• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

بدء الوحي :

   بدء الوحي :
لقد امر اللّه ملكاً من ملائكته بأن ينزل على امين قريش وهو في غار حراء ويتلو على مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة، ونصبه لمقام الرسالة.
كان ذلك الملَك «جبرئيل»، وكان ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف الذي سنتحدث عن تاريخه في المستقبل.
ولا ريب أن ملاقاة الملك ومواجهته أمرٌ كان يحتاج إلى تهيّؤ خاصّ، وما لم يكن محمّد صلّى اللّه عليه وآله يمتلك روحاً عظيمة، ونفسية قوية لم يكن قادراً قط على تحمّل ثقل النبوة، وملاقاة ذلك الملك العظيم.
أجل لقد كان «أمين قريش» يمتلك تلك الروح الكبرى، وتلك النفس العظيمة وقد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة، والتأمّل العميق الدائم، الى جانب العناية الالهية.
ولقد روى أصحاب السير والتاريخ انه رأى رؤىً عديدة قبل البعثة كانت تكشف عن واقع بيّن واضحٍ وضوح النهار(1).
ولقد كانت الذّ الساعات وأحبها عنده بعد كل فترة، تلك الساعات التي يخلو فيها بنفسه، ويتعبّد فيها بعيداً عن الناس.
ولقد قضى على هذا الحال مدة طويلة حتى أتاه - في يوم معين - ملك عظيم بلوح نصبَهُ أمامه وقال له : «إقرأ»، وحيث أنه صلّى اللّه عليه وآله كان اُمياً لم يدرس أجاب الملَك بقوله : «ما أنا بقارئ».
فاحتضنه ذلك الملك، وعصره عصرة شديدة، ثم طلب منه أن يقرأ فأجابه بالجواب الأول.
فعصره الملك ثانية عصرة شديدة وتكرّر هذا العمل مرات ثلاث احس بعدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في نفسه أنه قادر على قراءة ما في ذلك اللوح، فقرأ ساعتها تلك الآيات التي تشكل - في الحقيقة - ديباجة كتاب السعادة البشرية، واساس رقيها.
لقد قرأ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قوله تعالى :
(إقرأ باسمِ ربِّك الّذي خلق. خلق الإنسان مِن علقٍ. إقرأ وربُّك الأكرمُ. الّذي علَّم بِالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم)(2).
وبعد أن انتهى جبرئيل من أداء مُهمته التي كُلِّف بها من جانب اللّه تعالى، وبلّغ الى النبي تلكم الآيات الخمس، انحدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من جبل حراء، وتوجه تحو منزل خديجة(3).
ولقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله اجمالاً، وبيّنت وبشكل واضح ان اساس الدين يقوم على القراءة والكتابة، والعلم والمعرفة، واستخدام القلم.
ظاهرة القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين :
لقد تسبّب التقدمُ العظيم والمتزايد الذي تحقق في ميدان العلوم الطبيعية في سلب الكثير من العلماء القدرة على فهم وادراك القضايا المعنوية والخارجة عن اطار العلوم الطبيعية وبالتالي أدى الى تحديد وتضييق آفاق الفكر عندهم.
فاذا بهم اصبحوا يتصورون أن الوجود يتلخص في هذا الكون المادي، وانه ليس في الوجود من شيء سوى المادة وان كل ما لا يمكن تفسيره وتبريره بالقوانين والقواعد المادية فهو أمر باطل، ومن نسج الخيال !!
إن هذا الفريق - لتسرعه في اصدار الحكم في الاُمور المتعلقة - بالغيب وقضايا ما وراء الطبيعة، وحصر أدوات المعرفة بالحس والتجربة - انكروا عالم الوحي، بحجة أنّ الحسِّ والتجربة لا يقودانهم إلى ذلك العالم، ولا يخبرانهم عن مثل تلك الموجودات، فلكونها بالتالي لا تخضع لمبضع التشريح، ومجهر الإختبار أنكروها بالمرة، وكانت النتيجة أن أدوات المعرفة المعروفة (الحسّ والتجربة) حيث انها لا تهدي إلى عالم ما وراء المادة فاذن لا وجود خارجي لذلك العالم ولحقائقه أبداً !
