• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آية الولاية


آية الولاية:

قوله تعالى في سورة المائدة: الآية 55:

{اِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ}(1).

س5 ـ مولاي إنّ ما قلته وأوردته من النصوص ممّا لا شكّ فيه ولا يترك مجالا لمشكّك أو مرتاب، ولكن يبقى أمر، وهو أنّ أهل الخلاف يقولون: إنّ الولي في هذه الآية والحديث بمعنى المحبّ والناصر لا بمعنى الإمام والخليفة فما قولك؟

ج ـ للأسف إنّ علماء السوء وفقهاء البلاط على مرّ العصور حاولوا التعتيم على هذه النصوص، ولمّا لم يجدوا ما يناقضها ولتواترها، فقد حاولوا صرف معناها عن مدلولها، وأقول لك: ليس من يقول بذلك بأفقه ولا أعلم ممّن كان على زمننا في عهد رسول الله، فحتى من خالفني وابتزّني حقيّ لم ينكر هذه الصيغة ولم يحورها عن معناها، فهذا عمر بن الخطّاب بعد حديث الغدير قال لي: هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة(2).

وثانياً ـ إن نزول آية التبليغ، وهي تبيّن أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان خائفاً يكتم أمراً فطالبه ربّ العزة أن يفصح عن هذا الأمر الذي أمره فيه وهو يعصمه من الناس، فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخشى أن يقول للناس إنّ علياً محبّكم وناصركم، وقد قالها في كلّ يوم من حياته وسيرته؟

ولكن لا يقول ذلك إلاّ من أعمت العصبية بصيرته، لذلك لا يرى إلاّ من حيث تريه نفسه الأمّارة بالسوء، وياليتهم حفظوا لي حتى المحبّة والنصرة؟!
    
س6 ـ سيّدي ما معنى أنّهم لم يحفظوا لك المحبّة أو النصرة؟

ج ـ ألم تقرأ التاريخ؟!

هل حفظ عمر لي هذه عندما حاول حرق بيتي وفيه فاطمة والحسنان؟!
وهل حفظها عندما قال لي عندما رفضت البيعة: إذاً تقتل؟!
وهل حفظها معاوية عندما أعلن الخروج عليّ وعلى الشرعية ومن ثمّ قتل ولدي الحسن؟!
وهل حفظها يزيد عندما قتل ابني الحسين وأهل بيته وأصحابه في كربلاء؟!
أم أنّهم نسوا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق(3)؟
وقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}(4).
وهل حفظتها عائشة أُمّ المؤمنين عندما منعت من دفن ابني الحسن بجوار جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائلة: لا تدخلوا بيتي من لا أُحبّ؟

