• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة
64 الكتابُ الذي لم يُكتب
تُعدُّ الأيام الآخيرة من حياة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله من اكثر حقول التاريخ الاسلامي أهميّة وحساسية ودقة.
لقد مرّ الاسلام والمسلمون في تلك الايام بساعات مؤلمة، وحرجة.
إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة لاوامر النبي صلّى اللّه عليه وآله وتخلّفهم عن جيش اُسامة كلُ ذلك كان يكشف عن نشاطات سرية تنبئ عن عزمهم المؤكد على الاستيلاء على زمام الحكومة والإمارة والقيادة السياسية في المجتمع الاسلامي بعد رحيل النبي صلّى اللّه عليه وآله وإزاحة الخليفة الذي نصبه رسول اللّه صلّى الله عليه وآله في الغدير للإمارة عن مسند الحكم.
ولقد كان النبي صلّى اللّه عليه وآله نفسه عارفاً بنواياهم على نحو الاجمال ولهذا كان يصرّ على خروج جميع أعيان الصحابة في جيش اسامة ومغادرة المدينة فوراً لمقاتلة الروم، لكي يعطل بذلك خطتهم.
ولكن دهاة السياسة اعتذروا عن الخروج مع اُسامة بحجج ومعاذير معينة، لكي يستطيعوا من تنفيذ خططهم بل وعرقلوا مسير الجيش المذكور حتى توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
فعادوا إلى المدينة - بعد توقّف دام 16 يوماً - على أثر تدهور صحة النبي واحتضاره، فلم يتحقق ما كان يريده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من تفريغ المدينة منهم، فلا يكون أحد منهم فيها يوم وفاته ليستطيع خليفته المنصوب للامارة
يوم غدير خم (نعني الامام علياً) من تسلم زمام الحكم دون منازع ومزاحم من المعارضين السياسيين.
إنهم لم يكتفوا فقط بالعودة إلى المدينة بل حاولوا أن يحولوا دون أي عمل من شأنه أن يؤدي إلي دعم وتثبيت منصب الامام علي وخلافته لرسول اللّه بلا فصل، فحاولوا منع النبي صلّى اللّه عليه وآله وصرفه عن البحث في هذه المسألة بشتى الوسائل، والسبل.
فعمد رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله الذي عرف بنشاط بعض زوجاته من بنات بعض اُولئك الصحابة، المشين، عمد إلى الخروج إلى المسجد مع ما كان عليه من الحمّى والوجع، ووقف إلى جانب المنبر وقال للناس بصوت عالٍ سُمِع خارج المسجد:
«أيُّها الناسُ سُعّرت النار، وأقبَلت الفتَن كقِطَع الليل المظلم، وإنّي واللّه ما تمسَّكون عليّ بشيء، اني لم اُحلّ إلا ما أحلّ اللّه، ولم اُحرّم إلا ما حرّم اللّه»(1).
إنّ هذه العبارة تكشف عن القلَق الشديد الذي كان يحمله النبي صلّى اللّه عليه وآله على مستقبل الاسلام بعد وفاته، فما هو المقصود - تُرى - من النار التي سعرت؟
أليس هي فتنة الاختلاف والافتراق التي كانت تنتظر المسلمين، والتي اشتعلت بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتعالى لهيبها، ولا يزال ذلك اللهيب مشتعلاً، وتلك النار مستعرة؟!
إيتوني بقلم وقرطاس:
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يعرف بما يجري من نشاطات خارج منزله للسيطرة على مقاليد الحكم، ولهذا قرر بغرض الحيلولة دون انحراف مسألة الخلافة من محوره الأصلي والحيلولة دون ظهور الاختلاف والافتراق - أن يدعم مكانة عليّ ويعزز امارته وخلافته وخلافة أهل بيته، وذلك بأن يثبت الأمر في وثيقة حيّة وخالدة تضمن بقاء الخلافة في خطها الصحيح.
من هنا يوم جاء بعض الصحابة لعيادته اطرق برأسه إلى الارض ساعة ثم قال بعد شيء من التفكير وقد التفت اليهم:
«إيتُوني بدواة وصحيفة اكتُبُ لكم كتاباً لا تضلون بعده».
فبادر عمر وقال: ان رسول اللّه قد غلبه الوجعُ، حسبنا كتابُ اللّه(1).
