرسل مقتصرة على اُمور خاصة، فهم لا يعجزون عن الاتيان بكل ما يطلبه الناس منهم، طبعاً حسب شرائط خاصة مذكورة في محلها في أبحاث الاعجاز(56).
فتلك معاجز موسى المتعددة الابتدائية، والمقترحة، ومعاجز المسيح عليه السّلام المتنوعة خير مثال على هذا الأمر.
5 - إن اصحاب المعاجز يقصدون من معاجزهم دائماً دعوة الناس إلى أهداف إنسانية عالية وغايات الهية سامية وبالتالي هداية المجتمع البشري إلى المبدأ والمعاد، والأخلاق الفاضلة فيما لا يهدفُ المرتاضون والسحرة إلا تحقيق مآرب دنيوية حقيرة، ونيل مكاسب مادية رخيصة.
هذا مضافاً إلى أن الأنبياء والرسل أنفسهم يختلفون عن السحرة والمرتاضين
(57) مثل أن لا يكون ما يطلبه الناس محالاً عقلياً كرؤية اللّه، ومثل أن لا يكون ما سيأتي لهم به دليلاً على ارتباطه بالمقام الربوبي، كما لو طلبوا منه أن تكون له جنّة من تخيل وأعناب وبيتٌ من ذهب، لأنّ هذه الاُمور لا تكون دليلاً على النبوّة إذ نلاحظ أنّ كثيراً مِن الناس يملكون هذه وليسوا مع ذلك بأنبياء.
وأن لا يكون المقترحون من ذوي اللجاج والعناد الذين لا يقصدون من طلب المعاجز إلا الهزل والاستهزاء والتنزّه. وأن لا تكون نتيجة المعجزة هلاكهم كما لو طلبوا ان يُنزِّل عليهم ناراً من السماء تحرقهم لأن في ذلك نقضاً للغرض.
في نفسيّتهم العالية، وأخلاقهم الفاضلة وتاريخهم المشرق، وصفاتهم النبيلة على العكس من السحرة والمرتاضين.
هذه هي أهمُّ العلامات الفارقة بين المعاجز التي تدل على نبوة الانبياء، والخوارق التي يقوم بها المرتاضون والسحرة.
وبعد أن تبيَّن كل هذا اتضح أنَّ الخوارق الالهية التي هي من مقولة المعاجز أيضاً تختلف عن الاُمور العادية في أن عللها لا تنحصر في العلل المادية غير المعروفة فضلاً عن الاُمور المادية المعروفة، بل ربما تكون مستندة الى العلل المجرّدة، فليس من الصحيح ان نسعى لتفسير الخوارق الالهية مثل : «قصة الفيل» التي أهلك اللّه تعالى فيها جيش «أبرهة» العظيم بأحجار صغيرة من سجيل رمتها طيور الأبابيل بالعلل المادية المعروفة كما فعل من أشرنا إلى أسمائهم في مطلع هذا البحث(58).
ولهذا عدل «سيد قطب» عن رأيه الذي كان قد أبداه في ما سبق في أمثال هذه الاُمور، اذ قال :
ان الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره أن ينفُض الانسان من ذهنه كل تصوّر سابق، وأن يواجه القرآن بغير مقرَّرات تصوُّرية أو عقلية أو شعورية سابقة، وأن يبني مقرَّراته كلها حسبما يصورُ القرآنُ والحديثُ حقائق هذا الوجود، ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن، ولا ينفي شيئاً يثبته القرآن ولا يُؤولَه، ولا يثبت شيئاً ينفيه القرآن أو يبطله، وما عدا المثبت والمنفي في القرآن فله أن يقول فيه ما يهديه اليه عقله وتجربته.
نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن... وهم مع ذلك يؤوّلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة في عقولهم وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود(59).
(1) أي الاستاذ الشيخ محمَّد عبده والاستاذ محمَّد حسين هيكل.
(2) وهنا قال سيّد قطب في هامش هذا الكلام ما نصه «وما اُبرئ نفسي أنني فيما سبق من مؤلّفاتي وفي الأجزاء الاُولى من هذه الظلال قد انسقتُ الى شيء من هذا وارجو أن أتداركه في الطبعة التالية اذا وفق اللّه».
فاما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل الى شيء منها فهم مضحكون حقاً ! فالعلمُ لا يعلم اسرار الموجودات الظاهرة بين يديه والتي يستخدمها في تجاربه، وهذا لا ينفي وجودها طبعاً ! فضلاً عن أن العلماء الحقيقيين اخذت جماعة كبيرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون، لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم - عن طريق العلم ذاته - أمام مجاهيل فيما بين ايديهم ممّا كانوا يحسبون انهم فرغوا من الاحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعاً علمياً نبيلاً ليس فيه سمةُ الادعاء، ولا طابع التطاول على المجهول كما يتطاول مُدّعو العلم، ومدّعو التفكير العلمي، ممن يُنكرون حقائق الديانات وحقائق المجهول(60).
ثم يقول في موضع آخر من تفسيره ناقداً لموقف الاستاذ عبده من قصة الفيل التي هي احدى الخوارق حيث حفظ اللّه تعالى بيته المعظم على نحو خارق للعادة :
ويرى الذين يميلون الى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات، والى رؤية السنن الكونية المألوفة تعملُ عملها، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة اقرب واولى، وان الطير تكون هي : الذباب والبعوض تحمل الميكروبات فالطير هو كل ما يطير.
