• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

كلام من ابن تيمية :

كلام من ابن تيمية :
احمد بن عبد الحليم الحرّاني الحنبليّ الذي مات في سجن بدمشق عام 728 من علماء السنّة، تعود اليه اكثر معتقدات الوهابيين، وأفكارهم.
ولابن تيمية هذا آراء ومواقف خاصة من النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله وأمير المؤمنين، وعامة أهل بيت النبوة، وقد صرح باكثر آرائه ومعتقداته هذه في كتابه «منهاج السنة».
وقد دفعت عقائدُه المنحرفة وآراؤه الضالّة الكثير من علماء عصره إِلى تكفيره، والتبرّي منه.
ولابن تيمية رأي عجيب حول هذه الفضيلة نذكره للقارئ الكريم مع تصرف بسيط في الألفاظ(1).
ومن المؤسف ان يكون قد تأثر بآرائه بعض السذّج والجاهلين، فنجدهم يشيعون آراءه في المجتمع من دون تحقيق فيما قال، ومن دون مراجعة ذوي الاختصاص لمعرفة رأيهم في أفكاره ومعتقداته وهم غافلون عن أنّ مثل هذه الآراء قد صدرت من منحرف وكذّبه بل وكفّره بسببها أهل مذهبه.
هذا واليك خلاصة رأيه في فضيلة «المبيت».
يقول : ان مبيت «عليّ» في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لا تعدّ
فضيلة لأن عليّاً عرف من طريقين بانه لن يصيبَه شيء في تلك الليلة :
الأوّل : إِخبار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الصادق المصدَّق نفسه ايّاه بذلك إِذ قال له في نفس تلك الليلة : «نَم في فِراشي فإنه لا يَخلُصُ إِليك شيء تكرَهُهُ» !!.
الثاني : أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله كلّفه بردّ الودائع واداء الامانات التي أودعها أهل مكة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، إِلى أصحابها.
فعلم - من ذلك - أنهُ لن يُقتل والا لكلّفَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الآخرين بها.
فعرف «عليّ» من هذا التكليف أنه لن يلحقه أذىً في هذه العمليّة وانه سيوفَّق لأداء ما كلّفَهُ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
الجواب :
وقبل أن نجيب عن هذا الكلام على نحو التفصيل نقول إِجمالاً : إِن ابن تيميّة بانكاره هذه الفضيلة أثبت فضيلة أعلى لعلي عليه السلام لأنه إِمّا كان ايمان عليّ بصدق مقالة الرسول كان ايماناً عادياً، وإِما أن كان إِيماناً قوياً جدّاً، وكانت جميع اقوال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وإِخباراته لديه - في ضوء ايمانه - كالنهار في وضوحه.
وعلى الفرض الاوّل لم يكن لعليّ يقين بنجاته من تلك الواقعة لأنه لا يحصل لمثل هذه الطبقة من الناس (ولا شك أن عليّاً ليس منهم حتماً) يقين من كلام النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، وحتى لو قبلوا به في الظاهر، فانهم سيساورهم القلق، ولا يفارقهم الاضطراب، واذا هم باتوا في فراشه في لحظات الخطر، فانه سيبقون فريسة الخوف والوجل وستمرّ في نفوسهم إِحتمالات كثيرة حول مآل الأمر ومصيره، وسيتمثل أمامهم شبح الموت المرعب في كل لحظة وآن.
وعلى هذا الفرض لا بد أن يقال : بأنَّ علياً عليه السلام لم يقدم على هذا الأمر الخطير إِلا وهو يحتمل الهلاك على أيدي المشركين، لا أنه بات وهو يتيقن
النجاة والسلامة.
وأما بناءً على الفرض الثاني فانه تثبت لعليّ عليه السلام فضيلة أعلى واعظم، لأن ايمان الرجل يجب ان يبلغ من القوة والكمال بحيث لا يفرّق بين صدق كلام النبيّ وبين وضوح النهار أي أنهما يكونان عنده بمنزلة سواء.
ولا شك ان أهمية مثل هذا الايمان لا يمكن أن يعادِلها شيء.
ونتيجة هذا الايمان هي أن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله عندما قال له : نَم في فراشي فلن يصيبك من هجوم الاعداء الحاقدين مكروه أن ينام في فراش النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بقلبٍ واثِقٍ بالسلامة، ونفس مطمئنةٍ الى النجاة، ومن دون أن يخالج نفسَهُ أقل إِحتمال للخطر.
ولو كان مراد ابن تيمية من قوله : ان عليّاً كان واثقاً من سلامته، لأن الصادق المصدّق أخبره بذلك هو : إِثبات أعلى درجات الإيمان لعليّ عليه السلام فقد اثبت له عليه السلام من حيث لا يشعر اكبر فضيلة، وأعلى منقبة، وهي كمال الايمان والثقة برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخباره.
هذا هو الجواب الاجمالي واليك الجواب التفصيلي :
الجواب التفصيلي :
فنقول عن الدليل الأول : إِن عبارة «لا يخلص اليك شيء تكرهه» لم ينقلها بعض أرباب السيرة ورجال علم التاريخ الذين لهم سابقة لا تنكر في هذا الصعيد(2).
نعم روى ابن الاثير المتوفى عام 630(3)، والطبري المتوفى عام 310(4) هذه العبارة وكأنّما قد اخذاها عن ابن هشام في سيرته(5) التي نقل فيها تلك العبارة
بالصورة المتقدمة الذكر، خاصة أنّ عبارة ذينك المؤلّفين (الطبري وابن الأثير) تطابق عبارة ابن هشام في هذا المجال تماماً.
هذا مضافاً إِلى أنّ القضية لا توجد بهذه الصورة في مؤلفات علماء الشيعة على ما نعلم.
ولقد نقل شيخُ الطائفة الامامية محمّد بن الحسن الطوسيّ المتوفى عام 460 في أماليه قصة الهجرة بشكل اكثر تفصيلاً ودقة، وذكر العبارة المذكورة مع تغيير بسيطٍ، الا أنه تختلف صورة القضيّة مع ذلك عما هي عليه في كتب أهل السنة، فانه رحمه اللّه يصرّح بان عليّاً عليه السلام انطلق هو و«هند بن أبي هالة» ابن خديجة وربيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في منتصف الليل بعد ليلتين من الهجرة حتى دخلا على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فقال صلّى اللّه عليه وآله لعليّ :
«إِنّهم لن يَصِلُوا مِن الآن إِليك يا علي بأمرٍ تكرهه حتّى تقدم عليَّ»(6).
وهذه الجملة تشبه الجملة التي ذكرها ابن هشام والطبري وابن الأثير، ولكن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قالها لعليّ عليه السلام مطمئِناً إِياه بعد ليلتين من المبيت في الفراش، وليس ليلة المبيت كما يروي الثلاثة المذكورون.