إنّ هذا النمط من التفكير نمط جدُّ ضيق ومحدود، مضافاً الى انه يتسم بالغرور والغطرسة، فهو من باب «استنتاج عدم الوجود من عدم الوجدان» في خطوة متعجلة فجّة !!
فما دامت هذه الحقائق التي يعتقد بها الالهيّون المؤمنون باللّه لا يمكن التوصل اليها عن طريق الادوات الفعلية المتعارفة بينهم للادراك والمعرفة فهي اذن لا اساس لها من الواقع !!
ان الذي لا شك فيه هو : ان الماديين لم يدركوا مقالة العلماء الالهيين حتى في مسألة اثبات الصانع الخالق فكيف بالعوالم الاُخرى لما فوق الطبيعة، ولو أنّ الفريقين تحاوروا في جوّ علمي مناسبٍ، بعيداً عن الأغراض والعصبيّات، لكان من المتوقع ان تزول الفواصل بين الماديين والالهيين في أقرب وقت، وأين يرتفع هذا الاختلاف الذي قسّم العلماء إلى فريقين على طرفي نقيض.
لقد اقام المؤمنون الموحِّدون عشرات الأدلة والبراهين القاطعة على وجود اللّه تعالى، واثبتوا بأنّ هذه العلوم الطبيعية هي نفسها تقودنا إلى الخالق العالم القادر، وان هذا النظام العجيب السائد في ظواهر الكائنات الطبيعيّة وبواطنها لدليل قاطع، وبرهانٌ ساطع على وجود مبدع هذا النظام، وأن جميع أجزاء هذا الكون الماديّ، من ذراته الى مجراته، يسير وفق قوانين دقيقة متقنة، ولا تستطيع الطبيعة الصماء العمياء ابداً أن تكون مبتكرة لهذا النظام البديع، ومبدعة لهذا الترتيب الدقيق.
وهذا هو بنفسه برهان «نظام الوجود» أو (برهان النظم) الذي ألّف العلماء الالهيون الموحدون حوله عشرات الكتب والدراسات.
وحيث ان (برهان النظم) هذا ممّا يفهمه جميع الناس على مختلف مراتبهم ومداركهم، لذلك ركزت عليها الكتب الاعتقادية دون سواها، وسلك كلُ واحد من العلماء طريقاً معيناً وخاصاً لتقريره، وبيانه، كما ودرست الأدلة والبراهين الاُخرى التي لا تتسم بمثل هذه الشمولية، في الكتب، والمؤلفات الفلسفية والكلاميّة بصورة مفصلة ومبسوطة.
إنّ للعلماء الالهيين بيانات وأدلة في مجال (الروح المجردة)، وعوالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) نشير إلى بعضها هنا :
الروح المجردة :
إن الاعتقاد بالروح من القضايا الشائكة الطبيعة التي استقطبت اهتمام العلماء وشغلت بالهم بشدة.
فهناك فريقٌ - ممّن اعتاد أن يُخضِع كل شيء لمبضع التشريح - ينكر وجود (الروح)، ويكتفي بالاعتقاد بالنفس ذات الطابع المادي، والعاملة ضمن نطاق القوانين الطبيعية فقط.
ووجود «الروح» والنفس غير المادية (اي المجردة المستقلة عن المادة) من القضايا التي عُولجت ودُورست من قِبل المؤمنين باللّه، والمعتقدين بالعالم الروحاني، بصورة دقيقة، وعميقة.
فهم أقاموا شواهِد عديدةً على وجود هذا الكائن (غير الماديّ) وهي أدلة وبراهين لو تمّ التعرّف عليها والنقاش حولها في جوّ علمي هادئ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يقوم عليه منطق الالهيين - في هذا المجال - من قواعد واُسس، لأدّى ذلك إلى التصديق الكامل بها.