ثم ينقلُ كلام الاستاذ «عبده» الذي ذكرناه بنصه مع قوله : هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة، وما عدا ذلك فهو ممّا لا يصح قبوله إلا بتأويل إن صحت روايته، وممّا تعظم به القدرة ان يُؤخذ من استعز بالفيل - وهو اضخم حيوان من ذوات الاربع جسماً - ويُهلك بحيوان صغير لا يظهر للنظر ولا يدرك بالبصر حيث ساقه القدرُ لا ريب عند العاقل أن هذا اكبر واعجب وأبهر.
ثم يقول : ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الاستاذُ الامامُ - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم - أدلَّ على قدرة، ولا اولى بتفسير الحادث، فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع، ومن حيث الدلالة على قدرة اللّه، وتدبيره، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس، المعهودة المكشوفة لعلمهم، هي التي جرت، فأهلكت قوماً أراد اللّه اهلاكهم، أو أن تكون سنة اللّه قد جرت بغير المألوف للبشر، وغير المعهود المكشوف لعلمهم فحقّقت قدره ذاك.
ثم يقول : لقد كان اللّه سبحانه يريد بهذا البيت(61) أمراً، كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحفُ منه حرة طليقة في ارض حرة طليقة لا يهيمن عليها احدُ من خارجها ولا تسيطر عليها حكومةٌ قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها، ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الانظار في جميع الأجيال، ليضربها مثلاً لرعاية اللّه لحرماته وغيرته عليها.
فمما يتناسق مع جوّ هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادثُ غير مألوف ولا معهود بكل مقوماته وبكل اجزائه، ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفردٌ فذٌ.
وبخاصة ان المألوف في الجدري والحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده فإن الجدري أو الحصبة لا يُسقُط الجسم عُضواً عضواً، وأنملة انملة، ولا يشق الصدر عن القلب !!
ثم ان «سيد قطب» يشير إلى علل تفسير هذه الحادثة الخارقة للعادة بالتفسير المادي العادي الطبيعي، والمدرسة العقلية التي كان الاستاذ «عبده» على رأسها، وضغط الفتنة بالعلم التي تركت آثارها في تلك المدرسة، ونحن نكتفي بهذا القدر بالمناسبة، وإشعاراً بما يمكن أن يجنيه مثل هذا الاتجاه على مقولات الدين ومفاهيمه ومقرراته عن الأحداث الكونية والتاريخية والانسانية
والغيبية.
هذا ويجدر بنا ان ننقل هنا ما قاله صاحب تفسير مجمع البيان في هذا الصدد في شأن حادثة الفيل استكمالاً لهذا البحث وتأكيداً لمعجزته هذا الحدث.
قال صاحب المجمع : وكان هذا من اعظم المعجزات القاهرات، والآيات الباهرات في ذلك الزمان، اظهرهُ اللّه تعالى ليدل على وجوب معرفته، وفيه ارهاص لنبوة نبينا صلّى اللّه عليه وآله لأنه ولد في ذلك العام، وفيه حجةٌ لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين المنكرين للآيات الخارقة للعادات فانه لا يمكن نسبة شيء ممّا ذكره اللّه تعالى من أمر اصحاب الفيل إلى طبع وغيره كما نسبوا الصيحة والريح العقيم والخسف وغيرهما ممّا أهلك اللّه تعالى به الامم الخالية، إذ لا يمكنهم أن يروا في اسرار الطبيعة ارسال جماعات من الطير معها احجارٌ معدّة مهيِّأة لهلاك أقوام معينين قاصدات إيّاهُم دون من سواهم فترميهم بها حتى تهلِكهم، وتدّمر عليهم، لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم ولا يشك من له مسكة عن عقل ولب ان هذا لا يكون الا من فعل اللّه تعالى مسبب الاسباب ومذلِّل الصعاب، وليس لأحد أن ينكر هذا لأن نبينا صلّى اللّه عليه وآله لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك بل اقروا به وصدّقوه مع شدة حرصهم على تكذيبه، واعتنائهم بالردِّ عليه وكانوا قريبي عهد بأصحاب الفيل، فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقةٌ وأصلُ لاُنكرُوهُ، وجحدوه، وأنهم قد أرّخوا بذلك كما أرّخوا ببناء الكعبة، وموت قصيّ بن كعب وغير ذلك.
