طباعة

الدعاء والقضاء والقدر :

هناك تساؤلات كثيرة حول منافاة الدعاء مع الاعتقاد بالقضاء والقدر ، وأول ما يتبادر إلى الذهن هو قول اليهود المعبّر عنه في قوله تعالى : ﴿وقالتِ اليهودُ يَدُ اللهِ مغلُولةٌ غُلَّت أيديهم ولُعنُوا بما قالُوا بل يداهُ مبسوطَتانِ يُنفقُ كيفَ يشاءُ ﴾ (1).
قال اليهود : (إنّ الله لما خلق الاَشياء وقدّر التقادير ، تمّ الاَمر وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتّمه من القضاء ، فلا نسخ ولا استجابة لدعاء ؛ لاَنّ الاَمر مفروغ منه) (2).
وقد تسرّب هذا الاعتقاد في جملة ما تسرب من معتقدات اليهود والاسرائيليات إلى التراث الاِسلامي العريق الذي ينبذ بوضوحه وإشراقه كل وافدٍ غريب لا يمتُ إلى الدين القويم وشرعة الاِسلام الحنيف بصلة .
وكان من جملة الاِثارات حول هذا الموضوع ، أن قالوا : (إنّ المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى ، كان واجب الوقوع ، فلاحاجة إلى الدعاء ، وإن كان غير معلوم الوقوع ، كان ممتنع الوقوع ، فلاحاجة أيضاً إلى الدعاء) (3).
وقالوا : (المدعو إن كان قدراً ، لم يكن بدّ من وقوعه ، دعا به العبد أو لم يدع ، وإن لم يكن قدراً لم يقع سواء سأله العبد أم لم يسأله ) (4).
ومع وضوح الاِجابة عن مثل هذه التساؤلات من خلال محكمات الكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة على ما سيأتي بيانه ، إلاّ أن البعض ظنَّ بصحتها ، فتركوا الدعاء وسائر أعمال البرّ ، لاعتقادهم بأن للاِنسان مصيراً واحداً لا يمكن تغييره ولا تبديله ، وأنه ينال ما قُدّر له من الخير أو الشرّ .

ولا شكّ أن ذلك ناشىء عن فرط جهلهم بظنهم أن الدعاء أمرٌ خارج عن نطاق القضاء والقدر وبعيد عن الحكمة الالهية ، والواقع أن الدعاء واجابته من أجزاء القضاء والقدر ، وأن المقدَّر معلّق بأسباب ، ومن أسبابه الدعاء ، ومتى أتى العبد بالسبب وقع المقدَّر ، وإذا لم يأت بالسبب انتفى المقدَّر ، ويعتبر الدعاء من أقوى الاَسباب ، وليس شيء من الاَسباب أنفع منه ولا أبلغ في حصول المطلوب ، لما ورد في فضله من آيات الكتاب وصحيح الاَثر ، فإذا قدّر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء .
وفيما يلي نجيب عن هذه الشبهة بشيءٍ من التفصيل :
______________
(1) سورة المائدة : 5 | 64 .
(2) تفسير الميزان 2 : 32 .
(3) تفسير الرازي 5 : 98 .
(4) الجواب الكافي : 15 .