الحرص على القرآن
قالوا: إن السبب الذي دفع عمر بن الخطاب ليحول بين الرسول وبين كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية هو حب عمر بن الخطاب للقرآن، وثقته المطلقة بأن القرآن وحده يكفي!! من أجل ذلك كسر عمر وحزبه بخاطر الرسول وحالوا بينه وبين كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية!!
وقالوا: إن السبب الذي دفع عمر بن الخطاب ليجمع سنة الرسول المكتوبة عند المسلمين ويجمع الكتب المحفوظة لديهم ثم يأمر بحرقها ويحرقها بالفعل هو رغبة عمر الجامعة بأن لا يشغل المسلمين عن القرآن شاغل!!! لذلك أحرق سنة الرسول المكتوبة وأحرق الكتب حتى لا تشغل المسلمين عن القرآن.
وقالوا أيضا: إن أبا بكر قد أمر المسلمين بأن لا يحدثوا عن رسول الله شيئا، وأحرق الأحاديث النبوية التي سمعها شخصيا من رسول الله وكتبها بخط يده لأن أبا بكر حريص على القرآن.
وقالوا: إن عمر بن الخطاب قد نهى الناس عن رواية سنة الرسول وتهدد من يرويها وحبس الرواة حتى لا يصد المسلمين عن القرآن بالحديث!! وحتى لا يشغلهم عن القرآن بسنة الرسول!! (1).
ولكن القرآن نفسه قد طلب من الخلفاء ومن كافة المسلمين، بأن يأخذوا ما آتاهم الرسول وأن ينتهوا عما نهى. قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (2) فكيف يأخذون ما آتاهم الرسول، وكيف ينتهون عما نهاهم عنه، إذا حرقوا سنة رسول الله المكتوبة، ومنع رواية سنة الرسول!!
ثم إن القرآن الكريم يطلب من الخلفاء ومن الناس قاطبة أن يتبعوا الرسول. قال تعالى مخاطبا نبيه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (3) فهل يتحقق اتباعهم للرسول بحرق سنة الرسول ومنع روايتها!!!
ثم إن القرآن الكريم قد بين بأن مهمة الرسول أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (4) وقال أيضا: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ولا هدى ورحمة لقوم يؤمنون) (5).
فهل يدلنا الخلفاء وأولياءهم كيف يفهمون القرآن دون بيان النبي لهذا القرآن!!! إن القرآن قد أجمل أحكامه، وأوحي للنبي تفصيلات هذه الأحكام من صلاة وزكاة وحج نظام حكم وجهاد ومعاملات،... الخ فهل ذكر القرآن عدد ركعات كل صلاة مع أن الصلاة عماد الدين، فإذا أحرقوا المكتوب من السنة وحرموا رواية السنة فكيف يفهمون بيان القرآن!!
ثم إن القرآن الكريم قد أعلن بكل وضوح بأن الرسول لا ينطق عن الهوى، بل يتبع ما يوحى إليه من ربه في كل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال وتقريرات، وتوثيقا من الله تعالى لسنة نبيه وتصديقا لها تولى الله تعالى بنفسه ومن خلال القرآن الذي يتذرعون به نشر هذا الإعلان النبوي بقوله تعالى:
(قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) (6) وأعلن الله باسم رسوله قائلا: (إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين) (7).
التثبت من سنة الرسول
واعتذروا عن إحراق الخلفاء للمكتوب من سنة الرسول، ومن منعهم للمسلمين من أن يحدثوا شيئا عن رسول الله بأن الخلفاء كان هدفهم التثبت من سنة الرسول، والحقيقة أن هذا العذر قد اختلقه أولياء الخلفاء للاعتذار عنهم ولتبرير أفعالهم، مع أن الخلفاء أنفسهم لم يعتذروا بهذا العذر.
إن نصوص المراسيم التي أصدرها الخلفاء تتعارض تماما مع هذا العذر فعندما يقول الخليفة بمرسومه: " فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا " فهذا القول من الوضوح بحيث أنه لا يحتمل أي تأويل آخر.
لقد أوهم الخليفة عمر المسلمين بأنه يريد أن يجمع سنة الرسول، وناشد الناس أن يأتوه بما هو مكتوب عندهم من سنة الرسول، كما ناشدهم بأن يأتوه بالكتب المحفوظة لديهم لينظر بها، فهل فتح الخليفة أي كتاب من هذه الكتب أو نظر بأي صحيفة من تلك الصحف، أو قرأ أي حرف من الحروف المكتوبة بها حتى يثبت، لم يرو راو قط أن الخليفة قد فعل ذلك إنما المشهور عند كافة المسلمين بأن الخليفة قد أمر بتحريفها وحرقها فعلا دون أن ينظر إليها!! فهل هذا هو التثبت الذي تقصدونه!!!