وقد اكثر الشعراء ذكر الفيل ونظّموه ونقلته الرواةُ عنهم فمِن ذلك ما قاله (اُميّة) بن ابي الصلت :
إن آيات ربِّنا بيِّنات***ما يُماري فيهِنّ إلا الكفُورُ
حبس الفِيلَ بالمُغمَّس حتى***ظلّ يحبو كأنه معقُورُ
وقال عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم :
أنت الجليل ربَنا لم تُدنِس***أنت حبست الفيل بالمغمَّس
مِن بعد ما همَّ بشيء مبلسِ***حبستَه في هيئة المكركس
وقال ابن قيس الرقيات في قصيدة :
واستهلَّت عليهِمُ الطير با***لجندل حتى كأنّه مرجُومُ
ماذا بعد هزيمة الأحباش ؟
لقد استوجب مقتل أبرهة وتحطّم جيشه وهلاكهم، وبالتالي هزيمة أعداء الكعبة المشرفة، وأعداء قريش، أن يتعاظم شأن المكيّين، وشأن الكعبة الشريفة في نظر العرب، فلا يجرأ أحدٌ - بعد ذلك - في أن يحدِّث نفسه بغزو مكة، والإغارة على قريش، أو أن يفكر في التطاول على الكعبة المعظمة صرح التوحيد الشامخ، فقد اخذ الناس يقولون في انفسهم : إنّ اللّه أهلك أعداء بيته المعظم بمثل ذلك الاهلاك إحتراماً لبيته وتعظيماً لشأن قريش، وقلّما كان يتصور أحد أن ما وقع كان لاجل المحافظة على الكعبة فقط، أي من دون أن يكون لمكانة قريش ومنزلتهم وشأنهم دخل في ذلك، ويشهد بذلك أن قريشاً تعرضت مراراً لحملات متكررة من غزاة ذلك العصر دون أن يُصابُوا بمثل ما اُصيب به جندُ «ابرهة» الذي قصد الكعبة بالذات ويواجهوا ما واجهه، من الردع والكبت.
إنَّ هذا الفتح والظفر الذي نالته قريش من دون تعب ونصب، ومن دون إراقة أية دماء من أبنائها، أحدثت في نفوس القرشيين حالات جديدة خاصة، فقد زادت من غرورهم وحمّيتهم، وعنجهيتهم، واعتزازهم بعنصرهم، فأخذوا يفكرون في تحديد شؤون الآخرين، والتقليل من وزنهم، اعتقاداً منهم بانهم الطبقة الممتازة من العرب دون سواهم. كما أنها دفعتهم الى أن يتصوَّروا أنهم وحدهم موضع عناية الأصنام (الثلاثمائة والستين) فهم وحدهم الذين تحبُّهم
تلك الاصنامُ، وتحميهم وتدافع عنهم !!
ولأجل هذا تمادوا في لهوهم، ولعبهم، وتوسعوا في ممارسة اللذة والترف حتى أنهم أظهروا ولعاً شديداً بالخمر، فكانوا يحتسونها في كل مناسبة، وربما مدّوا موائد الخمر في فناء الكعبة، وأقاموا مجالس سمرهم وأنسهم إلى جانب أصنامهم الخشبية، والحجرية، التي كان لكل قبيلة من العرب بينها صنمٌ أو اكثر، ويقضون فيها اسعدَ لحظات حياتهم - حسب تصوّرهم، وهم يتناقلون فيها كل ما سمعوه من أخبار وقصص حول «مناذرة» الحيرة و«غساسنة» الشام وقبائل اليمن، وهم يتصورون أن هذه الحياة الحلوة اللذيذة هي من بركة تلك الاصنام والاوثان، فهي التي جعلت عامة العرب تخضع لقريش، وجعلت قريشاً افضل من جميع العرب !!
أوهام قريش تتفاقم !!
إنّ أخطر ما يمرُّ به إنسانٌ في حياته هو أن يصفو عيشه من المشاكل، ردحاً من الزمن ويحس لنفسه بنوع من الحصانة الوهمية، فعندها تجده يخص الحياة بنفسه ويستأثر بكل شيء في الوجود ولا يرى لغيره من أبناء نوعه وجنسه من البشر أي حق في الحياة، ولا أيّ شأن وقيمة تذكر، وذلك هو ما يصطلح عليه بالاستكبار والاستعلاء، والاحساس بالتفوق، والغطرسة.
وهذا هو بعينه ما حصل لقريش بعد اندحار جيش «ابرهة» وهلاكه، وهلاك جنده بذلك الشكل العجيب الرهيب.
فقد عزمت قريش منذ ذلك اليوم - وبهدف إثبات تفوقها وعظمتها للآخرين -، على أن تلغي أي احترام لأهل الحلّ لانهم كانوا يقولون : ان جميع العرب محتاجون الى معبدنا، وقد رأى العرب عامة كيف اعتنى بنا آلهةُ الكعبة، خاصة، وكيف حمتنا من الاعداء !!
ومن هنا بدأت قريش تضيّق على كل من يدخل مكة من أهل الحل للعمرة او الحج، وتتعامل معهم بخشونة بالغة، وديكتاتورية شديدة ففرضت على

كل من يريد دخول مكة للحج أو العمرة أن لا يصطحب معه طعاماً من خارج الحرم، ولا يأكل منه، بل عليه أن يقتني من طعام أهل الحرم، ويأكل منه، وأن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مكة التقليدية القومية، أو يطوف عرياناً بالكعبة إن لم يكن في مقدوره شراؤها واقتناؤها، ومن كان يرفُض الخضوع لهذا الأمر، مِن رؤساء القبائل وزعمائها، كان عليه أن ينزع ثيابه - بعد انتهائه من الطواف - ويلقيها جانباً، ولا يحق لأحد ان يمسها أبداً لا صاحبها ولا غيرها(62).
