• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

البداء


وهو أن يبدو له شيء في أمر مَا يريد فعله، ثمّ يتغيّر رأيه في ذلك الشيء، فيفعل فيه غير ما عزم على فعله سابقاً.
وأمّا قول الشيعة بالبداء ونسبته إلى اللّه تعالى، والتشنيع عليهم بأنّه يستوجب نسبة الجهل والنقص إلى اللّه سبحانه وتعالى، كما يريد أهل السنّة والجماعة حمله على هذا المعنى، فهذا التفسير باطل ولا تقول به الشيعة أبداً، ومن ينسب ذلك إليهم فقد افترى عليهم، وهذه أقوالهم قديماً وحديثاً تشهد لهم.
قال الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه عقائد الإمامية: "والبداء بهذا المعنى يستحيل على اللّه تعالى; لأنّه من الجهل والنقص، وكذلك محالٌ عليه تعالى ولا تقول به الإمامية.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): "من زعم أنّ اللّه تعالى بدا لَهُ في شيء بداء ندامة، فهو عندنا كافر باللّه العظيم"، وقال أيضاً: "من زعم أنّ اللّه بدا لَهُ في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه"(1).
إذاً فالبداء الذي تقول به الشيعة لا يتعدّى حدود القرآن في قوله سبحانه وتعالى: { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ اُمُّ الكِتَابِ }(2).
وهذا القول يقول به أهل السنّة والجماعة كما يقول به الشيعة، فلماذا يشنّع على الشيعة ولا يشنّع على أهل السنّة والجماعة القائلين بأنّ اللّه سبحانه يُبدّل الأحكام ويُغيّر الآجال والأرزاق.
فقد أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ (رضي الله عنه) أنّه سأل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية: { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ اُمُّ الكِتَابِ }؟ فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "لأقرنّ عينيك بتفسيرها، ولأقرنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها، وبِرّ الوالدين، واصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة، ويزيد في العمر، ويقي مصارع السوء"(3).
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن قيس ابن عباد (رضي الله عنه) قال: للّه أمرٌ في كلّ ليلة العاشر من أشهر الحرم، أمّا العاشر من رجب ففيه يمحو اللّه ما يشاء ويثبت(4).
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنّه قال وهو يطوف بالبيت: اللّهم إن كنتَ كتبت علىَّ شقاوةً أو ذنباً فامحه، فإنّك تمحو ماتشاء وتثبت، وعندك أُمّ الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة(5).
وأخرج البخاري في صحيحه قصّة عجيبة وغريبة تحكي معراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقاءه مع ربّه، وفيها يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
"ثُمَ فُرضتْ علىَّ خمسون صلاة فأقبلتُ حتّى جئتُ موسى، فقال: ماصنعتَ؟ قُلتُ: فُرضتْ علىَّ خمسون صلاة. قال: أنا أعلم بالناس منك عَالجتُ بني إسرائيل أشدّ المعالجة وإنّ أمّتك لا تطيق، فارجع إلى ربّك فسلْهُ، فرجعتُ فسألتُه فجعلها أربعين، ثمّ مثله، ثم ثلاثين، ثمّ مثله فجعل عشرين، ثمّ مثله فجعل عشراً، فأتيتُ موسى فقال مثله، فجعلها خمساً، فأتيت موسى فقال: ماصنعتَ؟ قلتُ: جعلها خمساً، فقال مثله، قلتُ: فَسلّمتُ فنودىَ أنّي قد أمضيتُ فريضتي وخَففّتُ عن عبادي وأجزي الحسنة عشراً"(6).
وفي رواية أُخرى نقلها البخاري أيضاً، وبعد مراجعة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)
ربّه عديد المرّات، وبعد فرض الخمس صلوات، طلب موسى (عليه السلام) من محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُراجع ربّه للتخفيف; لأنّ أُمّته لا تطيق حَتّى خمس صلوات، ولكن محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) أجابه: "قد استحييت من رَبّي"(7).