فناقش الحاضرون رأي الخليفة، فخالفه قوم وقالوا: هاتوا بالدواة والصحيفة ليكتب النبي ما يريد، وناصر آخرون عمر وحالوا دون الاتيان بما طلبه النبي، ووقع تنازع بينهم وكثر اللغط فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بشدة لتنازعهم ولما وجّه اليه من كلمة مهينة، وقال:
«قُومُوا عني لا ينبغي عندي التنازعُ».
قال ابنُ عباس بعد نقل هذه الواقعة المؤلمة المؤسفة: «الرزيّة كلُّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كِتاب رسول اللّه»(2).
إن هذه الواقعة التاريخية قد نقلها فريق كبير من محدثي الشيعة والسنة ومؤرخيهم وتعتبر روايتها - حسب قواعد فنّ الدراية والحديث - من الروايات المعتبرة الصحيحة غاية ما في الأمر ان اغلب محدّثي أهل السنة نقلوا كلام «عمر» بالمعنى لا باللفظ، ولم يورد نص الكلمات الجارحة النابية التي نطق بها في ذلك
المجلس المقدس.
ولا يخفى أن الإحجام عن نقل نص عبارته ليس لأجل أن العبارات التي تفوه بها تعدّ إهانة لمقام النبوة، بل ان هذا التصرف لأجل الحفاظ على مقام الخليفة ومكانته حتى لا يسيء الآخرون النظرة إليه اذا عرفوا بما قاله في حق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
من هنا عندما بلغ أبو بكر الجوهري مؤلف كتاب «السقيفة» في كتابه إلى هذا الموضع من القضية قال عند نقل كلام عمر هكذا: وقال عمر كلمة معناها أن الوجَع قد غلب على رسول اللّه(1).
ولكن بعضاً آخر عندما يريد نقل ما قاله الخليفة لا يصرّح باسمه حفظاً لمقامه فيقول: فقالوا: هجر رسولُ اللّه(2).
إن من المسلّم ان مثل هذه العبارة الجارحة النابية لو صدرت عن أي شخصية مهما كان مقامها لعُدَّت ذنباً لا يُغتفر لأن النبي صلّى اللّه عليه وآله بنص القرآن مصون من أي نوع من انواع الخطأ والاشتباه والهذيان فهو لا ينطق إلا بالوحي.
إن اختلاف الصحابة لدى رسول اللّه الطاهر المعصوم صلّى اللّه عليه وآله وفي محضره كان عملاً سيئاً، ومشيناً إلى درجة أن احدى أزواجه صلّى اللّه عليه وآله اعترضت على هذه المخالفة وقالت من وراء حجاب: ألا تسمعون النبي صلّى اللّه عليه وآله يعهدُ؟ إِئتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بحاجته.
فقال عمر: اسكتن فانكن صويحبات يوسف. اذا مرض عصرتُنَّ اعيُنكنَّ. واذا صحّ أخذتُنَّ بعنُقه(3).
ان بعض المتعصبين وان التمسوا لمخالفة الخليفة لطلب النبي أعذاراً(1) في الظاهر إلا انّهم خطّأوا كلامه الذي قال فيه «حسبنا كتاب اللّه»، واعتبروه كلاماً غير صحيح، وصرّحوا جميعاً بأن الركن الاساسي للاسلام هو السنة النبوية، ولا يمكن أن يغني كتابُ اللّه الامة الاسلامية عن احاديث رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله واقواله.
ولكن الاعجب من كل ذلك أن الدكتور «هيكل» مؤلف كتاب «حياة محمَّد»(2) ضمن دفاعه عن الخليفة كتب يقول: ما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنهم أضاعُوا شيئاً كثيراً بأن لم يسارعوا إلى كتابة ما أراد إملاءه. أمّا عمر فظلّ ورأيُه أن قال اللّه في كتابه الكريم: «ما فَرَّطنَا في الكتابِ مِن شَيء»(3).