على أن ما يقوله الالهيّون في مجالات اُخرى مشابهة مثل (الملائكة) و(الوحي) و(الإلهام) يقوم هو الآخر على الأساس الذي شيدوه ومهدوه وبرهنوا
عليه قبل ذلك بالأدلة المحكمة، المتقنة(4).
ظاهرة الوحي عِند الماديّين :
يُعتبر الاعتقاد بالوحي أساساً لجميع الرسالات، والأديان السماوية، وتقوم هذه الظاهرة (ظاهرة الوحي) على أن الذي يوحى اليه يمتلك روحاً قوية تقدر على تلقي المعارف الالهية من دون واسطة، أو بواسطة ملك من الملائكة.
ويلخصُ العلماء المختصُّون تعريفهم للوحي على النحو التالي : «الوحيُ تعليمُه تعالى من اصطفاهُ مِن عِباده كُل ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعِلم ولكِن بطريقة خفيّةٍ غير مُعتادة للبشر».
ولكن الماديين - كما قلنا - لم يستطيعوا هضم هذه الحقيقة، وادراك هذه الظاهرة على حالها، وصورتها الغيبية بسبب ما ذكرناه من منهجهم ونظرتهم إلى الاُمور والكائنات فذهبوا في تفسير ظاهرة الوحي - التي هي كما اسلفنا من قضايا الغيب ومن عوالم ما فوق الطبيعة - مذاهب مختلفة ترجع برمتها إلى الرؤية المادية للوجود.
واليك أبرز هذه التفاسير الماديّة لظاهرة الوحي الغيبية :
أبرز النظريات المادية لظاهرة الوحي :
1 - قالوا : الوحي هو القدرة الفكرية، والنفسية والعقلية التي تحصل للإنسان بسبب التمرينات والرياضات الروحية التي على اثرها تنفتح عليه أبوابُ من الغيب، فيخبر عن امور طالما تتفق مع الواقع على نحو ما يحصل للمرتاضين الهنود(5)  .
فالانبياء بسبب اعتزالهم للمجتمع - على غرار ما يفعل المرتاضون - وإقبالهم

على الرياضة الروحية يحصل لهم المقدرة على الإخبار بالغائبات، والكائنات الخفية على غيرهم.
والجواب على هذه النظرية هو : أن دراسة حالات المرتاضين تكشف لنا عن أنهم طالما يخطأون في إخباراتهم أخطاء فاضحة، بينما لم يُعهد من نبيٍّ أنه أخطأ في إخباراته، وإنباءاته.
هذا اولاً.
وثانياً : ان ما يفعله المرتاضون لا ينطوي على أية أهداف اصلاحية علياً للمجتمع البشري، بل غاية همّهم هو : عرض الافعال العجيبة على الناس وربما تسلية المتفرجين، بينما يهدف الأنبياء إلى إصلاح المجتمعات البشرية وقيادتها إلى ذرى الكمال والتقدم.
وثالثاً : ان المرتاضين لا يثقون بما يخبرون به، كما لم يُعرف إلى الآن أن أحداً منهم طلع على المجتمع البشريّ ببرنامج كامل وشامل للحياة البشرية الفردية والاجتماعية، بينما نجد الأنبياء يخبرون الناس بما اُمروا به وهم على إيمان كامل، ويقين ثابت منه، هذا الى جانب أنهم يحملون الى البشرية برامج اجتماعية وحيوية جامعة الاطراف، كاملة الأبعاد، رفيعة الأهداف، عميقة الغايات، ترجع اليها كلُ فضيلة وكل خير تعرفه المجتمعات الى الآن.
ورابعاً : انّ أعمال المرتاضين وما تحصلُ لهم من قوى وينفتح عليهم من آفاق، محدودة، بينما لا تقف طاقاتُ الانبياء وآفاق علومهم، وأبعاد أعمالهم عند حدّ.