نعم، اقرأ واعجب من هذه العقائد التي يقول بها رواة أهل السنّة والجماعة! ومع ذلك فهم يشنّعون على الشيعة أتباع أئمة أهل البيت في القول بالبداء.
وهم في هذه القصّة يعتقدون بأنّ اللّه سبحانه فرض على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسين صلاة، ثمّ بدا له بعد مراجعة محمّد إيّاه أن جعلها أربعين، ثمّ بدا له بعد مراجعة ثانية أن جعلها ثلاثين، ثمّ بدا له بعد مراجعة ثالثة أن جعلها عشرين، ثمّ بدا له بعد مراجعة رابعة أن جعلها عشراً، ثمّ بدا له بعد مراجعة خامسة أن جعلها خمساً.
وبغضّ النظر عن قبولنا بهذه الرواية وعدمه، فإنّ القول بالبداء عقيدة سليمة تتماشى ومفاهيم الدين الإسلامي وروح القرآن: { إنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ }(8).
ولولا اعتقادنا ـ سنّة وشيعة ـ بأنّ اللّه سبحانه يبدّلُ ويُغيّر، لما كان لصلاتنا ودعائنا من فائدة ولا تعليل ولا تفسير، كما أنّنا نؤمن جميعاً بأنّ اللّه سبحانه يبدّل الأحكام، وينسخ الشرائع من نبي لآخر، بل وحتى في شريعة نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) هناك ناسخ ومنسوخ، فالقول بالبداء ليس كفراً ولا خروجاً على الدين، وليس لأهل السنّة أن يشنّعوا على الشيعة من أجل هذا الاعتقاد، كما أنّه ليس للشيعة أن يشنّعوا على أهل السنّة أيضاً.
والحقيقة أنّي أرى رواية المعراج هذه مستوجبة لنسبة الجهل إلى اللّه عزّ وجلّ، وموجبة لانتقاص شخصية أعظم إنسان عرفه تاريخ البشرية، وهو نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ تقول الرواية بأنّ موسى قال لمحمّد: أنا أعلم بالناس منك، وتجعل هذه الرواية الفضل والمزيّة لموسى الذي لولاه لما خفّف اللّه عن أُمّة محمّد.
ولستُ أدري كيف يعلمُ موسى بأنّ أُمّة محمّد لا تطيق حتى خمس صلوات، في حين أنّ اللّه لا يعلمُ ذلك ويكلّف عباده بما لا يطيقون، فيفرض عليهم خمسين صلاة؟!
وهل تتصوّر معي أخي القارئ كيف تكون خمسين صلاة في اليوم الواحد، فلا شغل ولا عمل، ولا دراسة ولا طلب رزق ولا سعي ولا مسؤولية، فيصبح الإنسان كالملائكة مكلّف بالصلاة والعبادة، وما عليك إلاّ بعملية حسابية بسيطة لتعرف كذب الرواية، فإذا ضربت عشر دقائق ـ وهو الوقت المعقول لأداء فريضة واحدة للصلاة جماعة ـ في الخمسين فسيكون الوقت المفروض بمقدار عشر ساعات، وما عليك إلاّ بالصبر، أو أنّك ترفض هذا الدين الذي يكلّف أتباعه فوق ما يتحمّلون، ويفرض عليهم ما لا يطيقون.
فإذا كان أهل السنّة والجماعة يشنّعون على الشيعة قولهم بالبداء، وأنّ اللّه سبحانه وتعالى يبدو له فيغيّر ويبدّل كيف شاء، فلماذا لا يشنّعون على أنفسهم في قولهم بأنّ اللّه سبحانه يبدوا له، فيغيّر ويبدّل الحكم خمس مرّات في فريضة واحدة وفي ليلة واحدة وهي ليلة المعراج؟
لعن اللّه التعصّب الأعمى والعناد المقيت الذي يغطّي الحقائق ويقلبها ظهراً على عقب، فيتحامل المتعصّب على مَن يخالفه في الرأي، وينكر عليه الأُمور الواضحة، ويقوم بالتشنيع عليه وبثّ الإشاعات ضدّه، والتهويل في أبسط القضايا، التي يقول هو بأكثر منها.