فلو أنه لاحظ ما قبل هذه الجملة القرآنية وما بعدها لما فسرها بمثل هذا التفسير، ولما أيّد الخليفة في مقابل نصّ النبي المعصوم المطاع، لأن المقصود من الكتاب في الآية هو الكتاب التكويني، وصفحات الوجود، فان لكل نوع من الانواع في عالم الوجود صفحة من كتاب الصنع، وتشكل كل الصفحات غير المعدودة كتاب الخليقة والوجود واليك نص الآية:
«وَمَا مِن دَابَّة في الارض وَلا طَائر يَطيرُ بجَناحَيه إلا أُمم أمثَالكُم ما فَرَّطنا في الكتاب مِن شيء ثُمَّ إلى ربِّهم يُحشرُونَ»(4).
وحيث أن ما قبل الجملة التي استُدل بها يرتبط بخلقة الدواب والطبور، ويرتبط ما بعدها بموضوع الحشر في يوم القيامة يمكن القول بصورة قاطعة بان المراد من الكتاب في الجملة المستدل بها والذي لم يفرَّط فيه من شيء هو الكتاب التكويني، وصفحة الخلق.
ثم اننا لو قبلنا بأن المقصود من الكتاب هو القرآن الكريم فان من المسلّم أن فهم هذا الكتاب - وبحكم تصريحه - يحتاج إلى بيان النبي وهدايته كما يقول:
«وأنزلنا إليك الذِكر لتبيّن للناس ما نزل اليهم»(1).
تأمل في هذه الآية فانها لاتقول «لتقرأ» بل تقول بصراحة: «لتبيّن».
وعلى هذا الاساس اذا كان كتاب اللّه كافياً لم نحتج إلى توضيح النبي وبيانه احتياجاً شديداً(2).
ولو كان حقاً أن الامة الاسلامية لا تحتاج إلى النبي فلماذا كان حبر الامة وعالمها الكبير ابن عباس يقول: يومُ الخميس وما ادراك ما يوم الخميس ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خده كأنها نظام اللؤلؤ وقال: قال رسول اللّه ايتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة اكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً... فقالوا...(3).
فمع هذا الحزن الذي كان يبديه ابن عباس، مضافاً إلى الاصرار الذي أظهره رسولُ اللّه كيف يمكن القول بان القرآن يغني الاُمة الاسلامية من هذه الوصية (أو الكتاب) الذي كان النبي يريد كتابته.
والآن إذا كان النبي لم يوفق لكتابة الكتاب واملائه فهل يمكن ان نَحدس - في ضوء القرائن القطعية - ماذا كان ينوي النبيّ كتابته في هذه الرسالة؟
ماذا كان الهدف من الكتاب؟
إن الطريقة الجديدة والقويمة في تفسير القرآن الكريم التي اصبحت اليوم موضع عناية المحققين والعلماء في هذا العصر هو رفع إبهام الآية واجمالها في موضوع معين بواسطة آية اُخرى تتحدث عن ذلك الموضوع ذاته ولكنها أوضح من الاولى دلالة ومفاداً، وبعبارة اُخرى الاستعانة في تفسير آية بآية اُخرى.
إن هذه الطريقة لا تختصُّ بتفسير آيات القرآن بل تنسحب على الأحاديث والروايات الاسلامية أيضاً اذ يمكن رفع الاجمال عن حديث بحديث مشابه، لأن القادة الكبار يتحدثون في موضوع مهمّ وخطير بصورة مؤكدة ومكررة لا تتشابه ولا تتحد في دلالتها، فقد تكون دلالتها على الآية واضحة وقد يكون بيان المقصود فيها بالاشارة والكناية حسب المقتضيات.
قلنا ان النبي صلّى اللّه عليه وآله طلب من اصحابه وهو في فراش المرض دواة وصحيفة ليملي عليهم شيئاً لا يضلّون بعده أبداً ثم تسبب التنازع الذي حدث بين الحاضرين في ان ينصرف من كتابة ما اراد.
يمكن أن يسأل سائل: ماذا كان يريدُ رسول اللّه صلّى عليه وآله كتابته في ذلك الكتاب.
إن الاجابة على هذا السؤال واضحة لأنه مع أخذ الأصل الذي ذكرناه في مطلع البحث بنظر الاعتبار يجب القول بأن هدف النبي لم يكن الا تعزيز الوصيّة ودعم خلافة الامام أمير المؤمنين عليّ عليه السَّلام وامرته والتاكيد على لزوم اتباع اهل بيته الذي صرح به النبي صلّى اللّه عليه وآله في الغدير وغيره.