هذا علاوة على أنّ كلام علي نفسه خير شاهد على ما نقول :
فلقد عدّ عليّ عليه السلام عمله هذا (أي المبيت في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في تلك الليلة الرهيبة) نموذجاً من بذله وتفانيه في سبيل الحق كما يتضح ذلك بجلاء من اشعاره حيث يقول :
وَقَيتُ بنفسي خيرَ من وطَأ الحصا***ومَن طاف بالبيتِ العتيقِ وبِالحجر
محمّد لما خافَ أن يمكُروا بهِ***فوقاهُ ربّي ذُو الجلالِ مِن المَكرِ
وبِتُّ اُراعي منهم ما يسوءني***وقد وطّنت نفسي على القتل والأسر
وباتَ رسُولُ اللّهِ في الغار آمِناً***هناك وفي حفظِ الاله وفي سَترِ(7)
ومع هذه العبارات الصريحة لا مجال للاعتماد على قول ابن هشام الذي تدل قرائنُ كثيرة على خطأه، ويُحتمل، احتمالاً قوياً، بأن اشتباهه وخطأه قد نشأ من تلخيصه لسيرة ابن اسحاق، وحيث أنه (ونعني ابن هشام) قد بنى في سيرته على الاختصار لذلك اكتفى بنقل أصل العبارة، مهملاً ظرف النطق بها لعدم أهمية زمن النطق بها وأنها قيلت في الليلة الثانية او الثالثة، في نظره، وروى الموضوع بنحوٍ يوهم بان جميع هذه الامور وقعت في ليلةٍ واحدةٍ !!
ويؤيد رأينا هذا أيضاً الحديث المعروف الذي رواه كثير من علماء السنة والشيعة وهو : أن اللّه أوحى إِلى جبرئيل وميكائيل عليهما السلام أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر احدكما أطول من عمر صاحبه فأيّكما يؤثر أخاه.
وكلاهما كره الموت، فاوحى اللّه إليهما : عبداي ألا كنتما مثل وليي «عليّ» آخيت بينه وبين «محمّد» نبيي فآثره بالحياة على نفسه ؟ أو قال : قد نام على فراشه يقيه بمهجته.
ثم أمرهما بالهبوط إِلى الأرض وحراسة عليّ وحفظه من عدوه(8).
واما الدليل الثاني الذي يستفيد منه ابن تيمية أن عليّاً كان يعلم بمصيره هو توصية النبيّ صلّى اللّه عليه وآله به بأداء الامانات والودائع إلى أهلها، التي كانت تكشف عن ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يعلم بأنه لن يصلَ إِليه مكروه، ولهذا امره بردّ الودائع والامانات إِلى أصحابها.
ولكنّنا نعتقد ان في مقدورنا الحصول على حلٍّ لهذه المشكلة إِذا استعرضنا بقية قصة الهجرة بشكل صريحٍ وكاملٍ.
واليك بقيّة قصة الهجرة.
الخطيب وقضية المبيت :
وينبغي أن نختم هذا الفصل بما كتبه الاستاذ عبد الكريم الخطيب حول
مبيت علي عليه السلام في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حيث قال : لقد دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليّاً ليلة الهجرة، وطلب إِليه أن يبيت في المكان الذي اعتاد الرسول صلّى اللّه عليه وآله ان يبيت فيه، وان يتغطى بالبرد الحضرميّ الذي كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله يتغطى به حتى اذا نظر ناظر من قريش الى الدار رأى كأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله نائم في مكانه مغطى بالبرد الذي يتغطى به، وهذا الذي كان من عليّ في ليلة الهجرة اذا نظر اليه في مجرى الاحداث التي عرضت للامام علي في حياته بعد تلك الليلة فانه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة واشارت دالة على ان هذا التدبير الذي كان في تلك الليلة لم يكن أمراً عارضاً بل هو عن حكمة لها آثارها - الى ان قال - انه اذا غاب شخص الرسول كان علي هو الشخصية المهيّأة لأن تخلفه وتمثّل شخصه وتقوم مقامه، حين نظرنا إِلى عليّ وهو في برد الرسول وفي مثوى منامه الذي اعتاد أن ينام فيه فقلنا : هذا خلَفُ الرسول صلّى اللّه عليه وآله والقائم مقامه(9).
بقية قصةِ هجرةِ النبيّ :
انتهت المراحلُ الاُولى لنجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وفق تخطيط صحيح، بنجاح، فقد لجأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في منتصف الليل الى غار ثور، واختبأ فيه، وبذلك أفشل محاولة المتآمرين عليه.
ولقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله طوال هذا الوقت مطمئناً لا يحسُّ في نفسه بأيّ قلق أو إِضطراب، حتى انه طمأن رفيق سفره عندما وجده مضطرباً في تلك اللحظات الحساسة بقوله :
(لا تحزَن إِنَّ اللّه مَعَنا)(10).
وبقي هناك ثلاث ليال محروساً بعين اللّه تعالى ومشمولاً بعنايته ولطفه،
وكان يتردّد عليه صلّى اللّه عليه وآله في هذه الاثناء علي عليه السلام وهند بن ابي هالة (ابن خديجة) على رواية الشيخ الطوسي في أماليه، وعبد اللّه بن أبي بكر وعامر بن فهيرة راعي اغنام أبي بكر (بناء على رواية كثير من المؤرّخين).

يقول ابن الاثير : كان عبد اللّه بن أبي بكر يتسمّع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلاً، وكان يرعى غنمه نهاره على مقربة من الغار، وكان اذا غدا من عندهما عفى على أثر الغنم(11).
يقول الشيخ الطوسي في أماليه : عندما دخل علي عليه السلام وهند على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الغار (بعد ليلة الهجرة) أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليّاً أن يبتاع بعيرين له ولصاحبه، فقال أبو بكر : قد كنتُ أعددت لي ولك يا نبي اللّه راحلتين نرتحلهما الى يثرب.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِني لا آخذهما ولا أحدهما إِلا بالثمن. ثم أمر صلّى اللّه عليه وآله عليّاً عليه السلام فدفع إِليه ثمن البعيرين(12).
وكان من جملة وصايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لعليّ عليه السلام في الغار في تلك الليلة ان يؤدي أمانته على أعين الناس ظاهراً وذلك بأن يقيم صارخاً بالابطح غدوة وعشياً : ألا من كان له قِبل محمّد أمانة او وديعة فليأت فلنؤدِّ اليه أمانته(13).
ثم أَوصاه صلّى اللّه عليه وآله بالفواطم (والفواطم هن : فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الحبيبة لديه، والأثيرة عنده، وفاطمة بنت أسد اُمّ عليّ عليه السلام وفاطمة بنت الزبير ومن يريد الهجرة معه من بني هاشم)، وأمره بترتيب أمر ترحيلهم معه الى يثرب وتهيئة ما يحتاجون اليه من زاد وراحلة. وهنا قال صلّى اللّه عليه وآله عبارته التي تذرّع بها ابن تيمية في دليله
الأول : «انهم لن يصلوا من الآن اليك يا عليّ بأمرٍ تكرهه حتى تقدم عليَّ».
فالملاحظ للقارئ هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إنما قال هذه العبارة عندما أمره بأداء أمانته، وذلك بعد انقضاء قضية ليلة المبيت.
أي انه أمر علياً بذلك، وقال له تلك العبارة وهو يتهيّأ للخروج من غار ثور.
يقول الحلبي في سيرته : «وصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في احدى الليالي وهو بالغار علياً رضي اللّه عنه بحفظ ذمته واداء امانته ظاهراً على اعين الناس»(14).
وثم ينقل عن مؤلف كتاب «الدر» ما يقتضي انه اجتمع به عند خروجه من الغار.
وخلاصة القول : انه مع رواية شيخ جليل من مشائخ الشيعة الامامية كالشيخ الطوسي بالاسناد الصحيحة أن الأمر بردّ الودائع والامانات صدر من جانب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله إِلى عليّ عليه السلام بعد ليلة المبيت لا يحقّ لنا أن نعارض هذا النقل الصحيح، ونعمد إِلى الهاء العامة بالتوافه، وأما رواية مؤرخي اهل السنة هذا المطلب بشكل آخر يوحي ظاهرهُ بأن جميع وصايا النبيّ صلّى اللّه عليه وآله لعليّ تمت في ليلة واحدة هي ليلة الهجرة (ليلة المبيت) فقابل للتفسير والتوجيه، لأنه لا يبعد أن عنايتهم كانت مركزة على رواية أصل الموضوع، ولم يكن لظرف صدور هذه الوصايا والأوامر ووقت بيانها اهمية عندهم.