فلا يمكن أبداً تفسير وتعليل ظاهرة (الوحي) وما يحصل للرسل والانبياء على اثره من اُمور تتخطى حدود العالم المادي المحدود، بالرياضة الروحية التي يمارسها المرتاضون وما يحصل لهم على أثرها من امور.
2 - قالوا : انّ (الوحي) نوعٌ من النبوغ، او أنه ناشئ من النبوغ، وأن الانبياء هم نوابغ اجتماعيون لا أكثر.
وقد شرحوا نظريتهم هذه قائلين : بأن نظام الخليقة قد ربى في أحضانه نوابغ
صالحين، اهتدوا بفعل نبوغهم الفكري الرفيع الى أفكار وقيم رفيعة ودعوا مجتمعاتهم إلى الأخذ بها، والسير على هديها، لتحقيق الخير والعدالة، فكان لهم بذلك اكبر نصيب في إرشاد البشرية الى سعادتها، فكل ما طرحوه من أفكار، وكل ما عرضوه على تلك المجتمعات باسم الدين او القانون ليست - في الحقيقة - سوى نتيجة ما تمتعوا به مِن نبوغ، وفكر خارق، ولا علاقة له بعالم آخر غير هذا العالم المادي المألوف.
وقالوا : وان ممّا يساعد على تقوية هذا النبوغ اُمور ابرزها :
الحبُّ، التعرضُ للظلم الطويل، الطفولة وما يكتنفها من ضعف وعجز، الوحدة، السكوت، التربية الاُولى، والعيش في صورة الأقلية وما يرافقها من ظروف إجتماعية غير مؤاتية.
فان جميع هذه الاُمور أو بعضها تدفع بالشخص الى الانطوائية، والتفكير والتأمل، للاهتداء الى مخرج من المشاكل والصعوبات، ومخلص من الظروف الصعبة، والأحوال الشاقة.
ويُجاب على هذه النظرية بأن أصحاب هذه النظرية حكموا على هذه القضية على أساس موقف اتخذوه سلفاً فهُم حصروا الأشياء في المادة والامور المادية ثم فسّروا ما يرتبط بعالم الغيب بذلك، فجاء تفسيرهم لهذه الظاهرة الغيبية تفسيراً ماديّاً، غفلة منهم عن ان مثل هذا التفسير والتعليل لا يليق بظاهرة (الوحي) التي تجسد أعلى قضيّة في سلّم الحقائق العلمية والفلسفية، ويرجع اليها أعظم القوانين والبرامج للسعادة البشرية.
نحن لا ننكر أن لما ذكروه من العوامل تأثيراً في تقوية عملية «التفكير» لدى الانسان إلى درجة ايجاد ما يسمى بظاهرة النبوغ لديه، إلا أنه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الامر نبيّاً خضعت جميع النوابغ البشرية لعظمة تعاليمه التي أتى بها طوال أربعة عشر قرناً.
نبياً لم تزل ما جاء به من معارف عقلية وفلسفية، وقوانين ترتبط بعالم الطبيعة وبالنظام الاجتماعي وآداب السلوك تحافظ على قوتها، وعمقها وأصالتها ولمعانها
كل المحافظة رغم كل ما احرزه البشر في ضوء نشاطه الفكري والعقلي من تقدم، في المعارف والعلوم.
هذا مضافاً الى أن نسبة هؤلاء الأنبياء جميع ما عرضوه على المجتمعات البشرية إلى العالم الآخر واصرارهم على أنها من جانب اللّه تعالى وليست من نسيج افكارهم يناقض نظرية هذه الطائفة، التي تفسر النبوة بالنبوغ.
لنقرأ معاً الآية التي يقول اللّه تعالى فيها حاكياً عن رسول الإسلام محمّد صلّى اللّه عليه وآله :
(إن أتّبعُ إلا ما يوُحى إليّ)(6).