وهذا المطلب يستفاد من حديث الثقلين المتفق عليه بين محدثي السنة والشيعة، لأن النبي صلّى اللّه عليه وآله قال في شأن الكتاب الذي نوى كتابته:
انه يبتغي كتابة شيء لا يضلون بعده ابداً. وقد جاءت هذه العبارة بعينها في حديث الثقلين اذ يقول رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله معتبراً عدم الضلال بعده معلولاً لاتباع الكتاب والعترة اذ قال:
«إنّي تارك فيكمُ الثقلين ما إن تمسكتُم بهما لَن تضِلّوا: كتابَ اللّه وعترتي أهلَ بيتي»(1).
ألا يمكن بعد ملاحظة هذين الحديثين والتشابه الموجود بينهما الحدسُ - بصورة قطعية - بان ما كان يهدفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من طلب الدواة والصحيفة هو مفاد كتابة حديث الثقلين، أو ما هو أعلى ممّا يفيده حديث الثقلين وهو تعزيز ودعم ولاية الامام علي عليه السَّلام وخليفته مباشرة وبلا فصل وهو الذي عيّنه للإمارة والخلافة في الثامن عشر من شهر ذي الحجة عند مفترق طرق الحجاج المدنيين والعراقيين والمصريين والحجازيين وأعلن عن ذلك بصورة شفاهية.
هذا مضافاً إلى أن مخالفة من شكّل شورى الخلافة في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ورشح رفيقه القديم للخلافة بصورة خاصة بعد رحيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى ربّه، وحصل هو بدوره على اُجرته عند موت الأوّل بصورة نقدّية وعينه للخلافة خلافاً لجميع القواعد والاصول، خير شاهدٍ على أن القرائن التي كانت في مجلس النبي وكلامه كانت تكشف عن أن النبي صلّى اللّه عليه وآله كان يريد أن يملي على كاتبه امراً يتعلق بخلافة المسلمين والامارة والقيادة التي اثبتها لعلي واهل بيته الطاهرين في احاديثه وخطبه.
ولهذا خالف القوم الحضور هذا المطلب بشدة وحالوا دون الاتيان بالقلم والقرطاس بوقاحة، وخالفوا كتابة شيء، وإلا فلماذا أصرّوا في مخالفتهم... وارتكبوا ما ارتكبوا.
لماذا لم يصرُّ النبي في كتابة الكتاب؟
كان في إمكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله رغم معاكسات جماعة من أصحابه أن يطلب كاتبه ويكتب الكتاب الذي كان يريد، فلماذا لم يتصرف هكذا، ولم يستغل مكانته القويّة بل امتنع عن ذلك؟
إن الاجابة على هذا السؤال واضحة: فلو أن النبي كان يصرّ على كتابة الكتاب لأصرّوا في الاساءة الى النبي الذي قالوا عنه انه غلبه الوجع أو هجر،
ولعمد أنصارهم إلى اشاعة وبثّ هذا الأمر الرخيص، وصنعوا لاثباته الافاعيل فكانت تتسع رقعة الاساءة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في هذه الحالة وتستمرّ، فتفقد الرسالة أثرها المنشود.
من هنا عندما قال البعض للنبي - ملافاة لما لحق به من الأذى - أبعد الذي قلتم؟ فقال:
«أبعد الذي قلتم؟ لا ولكن اُوصيكم بأهل بيتي خيراً»(1).
ملافاة الأمر وتداركه:
إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة وإن صرفت النبي عن الكتابة إلاّ انه بلّغ مقصوده من طريق آخر، فهو - بشهادة التاريخ - بينما كان يعاني المرض، والوجع الشديدين، خرج إلى المسجد وهو متوكئ على «علّي بن أبي طالب» و «ميمونة» مولاته فجلس على المسجد ثم قال:
«يا أيّها الناسُ إني تارك فيكم الثقلين».
وسكت، فقام رجل فقال: يا رسولُ اللّه ما هذان الثقلان؟ فغضب حتى احمرّ وجهُه ثم سكن، قال:
«ما ذكرتهما إلا وأنا اُريد أن أخبرَكم بهما ولكن رَبوتُ فلم استطع، سبب طرفه بيد اللّه، وطرف بأيديكم، تعلمون فيه كذى، ألا وهو القرآن، والثقل الأصغر أهل بيتي».