اعتذارهم بأن الرسول هو الذي أمر بعدم تدوين وعدم رواية سنته المباركة
عندما انهار عذرهم القائل بأن الخلفاء قد أحرقوا سنة الرسول المكتوبة ومنعوا رواية السنة حبا بالقرآن الكريم، وإيمانا منهم بأنه يكفي " حسبنا كتاب الله "!!!
بحثوا عن عذر جديد فقالوا: إن الخلفاء قد أحرقوا سنة رسول الله المكتوبة ومنعوا رواية السنة حبا بالتثبت!! ولكن مراسيم الخلفاء وأساليبهم كشفت زيف هذا الاعتذار.
لذلك اخترعوا عذرا ثالثا جديدة مفاده أن الخلفاء قد أحرقوا المكتوب من سنة الرسول، ومنعوا الرواية لأن رسول الله هو الذي أمر بعدم تدوين وعدم رواية سنة المباركة!!! ودعما لهذا العذر وضعوا سلسلة من الأحاديث المكذوبة منها " لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه " (8) وأنهم استأذنوا النبي في أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم (9) وأن الرسول قد نهى أن يكتب شيئا من حديثه (10) بل والأعظم من ذلك بأنهم قالوا: " إنهم قد حرقوا ما كتبوه من سنة الرسول أمامه " (11).
وبموجب هذه الأحاديث فإن الخلفاء عندما حرقوا سنة الرسول المكتوبة، ومنعوا الرواية عن رسول الله فقد كانوا ينفذون أمرا قد أصدره الرسول!! وبتعبير أدق فإنهم كانوا يطبقون سنة الرسول!! ويبدو واضحا أن هذه الأحاديث قد وضعت بالتعاون مع السلطة لتبرير عمل الخلفاء، لأن الثابت بأن رسول الله قد أمر بتدوين سنته والمحافظة عليها، وأمر برواية سنة ونشرها فقال على سبيل المثال " نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " (12) وقال " ليبلغ الشاهد الغائب عسى أن يبلغ من هو أوعى منه " (13) ودعا رسول الله للذين يروون حديثه وسنته " (14). وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص وقد وثقاه أكثر من مرة وتحت عنوان " طائفة من الأخبار والروايات التي تثبت أن الرسول قد أمر بكتابه سنته " ذكرنا 19 رواية عن رسول الله ووثقناها فارجع إليها. في الباب الأول من هذا البحث، وكلها أحاديث صحيحة، تدعمها وقائع تاريخية، ومنسجمة مع القرآن الكريم، ومع منطق الأمور، وقد رواها علماء يحبون الخلفاء كما يحبون آباءهم وأبناءهم!!! ويضعونهم في مقام يسمو أحيانا على مقام النبوة!! ومن المحال عقلا أن يرووا أحاديث تعارض توجهات الخلفاء، لو لم تكن هذه الأحاديث من القوة والوضوح بحيث لا يتجاهلها إلا أعمى العين والقلب، والأعظم من ذلك كله بأن أهل بيت النبوة هم أحد ثقلي الإسلام، قد أجمعوا على أن رسول الله قد أمر المسلمين بكتابة سنته وأمرهم بنشر هذا السنة، كما أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أملى هذه السنة على الإمام علي وكتبها الإمام علي بخط يده، والأئمة توارثوا هذه السنة المكتوبة كما يتوارث الناس ذهبهم وفضتهم " (15).
______________
(1) ابن ماجة المقدمة باب 18 وسنن أبي داود ح 3660، والترمذي كتاب العلم باب 7، والدارمي ج 1 ص 74 - 76 باب 24، ومسند أحمد ج 3 ص 225 وج 4 ص 80 و 82 وج 5 ص 173.
(2) صحيح البخاري ج 1 ص 24 كتاب العلم وكنز العمال ح 1126، وسنن ابن ماجة ج 1 ص 85 ح 233.
(3) معاني الأخبار ص 374 و 375، وعيون الأخبار ج 3 ص 36، ومن لا يحضره الفقيه ج 4 ص 420، وجامع بيان العلم ج 1، ص 55، والفتح الكبير للسيوطي ج 1 ص 233، الإلماع للقاضي عياض ص 11.
(4) راجع ما كتبناه في الباب الأول تحت عنوان " التدوين الخاص للسنة ".
(5) في الفصل السابق وثقنا كل كلمة ذكرناها في هذه الصفحة.
(6) سورة الحشر، الآية 7.
(7) سورة آل عمران، الآية 31.
(8) سورة النحل، الآية 44.
(9) سورة النحل، الآية 64.
(10) سورة الأعراف، الآية 203.
(11) سورة الأحقاف، الآية 9.
(12) صحيح مسلم ج 4 ص 97، وسنن الدارمي ج 1 ص 119 والمقدمة باب 42،مسند أحمد ج 3 ص 12 و 39 و 56.
(13) سنن الدارمي المقدمة باب 42.
(14) مسند أحمد ج 3 ص 12 - 13.
(15) مسند أحمد ج 5 ص 182، وسنن أبي داود ج 3 ص 319.