أو يقول سبحانه :
(إن هو إلا وحي يُوحى)(7).
3 - يقولون : إن الوحي هو ظهور الشخصية الكامنة في النبي وايحاؤها لما ينفعه وينفع قومه المعاصرين له، اليه.
وربما قالوا : إنَّ معلومات «محمّد» وأفكاره وآماله ولّدت لديه إلهاماً فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفيّة على محيلته السامية، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك ماثلاً له وهو يتلو على سمعه ما حدّث به بعد ذلك.
وتوضيح هذه النظرية هو : ان لكل إنسان شخصيتين :
1 - الشخصية الظاهرة العادية وهي التي تخضع للحواس الخمس وتعمل بها.
2 - الشخصية الباطنية وهي التي تعمل عندما تتعطل الحواس، ويتعطل الشعورُ الظاهري :
وهذه الشخصية هي التي تحرك جميع أعضاء الجسم الانساني التي لا تخضع لارادته كالكبد والقلب، والمعدة وغيرها، كما انها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيبة في الظروف الحرجة.
ثم قالوا : وهذه الشخصية الباطنية قد اصبحت مدركة بالحس، فان المنوَّم
مغناطيسياً يظهر بمظهر من العقل الراجح، والفكر الثاقب والنظر البعيد، ويقوم بما لا يقوم به في حالته العادية.
وقد انتهى هؤلاء الماديّون من خلال تحقيقاتهم وتجاربهم إلى : ان شخصية الإنسان الباطنية ارقى من شخصيته العادية، وإن ما يتوصّل اليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة جداً، وما قد يتمتع به من روح قوية هو من مظاهر هذه الشخصية وفعاليتها.
فقالوا : وان هذه الشخصية هي التي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من اللّه، وقد تظهر لهم متجسّدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء !!!
فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح على الاسلوب التجريبي لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلغه كلاماً عن اللّه بل يكون في تجلي روح الإنسان عليه بواسطة شخصيته الباطنة فتعلمه ما لم يكن يعلم، وتهديه الى خير الطرق لهداية نفسه وترقية اُمته(8).
ولكن هذه النظرية هي الاُخرى تنبع من الغُرور العلميّ الذي أصاب هذا النمط من العلماء الّذين يحاولون تفسير كل ظواهر هذا العالم بالتفسير المادي، وهو لا شك ينشأ من عِلمهم المحدود القاصر عن إدراك حقائق الوجود.
إننا لا نشك في وجود ما يسمى بالشخصية الباطنيّة لدى الإنسان فهو ممّا سبق الى كشفه والتنويه به الفلاسفة الإسلاميّون من قبل ولكن كيف وعلى أيّ أساس حقَّ لهؤلاء ان يفسروا ظاهرة (الوحي الالهيّ) والنبوة بهذا الامر ؟
هذا أولاً
وثانياً : انّ تجلي الشخصيّة قلّما يحدث في الاشخاص الأصحّاء، بل هو يحدث في الاغلب عند المتعبين القلقين، والسكارى، والمصابين بالهزيمة والنكسة، لأن نافذة (اللاوعي) عند غيرهم من الاصحاء تنسد بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليومية وهمومها، ولا يبقى للشخصية الباطنية مجال للنشاط والفعالية، كما
هو العكس عند المتعبين والسكارى والمرضى الذين يقل اهتمامهم بالحياة اليومية فيترك (الوعيُ) مكانه للاوعي، وتترك الشخصية الظاهرية المعطّلة مكانها للشخصية الباطنية.
ولذلك نجد بين آلاف العلماء والمفكرين مفكراً أو عالماً واحداً اتفق له في بداية عمره أن اهتدى بصورة لا شعورية إلى فكرة خاصة او نظرية معينة من دون سابق تفكير او استدلال قائم على الشعور.