اما النساء فكان يجب عليهن اذا أردنَ الطواف أن يُطفنَ عاريات على كل حال، وان يضعن خرقة على رؤوسهن ويُردِّدن البيت التالي في اثناء الطواف :
اليوم يبدو بعضُه أو كُلّه***وبعد هذا اليوم لا أحِلُّه
ثم إنه لم يكن يحق لأيّ يهودي أو مسيحي - بعد هزيمة «ابرهة» الذي كان هو أيضاً مسيحياً - أن يدخل مكة إلا أن يكون أجيراً لمكيٍّ، وحتى في هذه الصورة كان يجب عليه أن لا يتحدّث في شيء من أمر دينه ومن أمر كتابه.
لقد بلغت النخوةُ والعصبية بقريش حداً جعلتهم يتركون بعض مناسك الحج التي كان يجب الإتيان بها خارج الحرم !!
لقد أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا بمناسك عرفة(63) كما يفعل بقية الناس فتركوا الوقوف بعرفة، والافاضة منها مع أن آباءهم (من ولد إسماعيل) كانوا يُقّرون أنها من المشاعر والحج، وكانت هيبة قريش وعظمتها الظاهرية رهنٌ - برمتها - بوجود الكعبة بين ظهرانيها، وبوظائف الحج ومناسكه هذه، اذ كان يجب على الناس في كل عام أن يأتوا إلى هذا الوادي الخالي عن الزرع وهذه الصحراء اليابسة لأداء المناسك، إذ لو لم يكن في هذه النقطة من الأرض أيُ مطاف أو مشعر لما رغب احد حتى في العبور بها فضلاً عن المكث فيها عدة ايام وليال.
لقد كان ظهورُ مثل هذا الفساد الاخلاقي وهذا الموقف المتعصِّب من الآخرين أمراً لابدَّ منه بحسب المحاسبات الاجتماعية.
فالبيئة المكيّة لا بد أن تغرق في الفساد والانحراف حتى يتهيأ العالم لانقلاب أساسيّ ونهضة جذرية.
إن كل ذلك الانفلات الاخلاقي والترف والانحراف كان يهيئ الارضية ويعدّها لظهور مصلح عالمي، أكثر فاكثر.
ولهذا لم يكن غريباً أن يغضب «أبو سفيان» فرعون مكة وطاغيتها على «ورقة بن نوفل» حكيم العرب الذي تنصر في اُخريات حياته واطلع على ما في الانجيل، كلما تحدَّث عن اللّه والانبياء ويقول له : «لا حاجة الى مثل هذا الاله وهذا النبي، تكفينا عناية اصنامنا» !!
عبدُ اللّه والدُ النبيّ :
يوم فدى «عبدُ المطلب» ولده «عبد اللّه» بمائة من الابل نحرها، وأطعم الناس في سبيل اللّه، لم يكن يمضي من عمر «عبد اللّه» اكثر من اربعة عشر ربيعاً، وقد تسبَّبَت هذه الواقعةُ في أن يكتسب «عبدُ اللّه» شهرة خاصة بين عشيرته مضافاً الى شهرته الكبرى بين قريش، وأن يحظى بمكانة كبيرة عند أبيه : «عبد المطلب» بنحو خاص، لأن ما يُكلِّفُ الانسان غالياً، ويتحملُ في سبيله عناء اكثر لا بدَّ أن يحظى لديه بمكانة اكبر، ويحبّه محبة تفوقُ المتعارف.
ومن هنا كان «عبدُ اللّه» يتمتعُ باحترام يفوق الوصف بين أبناء عشيرته وأفراد عائلته وأقربائه.
ثم إن «عبد اللّه» يوم كان يتوجه برفقة والدهِ إلى المذبح كان يعاني من مشاعر وأحاسيس متناقضة ومتضادة، فهو من جانب كان يُكِنّ لوالده احتراماً كبيراً وحباً شديداً، ولهذا لم يكن يجدُ بداً من طاعته، والانصياع لمطلبه، بينما كان من جانب آخر يعاني من قلق، واضطراب شديدين على حياته التي كان يرى كيف تعبث بها يدُ القدر، وتكادُ تقضي عليها كما يقضي الخريفُ على
أوراق الشجر.
كما أن «عبد المطلب» نفسه كان هو الآخر تتجاذبه قوتان متضادتان : قوةُ الايمان والعقيدة من جانب، وقوةُ العاطفة والمحبة الأبوية من جانب آخر، وقد أوجدت هذه الواقعة في نفسي هاتين الشخصيتين آثاراً مُرّة يصعُب زوالها، بيد أن تلك المشكلة حيث عولجت بالطريقة التي ذكرناها ونجا «عبد اللّه» من الموت المحقق فكر «عبد المطلب» فوراً في ان يغسل عن قلب «عبد اللّه» تلك المرارة القاسية بزواج «عبد اللّه» بآمنة، وبذلك يقوّي من عرى حياته التي بلغت درجة الانصرام، بأقوى السُبُل، وأمتن الوسائل.
ومن هنا توجّه «عبد المطلب» الى بيت «وهب بن عبد مناف» - فور رُجوعه من المذبح آخذاً بيد ولده عبد اللّه - وعقد لولده على «آمنة بنت وهب» التي كانت تُعرفُ بالعِفة، والطُهر، والنجابة، والكمال.
