طباعة

وَمُنْتَهَى الْحِلْمِ

إلاّ في كتاب مبين وهو في علمهم وقد علموا ذلك .
    فقلت : ياسيّدي قد علمت ذلك وأقررت به وآمنت .
    قال : نعم يامفضّل ، نعم يامكرّم ، نعم يامحبور ، نعم ياطيّب ، طبت وطابت لك الجنّة ولكلّ مؤمن بها (1) .
(1) ـ المنتهى على وزن منتدى اسم مكان بمعنى محلّ نهاية الشيء ، وهنا بمعنى محلّ نهاية الحلم ومنتهى درجته .
    والحِلم بكسر الحاء وسكون اللام : هي الصفة النفسانية الكريمة التي حقيقتها ضبط النفس عن هيجان الغضب ، وهو يلازم الصبر ، ويكون بمعنى الأناة وكظم الغيظ .
    والحليم هو الذي لا يستنفره الغضب ، والحلم عن الشيء يكون فيما إذا صفح عنه وسَتَر عليه .
    وأهل البيت (عليهم السلام) قد بلغوا الغاية والنهاية في تلك الصفة الربّانية الكريمة ; والإنسان حينما يلاحظ حلمهم (عليهم السلام) وكظم غيظهم إلى جانب قدرتهم الربّانية ، وجلالة قدرهم الواقعية ، يدرك أنّهم قد بلغوا غاية الحلم ونهايته حتّى فاقوا الأنبياء في ذلك : فيكونون هم الموصوفون بمنتهى الحلم كما في هذه الزيارة الشريفة والموسومون بملأ الحلم كما في حديث عبدالعزيز بن مسلم جاء فيه توصيف الإمام (عليه السلام) بقوله :
    « ... شرف الأشراف والفرع من عبد مناف ، نامي العلم ، ملأُ الحلم ،مضطلع بالإمامة ... » (2) .
    وتلاحظ حلمهم العظيم في سيرتهم الغرّاء كحلم أمير المؤمنين وكظم غيظه (عليه السلام) في يوم الدار أمام هتك الحرمات التي إرتكبه الأعداء ممّا تلاحظها بالتفصيل في كتاب سليم بن قيس الهلالي (3) .
    ومثل حلم الإمام المجتبى (عليه السلام) مع الرجل الشامي كما في حديث المبرّد وابن عائشة بأنّ شاميّاً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن (عليه السلام) لا يردُّ ، فلمّا فرغ أقبل الحسن (عليه السلام) فسلّم عليه وضحك فقال : « أيّها الشيخ أظنّك غريباً ولعلّك شبّهت ، فلو استعتبتنا أعتبناك ، ولو سألتنا أعطيناك ، ولو إسترشدتنا أرشدناك ، ولو إستحملتنا أحملناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك ، وإن كنت عرياناً كسوناك ، وإن كنت محتاجاً أغنيناك ، وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حرّكت رحلك إلينا ، وكنت ضيفنا إلى وقت إرتحالك كان أعود عليك ، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريقاً ومالا كثيراً .
    فلمّا سمع الرجل كلامه ، بكى ثمّ قال : أشهد أنّك خليفة الله في أرضه ، الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ ، وحوّل رحله إليه ... » (4) .
    وكذلك حلم الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن جاريته التي جعلت تسكب عليه الماء ليتهيّأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجّه فرفع (عليه السلام) رأسه إليها ، فقالت له الجارية : إنّ الله يقول : (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) (5) .
    فقال لها : كظمت غيظي .
    قالت : (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) .
    قال : عفى الله عنك .
    قالت : (وَاللهُ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ) .
    قال : فاذهبي فأنت حرّة لوجه الله (6) .
    وهكذا حلم الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث حفص بن أبي عائشة قال : بعث أبو عبدالله (عليه السلام) غلاماً له في حاجة فأبطأ ، فخرج أبو عبدالله (عليه السلام) على أثره لمّا أبطأ ، فوجده نائماً ، فجلس عند رأسه يروّحه حتّى انتبه ، فلمّا تنبّه قال له أبو عبدالله (عليه السلام) : يافلان ، والله ما ذلك لك ، تنام الليل والنهار ، لك الليل ولنا منك النهار » (7) .
    وأيضاً حلم الإمام الكاظم (عليه السلام) في حديث معتب قال : كان أبو الحسن موسى (عليه السلام) في حائط له يصرم فنظرت إلى غلام له قد أخذ كارة (8) من تمر ، فرمى بها وراء الحائط ، فأتيته وأخذته وذهبت به إليه ، فقلت : جعلت فداك إنّي وجدت هذا وهذه الكارة .
    فقال للغلام : يافلان .
____________
(1) بحار الأنوار : ج26 ص116 ب6 ح22 .
(2) الكافي : ج1 ص202 ح1 .
(3) كتاب سليم بن قيس الهلالي : ج2 ص585 .
(4) بحار الأنوار : ج43 ص344 .
(5) سورة آل عمران : الآية 134 .
(6) بحار الأنوار : ج71 ص398 .
(7) الكافي : ج2 ص112 ح7 .
(8) الصرم بمعنى القطع يقال : صرمت الشيء أي قطعته ، والكارة مقدار معيّن من الطعام .