وخلاصة القول أن تجلّي الشخصية الباطنية في الحياة الانسانية قضية نادرة جداً، وهي لا تحدث إلا في ظروف خاصة مثل : المنامات والاحلام وغيرها من التحولات الحياتية التي تقلل من توجّه الانسان الى العالم الخارجيّ وتصرفُ التفاته وتوجُّهه الى الشخصية الباطنية.
ولكن هذه الحالة وهذه الشرائط (اي الغفلة عن هموم الحياة اليومية الخارجية) لم تحصل للانبياء قط.
فالنبي الأكرم محمّد صلّى اللّه عليه وآله كان طوال (23 سنة) وهي أعوام الرسالة، مشتغلاً كل الاشتغال بقضايا الحياة اليومية، فالنشاطات السياسية والتبليغية وقضايا الدعوة والقيادة كانت تهيمن على كل توجهه واهتمامه وتملأ عقله وروحه ونفسه.
فالكثير من آيات الجهاد ترتبط بساحات القتال والجهاد، وهذا يعني انه كان مشدوداً بروحه وعقله كله إلى تلك الاُمور.
وثالثاً : ان هذه النظرية يمكن أن تصدق على نبوة الانبياء، لو كان هؤلاء الأنبياء أفراداً متعبين، منهزمين، منتكسين، مرضى، معتزلين عن الحياة ليقال حينئذٍ ان هذه الحالات والظروف مهّدت لانقطاعهم - عليهم السّلام - عن هموم الحياة، وقضاياها، وبالتالي مهّدت لفعالية الشخصية الباطنية وعملها.
ولكن تاريخ الانبياء يشهد بوضوح لا إبهام فيه، بانهم كانوا - طيلة حياتهم الرسالية - رجالاً مجاهدين، لا يهمهم إلا اصلاح المجتمعات وقيادة الجماعات وحل المشكلات الاجتماعية، ورفع مستويات الناس معنوياً وفكرياً، وكانوا
يعملون لتحقيق هذه الأهداف ليل نهار، بلا سأم ولا ملل، ولا تعب ولا نصب.
فكيف يمكن القول والحال هذه بان الشخصية الباطنية تجلّت لديهم واوحت اليهم بحقائق وقيم وافكار؟
إن تفسير (الوحي الالهي) الذي يُلقى الى الانبياء ويكشف لهم عن أدق الحقائق وارفعها، وأعظم المناهج واكملها، بتجلّي الشخصية الباطنية، ناشئ من اعتقاد هذا الفريق من العلماء بأصالة المادة، أو بعبارة اخرى : حصر الوجود في المادة، ومن هنا حاولوا إلباس كل شيء حتى الامور المعنوية والغيبية : اللباس الماديّ، واغلقوا على أنفسهم باب عوالم الغيب، وعمدوا إلى التفتيش عن علة مادية حتى لظاهرة (الوحي) التي لا تُقاس بمقاييس العالم المادّي.
هذا مضافاً إلى أن تفسير (الوحي الالهيّ) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية، وخاصة في شأن رسول الإسلام «محمّد» صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يواجه اشكالات ومؤاخذات اُخرى تجعل هذه النظرية في عداد الاساطير !!
وإنّ ابرز هذه الاشكالات الواردة على هذه النظرية في مجال رسول الإسلام صلّى اللّه عليه وآله هي : أنّ هذه النظرية ليست رأياً جديداً وتهمة جديدة توجه إلى نبوة رسول الإسلام.
فان نظرية «الشخصية الباطنية، والوحي النفسي الذاتي» هي نظرية متبلورة ومتقدمة لتهمة (الجنون والصرع) التي كان يرمي بها العربُ الجاهليّون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم !!
فقد كان المشركون في بدء الدعوة يقولون : ان ما يقوله «محمّد» وما يتكلم به ليس إلا أفكاره القلقة المضطربة الناشئة عن خياله، وانّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة التي تسربت إلى فضاء عقله من دون ارادة منه ولا اختيار !!
