• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الثاني عقبات عدة أمامنا

الأئمة الأربعة أموات

وهذه عقبة أخرى، إذ كيف نأخذ ديننا عنهم وقد ماتوا قبل أكثر من ألف ومئتي سنة؟! فإن قيل: نأخذ بأقوالهم المدونة، قلنا: والمسائل المستحدثة كيف سيجيبوننا عنها ؟ وإذا كان الدين لا يؤخذ إلا عنهم فكيف عاش المسلمون قبلهم وإلى من رجعوا في معرفة الإسلام؟
فهل كانوا قبل أن يصلوا الى درجة الاجتهاد: في ضلال؟ وإذا قلتم أن الإسلام لا يؤخذ إلا منهم فقد حكمتم على أتباع المذاهب الأخرى بالضلال كالسلفية والمذاهب القديمة كالثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وغيرهم.
لا ترجيح بين المذاهب
ومن هذه العقبات التي تقف أمامنا أننا إذا أردنا أن نختار أحد المذاهب الأربعة لكي نتبعه فلا نستطيع أن نرجح مذهبا على آخر لأنه سيكون ترجيحا بلا مرجح وهو فاسد عقلا وشرعا. ثم لو أننا أخذنا المذهب الشافعي دون غيره فقد حكمنا على من خالف الشافعي بالضلال، وكذلك إذا اخترنا مذهب أبي حنيفة نحكم على من خالفه بالضلال، لأننا نعلم أن الحق واحد لا يتعدد، فلا يمكن أن يكون الأربعة مصيبين في مسألة واحدة وهم مختلفون فيها؟!!

الأئمة الأربعة لم يروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

إن الأئمة الأربعة لم يروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يسمعوا منه، وبينهم وبينه أكثر من مئة سنة، ولا يطمئن المسلم لأقوالهم لأنها تحتمل الخطأ، فأقوالهم مجرد اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ كما قالوا هم أنفسهم. يقول الشافعي: " قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب "، وقال الإمام مالك: " كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر " (1)، و " كان الإمام مالك يسأل في الخمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها " (2) وقد مر علينا قوله: إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين.
فهل يعقل أن الله يريد لعباده أن يأخذوا أحكام دينهم بشكل خاطئ؟ لا أعتقد أن مسلما يقول ذلك. بل إن الله الذي أرسل لعباده الأنبياء (عليهم السلام) وواتر إليهم رسله (عليهم السلام) قد تكفل بحفظ دينه وإيصاله لجميع الناس بصورة صحيحه مبنية على اليقين، سواء في العقيدة أو الشريعة، وهذا ما يفرضه العقل والشرع، قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (3).
أما أبو الحسن الأشعري فهو الآخر لم ير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يسمع منه، وبينه وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر من قرنين، وما زالت عقيدة هذا الرجل محل خلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث. قال أهل الحديث: إن الأشعري رجع في اخريات حياته إلى مذهب السلف.
والأشاعرة مصرون على أنه لم يرجع، والكتابات ما زالت مستمرة حول عقيدة هذا الرجل. فكيف نتبع هذا الرجل وعقيدته مختلف فيها؟! فضلا عن أن الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأمرانا باتباعه!