الخروج من الغار :
هيّأ علي عليه السلام بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ثلاث رواحل ودليلاً اميناً يدعى أريقظ ليترحلوها إلى المدينة، ويدلّهم الدليل على طريقها وأرسل كل ذلك إلى الغار.
ولما سمع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله رغاء البعير او نداء الدليل نزل هو وصاحبه من الغار وركبا البعيرين وتوجها من أسفل مكة إِلى «يثرب» سالكين إِلى ذلك الخط الساحلي، وقد جاء ذكر المنازل التي مرّا بها في السيرة النبوية لابن هشام(15) وفي الهوامش المثبتة على التاريخ الكامل لابن الاثير(16).
صفحةُ التاريخ الاُولى :
اجل لقد حلّ الظلام في كل مكان، ولملمت الشمس اشعّتها الذهبية من هذا الوجه من الكرة الأرضية لتوجّهها الى الوجه الآخر منها.
وعاد جماعة من رجال قريش الذين سلكوا كل طريق في مكة وضواحيها بحثاً عن النبيّ، ثلاثة أيام، بلياليها، الى بيوتهم ومنازلهم متعبين مرهقين، وقد يئسوا من الظفر بالجائزة (وهي مائة من الإبل) التي وضعتها سادة قريش جائزةً لمن يأخذ محمّداً أو يدل على مكانه، واُعيد فتح طريق مكة - المدينة التي اُغلقت لهذه الغاية بعد اليأس من الظفر برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله - (17).
وفي هذه اللحظات بالذات بلغ نداء الدليل الذي كان يصطحب معه ثلاث رواحل ومقداراً من الطعام، الى مسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ورفيقه وهما في الغار وقد كان يقول بصوت خافت : لا بد ان نتخذ من ظلام هذا الليل ستراً، ونسرع في الخروج من حدود المكيّين، ونختار طريقاً يقلّ سالكوه ولا يهتدي إليه أحد.
ويبدأ تاريخ المسلمين من العام الذي تضمَّن تلك الليلة بالضبط، وجعل المسلمون يقيسون كل ما يقع من الحوادث بذلك العام وبذلك يحددون تاريخه وزمان حدوثه.
لماذا أصبح العامُ الهجريُّ مبدأ للتاريخ :
إِن الاسلام أكمل الشرائع السماوية قاطبة، وقد جاء الى البشرية باتتضمنه بشريعة موسى وعيسى عليهما السلام ولكن بصورة أكمل وبصيغة تطابق وتتمشى مع جميع الظروف والأوضاع.
ومع أن السيد المسيح عليه السلام وميلاده المبارك يحظى بالاحترام عند المسلمين إِلا أنّ ميلاده عليه السلام لم يُتخذ لديهم مبدأ للتاريخ، والتوقيت.
وكانت العرب قد جعلت عام الفيل(18) مبدأً لتاريخها، وكانت تقيس حوادثها واُمورها إِليه فترة من الزمن، ومع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان قَد وُلِدَ في ذلك العام نفسه، إِلا أن المسلمين لم يتخذوه مع ذلك مبدأً للتاريخ، لأنه لم يكن ينطوي على ما يتصل بقضية الإيمان والاسلام.
ولاجل هذا أيضاً لم يتخذوا عام البعثة مبدأً لتاريخ المسلمين أيضاً لأن عدد المسلمين لم يكن يتجاوز في ذلك اليوم ثلاثة أشخاص، إِذن فلم يكن في أي واحد من تلك الحوادث ما يعطي مبرراً قوياً لاتخاذه مبدأً للتوقيت والتاريخ، إذ لا بد ان يكون ما يتخذ لذلك قضية مصيرية بالغة الأهمية.
ولكنه في السنة الاولى من الاعوام الهجرية حقق المسلمون انتصاراً عظيماً وباهراً، وقد اُسست فيه حكومة مستقلة وتخلّص المسلمون من التشرذم والتبعثر، وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطةٍ واحدةٍ، وبيئةٍ حرةٍ لا أثر فيها للكبت والاضطهاد، من هنا جعلوا ذلك العام (أي العام الذي تحققت فيه هجرة النبيّ العظيم) مبدأً لتاريخهم، واخذوا يقيسون اليه - وحتى الآن - كل ما يحدث ويقع من خير وشر، لتحديد تاريخ وقوعه.
من هنا يكون قد مضى على عام هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله من مكة الى المدينة الف واربعمائة وتسعة اعوام.
الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافة :
ولقد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله التاريخ الهجريّ بنفسه.
وانّ أيَّ إِعراض وتجاهلٍ لهذا التاريخ، واختيار تاريخٍ آخر مكانه إِعراض عن سنة رسول الاسلام الكريم صلّى اللّه عليه وآله، ومخالفة لما رسمه للمسلمين في هذا المجال.
إِن وجود تاريخ معين ثابت (مؤلّفٍ من السنة والشهر واليوم) في الحياة الإجتماعية البشرية، من الاُمور الضرورية بل هو في غاية الضرورة والحيوية، من أجل أن لا تتوقف عجلة الحياة الإجتماعية البشرية عن الدوران والحركة بسبب فقدان مقياس زمني ثابت ومعلوم للامور والحوادث.
وتلك حقيقة لا حاجة إِلى اقامة البرهان عليها لأنَّ الاستدلال عليها يكون مثل الاستدلال على الامور البديهية.
فهل يكون تنظيم المعاهدات، والمواثيق السياسية والعسكرية، والاتفاقيات والعقود الاقتصادية وتحويل وتسديد السندات والحوالات التجارية ودفع الديون وكتابة الرسائل العائلية من دون ذكر تاريخ معين فيها أمراً مفيداً ؟ كلا حتماً، ودون ريب.
فعندما سأل بعض الصحابة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله عن علة اختلاف أشكال القمر، وانه لماذا يكون هلالاً تارة ثم بدراً اُخرى. ثم يعود إِلى سيرته الاُولى هلالاً، نزل الوحيُ الالهي، يبيّنُ بعض حكمة هذه الظاهرة الطبيعية اذ قال تعالى :
(قل هي مواقيت للنّاس)(19).
أي ان اختلاف اشكال القمر وهيئاته انما هو لاجل ان يعرف الناسُ به الوقت والتاريخ فيعرفوا في أي يوم من الشهر هم، في مبدئه أو منتصفه، أو منتهاه،
ولكي يعرفوا بواسطة ذلك مواعيد واجباتهم الشرعية والاجتماعية، ويعرف الدُّيّان موعد تسلّم دُيونهم، ويعمَدُ المَدِينون إِلى دفع ما عليهم في وقته، ويقوم المؤمنُون بفرائضهم المقيَّدة بالازمنة والاوقات كالصوم والحج وما شابه ذلك.
من هنا لا مجال للنقاش في احتياج كل اُمة إِلى تاريخ معينٍ ثابتٍ محدّد تجعله ملاكاً للتوقيت، ومداراً لتحديداتها الزمنية.
إِنما الكلام هو في ما ينبغي إتباعه والجري عليه من التواريخ، وتنظيم المستندات والمكاتبات والمواعيد وفقاً له.