كما أنه عقد لنفسه - في ذات المجلس - على «دلالة» ابنة عم آمنة، ورُزق منها «حمزة» عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والمشابه له في السن(64).
غير أن الاستاذ المؤرخ «عبد الوهاب النجار» المدرس بقسم التخصص في الازهر الذي صحح «التاريخ الكامل» لابن الاثير، وعلَّق عليه بملاحظات وهوامش مفيدة شكك في صحة هذه الرواية، واستغربها، وقال : لا أظنُ أنه يصح شيء في هذه الرواية، إذ المعقولُ أن يتريث «عبد المطلب» بعد ذلك المجهود المضني حتى يريح نفسه ثم يذهب ليخطب لابنه.
ولكنَّنا نعتقد بأن المؤرخ المذكور لو نظر إلى المسألة مِن غير هذه الزاوية لسهُل عليه التصديقُ بهذه الرواية.
ثم أن «عبد المطَّلب» عيَّن موعداً للزفاف، وعند حلول ذلك الموعد تمّت مراسمُ الزفاف في بيت «آمنة» طبقاً لما كان متعارفاً عليه في قريش، ولبث
«عبد اللّه» مع «آمنة» ردحاً من الزمن حتى سافر الى الشام للتجارة، وعند عودته توفّي اثناء الطريق كما ستعرف.
دورُ الأيادي المشبُوهَة في تاريخ الإسلام :
لا شك أنّ التاريخ سجَّل في صفحاته كل ما يتعلق بالشعوب والاقوام من نقاط مضيئة أو مظلمة، كقصص للعبرة والعظة.
ولكن الحب والبغضَ تارة والتساهل والبدعة تارة اُخرى وحب اظهار المقدرة وابراز القوة الأدبية تارة ثالثة وغير ذلك من العوامل والاسباب عملت عملها فتدخلت - في جميع الأدوار والعصور - في صياغة التاريخ، وخلطت الغث بالسمين والحقيقة بالخرافة، وتلك هي مشكلة كبرى تقع في طريق المؤرخ الذي يريد عرض حوادث التاريخ في أمانة وإستقامة، ولذلك يجب عليه أن يميز الحق عن الباطل، والصدق عن الكذب من خلال الأخذ بالموازين العلمية، والممارسة الكاملة للتاريخ. ولقد كان للعوامل المذكورة تأثير أيضاً في تدوين التاريخ الإسلامي، فالأيادي المريبة المشبوهة عملت على تحريف الحقائق في هذا المجال، بل وربما عمد بعض الاصدقاء - بهدف تعظيم شأن النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله - الى نسبة بعض الاُمور التي يظهرُ عليها آثار الاختلاق والإفتعال إليه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وهو منها بُراء.
فقد جاء في التاريخ أن نور النبوَّة كان يسطع في جبين «عبد اللّه» والد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله دائماً، كما نقرأ أن «عبد المطلب» كان يأخذ بيد ولده «عبد اللّه» في سنين الجدب والقحط، ويصعد الجبل ويستسقي متوسِّلاً الى اللّه بالنور الذي كان بيّنا في جبين «عبد اللّه» فهذا هو ما كتبه وسجَّله كثيرٌ من علماء الشيعة والسنة في مؤلفاتهم، ونحن لا نملك أي دليل على عدم صحته.
ولكن هذه القصة وقعت أساساً لبعض الاساطير التي لا يمكن ان نقبل بها مطلقاً
واليك فيما يأتي ما الحِق بهذه القضية التاريخية الثابتة.
قِصَّة فاطمة الخثعَميَّة :
و«فاطمةُ» هذه هي أختُ «ورَقة بن نوفل» الذي كان من حكماء العرب وكُهّانهم، وكان له معرفة كبيرة بالإنجيل. وقد ضبط التاريخ حديثه مع خديجة في بدء بعثة الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه وآله وسوف نشير إليه في محله من هذا الكتاب.
وكانت «فاطمة» اخت «ورقة» قد سمعت من أخيها عن نبوة رجل من احفاد «اسماعيل»، ولهذا ظلّت تنتظر، وتبحث.
وذات يوم وعندما كان «عبد المطلب» متوجهاً الى بيت آمنة بنت وهب بعد قفوله ومنصرفه من المذبح وهو آخذ بيد «عبد اللّه»، شاهدت «فاطمة الخثعمية» - التي كانت تقف على مقربة من منزلها - النور الساطع من جبين «عبد اللّه»، والذي كانت تنتظره مدة طويلة وتبحث عنه بشوق، فقالت : اين تذهب يا عبد اللّه ؟ لك مِثلُ الإبل التي نحِرت عنك، وقع عليَّ الآن.
فقال : أنا مع أبي ولا استطيع خلافه وفراقه !!(65).
ثم تزوج «عبد اللّه» بآمنة في نفس ذلك اليوم، وقضى معها ليلة واحدة.
ثم في الغد من ذلك اليوم أتى المرأة «الخثعمية» التي عرضت نفسها عليه، وأبدى استعداده لتنفيذ رغبتها، ولكن «الخثعمية» قالت له : ليس لي بك اليوم حاجة، فلقد فارقك النورُ الذي كان معك أمس !!.