س7 ـ مولاي يحتجّ أهل الخلاف على ثبوت خلافة الخلفاء بمبايعتك لهم، ولو كان عندك نصّ لما بايعتهم؟
ج ـ بشان النصّ فقد بيّنت لك النصوص والآيات الواردة في إمامتي، ولو كان لمن سبقوني نصاً واحداً من هذه النصوص لما أحرقوا سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكتبوها ودوّنوها وتوسّعوا واهتموا بها.
وأمّا بشأن بيعتي للخلفاء فسأذكر لك:
فبيعة أبي بكر تمّت وقد كنّا منشغلين بخطبنا الفادح بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم نعنَ إلاّ بتجهيزه، وما إن واريناه في قبره حتى كان أهل السقيفة قد أكملوا أمرهم وانتهزوا فرصة انشغالنا، فأبرموا البيعة وأحكموا العقدة وأجمعوا أخذاً بالحزم كلّ من يوهن بيعتهم أو يدخل التشويش إلى عامتهم.
وعندما دخلوا إلى المسجد وقال عمر: قوموا بايعوا أبا بكر فقد بايعته وبايعته الأنصار، فقام عثمان ومن معه من بني أُميّة فبايعوا، وقام سعد بن أبي وقاص ومن معه من بني زهرة فبايعوا، أمّا أنا والعباس ومن معنا من بني هاشم فقد انصرفنا إلى رحالنا ومعنا الزبير والمقداد وأبو ذر وعمّار بن ياسر وغيرهم.
وعندما افتقدنا أبو بكر، أمر عمر أن يأتي إلينا، فما كان منه إلاّ أن أتى بعصابة فيها خالد بن الوليد و آخرون فدعا بالحطب وقال:
والذي نفسي بيده لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها فقيل له: يا أبا حفص، إنّ فيها فاطمة الزهراء؟ فقال عمر: وإن!! فخرج من كان بالدار إلاّ أنا.
ووقفت فاطمة، فقالت: لا عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم، تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّنا.
وعندما حاولوا إخراجي بالقوة من الدار نادت بأعلى صوتها:
"يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة"(5).
والخلاصة: فعندما قدمت على أبي بكر قال عمر: بايع.
فقلت: أنا أحقّ بهذا الأمر منكم لا أُبايعكم، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً؟
ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد منكم فأعطوكم المقادة وسلّموا الإمارة، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيّاً وميّتاً فأنصفونا إن كنت تؤمنون، وإلاّ فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون.
فقال عمر: إنّك لست متروك حتى تبايع.
فقلت له: احلب له حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يرده عليك غدا(6).
وما قلته بحقّ عمر قد تحقّق إذ عيّن أبو بكر عمر خليفة من بعده.
ثمّ قلت: يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه.
فقال عمر: إذاً نضرب عنقك.
فقلت: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله.
قال عمر: أمّا عبد الله فنعم، وأمّا أخو رسوله فلا.
فقال أبو بكر: لا أكرهه على شيء ما دامت فاطمة إلى جانبه.
فقال أبو عبيدة ابن الجراح لي: يا بن عمّ رسول الله، إنّك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأُمور.
وهذا القول (التبرير بكبر السنّ) مردود بتعيين النبيّ (صلى الله عليه وآله) أُسامة بن زيد قائداً للجيش، وأمر مشيخة القوم وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بإطاعته.
فقلت لهم: الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا
أهله عن مقامه في الناس وحقّه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به; لأنّنا أهل البيت ونحن أحق بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله) المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأُمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية؟!
والله إنّه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بعداً.
فقال بشير بن سعد الأنصاري: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر، ما اختلف عليك اثنان.
فقلت: أفكنت أدع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيته لم يدفن وأخرج أنازع الناس سلطانه؟
فقالت فاطمة (عليها السلام): ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.
ثمّ لحقت بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يكن قد جفّ بعد وأنا أصيح وأبكي وأنادي:
"يا بن أُمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني"(7).
وقد مرّ معنا احتجاج الإمام علي عند ذكرنا بيعة أبي بكر في أوّل فصل، ومصادرها هناك.
وقد قلت في خطبتي الشقشقية أصف حالي بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها فُلانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ. فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً، وَفي الحَلْقِ شَجاً، أرى تُرَاثي نَهْباً"(8).
وكم مرة قلت: "اللَّهُمَّ إنَّي أَسْتَعْدِيكَ عَلى قُرَيْش وَمَنْ أَعَانَهُمْ! فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي.. وقد قال قائل إنك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص: فقلت: بَلْ أَنْتُمْ وَاللهِ أحْرَصُ وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ"(9).