وبعبارة اُخرى : إِن الكلام إِنما هو في ما ينبغي جعله مبدأً للتاريخ يقاس به كل العُقودِ والاتفاقات من حيث الزمان، والتوقيت.
فما الذي يصلح او ينبغي إِتخاذه مبدأً للتاريخ للامة الاسلامية ؟
الجواب :
إِن الاجابة على هذا السؤال واضحة جداً، وتلك الاجابة هي :
اذا كانت لاُمة من الامم حوادث لامعة وسوابق مشرقة في حياتها، وثقافة خاصة بها، ودينٌ ومسلكٌ مستقلّ وشخصيات علمية وسياسية بارزة، واحداث ووقائع عظيمة مثيرة، تبعث على الفخر والاعتزاز، ولم تكن كنبتة وحشية نبتت عفواً واعتباطاً من غير قانون ولا جذور كبعض الجماعات والشّعوب الجديدة الظهور التي لا ترتكز الى اُصول ثابتة معلومة.
فان على مثل هذه الاُمة أن تتخذ من أعظم حوادثها الاجتماعية والدينية مبدأً لتاريخها الذي تقيس، وتنظم عليه بقية حوادثها وأعمالها التي سبقت تلكم الحادثة العظمى، أو التي وقعت او تقع بعدها.
ومن هنا تكون قد اكسبت شخصيتها وكيانها قوةً اكبر، وصانت نفسها من التبعية للشعوب والاُمم الاخرى، والميعان والفناء فيها.
وإِذ لم يكن في تاريخ الاُمة الإسلامية شخصية أعلى شأناً من شخصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، كما لم يكن هناك حادثة أعظم، وانفع من حادثة
الهجرة النبوية المباركة، لأن هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فتحت - في الحقيقة - صفحةً جديدةً في حياة البشرية، فقد خرج رسول الاسلام واتباعه من بيئة مكة الرازحة تحت الكبت، الى بيئة مناسبة حرة مكنتهم من إِحداث انطلاقةٍ كبرى لم يشهد التاريخُ البشريُّ برمّته له مثلاً.
فقد استقبل اهلُ المدينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ومن هاجر معه من المسلمين الى يثرب استقبالاً حاراً، ووضعوا تحت تصرّفه كلَّ ما توفر لديهم من الامكانات والقوى، فلم يمض زمن إِلا وتمتع الاسلام بفضل هذه الهجرة المباركة بتشكيلات سياسية وعسكرية، واتخذ صورة وشكلَ حكومة قوية لها وزنُها، وشأنُها، وجانبُها المرهوب في شبه الجزيرة العربية، وسرعان ما نشر رايته على البسيطة كلها تقريباً، وأسس حضارةً عظمى لم تر البشرية لها نظيراً.
فاذا لم تحدث تلك الهجرة المباركة المعطاء لقُضي على الاسلام في محيط مكة، وحُرمَ العالم الانساني من هذا الفيض العظيم.
من هنا، ولأجل هذا اتخذ المسلمون هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مبدأً لتاريخهم، ودأبوا على ذلك الى الآن حيث ينقضي أكثر من ألف وأربعمائة عام، أي أن هذه الامة الكبرى تركت وراءها إِلى هذا اليوم أربعة عشر قرناً من الأمجاد والمفاخر، وهي الآن على أعتاب القرن الخامس عشر ؟
من الذي جعل الهجرة مبدأً للتاريخ ؟
على العكس مما هو مشهور بين المؤرخين من أن الخليفة الثاني جعل هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله مبدأً للتاريخ باقتراح وتأييد من الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام وامر بأن تؤرخ الدواوين، والرسائل والعهود وما شابه ذلك بذلك التاريخ، فان الامعان في مراسلات النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ومكاتباته التي هي مدرجة في الأغلب في كتب التاريخ والسيرة والحديث والسنة، وكذا غير ذلك من الادلة التي سوف نذكرها في هذه الصفحات يثبت أن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله هو نفسه أول من اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدأ للتاريخ،
وكان يؤرّخ رسائله، وكتبه إِلى امراء العرب، وزعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة بذلك التاريخ (أي التاريخ الهجري).
وها نحن ندرج هنا نماذج من تلك الرسائل النبوية المؤرخة بهذا التاريخ، ثم نعمد بعد ذلك الى استعراض الدلائل الاُخرى على هذا الأمر، ونحن نحتمل ان تكون هناك أدلة اُخرى غير ما سنذكره هنا - أيضاً - لم نقف عليها.
نماذج من رسائل النبيّ المؤرخة :
1 - طلب سلمان من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ان يكتب له ولأخيه (ماه بنداذ) ولأهله وصية مفيدة ينتفع بها، فاستدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليّاً وأملى عليه اُموراً، وكتبها علي عليه السلام ثم جاء في آخر تلك الوصية :
«وكتب علي بن أبي طالب بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في رجب سنة تسع من الهجرة»(20).
2 - أدرج المؤرخُ الشهير «البلاذري» في كتابه «فتوح البلدان» نصَّ معاهدة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مع يهود «المقنا» وذكر أن مصرياً رأى نص هذه المعاهدة في جلدٍ أحمر اللون عتيقٍ وكان قد استنسخها، فقرأها لي.
ثم نقل البلاذري نص تلك المعاهدة وقد جاء في نهايتها :
«وليس عليكم امير الا من انفسكم أو من اهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه (وآله) وسلّم وكتب علي بن أبو طالب في سنة تسع»(21) ومع أن «أبا طالب» يجب أن يكتب حسب القواعد الادبية في المقام «أبي طالب» لكونه مضافاً اليه فقد كتب : «علي بن أبو طالب» ولكن مع ذلك ذكر المحققون ان قبيلة قريش كانت تتلفظ لفظة أب في جميع الموارد (أي في حالة النصب والرفع والجرّ) ب: «أبو» وتكتبها كذلك أيضاً، وقد صرح الاصمعيّ بهذا من بين الادباء.
ويقول البروفيسور «محمّد حميد اللّه» مؤلف كتاب «الوثائق السياسية» : اني
لما كنت في المدينة المنورة في شهر محرم سنة 1358 وجدت في الكتابة القديمة التي في جنوبي جبل سلع في المدينة المنورة «أنا علي بن أبو طالب»(22).
3 - جاء في معاهدة الصلح التي نظمها «خالد بن الوليد» لاهل دمشق، ونص فيها على احترام دمائهم، واموالهم وكنائسهم : «وكتب سنة ثلاث عشرة»(23).
وكلنا نعلم أن دمشق فتحت في أواخر حياة الخليفة الأوّل.
فما يدعيه البعض من ان التاريخ الهجري قد اتخذ في عهد الخليفة الثاني بارشاد وتأييد من الامام علي عليه السلام غير صحيح فان تاريخ ذلك يرتبط بالسنة السادسة عشرة او السابعة عشرة من الهجرة، والحال ان هذه المعاهدة قد نظّمت ودُوّنت واُرخت بالتاريخ الهجري قبل ذلك بأربع سنوات.
4 - ان كتاب الصلح الذي كتبه الامام علي عليه السلام بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لنصارى نجران مؤرَّخٌ بالسنة الهجرية الخامسة.
فقد جاء في هذه الرسالة :
«وأمر علياً ان يكتب فيه انه كتب لخمس من الهجرة»(24).
ان هذه الجملة تفيد بوضوح ان النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله هو واضع التاريخ الهجري ومؤسسه الاوّل وهو الذي أمر علياً عليه السلام بان يؤرخ ذلك الكتاب بالتاريخ الهجري في ذيله.