وهذا يذكّرني بما قاله سيّدنا عيسى (عليه السلام) لليهود عندما قال لهم:
"أنتم تنظرون إلى التبنةِ في أعين الناس. ولا تنظرون إلى الخشبة في أعينكم".
وبالمثل القائل: "رمتني بدائها وانسلّت".
ولعلّ البعض يعترض بأنّه لم يرد لفظ البداء عند أهل السنّة، وبأنّ هذه القصّة وإن كان معناها التغيير والتبديل في الحكم ولكن لا تقطع بأنّه بدا للّه فيها.
وأقول هذا لأنّه كثيراً ما كنتُ أستعرض قصّة المعراج للاستدلال بها على القول بالبداء عند أهل السنّة، فأعترض علىّ بعضُهم بهذا الرأي، ولكنّهم سلّموا بعدها عندما أوقفتهم على رواية أُخرى من صحيح البخاري تذكر البداء بلفظة صراحة لا لبس فيها.
فقد روى البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إنّ ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأعمى وأقرع بدا للّه أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص، فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ فقال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه، فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، ثمّ قال له: أيّ المال أحبّ إليك؟ فقال: الإبل، فأُعطي ناقة عشراء.
وأتى الأقرع فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن ويذهبُ عني هذا، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه وأعطي شعراً حسناً، ثمّ قال له: أيّ المال أحبّ إليك؟ فقال: البقر، فأعطاه بقرة حاملاً.
وأتى الأعمى فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: يرد اللّه بصري، فمسحه فردّ اللّه إليه بصره، قال: فأيّ المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة ولوداً...
ثمّ رجع الملك بعدَ أن تكاثرت عند هؤلاء الإبل والبقر والغنم حتّى أصبح يملك كلّ منهم قطيعاً، فأتى الأبرص والأقرع والأعمى كلّ على صورته، وطلب من كلّ واحد منهم أن يعطيه ممّا عنده، فردّه الأقرع والأبرص، فأرجعهما اللّه إلى ماكانا عليه، وأعطاه الأعمى فزاده اللّه وأبقاه مبصراً"(9).
ولهذا أقول لأخواني قول اللّه تعالى:
{ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْم عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاء عَسَى أنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أنفُسَكُمْ وَلا تَـنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَـعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَـتُبْ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }(10).
كما أتمنّى من كلّ قلبي أن يثوب المسلمون إلى رشدهم وينبذُوا التعصّب ويتركوا العاطفة; ليحلّ العقلُ محلّها في كلّ بحث حتى مع أعدائهم، وليتعلّموا من القرآن الكريم أُسلوب البحث والنقاش والمجادلة بالتي هي أحسن، فقد أوحى إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنْ يقول للمعاندين { وَإنَّا أوْ إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أوْ فِي ضَلال مُبِين }(1)، فرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يرفع من قيمة هؤلاء المشركين، ويتنازل هو ليعطيهم النصف حتّى يُدلوا ببرهانهم وأدلّتهم إن كانوا صادقين، فأين نحن من هذا الخلق العظيم.

____________
1- عقائد الإمامية: 40، والنصوص في كمال الدين للصدوق: 69 ـ 70.
2- الرعد: 39.
3- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 4: 66.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه.
6- صحيح البخاري4: 78، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، وكتاب مناقب الأنصار، باب المعراج.
صحيح مسلم1: 104، كتاب الايمان، باب الإسراء برسول اللّه وفرض الصلوات.
7- المصدر السابق.
8- الرعد: 11.
9- صحيح البخاري4: 146، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع صحيح مسلم 8: 213، كتاب الزهد والرقائق.
10- الحجرات: 11.
11- سبأ: 24.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page