ولم أُبايع أبا بكر إلاّ بعد أن توفّيت عنّي فاطمة (عليها السلام)، أي بعد ستة أشهر من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد ماتت كمداً وحسرة على أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما حصل لها ولي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مخالفة قريش علينا، وعندما رأيت الفتن تأتي كقطع الليل المظلم بايعت وقد قلت في ذلك: "فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلاَن يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسلام، يَدْعُونَ إلى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّد فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسلام أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّام قَلاَئِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ"(10).
"ولاَ يُعَابُ الْمَرْءُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ، إِنَّمَا يُعَابُ مَنْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ"(11).
وقد وقفت يوم الشورى (شورى عمر) ثمّ قلت: "لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيكم ولا عجميكم تغيير ذلك.
فقلت: أُنشدكم الله أيها النفر جميعاً، أفيكم أحد وحّد الله قبلي؟
قالوا: لا.
قلت: فأُنشدكم الله، هل منكم أحد له أخ مثل جعفر يطير في الجنة مع الملائكة؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: أُنشدكم الله، هل فيكم أحد له عمّ كعمي حمزة، أسد الله وأسد رسوله سيّد الشهداء غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: أُنشدكم بالله، هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمّد سيّدة نساء أهل الجنة غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم باللّه، هل فيكم أحد ناجى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر مرّات وقدّم بين يدي نجواه صدقة قبلي؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره ليبلغ الشاهد الغائب) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك واليَّ وأشدّهم لك حبّاً ولي حبّاً، يأكل معي من هذا الطير، فأتاه وأكل معه) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
فقلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لأعطينّ الراية غداً رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح الله على يده، إذ رجع غيري منهزماً) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لوفد بني وليعة: (لأبعثنّ إليكم رجلاً نفسه كنفسي، وطاعته كطاعتي، ومعصيته كمعصيتي، يقتلكم بالسيف) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال فيه رسول الله: (كذب من زعم أنّه يحبّني ويبغض هذا) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد سلّم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف ملك من الملائكة منهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، حيث جئت بالماء إلى رسول الله من القليب غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد قال له جبرائيل: (هذه هي المواساة، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّه منّي وأنا منه. وقال جبرائيل: وأنا منكما) غيري؟   
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد نودي من السماء: (لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحد يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين على لسان النبيّ غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنّي قاتلت على تنزيل القرآن وتقاتل على تأويل القرآن) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد رُدّت عليه الشمس حتى صلّى العصر في وقتها غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
فقلت: هل فيكم أحد أمره رسول الله أن يأخذ براءة من أبي بكر، فقال أبو بكر: يا رسول الله، نزل فىّ شيء؟ فقال: (إنّه لا يؤدّي عني إلاّ علي) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): 
(لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ كافر) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، أتعلمون أنّه تعالى أمر بسدّ أبوابكم وفتح بابي، فقلتم في ذلك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما سددت أبوابكم ولا فتحت بابه، بل الله سدّ أبوابكم وفتح بابه؟
قالوا: اللهمّ نعم.
قلت: فأُنشدكم بالله أتعلمون أنّه ناجاني يوم الطائف دون الناس، فأطال ذلك فقلتم: ناجاه دوننا، فقال: (ما أنا أنتجيته، بل الله انتجاه)؟
قالوا: اللهمّ نعم.
قلت: فأُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: الحقّ مع علي وعلي مع الحقّ، يدور الحقّ مع علي كيف دار؟
قالوا: اللهمّ نعم.
قلت: فأُنشدكم بالله، أتعلمون أنّ رسول الله قال: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض؟
قالوا: اللهمّ نعم.
قلت: فأُنشدكم الله، هل فيكم أحد افتدى رسول الله من المشركين بنفسه واضطجع في مضجعه غيري
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله هل فيكم أحد بارز عمرو بن عبد ودّ العامري، حيث دعاكم إلى البراز غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله هل فيكم أحد أنزل الله فيه آية التطهير حيث قال: {اِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله: (أنت سيّد العرب) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا.
قلت: فأُنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما سألت الله شيئاً إلاّ سألت لك) غيري؟
قالوا: اللهمّ لا(12).