ثم قال:
«وأيمُ اللّه إني لأقولُ لكم هذا ورجال في اصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم».
ثم قال:
«واللّه لا يحبُّهم عبد إلا أعطاهُ اللّه نوراً يومَ القيامة حتى يرد عليَّ الحوض، ولا يبغضهُم عبد إلا احتجب اللّه عنه يوم القيامة»(1).
هذا وقد روى ابن حجر العسقلاني تدارك ما فات بصورة اُخرى، ولا تنافي بين الصورتين، اذ يمكن وقوع كليهما.
انه يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لاصحابه وقد امتلأت بهم الحجرة وهو في مرضه الذي قبض فيه:
«أيّها الناس يوشَك أن اُقبض قبضاً سريعاً، فيُنطلَق بي، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلف فيكم كتاب اللّه ربي عزّ وجل وعترتي أهل بيتي».
ثم أخذ بيد علي عليه السَّلام فقال:
«هذا عليُّ مع القرآن والقرآنُ مع علي، خليفتان نصيران، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألهُما ماذا خلّفت فيهما»(2).
فمع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ذكر حديث الثقلين(3) قبل مرضه في مواضع متعددة وبألفاظ مختلفة، ولفتَ نظر الناس إلى أهميّة هذين الثقلين، ولكنه لفت الأنظار مرة اُخرى وهو في فراش المرض أمام جمع اصحابه الذين حالوا دون كتابة ما اراد إلى عدم افتراق القرآن والعترة يمكن الحدسُ بأن الهدف من التكرار هو تدارك ما فات من كتابة الكتاب الذي لم يُوفَق لكتابته.
تقسيم الدنانير:
دأبَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في مجال بيت المال أن يوزع امواله في أقرب فرصة سانحة بين الفقراء والمحتاجين.
وعندما كان في فراش المرض تذكّر أن هناك دنانير عند إحدى زوجاته فطلبها فوراً، فأحضرتها عنده فأخذها صلّى اللّه عليه وآله بيده وقال:
«ما ظنُّ محمَّد باللّه لو لقي اللّه وهذه عنده؟ انفقيها».
ثم أمر علياً عليه السَّلام فتصدّق بها(1).
غضب النبي من الدواء الذي سقي:
لما كانت أسماء بنت عميس وهي من قريبات «ميمونة» زوجة النبي صلّى اللّه عيه وآله، والتي اقامت ايام الهجرة زمناً في الحبشة تعلمّت من أهلها صنع عقار مركب من النباتات والاعشاب المختلفة، فلما اشتكى واُغمي عليه تصورت ان الذي دهاه هو داء: «ذات الجنب»، وكانوا في الحبشة يداوون هذا المرض بذلك العقار، فعمدت إلى معالجته بذلك الدواء، بصبُ شيء منه في فم النبي صلّى اللّه عليه وآله ولما أفاق وعرف بما صنعوا غضب وقال:
«ما كان اللّه ليسلِّطَ عليّ ذاتَ الجَنب»(2).
وداع النبي مع أهله:
خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في أيام مرضه إلى مسجده مراراً يصلّي بالناس، ويذكّرهم اموراً.
وذات يوم من أيام مرضه اُخرج الى مسجده معصوب الرأس متكئاً على
«علي» عليه السَّلام بيمنى يديه وعلى الفضل باليد الاُخرى فصعد المنبر فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال:
«أما ايها الناس فان قد حان مني خُفوق بين اظهركم فمن كانت له عندي عدة فليأتني أعطه اياها، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به».
فقام اليه زجل فقال: يا رسول اللّه ان لي عندك عدة، اني تزوجتُ فوعدتني ان تعطيني ثلاثة أواقي.
فقال صلّى اللّه عليه وآله انحلها يا فضل ثم نزل وعاد إلى بيته.
فلما كان يوم الجمعة - ثلاثة ايام قبل وفاته - صعد المنبر فخطب وقال فيما قال:
«أيُّ رجل كانت له قِبَل محمَّد مظلمة إلا قام فالقصاص في دار الدنيا أحبُّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والاشهاد».