لنستمع الى القرآن الكريم وهو ينقل عنهم هذا الاتهام :
(بل قالُوا أضغاثُ أحلام)(9).
ولكن القرآن الكريم يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله :
(والنّجم إذا هوى. ما ضلّ صاحِبُكُم وما غوى. وما ينطِقُ عن الهوى. إن هو إلا وحيٌ يُوحى. علّمهُ شديدُ القُوى)(10).
ان القرآن الكريم يشجب في هذه الآيات المنتظمة انتظاماً رائعاً وبديعاً هذه المزعمة (أي مقولة أن القرآن وليدُ الخيال لدى محمّد)، ويردُّ الأمر إلى الوحي الالهي، والتوجيه الربانيّ العُلويّ.
إن نظرية الوحي النفسيّ وتجلّي الشخصية الباطنية التي طلع بها الماديون في عصرنا ما هي في الحقيقة إلا غطاء لمزعمة المشركين وتهمة الجنون، والخيال التي سبق أن رمى بها أعداء الرسالة الاسلامية ومعارضوها النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم تلك التهمة التي يذكرها القرآن الكريمُ بقوله :
(وقالُوا يا أيُّها الّذي نُزِّل عليه الذِّكرُ إنّك لمجنُونٌ)(11).
وهي تهمة كان يوجهها المعارضون دائماً إلى المصلحين وأصحاب الرسالات(12) وقد اتخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة، وتبلورت في نظرية : «الوحي النفسيّ، وتجلّي الشخصيّة الباطنية». ان القرآن الكريم يرد على هذه المزاعم والتصورات الباطلة حول عمليّة الوحي ومسألة النبوّة ويرد على نسبة الكهانة وما شابه ذلك كالخبر المنقول عن اهل السير بمحاولة القاء النبي نفسه من شاهق في بداية الوحي الذي يشبه نسبة الجنون اليه صلّى اللّه عليه وآله، اذ يقول تعالى :
(إنّه لقولُ رسُول كريم. ذي قوّة عند ذي العرش مكين. مُطاع ثمّ أمين. وما صاحِبُكُم بِمجنُون. ولقد رآهُ بالاُفق المُبين. وما هو بِقول شيطان رجيم. فاين
تذهبُون إن هو إلا ذكرٌ للعالمين. لِمن شاء مِنكُم أن يستقيم).
بهذا البيان تبيّن بطلان هذا التفسير وجميع التفاسير الاُخرى التي تحاول إعطاء (الوحي) طابعاً مادياً مألوفاً، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة، ونحن استكمالاً لهذا البحث نشير إلى ما هو الحقُ في هذا المجال، ممّا يؤيّد الواقع والعقل والدين :






______________________________
(1) صحيح البخاري : ج 1 كتاب العلم ص 22، بحار الأنوار : ج 18 ص 194.
(2) العلق : 1 - 5.
(3) السيرة النبوية : ج 1 ص 236 و237.
(4) ولقد جاء تفصيل هذه البراهين والأدلّة في الكتب الفلسفية مثل : «الإشارات» و«الأسفار».
ولقد اشرنا إلى بعض هذه الأدلّة في كتاب (اللّه خالق الكون) فراجع.
(5) النجم : 1 - 5.
(6) الحجر : 6، وأيضاً راجع الآيات التالية : سبأ : 8، الصافّات : 36، الدخان : 14، الطور : 29، القلم : 2، التكوير : 22.
(7) اذ يقول القرآن في هذا الصدد : (كذلِك ما أتى الّذين مِن قبلِهم مِن رسُولٍ إلا قالُوا ساحِرٌ أو مجنُونٌ. أتواصوا بهِ بل هُم قومٌ طاغُون) (الذاريات : 52 و53).
(8) الأنعام : 50.
(9) النجم : 4.
(10) دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي : ج 10 مادّة وحي.
(11) الأنبياء : 5.
(12) التكوير : 20 - 28.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page