س8 ـ مولاي إنّ من استبدّ عليكم بالخلافة كانت حجّته كما قال عمر لابن عباس بأنّ قريش قد كرهت أن تجمع لكم النبوّة والخلافة، فنظرت قريش لنفسها فأصابت، ولو أنّكم وليتموها لتداولها بنو هاشم ولما وصلت إلى قريش، لذلك أزاحوا الأمر عنكم، فما قولك في ذلك؟

ج ـ نعم، لقد صرّح عمر بن الخطّاب بذلك لابن عباس في حوار دار بينهما قائلا: إنّ قريشاً قد كرهت أن تجمع لنا النبوّة والخلافة فنجحف على قومنا بجحاً بجحاً، وهم يعلمون بأنّ رسول الله قد قال: (أنا سيّد النبيّين وعليّ سيّد الوصيّين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر، أوّلهم عليّ وأخرهم القائم المهدي)(13).
لذلك أرادوا صرفها عنا، وذلك لأنّ قريشاً كانت تنظر إلى الخلافة نظرة الرياسة والزعامة والقيادة، وبنظرة جاهليّة قبليّة، وقد توحّدت بطون قريش لوجود صراع قديم بين أُميّة وهاشم، فقد ساد هاشم بعد أبيه، فحسده أُميّة بن أخيه عبد شمس، فتكلّف أن يصنع ما يصنع هاشم، وقالوا: أنت تتشبه بهاشم وعجز عن مجاراته، فعيّرته قريش، فدعا هاشماً للمنافرة في نفر ونزلوا على الكاهن الخزاعي، فقال الكاهن قبل أن يخبروه خبرهم: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر ومن منحدر غائر، لقد سبق هاشم أُميّة إلى المفاخر... فبعد هذا عاد هاشم إلى مكّة ونحر الإبل وأطعم الناس، وخرج أُميّة إلى الشام فأقام فيها عشر سنين، فكانت هذه أوّل عداوة بينهما وتوارثها بنوهم بعد ذلك(14).
وكان يقال لهاشم وإخوانه عبد شمس والمطلب ونوفل: أقداح النضار. ويقال لهم: المجبرون، لكرمهم وفخرهم وسيادتهم على العرب.
فقد حاز قصي شرف مكّة، فكان بيده السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء، وإنّ أكبر أولاد قصي عبد الدار، إذ شرف بزمان أبيه وذهب شرفه كلّ مذهب، ثمّ صارت السقاية لعبد المطلب، ومن بعده لأبي طالب، والقيادة كانت لعبد مناف، ومن بعده لولده عبد شمس، ثمّ لابنه حرب، ثمّ لابنه أبي سفيان، فكان يقود الناس في غزواتهم، ودار الندوة في يد عبد الدار، وقصي هو جماع قريش لذلك سمّي مجمعاً(15).
وكان الأمويون يعتقدون بأنّ مقاليد الأُمور بأيديهم، وهم أصحاب الملك، أليست القيادة في أيديهم؟
وفي أحسن الظروف، فإنّ بني هاشم وبني المطلب من جهة، وبني أُميّة وبني نوفل من جهة أُخرى، كانا كفرسي رهان يتعاوران زعامة قريش، وبالتالي زعامة العرب والسبق فيها.
ولقد فضّل الله هاشماً على أُميّة، وقدّم هاشماً وأخر أُميّة بفضله في ما بعد.
وكان أبو سفيان يعلم مثل غيره أن سيأتي نبي فيأخذ منه شرف القيادة، وهذا النبيّ سيكون من سلالة عبد مناف، وبعد معاناة، اقنع أبو سفيان نفسه بأنّه بالذات سيكون النبيّ; لأنّه لا يوجد ـ حسب رأيه ـ من هو جدير بالنبوّة سواه.
وأفصح عن هاجسه لبعض الذين يرتاح إليهم.
وأنّه لأمر مشين ـ حسب تفكير أبي سفيان ـ أن تراه بنيات ثقيف يتبع غلاماً من بني عبد مناف وعبثاً حاول ابن أُميّة أبي الصلت أن يغيّر طريقة تفكير أبي سفيان.
فيقول أُميّة مشفقاً: كأنّي بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدي، يؤتى بك إليه فيحكم فيك بما يريد، وهذا ما حصل عند فتح مكّة.
ومن سوء طالع أبي سفيان أنّ بني هاشم ـ كافرهم ومؤمنهم ـ احتضنوا محمّداً (صلى الله عليه وآله)، وعندما جهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالدعوة قاومه أبو سفيان وأركان القيادة في مكة بكل الأساليب.
وعندما لم ينثن محمّد (صلى الله عليه وآله) واحتضنه الهاشميون اتفقت قريش بزعامة أبي سفيان أن يقاطعوا بني هاشم، فقاطعتهم قريش كلّها ومن لفّ لفّها، بما فيهم بنو عدي قبيلة عمر، وبني تيم قبيلة أبي بكر، وتلك حقيقة كالشمس لا يجادل بها أحد.
ولم يستسلم محمّد (صلى الله عليه وآله) ولا الهاشميون، وأبطل الله كيد قريش وزعامتها بعد مقاطعة استمرت ثلاث سنوات.
وتأجّجت الكراهيّة بنجاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالهجرة وفشلت قريش في قتله عندما دخلوا فوجدوني نائماً مكانه.
وجنّ جنون قريش وزعيمهم أبو سفيان، وأعلنت الجوائز لمن يقبض عليه حيّاً أو ميّتاً.
وعندما اشتعلت الحرب الأُولى ببدر بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقريش قتل ثلاث من أجود وأروع شخصيات أُميّة وهم: عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وهم سادات بني أُميّة.
والمريع أن الذين قتلوهم من بني هاشم وهم: أنا، وحمزة، وعبيد الله بن الحارث.
وبذلك أصبح محمّد (صلى الله عليه وآله) وبنو هاشم الخطر الحقيقي على الزعامة الأموية; لأنّهم سادات بني أُميّة، وتحوّل حقدهم على محمّد وعترته إلى سواد مظلم وملأ صدورهم وعطل أذهانهم.
انظر إلى يزيد بن معاوية بن أبي سفيان كيف لعب برأس الحسين ابني الذي فصل عن جسده وأُحضر إليه في دمشق أنشد قائلا:


ليت أشياخي ببدر شـهدوا    جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرن من ساداتهم    وعدلنا ميل بدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا    خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف إن لم انتقم    من بني أحمد ما كان فعل