5 - جاء في مقدمة الصحيفة السجادية : قال جبرئيل وهو يفسر رؤيا رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : «تدور رحى الاسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشر، ثم تدور رحى الاسلام على رأس خمس وثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمساً، ثم لا بد من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها»(25).
6 - يروي المحدثون الاسلاميُّون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال لام سلمة :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : «يُقتَل حسين بن علي على رأس ستين من مهاجري»(26).
7 - قال أنس بن مالك : «حدثنا أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قال : لا تأتي مائة سنة من الهجرة ومنكم عين تطرف»(27).
8 - أرخ أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في ايام حياته الحوادث الاسلامية بهجرته فقالوا : وقع كذا في الشهر كذا من الهجرة، مثلاً كانوا يقولون :
حولت القبلة من بيت المقدس الى الكعبة في شهر شعبان ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً او ثمانية عشر شهراً(28).
على رأس ثمانية عشر شهراً فرِضَ صوم شهر رمضان(29).
وقال عبد اللّه بن انيس أمير الوفد الذي بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمس خلونَ من المحرم على رأس أربعةٍ وخمسين شهراً(30).
وقال محمّد بن سلمة عن غزوة القرطاء : خرجتُ في عشر ليال خلون من المحرم فغبت تسع عشرة وقدمتُ لليلة بقيت من المحرم على رأس خمسة وخمسين شهراً(31).
إِنَّ هذا النوع من تاريخ الحوادث والوقائع يكشف عن ان المسلمين كانوا الى السنة الخامسة من الهجرة يقيسون الحوادث بهجرة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ويؤرخون بها عن طريق عدّ الأشهر، حتى إِذا كانت السنة الخامسة من الهجرة
أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باحلال السنة الهجرية مكان الشهر الهجري (كما مرّ في الرسالة رقم 4) حيث أمر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بان يُؤرّخ الكتاب الذي كتبه لنصارى نجران بالعام الهجري.
9 - نقل المحدثون الاسلاميون عن الزهري قوله : ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لما قدم المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل (اي شهر قدومه المدينة)(32).
10 - روى «الحاكم» عن «ابن عباس» ان التاريخ الهجري بدأ من السنة التي قدم فيها النبيّ صلّى اللّه عليه وآله المدينة(33).
إِن هذه النصوص تحكي عن أنّ قائد الاسلام الأكبر قد أوضح مسألة التاريخ من اليوم الاول، وانه جعل هجرته مبدأ لذلك التاريخ. غاية ما هنالك أن هذا التاريخ كان إِلى فترة من الزمن يعدُّ بالأشهر ثم حل العدُّ بالأعوام منذ حلول السنة الخامسة من الهجرة محل العدّ بالأشهر.
سؤال :
ويمكن ان يسأل سائل : اذا كان حقاً أن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله هو مؤسس التاريخ الهجري وواضعه الأوّل فماذا نفعل بالخبر الذي رواه كثير من المحدثين والمؤرخين.
فانهم يقولون : رفع رجل إلى عمر صكاً مكتوباً على آخر بدين يحلّ عليه في شعبان فقال عمر : أي شعبان ؟ أمِن هذه السنة أم التي قبلها أم التي بعدها ؟
ثم جمع الناس (أي أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله) فقال : ضعوا للناس شيئاً يعرفون به حلول ديونهم... فقال : ان بعضهم أراد أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم كلما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الذي بعده فكرهوا ذلك.
ومنهم من قال : ارخوا بتاريخ الروم من زمان اسكندر فكرهوا ذلك لطوله أيضاً.
وقال آخرون : أرّخوا من مولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
وقال آخرون : أرخوا من مبعثه. واشار علي بن أبي طالب عليه السلام أن يؤرخ من هجرته الى المدينة لظهوره على كل أحد، فانه أظهر من المولد والمبعث، فاستحسن عمر ذلك والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله(34).
الجواب :
إنّ هذا القسم من التاريخ لا يمكن الاستناد إِليه في مقابل النصوص الكثيرة التي وصفت الرسول العظيم صلّى اللّه عليه وآله بكونه واضعَ التاريخ الهجري ومؤسسه الأول.
هذا مضافاً إِلى أنه من الممكن أن يكون التاريخ الهجري الذي وضعه النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله قد تعرّض للترك، وفقد رسميته بمرور الزمن وقلة الحاجة إلى التاريخ ولكن جُدّد في زمن الخليفة الثاني، بسبب اتساع نطاق العلاقات واُعيد الاهتمام به لاشتداد الحاجة إِليه في هذا العهد.
التذكير بنقطتين :
1 - لا نجد في الاقتراحات التي عرضت على الخليفة في مجال التاريخ أي ذكر للتاريخ المسيحي الذي يجعل ميلاد السيد المسيح عليه السلام مبدأً للتاريخ.
والعلة هي : أن التاريخ الميلادي ظهر في القرن الرابع الاسلامي بين
المسيحيين بعد سلسلة من المحاسبات التخمينية، فهو لم يكن رائجاً قبل ذلك.
2 - ان البلاد والاقطار الاسلامية بحاجة اليوم إِلى الوحدة والاتفاق اكثر من أي زمن مضى.
ومن مظاهر تلك الوحدة هو السعى للحفاظ على التاريخ الاسلامي الهجري.
ومن هنا يتوجب على الاقطار الاسلامية ان تقيم كل روابطها، وعلاقاتها على أساس التاريخ الهجري، شمسياً كان أو قمرياً.
وان هذا الأمر بحاجة الى مؤتمر إِسلامي كبيرٍ يشترك فيه كبارُ الشخصيات الفكرية الاسلامية من أجل توحيد التاريخ، ودراسة السبل الكفيلة بالوصول الى هذا الأمر، والتخلّص من التبعية الغربية في التاريخ.
ان من المؤسف جداً أن تتجاهل بعض الدول الاسلامية والعربية التاريخ الهجري وتعتمد التاريخ الميلادي المسيحيّ، حتى أن شيخ الجامع الازهر الذي يشكل قمة القيادة الدينية في المجتمع السني يؤرخ رسائله بالتاريخ الميلادي، ولا يذكر الى جانبه التاريخ الهجري على الأقل !!(35)
مؤامرة الطاغوت :
وكانت ايران من الاقطار الاسلامية التي حافظت بشدة على التاريخ الهجري، واعتمدته في اعمالها، ولكن في المؤامرة التي نفّذت بواسطة الطاغية المقبور في عام 1399 هجري استبدلت التاريخ الهجري بالتاريخ الشاهنشاهي واُعلن في وسائل الاعلام عن وجوب اعتماد هذا التاريخ المختلق بدل التاريخ الهجري الاصيل !!
ولقد تصوَّر الطاغوتُ الأرعن أنه يستطيع بحذف التاريخ الهجري، واستبداله بالتاريخ الشاهنشاهي المشؤوم تثبيت قواعد حكومته المهزوزة، وسلطانه المنخور، ونظامه الظالم المهترئ، مدة أطول، ولكن العناية الالهية، وهمة الشعب الإيراني المسلم العالية، وقيادة الاستاذ الاكبر آية اللّه العظمى الإمام الخميني قدّس سرّه الشريف أفشلت هذه المحاولة النكراء، وآل الأمر إِلى اسقاط النظام الشاهنشاهي بثورة الشعب المجيدة واقامة حكومة الجمهورية الاسلامية على انقاض الحكم الملكي المباد، واحلال التاريخ الهجري الاسلامي المبارك محلّ التاريخ الشاهنشاهي المختلق. والحمد للّه(36).