الأئمة الأربعة يختلفون

ومن العقبات التي تقف أمامنا: إن الأئمة الأربعة كثيرا ما يختلفون في المسألة الواحدة، بل الاختلاف قائم بين فقهاء المذهب الواحد، ونحن نعلم بديهة أن حكم الله في أي موضوع واحد لا ثاني له، فالحق واحد لا يتعدد. فإن قيل: إن اختلافهم في الفروع لا في الأصول وهذا الاختلاف هو رحمة لقول الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم): " اختلاف أمتي رحمة " وبإمكان المسلم أن يأخذ من أي مذهب منها فكلها من نبع النبوة.
قلنا: حاشا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقصد هذا المعنى الظاهري للحديث. فكيف يحثهم على الاختلاف وهو يتلو لهم عن رب العزة:
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (5)، وقوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) (4)، وقوله: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) (6)، وقوله: (إن هذه أمتكم أمة واحدة) (7)، وقوله:
(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) (8).
فكيف يأتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الآيات ثم يقول للناس: اختلفوا فإن اختلافكم رحمة!! ولنا ان نقول: إذا كان اختلافهم رحمة فما بال الأئمة الأربعة والفقهاء في إطار مذهبهم يتفقون أحيانا؟
فبمقتضى هذا الفهم للحديث لا يجب عليهم أن يتفقوا لأن اتفاقهم واجتماعهم نقمة، فكان الواجب عليهم ان يختلفوا في كل المسائل حتى تعم الرحمة المفرقة لأبناء الإسلام إلى مذاهب مختلفة!!
ومن رجع إلى كتب التاريخ والمذاهب سيجد مظاهر هذه الرحمة بأجلى صورها.
لقد ولد الشافعي سنة 150 هـ‍ وهي السنة التي توفي فيها أبوحنيفة فقالت الحنفية للشافعية: ما جسر إمامكم أن يخرج إلى الوجود حتى مات إمامنا، وأجابتهم الشافعية:
بل إمامكم ما ثبت لظهور إمامنا!! " (9).
وقال صاحب المغني: " وقد بلغ من إيذاء بعض المتعصبين في طرابلس الشام في آخر القرن الماضي أن ذهب بعض شيوخنا الشافعية إلى المفتي وهو رئيس العلماء وقال له:
إقسم المساجد بيننا وبين الحنفية فإن فلانا من فقهائهم يعدنا كأهل الذمة!! في هذه الأيام من خلافهم في تزويج الرجل الحنفي بالمرأة الشافعية، وقول بعضهم لا تصح لأنها تشك في إيمانها!! " (10).
هذا، وقد أحرق الحنابلة مسجدا للشافعية، وقام خطباء الحنفية يلعنون الحنابلة والشوافع عل المنابر، ووقعت فتنة بين الحنفية والشافعية فحرقت الأسواق والمدارس (11).
يقول ابن الأثير في حوادث سنة 323 هـ‍: " وقد كثرت فيها حوداث الشغب من جانب الحنابلة واعتداءاتهم على الشوافع ". ويقول ياقوت الحموي عن اصبهان: " وقد نشأ الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وحرقتها وخربتها ".
وقال عن الري: " وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية وقامت الحروب بينهما كان الظفر في جميعها للشافعية، هذا مع قلة عدد الشافعية إلا أن الله نصرهم عليهم!! " (12).
ومظاهر الرحمة نجدها في تكفير كل مذهب لغيره، يقول ابن حاتم الحنبلي: " من لم يكن حنبليا فليس بمسلم " (13).
وقد كفر أبو بكر المقري جميع الحنابلة (14).
وقال ملا علي القاري الحنفي: " اشتهر بين الحنفية أن الحنفي إذا انتقل إلى مذهب الشافعي يعزر وإذا كان بالعكس يخلع عليه!! " (15).
وقال قاضي دمشق الحنفي محمد بن موسى البلاساغوني ت / 506 هـ‍: " لو كان لي أمر لأخذت الجزية من الشافعية " (16).
وقال المظفر الطوسي الشافعي: " لو كان لي من الأمر شئ لأخذت على الحنابلة الجزية " (17).
وإذا كان الاختلاف رحمة، فلماذا لم يختلف القرآن في أحكامه التشريعية؟! فهل منع الله عباده من رحمته وهو القائل (ورحمتي وسعت كل شئ) (18)؟! حاشا لله أن يدعو للاختلاف بعد أن نهى عنه في محكم كتابه، قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (19) فالله يدعونا لاتباع سبيل واحد وينهانا عن اتباع السبل: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (20).
فالقرآن يصرح بأن اتباع أكثر من سبيل: مفرق، ومنهي عنه، وهذا رد على كل من يقول بأن الاختلاف رحمة.
أما من يقول: إن بإمكان المسلم أن يأخذ من أي مذهب من المذاهب الأربعة فكلها من نبع النبوة. نقول له: عجبا كيف تكون هذه الاختلافات حتى في الأمور الصغيرة من نبع واحد؟ فهل رأيت أخي المسلم نبع ماء مثلا له عدة مذاقات؟! فلو جاء أربعة أشخاص وكل واحد معه زجاجة مليئة بالماء وقالوا: إنه من نبع ماء عذب، وكان الأول معه ماء مالح، والثاني معه ماء مر، والثالث معه ماء نتن، والرابع معه ماء عذب، فهل يكون الماء الذي بحوزتهم عاكسا لمذاق النبع؟ طبعا لا. بل إن الشخص الرابع هو الذي نهل من ماء ذلك النبع، أما الآخرون فإنهم نهلوا من ينابيع أخرى، أو من هذا النبع ولكنهم غيروا وبدلوا فيه.
وهكذا الحال مع المذاهب الأربعة، فلو حصرنا الإسلام بهم فلا بد أن يكون واحد منهم هو الذي غرف من نبع النبوة، إذ لا يعقل أن يكونوا جميعا قد غرفوا من نبع واحد وكل واحد يقول مذاق النبع هكذا؟!!
فإن قيل: هم أخذوا من نبع واحد ولكن كل واحد اجتهد وتوصل لشئ يخالف غيره. فنقول: حتى وإن اجتهدوا واختلفوا في اجتهاداتهم فواحد من هذه الآراء هو الذي يعكس حكم الإسلام لو حصرناه بهم. فنحن نعلم أن الإسلام له حكم واقعي واحد في أي موضوع.
ومع الذي ذكرنا فإن حديث " اختلاف أمتي رحمة " حديث موضوع فلا يحتج به، وتفصيل ذلك لمحدث أهل السنة الألباني فقد قال عن هذا الحديث: " لا أصل له، ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا...
ونقل المناوي عن السبكي أنه قال: " وليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع " وأقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على تفسير البيضاوي (ق 92 / 2) " (21).
وقال ابن حزم عنه: " وهذا من أفسد قول يكون، لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا، وهذا ما لا يقوله مسلم، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط " وأما الحديث المذكور فباطل مكذوب " (22).
" ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد. أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (23)، وفيه تبيان لكل شئ وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (24) وأن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به " (25).