وانظر إلى جدّته هند أم معاوية زوجة أبي سفيان، تأمر بقتل حمزة غدراً، ولا تكتفي بالقتل بل تشقّ صدر حمزة عمّ النبيّ وأسد الله وتتناول كبده وتحاول أكلها من شدّة الحقد.
وقد رفضت الزعامة الأمويّة الدين المحمدي ونبوّة محمّد بالذات; لأنّها تكره أن يأتي هذا الدين عن طريق بني هاشم.
وعندما فوجئ أبو سفيان بجند الله قرب مكّة، وذلك حينما أوقفه العباس ليرى جند الله، فدخل الرعب في قلبه، وأفصح قائد حزب الطلقاء عن حقيقة تصوراته لدعوة محمّد (صلى الله عليه وآله)، فيقول: ما رأيت ملكاً مثل هذا، لا ملك كسرى وملك قيصر ولا ملك بني الأصفر.
إذاً هو لا ينظر إلى النبوّة والدين بل إلى ملك!
وجرّه العباس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقول: "ويحك يا أبا سفيان ألم يئن لك أنّ تعلم أنّه لا إله إلاّ الله"؟
فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأُمّي ما أحلمك وأكرمك، لقد ظننت
أنّه لو كان مع الله إلهاً غيره لما أغنى عني شيئاً.
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا أبا سفيان ألم يئن لك أن تعلم أنّي رسول الله".
فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأُمّي، أما والله فإنّ في النفس حتى الآن منها شيء.
وهنا صاح العباس: ويحك يا أبا سفيان، أسلم واشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله قبل أن تُضرب عنقك.
وهنا فقط أسلم أبو سفيان بعد ذكر ضرب العنق.
ودهش أبو سفيان وهو ينظر للنبيّ فقال في نفسه: ليت شعري بأيّ شيء غلبتني، فأوحى الله إلى نبيه بما في صدر أبي سفيان.
فقال له الرسول: "باللّه غلبتك"(16).
وكان أبو سفيان ينتظر الفرصة السانحة للانقلاب على هذا الملك الذي تصوّره، وكان ما أراد بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستمالة الخلفاء له بتركهم له ما بيده من الصدقات وتوليه ابنه يزيد ومعاوية على الجيش الذاهب إلى الشام، ومن ثمّ توليتهم ما فتح من بلاد الشام. وهذا ما أسّس لدولة بني أُميّة فيما بعد.
قال الله تعالى: {وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ}(17).
ممّا جعل لأبي سفيان مصلحة بالوقوف ولو مؤقتاً مع السلطة القائمة، وخاصة بعد أن تركوا ما بيده من الصدقات، وعيّنوا ابنه يزيد قائداً عاماً للجيش الذاهب إلى الشام ومعاوية قائداً آخر في الجيش نفسه تحت إمرة يزيد.
وأمّا ما فعلوه بزعمهم أنّه من قبيل حفظ الشرع وعدم وقوع الفتنة كما صرّح عمر; لأنّه كما يرى بأنّ قريش تأبى أن تجمع لبني هاشم النبوّة والخلافة خوفاً من إجحافهم، ولكنّهم وقعوا في أشدّ من ذلك لكي يبعدوني ويبعدوا بني هاشم عن الخلافة، فقد أحرقوا سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) المكتوبة، ومنعوا من رواية الحديث وقالوا: حسبنا كتاب الله.
وعندما طالبتهم فاطمة (عليها السلام) بإرثها واستشهدت عليهم بكتاب الله نبذوه وراء ظهورهم واستشهدوا عليها بحديث لم يسمعه أحد من قبلهم وهو قولهم: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث".
فهم رفضوا سنّة رسول الله أن يحدّث فيها أحد لأنّ فيها الوصيّة لي، وكان ذلك تمسّكاً بحديث موضوع، فهم ينظرون إلى مصلحتهم وما يؤدّي إلى غرضهم.
وهم يعترفون بفضلي وعلمي وقوتي على هذا الأمر، وذلك كما قال عمر لي في مرض موته:
أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحقّ الواضح والمحجّة البيضاء(18).
فهو يعرف بأنّي سوف أُقيم الشرع إذا وليتها، لأنّي لا أنظر إلى الخلافة مثل ما كانوا ينظرون إلى الخلافة، بل أنظر إليها على أنّها إقامة للدين الحنيف واستمرار لنهج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكنّهم أعادوها جاهلية، لذلك صبرت وفي الحلق شجا وفي العين قذى، فاستغلوا صمتي وهضموا حقّي وتناقلوها بينهم.
وعندما وصلت الخلافة إليّ وبايعني الناس بعد مقتل عثمان لم يرق لقريش ذلك، فنكثت طائفة، وقسطت أُخرى، ومرق آخرون، فتحقّق قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ستقاتل من بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين"، فقامت عائشة تحرّض الناس ضدّي، ووقف معها طلحة والزبير وكانا قد بايعاني ثم نكثا بيعتي، وقد زعموا أنّهم يطالبون بدم عثمان، وقد كانوا هم أوّل من حرّض الناس وقاموا ضدّه إلى أن وصل الأمر لقتله، وعائشة كانت هي أوّل من أفتت بقتل عثمان بقولها: اقتلوا نعثلا فقد كفر.
ثمّ قام معاوية معلناً أنّه يطالب بقتلة عثمان، مع أنّه لم ينصره وقد كان يستطيع ذلك، إلاّ أنّه آثر أن يقتل لينازع في أمر ليس هو أهله.
وقد جمع حوله من باع دينه بدنياه، مثل عمرو بن العاص وأمثاله.
وكلّ ما فعلوه كان لخوفهم من أن يتمّ الأمر لي فأعيدهم إلى ما مضى من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكنّهم أبوا إلاّ أن يجعلوها قبليّة جاهليّة.
وبعد أن وصلوا إليها ظهر ما كانوا يخفون، ولم يعد معاوية يطالب بقتلة عثمان بل وقف معاوية وقال: يا أهل العراق ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم(19).
فهذا هو ما يريدون أن يتأمروا ليس إلاّ.
وما عشت أراك الله العجب فيمن يصدقهم الآن في زمانكم، بعدما وضحت الأُمور بأجلى صورها، ويصوّروا هذا على أنّه اجتهاد مأجور صاحبه بأجر إن أخطأ وأجرين إن أصاب.
ومنذ وصلت الخلافة إلى عثمان وجمع حوله بني أُميّة، قال له أبو سفيان في مجلسه: تلقّفوها يا بني أُميّة تلقّف الصبيان للكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنّة ولا نار(20).
وهذا ما حصل منذ ولّى عثمان أقاربه وأبناء عمومته على رقاب الناس وقوّى سلطة معاوية في الشام، فبسط يده عليها بعد ما أجازه عليها، كما أجازه أبو بكر وعمر، فصارت بيده يتصرّف بها تصرّف المالك المطلق.
لذلك عندما بايعني الناس، وأحسّ زعيم بني أُميّة معاوية أنّي إن تمّ لي هذا الأمر فسوف يعزل ويصبح كعامة المسلمين، وسوف يخسر ما كان يجهز له منذ ربع قرن، وهو أن يعيد مجد أُميّة ويكون هذا الملك له ولعقبه من بعده والانتقام منّي ومن بني هاشم عموماً; رفض بيعتي.