وقيل : إنه لمّا عرضت تلك المرأة «الخثعمية» على «عبد اللّه» ما عرضت أجابها «عبد اللّه» بالبداهة ببيتين من الشعر هما :
أمّا الحرامُ فالمماتُ دُونهُ***والحِلُّ لا حلٌ فاستبينهُ
فكيف بالأمر الذي تبغِينَهُ***يحمي الكريمُ عرضَه ودينَهُ
ولكن لم تمر ثلاثة من زواجه بآمنة، واقامته عندها حتى دعته نفسُه إلى ان يأتي الخثعمية، وعرض نفسه عليها قائلاً : هل لك فيما كنت اردت ؟ فقالت : لقد رأيت في وجهك نوراً فأردت ان يكون لي فأبى اللّه الا أن يجعله حيث اراد فما صنعت بعدي ؟
قال : زوَّجني أبي «آمنة بنت وهب» !!(66).
علائم الإختلاق في هذه القصة !
لقد غفل مختلِقُ هذه القصة عن اُمور كثيرة عند صياغته لها، ولم يستطع اخفاء آثار الاختلاق عنها.
فلو كان يكتفي بالقول - مثلاً - بان «فاطمة» صادفت «عبد اللّه» ذات يوم في زقاق من الأزقة، أو سوق من الاسواق، وشاهدت نور النبيّ ساطعاً من طلعته ففكرت في الزواج به رغبة في ذلك النور لكان من الممكن التصديق بهذه القصة، بيدَ أن نصَ القصة جاء بصورة لا يمكن القبول بها للأسباب التالية :
1 - ان هذه القصة تفيد أنَّ المرأة «الخثعمية» عندما عرضت نفسها على «عبد اللّه»، كانت يد «عبد اللّه» في يد والده «عبد المطلب»، فكيف يمكن ان تعرض تلك الفتاة نفسها عليه وتبين مطلوبها له ويدور بينهما ما يدور، ولا يحس عليهما عبد المطلب ؟!
ثم الم تستِح من عظيم قريش «عبد المطلب» الذي لم يثنه عن طاعة اللّه تعالى شيء حتى مقتلُ ولده وذبحه.
ولو قلنا أن مطلبها كان حلالاً مشروعاً فان ذلك لا ينسجم مع البيتين من الشعر اللَّذين ردّ بهما «عبد اللّه» طلبها.
2 - والأصعب من ذلك قصة عبد اللّه نفسه. فان ولداً مثل «عبد اللّه» يحترم والده الى درجة الاستعداد لأن يُذبح وفاءً لنذر والده، كيف يمكن أن يتفوّه في
حضرة والده بما نُقِلَ عنه ؟!
ترى أيمكن لشاب نجا لتوّه من السيف والذبح، ولا يزال يعاني من آثار الصدمة الروحية أن يستجيب لرغبات امرأة، أو يبدي استعداده ورضاه القلبيّ لذلك لولا وجود والده معه ؟!!
ترى هل كانت تلك المرأة جاهلة بالظروف، لا تقدّر الاحوال، ولا تعرف الوقت المناسب لطرح مطلبها، أو أنَّ مختلق هذه القصة غفل عن نقاط الضعف البارزة هذه ؟!!
ثم إن ممّا يفضح هذه القصة ويُظهر بطلانها ما جاء في الصورة الثانية لها، فان عبد اللّه - كما لاحظنا - جابه طلب تلك المرأة ببيتين من الشعر وقال ما حاصله بأن الموت أسهل عليه من ارتكاب هذا الفعل الحرام الذي يأتي على دين الرجل وشرفه، فكيف يجوز لمثل هذا الشاب الطاهر الغيور أن يقع فريسة لتلك الأهواء، والرغبات الرخيصة الفاسدة، والحال انه لم ينقض من زواجه اكثر من ثلاث ليال، وتدفعه غريزته الجنسية إلى أن يبادر الى بيت المرأة الخثعمية.
إنّ ما جابه به «عبد اللّه» دعوة تلك المرأة، وما جاء في ذينك البيتين من الشعر اللذين يطفحان بالغيرة، والإباء، لخيرُ دليل على طهارة «عبد اللّه» وعفته، وتقواه، وترفعه عن الآثام والادران، وابتعاده عن الانجاس والادناس.
وقد علّق الاستاذ العلامة «النجار» على هذه الاسطورة بقوله : «ليس من المعقول أن يذهب عبد اللّه يبغي الزنا في الساعة التي تزوج فيها، ودخل فيها على امرأته».
ولكن الاستاذ «النجار» أخطأ في تشكيكه في النور النبويّ الساطع في جبين «عبد اللّه» حيث قال معقباً على كلامه السابق : «ولكنها مسألة النور في وجهه يريدون إثباتها ورسول اللّه غني عن هذا كله»(67).
فان ذلك ممّا رواه جميع المؤرخين بلا استثناء، فلا داعي ولا وجه للتشكيك فيه !
طهارة النبيّ من دنس الآباء وعهر الاُمهات :
وينبغي هنا - وبالمناسبة - ان نشير الى مسألة مهمة في تاريخ النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله ألا وهي طهارة النسب النبوي من دنس الآباء ودناءتهم وعهر الامّهات وفسادهن فلا يكون في اجداده وجدّاته سفاح، وزنا.