برنامج الرحلة في حادث الهجرة :
لقد كان على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ان يقطع - للوصول الى المدينة - ما يقرب من اربعمائة كيلومتر، ولا شك أن طيّ هذه المسافة الطويلة تحت تلك الحرارة العالية الدرجة بحاجة إِلى خطة صحيحة، لضمان السلامة، خاصة وانهم كانوا يخافون من ان يقوم الأعراب الذين كانوا ربما يصادفونهم في اثناء الطريق باخبار قريش بهم، ولهذا كانوا يسيرون ليلاً ويستريحون نهاراً.
ويبدو أن شخصاً شاهد النبيّ ومن معه في أثناء الطريق فرجع إِلى مكة وأخبر قريشاً بذلك فخرج «سراقة بن مالك بن جعشم» يطلبهم طمعاً في جائزة قريش الكبرى فلحق برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد صرف قريشاً عن ملاحقة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قبل ذلك ليتفرد بها(37).
يقول ابن الاثير : تبعهم سراقة فلحقهم فقال أبو بكر : يا رسول اللّه ادركنا الطلبُ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : «لا تحزن إِنّ اللّه معنا».
ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : «اللّهم اكفني شرَّ سُراقة بما شئت» فجمع به فرسُه وطرحه أرضاً.
فعلم سراقة أن هذا من دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولهذا قال بنبرة المعتذر الملتمس : يا محمّد هذه إِبلي بين يديك فيها غلامي.
وان احتجت الى ظهرٍ (اي مركوب) أو لبن فخذ منه فقد حكّمتك في مالي.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : لا حاجة لي في مالك(38).
وروى المجلسي ان سراقة قال : فسلني حاجة.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : رُدّ عنّا مَن يطلُبنا من قريش.
فانصَرف سراقة فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم : انصرفوا عن هذا الطريق فلم يمرّ فيه أحد، وأنا اكفيكم هذا الطريق فعليكم بطريق اليمن والطائف.
وهكذا ما كان يمرّ باحد إِلا وصرفه عن البحث عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في هذا الطريق بمثل هذا الكلام.
ثم إِن كُتّاب السيرة من الشيعة والسنّة يذكرون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كرامات كثيرة في طريق مكة - المدينة ونحن ندرج واحدة بعضها :
مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في أثناء الطريق على خيمة اُم معبد وكانت إِمرأة شجاعة فاضلة فنزلوا بخيمتها وطلبوا منها تمراً ولحماً أو لبناً يشترون.
فقالت : ما يحضرني شيء وكانت أغنامها قد اُصيبت بالهزال بسبب الجدب، فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِلى شاة في جانب من الخيمة فقال صلّى اللّه عليه وآله لها : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ قالت : شاة خلّفها الجهدُ من الغنم فقال : هل بها من لبن ؟.
قالت : هي أجهدُ من ذلك، قال : أتأذنين ان أحلبها ؟
قالت : نعم ان رأيتَ بها حلباً فاحلبها.
فدعا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فمسح بيده ضرعَها، وسمّى اللّه عز وجل، ودعا لها في شأنها قائلاً : اللّهم بارك لها في شاتها فدرّت لبناً كثيراً بفضل دعائه صلّى اللّه عليه وآله، فطلب إِناء وحلبها، فسقاها أولاً حتى رُوّيَت ثم سقى أصحابَهُ حتى رووا وشرب هو آخرهم، وقال :
«ساقي القوم آخرهم شرباً».
ثم حلب الشاة مرةً ثانيةً فغادره عندها، ثم ارتحلوا عنها إِلى المدينة(39).
وقد ذُكرت هذه الكرامة في كثير من كتب السيرة والتاريخ، وهو أمر ممكن في رؤية المؤمن باللّه، لأن الدعاء أحدُ الاسباب التي تستطيع أن تؤثر في الطبيعة، وشأنها شأن غيرها من الكرامات التي ورد ذكرها في الكتب الدينية وصدقته التجربة(40).
النزول في قرية قباء :
تقع قرية قباء على ميلين من المدينة على يسار القاصد الى مكة وكانت مساكن «بني عمرو بن عرف» ومركزهم.
ولقد وصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ومن معه إِلى قباء في الثاني عشر من شهر ربيع الاول يوم الاثنين، ونزل على «كلثوم بن الهرم» وهو شيخ من بني عمرو وكان ثمة جمع كبير من المهاجرين والانصار ينتظرون قدومه، ويستخبرون وروده.
ولقد لبث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في قباء إِلى آخر أيام الاسبوع، وقد خط في هذا الفترة مسجداً لقبيلة «بني عمرو بن عوف»، ونصب قبلته(41).
وكان البعض ممن رافق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يصرّ عليه أن يسارع في الدخول إلى المدينة، ولكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان ينتظر ابن عمه علياً.
ويقول : فما أنا بداخلها حتى يقدم ابن اُمّي وأخي، وابنتي (يعني عليّاً وفاطمة عليهما السلام)(42).
وأقام عليّ عليه السلام بمكة ثلاث ليال بايامها، حتى أدّى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الودائع التي كانت عنده للناس فقد وقف عليه السلام على مكان مرتفع في مكة ونادى قائلاً :
«مَن كان لَه قِبلَ محمّد أمانة أو وديعة فليأتِ فنؤدّ إِليه أمانتهُ».
فكان يأتيه من له امانة او وديعة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويذكر علامتها ويأخذها فلما فرغ عليه السلام من اداء الامانات والودائع خرج بفاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وامه فاطمة بنت اسد، وفاطمة بنت الزبير وآخرين ممن لم يكن قد هاجر مكة حتى تلك الساعة، وتوجه بهم نحو المدينة ليلاً سالكاً بها طريقاً في «ذي طوى».
كتب الشيخ الطوسي في اماليه في هذا الصدد يقول : إِن جواسيس قريش عرفت بسفر علي مع تلك الجماعة، فخرجوا لملاحقتهم، لغرض اعادتهم الى مكة، فادركوهم في منطقة «ضجنان».
ووقع بين رجال قريش وبين علي عليه السلام تلاحٍ وتناوش، وأخذ وردّ، ودنا الرجال من النسوة، والمطايا ليثوروها فحال عليّ عليه السلام بينهم، وبينها، ولم يجد عليه السلام طريقاً إِلا أن يدافع عن حرم الاسلام والمسلمين، فشدّ عليهم بسيفه شدّة الأسد الغضِب والليث الغيور وهو يقول مرتجزاً :
خَلُّوا سبيل الجاهد المجاهِد***آليتُ لا أعبُدُ غيرَ الواحِدِ
فلما وجدوا ما به من الجدّ والغضب خافوه وتفرّقوا عنه وقالوا - بنبرة الخائف المتضرع - : إِحبِس عنّا نفسَك يا ابن أبي طالب، فقال عليه السلام :
«فإنّي مُنطَلِق إِلى ابن عمّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بيثرب فمن سرّهُ ان اُفري لحمه واُهريق دمه فليتبعني، وليدنُ مني».
فتركه القومُ وعادوا من حيث أتوا، وواصل الركبُ رحلته باتجاه المدينة.
يقول ابن الاثير : قدم «علي» المدينة وقد تفطّرت قدماه، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله : ادعوا لي عليّاً، قيل : لا يقدر أن يمشي، فأتاه النبيّ صلّى اللّه عليه وآله واعتنقه وبكى رحمةً لما بقدميه من الورم(43).