انظر إلى رسالة محمّد بن أبي بكر إلى معاوية وردّ معاوية عليه:
من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر:

سلام على أهل طاعة الله، ممّن هو سلم لأهل ولاية الله.
أما بعد، فإن الله بجلالته وعظمته وسلطانه وقدرته، خلق خلقه بلا عبث منه ولا ضعف في قوته، ولا حاجة به إلى خلقهم، لكنه خلقهم عبيداً وجعل منهم غوياً ورشيداً، وشقيّاً وسعيداً، ثمّ اختار على علم فاصطفى وانتخب محمّداً (صلى الله عليه وآله) فاختصه برسالته واختاره لوحيه
وإئتمنه على أمره، وبعثه رسولا ومبشراً ونذيراً، مصدّقاً لما بين يديه من الكتب، ودليلا على الشرائع، فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان أوّل من أجاب وأناب وآمن وصدّق وأسلم وسلّم أخوه وابن عمّه علي بن أبي طالب، صدّقه بالغيب المكتوم وآثره على كلّ حميم، ووقاه بنفسه كلّ هول وواساه بنفسه في كلّ خوف، وحارب حربه وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل ومقامات الردع، حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده، ولا مقارب له في فعله.
وقد رأيتك تساميه، وأنت أنت، وهو هو، السابق المبرز في كلّ خير، أوّل الناس إسلاماً وأصدق الناس فيه، وأفضل الناس ذرّية وخير الناس زوجة، وأفضل الناس ابن عمّ، أخوه الشاري لنفسه يوم مؤتة، وعمّه سيّد الشهداء يوم أُحد، وأبوه الذاب عن رسول الله وعن حوزته، وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله وتبذلان الغوائل، وتجهدان في إطفاء نور الله، تجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال وتؤلّبان عليه القبائل، على هذا مات أبوك وعلى ذلك خلّفته، والشاهد عليك بذلك من تدُني، ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق والشقاق لرسول الله.
والشاهد لعليّ ـ مع فضله المبين، وسابقته القديمة ـ أنصاره الذين معه، الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ففضلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار منهم معه كتائب وعصائب يجادلون حوله بأسيافهم، ويهرقون دماءهم دونه يرون في اتباعه والشقاء في خلافه.
فكيف يالك الويل! تعدل نفسك بعلي وهو وارث رسول الله ووصيه وأبو ولده، وأوّل الناس له اتباعاً وأقربهم به عهداً، يخبره بسره ويطلعه على أمره، وأنت عدوّه وابن عدوّه؟!
فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأنّ أجلك قد انقضى، وكيدك قد وهى، وسوف تبين لك لمن تكون عاقبة العليا!
واعلم أنّك إنّما تكايد ربّك الذي أمِنت كيده، وآيست من روحه وهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور، والسلام على من اتبع الهدى.