فقام اليه رجل يقال له سوادة بن قيس فقال: انك لما اقبلت من الطائف استقبلتك وانت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وانت تريد الراحلة فأصاب بطني.
فقال صلّى اللّه عليه وآله لبلال: قم الى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق.
ان طلب النبي صلّى اللّه عيه وآله هذا بأن يقتص منه من له ذلك لم يكن مجرد مجاملة اخلاقية بل كان صلّى اللّه عليه وآله يريد ان ينبه الناس إلى أهمية مثل هذه الحقوق جداً (1) ولما اُتي بالقضيب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال صلّى اللّه عليه وآله: اين الشيخ؟ قال سوادة: ها انا ذا يا رسول اللّه بأبي انت واُمي فقال صلّى اللّه عليه وآله:
«فاقتصَّ مِنّي حتى ترضى».
فقال سوادة: فاكشف لي عن بطنك.
ثم انه وسط دهشة الصحابة وحزنهم وغمهم وبكائهم تقدم سوادة إلى النبي وقال: اتأذن لي ان اضع فمي على بطنك؟ فأذن له، فقال اعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه، وقبّلَ بطن النبي وصدره الشريف. فدعا له رسول اللّه وقال: اللَّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيك محمَّد(1).






_____________________
(1) مناقب آل أبي طالب: ج 1 ص 235.
(2) السيرة النبوية: ج 2 ص 654، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 215 و 216.
(3) الملل والنحل: ج 1 المقدمة الرابعة ص 22. طبعاً لم يكن الهدف من «اكتب» أن يكتب النبي بيده ذلك الكتاب فالنبي لم يكتب شيئاً في حياته أبداً كما هو مبحوث في ابحاث اُمية النبي بل المقصود هو الإملاء على كاتب.
(4) صحب البخاري كتاب العلم: ج 1 ص 22 و ج 2 ص 14، صحيح مسلم: ج 2 ص 14 مسند أحمد: ج 1 ص 325، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 244، الملل والنحل: ج 1 ص 22.
(5) شرح نهج البلاغة الحديدي: ج 2 ص 20.
(6) صحيح مسلم: ج 1 ص 14، مسند أحمد: ج 2 ص 355.
(7) كنز العمال: ج 3 ص 138، الطبقات الكبرى: ج 2 ص 244. وفي الطبقات: ان النبي قال (في الرد على عمر) هنَّ خير منكنَّ.
(8) رد العلامة المجاهد السيد شرف الدين في كتاب المراجعات، المراجعة 86 جميع هذه الاعذار بصورة رائعة.
(9) حياة محمَّد: ص 501.
(10) الانعام: 38.
(11) الانعام: 38.
(12) النحل: 44.
(13) ان بيان مدى حاجة القرآن إلى بيان النبي خارج عن نطاق هذه الرسالة، فاطلبه في محله.
(14) مسند احمد: ج 1 ص 355. صحيح البخاري: كتاب الجزية ج 4 ص 65 و 66.
(15) صحيح الترمذي: ج 5 ص 328 ج 3874 جامع الاصول: ج 1 ص 187 راجع المراجعات: المراجعة 8.
(16) بحار الأنوار: ج 2 2 ص 469 نقلاً عن الارشاد واعلام الورى.
(17) بحار الأنوار: ج 22 نقلاً عن مجالس المفيد.
(18) الصواعق المحرقة: الباب 9 من الفصل الثاني ص 57 وكشف الغمة: ص 43.
(19) حديث الثقلين من الروايات المتفق عليها بين الشيعة والسنة وقد نقل عن الصحابة باكثر من 60 طريقاً يقول ابن حجر العسقلاني في الصواعق ص 136: وقد خصص المرحوم مير حامد حسين الهندي قسماً من موسوعته «العبقات» بذكر اسناده حديث الثقلين ودلالته. وقد طبعت في ستة أجزاء مؤخراً.
(20) الطبقات الكبرى: ج 2 ص 238 و 239.
(21) الطبقات: ج 2 ص 235.
(22) هذا مضافاً إلى ان ضرب بطن سوادة بالقضيب من قِبَل النبي لم يكن عمداً ولهذا لم يكن له الحق إلا في اخذ الدية دون القصاص، مع ذلك أراد النبي أن يلبي طلبه لما قال اُريد ان اقتص.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page