ولقد قدم رسول اللّه قباء في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، والتحق به علي عليه السلام في منتصف ذلك الشهر نفسه(44)، ويؤيد هذا القول ما ذكره الطبري في تاريخه اذ كتب يقول : واقام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه (وآله) وسلّم الودائع التي كانت عنده الى الناس(45).
المدينة تهبُّ لقدوم النبيّ :
ولقد كان يوم دخول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يوماً عظيماً جداً، ومشهوداً.
فكم ترى ستكون عظيمةً فرحةُ الذين آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله منذ ثلاث سنوات، وظلوا طوال هذه الأعوام يبعثون برسلهم ووكلائهم اليه، ويذكرون اسمه المقدس، ويصلّون عليه في صلواتهم كل يوم، إِذا سمعوا أن
قائدهم ذلك الذي طال انتظارهم اياه، واشتد تشوقهم إِليه كائن عند ميلين من مدينتهم قد نزل في قبا اياماً، وسيقدم اليهم ويدخل مدينتهم بعد ايام ؟ وكم سيكون مبلغُ ابتهاجهم، وأي ابتهاج ترى سيعم كل صغير وكبير ؟
إِنه حقاً لأمر يعجزُ القلم عن بيانه، ويكل اللسان عن وصفه.
ولقد كان لفتية الأنصار وشبابهم الظامئين إِلى الاسلام الحنيف برنامج رائع وعظيم، فقد كانوا عمدوا بغية تطهير جوّ المدينة من ادران الوثنية الى كل صنم في المدينة كان يقدّس ويعبد فاحرقوه وكسّروه، وقد كان كل شريف في بيته صنم يمسحه ويطيّبه، ولكل بطن من الأوس والخزرج صنم في بيت لجماعة يكرّمونه ويطيّبونه، ويجعلون عليه منديلاً ويذبحون له(46).
ولا بأس في أن نذكر نموذجاً من هذا العمل الجليل الذي قام به الانصار في التخلّص من الوثنية :
لما قدم من بايع من الأنصار في العقبة الثانية الى المدينة اظهروا الاسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دين الشرك وعبادة الأوثان منهم «عمرو بن الجموح» وكان من سادات بني سلمة وشريفاً من أشرافهم وكان ابنه «معاذ» بن عمرو قد شهد بيعة العقبة.
وكان عمرو هذا قد اتخذ في داره صنماً من خشب يقال له : مناة، كما كانت الاشراف يصنعون، تتخذه إِلهاً تعظّمه وتطهّره، فلما أسلم فتيان بني سلمة : معاذ بن جبل، وابنه معاذُ بن عمرو بن الجموح كانوا يتسلّلون في الليل إِلى صنم عمرو بن الجموح فيحملونه ويطرحونه في بعض حُفَر بني سلمة ومزابلها، وفيها فضلات الناس وعذرها منكَّساً على رأسه !!
فاذا أصبح عمرو قال : ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة ؟
ثم يغدو يلتمسه حتى إِذا وجده غسله وطهّره وطيّبه. ثم قال للصنم : أما واللّه لو أعلمُ من فعَلَ هذا بك لاُخزينّه !
فاذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه ثانيةً ففعلوا به مثل ما فعلوا به أولاً.
فيغدو فيجدُه في مثل ما كان فيه من الأذى والوسخ فيغسله ويطهّره ويطيّبه، ثم يعدون عليه إِذا امسى فيفعلون به مثل ذلك.
فلما اكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوماً فغسله وطيّبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال : إِنّي واللّه ما أعلم من يصنعُ بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنِع، ودافع عن نفسك فهذا السيف معك.
فلما أمسى ونام عمرو عدَوا على ذلك الصنم فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلباً ميّتاً فقرنوه به بحبلٍ، ثم ألقَوه في بئرٍ من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وفضلاتهم. ثم غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به.
فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلبٍ ميّت، فلما رآه وأبصر شأنه وكلّمه من اسلم من رجال قومه فاسلم، وهجر الوثنية والأوثان وحسُنَ إِسلامه.
فقال حين أسلم وعرف من اللّه ما عرف وهو يذكر صنمه ذلك، وما أبصر من شأنه ويشكر اللّه تعالى الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة :
واللّهِ لو كنتَ إِلهاً لم تكن***أنتَ وكلب وسطَ بئرٍ في قرَن
اُفٍّ لملقاكَ إلهاً مستدَن***الآن فتشناك عن سوءِ الغبن
فالحمد للّه العلي ذي المِنَن***الواهبِ الرزاقِ ديّان الديَن
هُوَ الّذي أنقَذني من قبلِ أن***أكونَ في ظُلمَةِ قبرٍ مرتهَن
بأحمد المهدِي النبيِّ المرتهَن(47)
النبيّ يدخُلُ المدينة :
بعد أن التحق علي عليه السلام ومن معه برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في قباء توجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الى المدينة ولما انحدر من ثنية الوداع (وهي منطقة قريبة من المدينة) وحط قدمه على تراب يثرب استقبله الناس رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، استقبالاً عظيماً ورحّبوا به اعظم ترحيب، وردّد المرحّبون أناشيد الترحيب التالية :
طلَعَ البدرُ علَينا***مِن ثنيات الوَداع
وجبَ الشُّكرُ علَينا***ما دَعا للّهِ داع
أيّها المبعوثُ فينا***جِئتَ بالأمر المُطاع
وكانت بنو عمرو بن عوف قد اجتمعت عنده وأصرّت عليه بأن ينزل في قباء وقالوا : أقم عندنا يا رسول اللّه فإنا أهل الجدّ والجلَد، والحلقة (أي السلاح) والمنعة، ولكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لم يقبل.
وبلغ الأوس والخزرج خروجُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقرب نزوله المدينة فلبسوا السلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته لا يمرّ بحيٍّ من أحياء الانصار إِلا وثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته وأصرّوا عليه بأن ينزل عليهم هذا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول : خَلُّوا سبيلها فانها مأمورة.
واخيراً لما انتهت ناقته - وكان صلّى اللّه عليه وآله قد أرخى زمامَها - إِلى باب المسجد الذي هو اليوم، ولم يكن مسجداً إِنما كان أرضاً واسعة ليتيمين من الخزرج يقال لهما : سهل وسهيل وكانا في حجر أسعد بن زرارة فبركت الناقة على باب «ابي أيوب» خالد بن زيد(48) الانصاري الذي كان على مقربة من تلك الأرض.
فاغتنمت ام أبي ايوب الفرصة فبادرت إِلى رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فحلّته وأدخلته منزلَها، بينما اجتمع عليه الناس ويسألونه أن ينزل عليهم.
فلما أكثروا عليه، وتنازعوا في أخذه قال صلّى اللّه عليه وآله أين الرحل ؟؟
فقالوا : يخوف أم أيوب قد ادخلته في بيتها.
فقال صلّى اللّه عليه وآله : «المرء مع رحله» وأخذ اسعدُ بن زرارة بزمام
الناقة فحوّلها الى منزله(49).
أصل النفاق ومنشؤه :
كانت الأوس والخزرج قد اتفقتا على أن تملّك عبد اللّه بن ابي بن سلول (رئيس المنافقين وكبيرهم) عليهم، وذلك قبل أن تبايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في العقبة وتؤمن به وتعتنق الاسلام، ولكن هذا القرار اُلغي بعد اتصال الأوس والخزرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، من هنا حنق عبد اللّه بن ابي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واضمر له العداوة منذ ذلك الحين، ولم يؤمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِلى آخر حياته، بل كان ينافق باسلامه.