ـ ردّ معاوية:

من معاوية بن صخر إلى الزاري على أبيه محمّد بن أبي بكر:
سلام على أهل طاعة الله.
أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته وقدرته وسلطانه، وما احتفى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع كلام كثير الفّته، ووضعته لرأيك فيه تضعيف ولأبيك فيه تعنيف.
ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب وقديم سوابقه وقرابته من رسول الله ونصرته له ومواساته إياه في كلّ هول، فكان احتجاجك علىَّ وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك، فاحمد رباً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك.
فقد كنّا وأبوك معاً في حياة نبيّنا نرى حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله مبرزاً علينا، فلما اختار الله لنبيّه (صلى الله عليه وآله) ما عنده، وأتمّ له ما وعده، وأظهر دعوته، وأفلح محبّه، وقبضه الله إليه (صلى الله عليه وآله)، كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه، وخالفه على أمره، على ذلك اتفقا واتسقا، ثمّ إنّهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما، فهمّا به الهموم، وأرادا به العظيم ثمّ إنّه بايعهما وسلم لهما، وأقاما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرّهما، حتى قبضهما الله، وانقضى أمرهما، ثمّ قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما وسار بمسيرتهما، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، فطلبتما له الغوائل حتى بلغتما فيه مناكما، فخذ حذرك يا ابن أبي بكر، فسترى وبال أمرك، وقس شبرك بفترك تقصر عن أن توازي أو تساوي من يزيد الجبال حلمه ولا تلين على قسر قناته ولا يدرك ذو مدى أناته.
أبوك مهّد له مهاده، وبنى ملكه وشاده، فإن يك ما نحن فيه صواباً فأبوك أوّله، وإن يكن جوراً فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه. فبهديه أخذنا، وبفعله اقتدينا، ولولا ما فعل ذلك به قبلنا، ما احتذينا واقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا لك أو دع، والسلام على من أناب ورجع عن غوايته وتاب(21).
ولمّا قتل الحسين ابني، كتب عبد الله بن عمر رسالة إلى يزيد بن معاوية جاء فيها:
أما بعد، فقد عظمت الرزيّة وجلّت المصيبة، حدث في الإسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم قتل الحسين.
فكتب إليه يزيد:
أما بعد، يا أحمق، فإنّا جئنا إلى بيوت مجدّدة وفرش ممهّدة، ووسائد منضّدة، فقاتلنا عنها. فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا، وإن كان الحقّ لغيرنا، فأبوك أوّل من سنّ هذا واستأثر بالحقّ على أهله.
والغاية من إيرادي لرسالة محمّد بن أبي بكر ورد معاوية عليه، ورسالة عبد الله بن عمر وردّ يزيد عليه، إنّما هو لاعترافهم. بأنّ من أوصل لهم هذا الأمر هو من ابتزّني الخلافة وغصبني حقّي من بعد
وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا اعتراف من زعمائهم بذلك..