وهذا ممّا اتفق عليه المسلمون، بعد ان دلّ عليه العقل اذ لو لم يكن النبيّ منزهاً عن دناءة الآباء وعهر الامّهات لتنفر عنه الطباع ولم يرغب احد في متابعته، والانقياد لاوامره ونواهيه.
ولقد صرح رسول الإسلام صلّى اللّه عليه وآله بذلك في احاديث رواها السنة والشيعة.
فقد جاء عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله انه قال :
«نقلت من الاصلاب الطاهرة الى الارحام الطاهرة نكاحاً لا سفاحاً»(68).
وجاء ايضاً انه صلّى اللّه عليه وآله قال :
«لم يزل اللّه ينقلني من الأصلاب الحسيبة الى الأرحام الطاهرة»(69).
وقال الإمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام :
«وأشهد اَنَّ محمّداً عبدُه ورسولُه وسيّدُ عباده كلما نسخَ اللّه الخلق فرقتين جعله في خيرهما لم يسهِم فيه عاهرٌ، ولا ضرب فيه فاجرٌ»(70).
وقال الإمام الصادق عليه السّلام في هذا الصدد عند تفسير قول اللّه تعالى : «وتقلّبَك في السّاجِدين» :(71)
«في أصلاب النبيّين، نبيٍ بعد نبيٍ، حتى اخرجه من صلب ابيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم»(72).
وقد صرح علماء الإسلام من الفريقين بهذا الأمر، واشترطوه في النبيّ.
قال المحقق نصير الدين الطوسي في تجريد الاعتقاد : ويجب في النبيّ العصمة... وعدم السهو، وكل ما ينفّرُ عنه من دناءة الآباء وعهر الامّهات...(1).
وقد وافقه على هذا العلامة القوشجي الاشعري في شرح التجريد(2).
وقال العلامة المتكلم المقداد السيوري في اللوامع الالهية : ويجب أن لا يكون مولوداً من الزنا ولا في آبائه دنيّ ولا عاهر(3).
وفاةُ عبِد اللّه في «يَثرب» :
لقد بدأ «عبدُ اللّه» بالزواج فصلاً جديداً في حياته، وأضاء ربوعها بوجود شريكة للحياة في غاية العفة والكمال هي زوجته الطاهرة «آمنة» وبعد مدة من هذا الزواج المبارك توجه في رحلة تجارية - وبصحبة قافلة - الى الشام بهدف التجارة.
دقت أجراسُ الرحيل، وتحركت القافلة التجارية وفيها عبد اللّه، وبدأت رحلتها من «مكة» صوب الشام، وهي مشدودة بمئات القلوب والافئدة.
وكانت «آمنة» تمر في هذه الايام بفترة الحمل، فقد حملت من زوجها «عبد اللّه».
وبعد مُضيّ بضعة أشهر طلعت على مشارف مكة بوادر القافلة التجارية وهي عائدة من رحلتها، وخرج جمع كبير من أهل مكة لاستقبال ذويهم المسافرين العائدين.
ها هو والد «عبد اللّه» ينتظر - في المنتظرين - ابنه «عبد اللّه»، كما ان عيون عروسة ولده «آمنة» هي الاُخرى تدور هنا وهناك تتصفح الوجوه وتبحث عن زوجها الحبيب «عبد اللّه» في شوق لا يوصف.
ولكن ومع الأسف لا يجدان أثراً من «عبد اللّه» بين رجال القافلة !!
وبعد التحقيق يتبين أن «عبد اللّه» قد تمرّض أثناء عودته في يثرب، فتوقف هناك بين اخواله لكي يستريح قليلاً، فاذا تماثل للشفاء عاد إلى أهله في «مكة».
وكان من الطبيعي أن يغتم هذان المنتظران «عبد المطلب وآمنة» لهذا النبأ، وتعلو وجهيهما آثار الحزن والقلق، وتنحدر من عيونهما دموع الأسى والاسف.
فأمرَ «عبدُ المطّلب» اكبر ولده : «الحارث» إلى أن يتوجَّه الى «يثرب»، ويصطحب معه «عبد اللّه» الى مكة.
ولكنه عندما دخل يثرب عرف بأن أخاه : «عبد اللّه» قد توفي بعد مفارقة القافلة له بشهر واحد، فعاد الحارث الى مكة، فاخبر والده «عبد المطلب»، وكذا زوجته العزيزة «آمنة» بذلك، ولم يخلف «عبد اللّه» من المال سوى خمسة من الابل، وقطيع من الغنم، وجارية تدعى «اُم أيمن» صارت فيما بعد مربية النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.











____________________________
(1) تفسير البرهان : ج 1 ص 535.
(2) قاموس الكتاب المقدّس، مادّة بابل.
(3) الأعراف : 127.
(4) النازعات : 24.
(5) القصص : 38.
(6) ترتبط آية 74 من سورة الأنعام بحواره عليه السّلام مع الوثنيّين، بينما ترتبط الآيات اللاحقة لها بعبدة الأجرام السماوية.
(7) الأنعام : 77.
(8) الأنعام : 79.
(9) الشعراء : 214.
(10) مريم : 42 - 47.
