طباعة

استسلام عائشة لعواطفها


استسلام عائشة لعواطفها:

س3 ـ سيّدي، عرفنا بأن أُمّ المؤمنين كانت لا تطيب لك ذكراً بخير، ولكن ـ كما يقول أهل الخلاف ـ بأنّها لا يمكن أن تتحدث عن رسول اللّه بغير الواقع وتستسلم لعواطفها إيثاراً لغرض في نفسها، وهي زوجة رسول الله وقد أمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا تكتم ما ينزل في بيتها؟
ـ إنّ الناس فهموا من كلمة (أُمّ المؤمنين) أنّها فضيلة تخصّ السيّدة عائشة من بين سائر أزواج الرسول (صلى الله عليه وآله)، والحال أنّ الله حرّم على المؤمنين الزواج بنساء النبيّ بعد وفاته بقوله تعالى: {وَما كانَ
لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً}(1)، وقال أيضاً: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ}(2).
وهذه الآية نزلت في طلحة عندما قال: "إذا مات رسول الله تزوّجت عائشة ابنة عمّي"(3).
فأراد الله سبحانه أن يقول للمؤمنين بأنّ نساء الرسول حرام عليكم كحرمة أُمّهاتكم.
وقد أعلم الله عباده وخاصّة زوجات الرسول (صلى الله عليه وآله) وخاصّة عائشة وحفصة عندما تظاهرتا على رسول الله (صلى الله عليه وآله): {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ}(4).
في سورة التحريم ليعلمها وبقية المسلمين الذين يعتقدون بأنّ أُمّ المؤمنين تدخل الجنّة بلا حساب ولا عقاب; لأنّها زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأن الذي ينفع ويضرّ عند الله هو الأعمال فقط، قال تعالى ضارباً هذا المثل لهما أيضا: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوح وَامْرَأَتَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}(5).
وقال الله تعالى ضارباً مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قال: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ}(6).
وبهذا يتبين بأنّ الزوجيّة ليست فضيلة في حدّ ذاتها، إلاّ إذا اتسمت بالأعمال الصالحة، وإلاّ سيكون العذاب مضاعفاً.
ونعود لسؤالك، فإنّ أُمّ المؤمنين السيّدة عائشة كانت تستسلم في معظم أمورها إلى العاطفة والغيرة كما تروي هي عن نفسها، فقد قالت:
"بعثت صفيّة زوج النبيّ إلى رسول الله بطعام قد صنعته له، وهو عندي، فلمّا رأيت الجارية أخذتني رعدة حتى استقلني أفكل،فضربت القصعة ورميت بها، قالت: فنظر إلىّ رسول الله فعرفت الغضب في وجهه.
فقلت: أعوذ برسول الله أن يلعنني اليوم.
قالت: قال: أولي.
قلت: وما كفّارته يا رسول الله؟
قال: طعام كطعامها وإناء كإنائها"(7).
ومرّة أُخرى تروي عن نفسها قالت: "قلت للنبيّ: حسبك من صفية كذا وكذا.
فقال لي النبيّ: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"(8).
وهاهي تحكي عن غيرتها مرّة أُخرى قائلة: "ما غرت على امرأة إلاّ دون ما غرت على مارية، وذلك أنّها كانت جميلة جعدة، وأعجب بها رسول الله، وكان أنزلها أوّل ما قدم بها في بيت حارثة بن النعمان وفزعنا لها فجزعت، فحوّلها رسول الله إلى العالية فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدّ علينا، ثمّ رزقه الله الولد منها وحرمناه"(9).
وقد تعدّت ذلك من غيرتها حتى طعنت في ولد رسول الله من مارية، قالت: "لما ولد إبراهيم جاء رسول الله إلىّ، فقال: انظري إلى شبهه بي.
فقلت: ما أرى شبهاً.
فقال رسول الله: ألا ترين إلى بياضه ولحمه؟
قالت: فقلت: من سُقي ألبان الضان ابيضّ وسمن"(10).
وعندما تزوّج رسول الله (صلى الله عليه وآله) مليكه بنت كعب، فدخلت عليها عائشة، فقالت لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك، فاستعاذت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فطلّقها.
وكما تدلّ هذه الروايات على الأساليب التي اتبعتها عائشة في الخداع والمكر للمؤمنات البريئات وحرمانهم من الزواج برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد سبق لها أن طلّقت أسماء بنت النعمان لما غارت من جمالها وقالت لها: إنّ النبيّ ليعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له: أعوذ بالله منك(11).
فكانت تستبيح مثل هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ترويجاً لغرضها حتى لو كان تافهاً أو حراماً، وكلّفها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالإطلاع على امرأة مخصوصة لتخبره بحالها فأخبرته ـ إيثاراً لغرضها ـ بغير ما رأت(12).
وخاصمته يوماً إلى أبيها ـ نزولا على حكم العاطفة ـ فقالت له: اقصد، فلطمها أبوها حتى سال الدم على ثيابها(13).
وقالت له مرّة في كلام غضبت عنده: أنت الذي تزعم أنّك رسول الله(14) إلى الكثير من الأمثال، وهذا بشكل عامّ.
أمّا عن إعراضها عنّي، فقد كانت كما ذكرت لك آنفاً، أنّها لا تطيب لها نفساً لذكري بخير.


____________


1- الأحزاب: 53.
2- الأحزاب: 6.
3- تفسير القرطبي 14: 228، الدر المنثور للسيوطي 5: 214.
4- التحريم: 4.
5- التحريم: 10.
6- التحريم: 11 ـ 12.
7- مسند أحمد بن حنبل 6: 277، كنز العمال للمتقي الهندي 15: 7.
8- سنن أبي داود 2: 450، تفسير ابن كثير 4: 229.
9- الإصابة لابن حجر 8: 311، امتاع الاسماع للمقريزي 5: 336.
10- الطبقات الكبرى لابن سعد 1: 37، متاع الاسماع للمقريزي 5: 336.
11- مستدرك الحاكم 4: 37، عمدة القارئ للعيني 20: 229، سير أعلام النبلاء للذهبي 2: 259.
12- الطبقات الكبرى لابن سعد 8: 161.
13- كنز العمال 13: 696، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 30: 215.
14- مجمع الزوائد للهيثمي 4: 322.