ولما دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المدينة وشاهد عبد اللّه بن اُبي ذلك الاستقبال والترحيب العظيمين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الذي قام بهما الأوس والخزرج، شق عليه ذلك جداً، ولم يستطع اخفاء حنقه وغضبه، وحقده وعداوته للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله !
فعندما انتهى صلّى اللّه عليه وآله إِلى عبد اللّه بن اُبي - وقد أرخى صلّى اللّه عليه وآله زمام ناقته لتبرك حيث تريد، أخذ عبدُ اللّه كمّه ووضعه على أنفه، وقد ثارت الغبرةُ بسبب الزحام وقال للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله بنبرة الحانِق الغاضب : يا هذا إِذهب إِلى الّذين غرَّوك وخدعوك وأتوا بك، فانزل عليهم، ولا تُغشنا في ديارنا !!
فقام سعدُ بن عبادة - وقد خشي أن يسوء رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله هذا الموقف الوقِح الشِرير فقال : يا رسول اللّه لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء، فإنّا كنّا اجتمعنا على ان نملِكَهُ علينا، وهو يرى الآن أنّك قد سلَبتهُ أمراً قد كان أشرفَ عليه(50).
هذا ويتفق عامة المؤرخين وكتّاب السيرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله دخل يثرب يومَ الجمعة، وصلّى صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، وكانت هذه اوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الاسلام فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها في المدينة، وقد تركت هذه الخطبة البديعة البليغة التي لم يسمع اهل المدينة مثيلها لفظاً ومعنى من قبل، أثراً عميقاً وطيّباً في قلوبهم ونفوسهم.
وقد أدرج ابن هشام نصّ الخطبة في سيرته(50) كما أدرجها المجلسي في بحاره(51) أيضاً.
غير أن عبارات ومضامين الخطبة التي نقلها ابن هشام واثبتها في سيرته تختلف عما رواها واثبتها المجلسي، وللاطلاع على ذلك يراجَع المصدران المذكوران.





_____________________________
(1) راجع السيرة الحلبية : ج 2 ص 263 وسبعة الجاحظ في العثمانية.
(2) مثل مؤلّف الطبقات الكبرى : ج 1 ص 227 و228 المولود عام 168 والمتوفى عام 230، وكذا المقريزي في امتاع الاسماع، عند ذكرهم لتفاصيل قضية المبيت.
(3) التاريخ الكامل : ج 2 ص 72.
(4) تاريخ الطبري : ج 2 ص 99.
(5) السيرة النبوية : ج 1 ص 483.
(6) الأمالي : ج 2 ص 84.
(7) المصدر السابق وغيره، هذا مضافاً إِلى أنَّ الامام عليه السلام نفسه قد استنشد المسلمين مراراً بهذه القضية مستدلاً بها على تفانيه في سبيل الاسلام.
(8) بحار الأنوار : ج 19 ص 39 نقلاً عن احياء العلوم للغزالي.
(9) راجع كتاب علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة وخاتم الخلافة، ص 103 - 105 ملخّصاً.
(10) التوبة : 40.
(11) الكامل في التاريخ : ج 2 ص 73 مع تصرف.
(12) أمالي الشيخ : ج 2 ص 82.
(13) الكامل : ج 2 ص 73، السيرة الحلبية : ج 2 ص 53.
(14) السيرة الحلبية : ج 2 ص 35.
(15) السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ص 491.
(17) الكامل في التاريخ : ج 2 ص 75.
(18) تاريخ الطبري : ج 2 ص 104.
(19) وهو العام الذي سيّر فيه أبرهة جيشاً لهدم الكعبة تتقدمه الفيلة. راجع المحبّر : ص 5 - 8.
(20) البقرة 189 ومطلعها : «يسألونك عن الأهلة قل : هي مواقيت..».
(21) اخبار اصفهان تأليف ابي نعيم : ج 1 ص 52 و53.
(22) فتوح البلدان : ص 72.
(23) مكاتيب الرسول : ص 289 نقلاً عن شرح ملا علي القاري لشفاء القاضي عياض، وكذا الوثائق السياسية.
(24) الاموال : طبعة مصر ص 297.
(25) التراتيب الادارية : ج 1 ص 181 نقلاً عن السيوطي.
(26) مقدمة الصحيفة السجادية، سفينة البحار : ج 2 ص 641.
(27) مجمع الزوائد : ج 9 ص 190.
(28) تاريخ الخميس : ج 1 ص 367.
(29) نفس المصدر : ج 1 ص 368.
(30) المغازي : ج 2 ص 531 تحقيق الدكتور مارسدن جونس.
(31) المغازي : ج 2 ص 531.
(32) المغازي : ج 2 ص 534.
(33) فتح الباري : ج 7 ص 208، تاريخ الطبري : ج 2 ص 288 طبعة دار المعارف.
(34) مستدرك الحاكم : ج 3 ص 13 و14 وقد صححه على شرط مسلم.
(35) البداية والنهاية : ج 7 ص 73 و74، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 12 ص 74، الكامل لابن الاثير : ج 1 ص 10.
(36) وقد رأيت أنا شخصياً رسالةً من شيخ الجامع الأزهر الاسبق هو الشيخ محمود عبد الحليم وعليها التاريخ الميلادي فحسب !!
(37) يستخدم في ايران تاريخ هجري آخر هو التاريخ الهجري الشمسي وهو ينفع لمعرفة الفصول وما شاكل ذلك.
(38) التاريخ الكامل : ج 2 ص 105.
(39) يذكر كثير من المؤرخين كابن الاثير في الكامل : ج 2 ص 105، والمجلسي في البحار : ج 19 ص 75 - 88 القصة كما نقلناها هنا، ولكن مؤلف حياة محمّد يقول : ان سراقة تطيّر لما كبا به فرسُه واُلقي في روعه أن الآلهة مانعة منه ضالّته.
(40) بحار الأنوار : ج 19 ص 75.
(41) بحار الأنوار : ج 18 ص 43 وج 19 ص 99 - 103، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 230 و231، تاريخ الخميس : ج 1 ص 333، اسد الغابة : ج 1 ص 377.
(42) تاريخ الخميس : ج 1 ص 338.
(43) الفصول المهمة لابن صباغ المالكي : ص 35 دون ان يذكر اسماً، وامالي الشيخ الطوسي : ج 2 ص 83.
(44) الكامل في التاريخ : ج 2 ص 106.
(45) إِمتاع الأسماع : ص 48 وعلى هذا تكون محاصرة بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد تمّت ثلاث ليال قبل شهر ربيع الاول من السنة الاُولى من الهجرة، وقد خرج النبيّ من داره ليلة الاثنين ودخل غار ثور وبقي ماكثاً فيه ثلاثة أيام، وخرج منه ليلة الخميس اول ربيع الاول وتوجه نحو المدينة ووصل قباء في الثاني عشر منه راجع تاريخ الخميس : ج 1 ص 337 - 338.
(46) تاريخ الطبري : ج 2 ص 382.
(47) بحار الأنوار : ج 19 ص 107.
(48) اسد الغابة : ج 4 ص 99.
(49) بحار الأنوار : ج 19 ص 108 ولكن ذهب البعض كصاحب الكامل في التاريخ الى أنهما كانا في حجر معاد بن عفراء.
(50) تاريخ الخميس : ج 1 ص 341.
(51) بحار الأنوار : ج 19 ص 108.
(52) السيرة النبوية : ج 1 ص 500 و501.
(53) بحار الأنوار : ج 19 ص 126.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page