كان الإمام يدرك انّ الخطر القادم يكمن في الشام حيث يمارس معوية بن أبي سفيان سياسته المشبوهة في غسل الادمغة ، وتزوير الحقائق ، وتوجيه الرأي العام الجهة التي تخدم مصالحه وتحقق طموحاته الشخصية ومن هنا اختار الإمام الكوفة عاصمة جديدة للدولة الإسلامية لموقعها الاستراتيجي ووفرة مواردها الاقتصادية غادر أمير المومنين عليه السلام مدينة البصرة بعد أن عيّن عليها والياً جديداً هو عبد الله بن عباس ، وفي البصرة قال كلمته الخالدة :
ارضكم قريبة من الماء بعيدة عن السماء والتي اثارت التساؤلات لدى سامعيها عقوداً طويلة من الزمن (1) .
واتجه الإمام إلى الكوفة فهمس وقد لاحت من بعيد باسقات النخيل : ويحك يا كوفان ؛ ما اطيب هواءك واغذى تربتك الخارج منك بذنب ، والداخل منك بذنب والدخل اليك برحمة ؛ لا تذهب الأيام والليالي حتى يجيء اليك كل مؤمن ، ويبغض المقام بك كل فاجر ، وتعمرين حتى ان الرجل من أهلك ليبكّر إلى الجمعة فلا يلحقها من بعد المسافة .
وقد وصل الإمام الكوفة يوم الاثنين الثاني والعشرين من رجب سنة 36 هـ (2) .
وعرض على الإمام أن ينزل في قصر الامارة فرفض قائلاً : هذا قصر الخبال لا حاجة لي في نزوله .
واتجه إلى المسجد الأعظم فصلّى فيه ركعتين وفي يوم الجمعة القى الإمام خطاباً وعظياً حذّر فيه المؤمنين من الدنيا جاء فيه : أوصيكم عباد الله بتقوى الله احذروا من الله ما حذّركم من نفسه واشفقوا من عذاب الله ، فانه لم يخلقكم عبثاً ، ولم يترك شيئاً من امركم سدىً قد سمّى آثاركم وعلم اسراركم احصى اعمالكم ، وكتب آجالكم فلا تغرّنكم الدنيا فانها غرارة لاهلها ، والمغرور من اغترّ بها ، وإلى فناء ما هي ، وان الدار الآخرة هي دار القرار (3) .
**********
(1) كتب عبد الحميد ابي الحديد يقول : « اما قوله عليه السلام ( بعيدة عن السماء ) فان ارباب علم الهيئة وصناعة التنجيم يذكرون أن ابعد موضع في الأرض عن السماء «الأبلّة » وذلك موافق لقوله عليه السلام .
ومعنى البعد عن السماء ها هنا هو : بعد تلك الأرض عن دائرة معدّل النهار وقد دلّت الارصاد والآلآت النجومية على أن ابعد موضع في المعمورة عن دائرة معدّل النهار هو الأبلّة هي قصبة في البصرة » .
واضاف يقول : « وهذا من خصائص أمير المؤمنين عليه السلام لأنه اخبر عن أمر لا تعرفه العرب ولا تهتدي اليه وهو مخصوص بالمدققين من الحكماء ، وهذا من اسراره وعجائبه »| شرح نهج البلاغة 1 : 268 .
(2) 14 كانون الثاني 657 م .
(3) من يتأمل في نهج البلاغة وهو يضم آثار الإمام يلمس بوضوح نهج الإمام في محاولة اعادة الروح إلى الضمير المسلم من خلال تجسيد سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قولاً وعملاً .