طباعة

مهزلة التحكيم :

كان لظهور المصاحف على الرماح (1) الأثر البالغ في شلّ العمليات الحربية ، وبدأت كلمات الاستنكار تشق طريقها ترشق الذين يريدون للحرب أن تستمر ، وما اسرع أن ظهر تيار عنيف يدعو إلى وقف القتال فوراً ، وحدث انشقاق خطير في صفوف جيش الخلافة ما لبث أن تحول إلى كتلة عسكرية تهدد وتوعد القيادة العليا وبذل الإمام قصارى جهده في توضيح خفايا « اللعبة » قائلاً : عباد الله ! امضوا على حقكم وصدقكم في قتال عدوكم ، فان معاوية وعمرو بن العاص وابن ابي معيط وحبيب بن مسلمة وابن ابي سرح والضحاك بن قيس  ليسوا باصحاب دين ولا قرآن .
انا اعرف بهم منكم قد صبحتم اطفالاً ، وصحبتهم رجالاً فكانوا شر اطفال وشر رجال .
ويحكم ! انهم ما رفعوها لكم إلا خدعة ومكيدة ! غير أن الذين لا يدركون من الامور إلا مظاهرها الفارغة قد جعلوا اصابعم في آذانهم واصمّوا اسماعهم ، وازدادوا عنفاً وشراسة فاحدقوا بالإمام وقد برع الشرّ في عيونهم (2) .
وقد حدث تماسك مدهش في صفوف أهل الشام اثر ارتفاع ذلك الشعار البرّاق في مقابل تمزّق مريع في جيش الإمام .
كان الجناح الأيمن بقيادة مالك الأشتر ما يزال يقاتل بضراوة ويتقدم نحو احراز النصر النهائي في خطى واسعة ، ولكن التصدّع كان قد عمّ جبهة الإمام مما انذر بوقوع انهيار عام ؛ ومن تلك اللحظات المثيره بدأت مأساة الإسلام وانهيار الحضارة (3) .
وازدادت الأمور سوءً بعد أن اصبح الإمام في قبضة تلك الطغمة من الحمقى ، وبات على القائد الأعلى للقوّات المسلحة أن يستجيب إلى مواقفهم ، وها هو الإمام يتعجّب من ذلك فيقول : لقد اصبحت الامم تخاف ظلم رعاتها ؛ واصبحت اخاف ظلم رعيتي .
ومن تلك اللحظة شعر الإمام بأن البطل سوف يكسب الجولة الى حين : اما والذي نفسي بيده : ليظهرن هؤلاء القوم عليكم ، ليس لانهم أولى بالحق منكم ، ولكن لاسراعهم إلى باطل صاحبهم ، وابطائكم عن حقي » وأخذ تيار التمرّد يتصاعد بشكل مخيف لينذر بوقوع كارثة بعد ان اطلقت تهديدات بقتل الإمام إذا لم يصدر أوامره الى الاشتر بوقف العمليات الحربية والانسحاب فوراً .
وهكذا توفقت المعارك في صفين ونشطت الفود للاعداد من اجل توقيقع وثيقة التحكيم .

*********
(1) رفع ما يقارب من خمسمئة مصحف ! وعلت هتافات في معسكر الشام تدعوا الى السلام ووقف نزيف الدم
(2) يصف الإمام تلك اللحظات الرهيبة بقوله : فتداكّوا على تداكَّ الابل الهيم ، يوم وردها وقد ارسلها راعيها وخلعت مثنيها حتى ظننت انهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لديّ | نهج البلافة الخطبة رقم 54 .
(3) وفي هذا يقول الإمام : صاحبكم يطيع الله وانتم تعصونه ، وصاحت أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه !
وتبلغ مرارة الإمام الذروة عندما يقول : « لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ مني عشرة منكم واعطاني رجلاً منهم ! » .