(11) أوائل المقالات : ص 12 باب القول في آباء رسول صلّى اللّه عليه وآله.
(12) البقرة : 133.
(13) التوبة : 113 و114.
(14) إبراهيم : 41.
(15) مجمع البيان : ج 3 ص 321، والميزان : ج 7 ص 170.
(15) بحار الأنوار : ج 12 ص 118 و119.
(16) البقرة 126.
(17) إبراهيم : 37.
(18) بحار الأنوار : ج 12 ص 112 نقلاً عن قصص الأنبياء.
(19) إبراهيم : 35.
(20) التاريخ الكامل : ج 2 ص 2 - 21.
(21) بحار الأنوار : ج 15 ص 105 عن مناقب ابن شهراشوب، وكشف الغمّة : ج 1 ص 15
(22) لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع : ج 2 ص 15 - 21.
(23) تاريخ الطبري : ج 2 ص 13.
(24) السيرة الحلبية : ج 1 ص 4.
(25) السيرة الحلبية : ج 1 ص 5.
(26) السيرة الحلبية : ج 1 ص 6.
(27) الكامل لابن الاثير : ج 2 ص 10، والسيرة الحلبية : ج 1 ص 4.
(28) الكامل لابن الاثير : ج 2 ص 6، وتاريخ الطبري : ج 2 ص 8 و9، السيرة الحلبية : ج 1 ص 6.
(29) السيرة الحلبية : ج 1 ص 4.
(30) ولعلّ احجام الآخرين من الإدلاء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل الماء.
(31) تاريخ اليعقوبي : ج 1 ص 206، والسيرة النبوية : ج 1 ص 142 - 147.
(32) السيرة النبوية : ج 1 ص 153، وبحار الانوار : ج 16 ص 74، وقد نُقل عن النبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه وآله أنّه قال : «أنا ابن الذبيحين» يقصدُ بالأول جدّه إسماعيل عليه السّلام والثاني أباه «عبد اللّه» الذي كاد أن ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيل عليه السّلام.
(33) وفاء الوفا : ج 1 ص 157، والسيرة النبوية : ج 1 ص 21 و22.
(34) الكامل في التاريخ : ج 1 ص 260 - 263، والسيرة النبوية : ج 1 ص 31 - 37.
(35) البروج : 4 - 9.
(36) راجع مجمع البيان : ج 5 ص 464 - 466.
(37) السيرة النبوية : ج 1 ص 43 - 62، والكامل في التاريخ : ج 1 ص 260 - 262، بحار الأنوار : ج 5 ص 130 - 146.
(38) راجع تفسير في ظلال القرآن : ج 30 ص 251.
(39) الكامل : ج 1 ص 263.
(40) حياة محمَّد لمحمَّد حسين هيكل : ص 102 و103.
(41) راجع للوقوف على هذا التعريف : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلّي شرحاً والمحقق نصير الدين الطوسي متناً : ص 218، وأيضاً شرح تجريد الاعتقاد للعلامة القوشجي : ص 465.
(42) راجع سورة آل عمران : 37.
(43) راجع المبدأ والمعاد : ص 355 و356 لصدر المتألهين المشهور بصدر الدين الشيرازي، وشرح المنظومة للحكيم السبزواري : ص 327 قال السبزواري ناظماً :
(44) النازعات : 5.
(45) الفتح : 4.
(46) أي حصر علل الخوارق والمعاجز في العوامل المجرَّدة ونفي تأثير العلل الماديّة على نحو الاطلاق.
(47) علل الشرائع : ج 1 ص 122.
(48) الاسراء : 88.
(49) في ظلال القرآن : ج 29 ص 151 - 153.
(50) تاريخ الطبري : ج 2 ص 7 والمذكور في هذا المصدر «هالة».
(51) الكامل في التاريخ : ج 2 ص 4 قسم الهامش.
(52) وكانت تسمّى عندهم «اللّقى».
(53) الكامل في التاريخ : ج 1 ص 266.
(54) في ظلال القرآن : ج 30 ص 251 - 255.
(55) أي الكعبة المشرّفة.
(56) المنكّس.
(57) تفسير مجمع البيان للطبرسي : ج 10 ص 543 في تفسير سورة الفيل.
(58) السيرة الحلبية : ج 1 ص 39.
(59) الكامل في التاريخ : ج 2 ص 4.
(60) تاريخ الطبري : ج 2 ص 5.
(61) السيرة النبوية : ج 1 ص 156 النصّ والهامش.
(62) تاريخ الطبري : ج 2 ص 7، والكامل في التاريخ : ج 2 ص 4.
(63) كنز الفوائد : ج 1 ص 164.
(64) السيرة الحلبية : ج 1 ص 43.
(65) نهج البلاغة : الخطبة 215 طبعة عبده.
(66) الشعراء : 219.
(67) تفسير مجمع البيان عند تفسير الآية.
(68) هامش الكامل في التاريخ : ج 2 ص 4.
(69) تاريخ الطبري : ج 2 ص 7 و8، والسيرة الحلبية : ج 1 ص 50.
(70) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 349 تحقيق الشيخ حسن زاده الآملي.
(71) راجع : شرح القوشجي لتجريد الاعتقاد : ص 359.
(72) اللوامع الإلهية : ص 311.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page