س9 ـ كيف وصل أمر الخلافة إلى معاوية؟

ج ـ بعد الانتهاء من معركة صفّين وما جرى فيها من التحكيم وخداع معاوية وعمرو بن العاص لي وللناس(22).
قتلني الخارجي عبد الرحمن بن ملجم وبايع الناس ابني الحسن، بعد أن أوصيت له بناءً على أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعندما رأى ابني الحسن قلّة الناصر، واستمالة معاوية للناس بالمال، وكثرة القتلى بين أصحابه; آثر صلح معاوية، ليحقن دماء المسلمين، وليوقف ما كان يروّج له معاوية ورجاله من أكاذيب وسبّه لي على منابر المسلمين، وتصالح معه على الشروط التالية:

1 ـ أن يعمل معاوية بالمؤمنين بكتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله).

2 ـ أن يكون الأمر للحسن من بعده وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد.

3 ـ أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة وأن لا يذكر عليّاً إلاّ بخير.

4 ـ أن يسلم ما في بيت مال الكوفة وله خراج دار أبجرد.
    
5 ـ أن لا يأخذ أحداً من أهل العراق بأحنة، وأن يؤمن الأسود والأحمر.

ولكن معاوية ما إن استتبّ الأمر حتى خرج على أهل العراق وقام خطيباً، وقال: يا أهل العراق لم أُقاتلكم لتصلّوا أو لتصوموا أو تحجّوا أو تزكّوا فإنّكم تفعلون ذلك، ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وليس لكم عندي إلاّ السيف، وكلّ شرط شرطته للحسن بن علي فهو تحت قدمي(23).
ولكي يتمّ الأمر لعقبه من بعده كان لا بدّ من أن يقتل الحسن، فبعث لزوجة الحسن جعدة بنت الأشعث ومنّاها بالمال وبالزواج من يزيد، فوافقت ودسّت له السمّ في الطعام ولهذا كان يقول معاوية: لله جند من عسل.
بعد هذا تتابعت المحن على آل البيت المحمدي ومن شايعهم، فقتلوا تحت كلّ حجر ومدر بحجّة معارضتهم للحكومات الظالمة على مرّ التاريخ، وحتى هذه الأيام ولكن بصورة مختلفة، فالآن يعتبرونهم خارجين عن الإجماع لأنّهم لم يرضوا عن سنّة نبيّهم وآل البيت (عليهم السلام) بدلا، وتركوا معاوية ومن شايعه من الحكام الذين توالوا على الدولة الإسلامية وظلّوا يوالون آل البيت (عليهم السلام) ويتبرأون ممّن نزى عليهم بحدّ السيف.
انظر لقول الإمام علي بن الحسين يصف حالة آل بيت محمّد (صلى الله عليه وآله):
ـ في دمشق استقبل المنهال بن عمرو الصحابي، علي بن الحسين بن علي، فقال له: كيف أمسيت يا بن رسول الله؟
فقال له الإمام علي بن الحسين: "أمسينا كبني إسرائيل في آل فرعون، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمّداً منهم، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينا أهل بيت محمّد ونحن مغصوبون مظلومون، مقهورون، مثبورون، مطردون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون على ما أمسينا فيه يا منهال"!(24)

___________


1- المائدة: 55.
2- مسند أحمد 4: 281، المصنّف لابن أبي شيبة 7: 503.
3- صحيح مسلم 1: 61، كتاب الفضائل، باب مناقب علي (رضي الله عنه)، سنن ابن ماجة 1: 42 و 255، سنن الترمذي 5: 306.
4- الشورى: 23.
5- الإمامة والسياسة 1: 30.
6- المصدر السابق.
7- الإمامة والسياسة 1: 29.
8- نهج البلاغة 1: 31، الخطبة: 3 المعروفة بالشقشقية.
9- نهج البلاغة 2: 202 الخطبة: 217.
10- نهج البلاغة 3: 119 الخطبة: 62.
11- نهج البلاغة 4: 41، المختار من حكم أمير المؤمنين.
12- شرح إحقاق الحقّ للمرعشي 5: 28.
13- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 2: 316.
14- الطبقات الكبرى لابن سعد 1: 76.
15- الطبقات الكبرى لابن سعد 1: 2.
16- السيرة الحلبية 3: 55.
17- آل عمران: 144.
18- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 186، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني: 510.
19- البداية والنهاية لابن كثير 8: 140، سير أعلام النبلاء للذهبي 3: 147.
20- نحوه في الاستيعاب لابن عبد البرّ 4: 1679.
21- أنساب الأشراف للبلاذري: 394، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 189.
22- لم نذكرها خوف الإطالة وهي موجود في كتب السير والتواريخ.
23- الفتوح لابن أعثم 4: 294، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 15 ـ 46.
24- فتوح البلدان لابن الأعثم 5: 133.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page