الائمة الأربعة والفقه

بالاضافة الى اختلاف الأئمة الأربعة، نجد عندهم - مع تمام احترامنا لهم - عثرات في فتاواهم تجعلنا نضع على هذا المنهج علامات استفهام منها:
- قول أبي حنيفة: " لو أن رجلا في مصر وكل آخر بالأندلس بأن يزوجه فلانة، فيعقد له عليها، ولا يلتقيان أصلا فيما يرى الناس ثم تجئ المرأة بولد يكون نسبه ثابتا للرجل الذي في مصر!!! " (26).
وفي كتاب تأسيس النظر للدبوسي الحنفي: " إذا استأجر إمرأة ليزني بها!!
لا للخدمة، فزني بها، لا حد عليه عند أبي حنيفة!!...
إذا تزوج ذات رحم منه فوطأها وهو يعلم أو لا يعلم، لا حد عليه، لأن صورة المبيح قد وجدت وهو النكاح وإن لم يبح، وهو قول أبي حنيفة!!...
إذا تزوج إمرأة قد حرمت عليه بالمصاهرة ودخل بها، لا حد عليه عند أبي حنيفة " (27).
عن حماد بن زيد قال: سمعت يحيى بن مخنف قال: جاء رجل من أهل المشرق الى أبي حنيفة بكتاب منه بمكة، عاما أول، فعرضه عليه مما كان يسأل عنه، فرجع عن ذلك كله. فوضع الرجل التراب على رأسه، ثم قال: يامعشر الناس أتيت هذا الرجل عاما أولا، فأفتاني بهذا الكتاب، فأهرقت به الدماء، وأنكحت به الفروج ثم رجع عنه العام (28).
لقد أراد السلطان محمود بن سبكتكين أن يختار مذهبا من مذهبي الشافعية والحنفية فصلى القفال الشافعي الصلاة على مذهبه ليحبب السلطان بها وصلى الصلاة على مذهب أبي حنيفة...
يقول الجويني عن القفال: " ثم صلى ركعتين على ما يجوزه أبو حنيفة فلبس جلد كلب مدبوغ، ولطخ ربعه بالنجاسة، وتوضأ بنبيذ التمر، وكان في صميم الصيف في المفازة، فاجتمع عليه الذباب والبعوض، وكان الوضوء معكوسا منكسا، ثم استقبل القبلة وأحرم بالصلاة من غير النية، وأتى بالتكبير بالفارسية، ثم قرأ آية بالفارسية، ثم نقر نقرتين كنقرات الديك، من غير فصل، ومن غير ركوع، وتشهد وضرط في آخره من غير سلام، وقال:
أيها السلطان، هذه صلاة أبي حنيفة، فقال السلطان: إن لم تكن هذه صلاته قتلتك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين!! وأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة، فأمر القفال باحضار كتب الفريقين، وأمر السلطان كاتبا نصرانيا يقرأ، فقرأ المذهبين جميعا، فوجدت الصلاة في مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال. فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة.. قال الجويني بعد ذكره لهذه القصة: " ولو عرضت الصلاة التي جوزها أبو حنيفة على العامي لامتنع من قبولها والصلاة عماد الدين، فناهيك من فساد اعتقاده في الصلاة وضوحا على بطلان مذهبه هذا " (29)!!
وفي فقه المالكية لو نوى رجل أن يطلق زوجته ولم يتلفظ فإنها تطلق!!.
وأجاز الشافعي نكاح الرجل بنته من الزنا! (30) هذا غيض من فيض، ويدرك المسلم أن هذا الكلام ليس من الإسلام في شئ.
أما الأشاعرة: فقد وجد عندهم شطحات في العقيدة نشير لبعضها وهي كافية لوضع علامة استفهام على هذا الاتجاه.
يقول النووي الأشعري: " ومذهب أهل السنة أيضا أن الله تعالى لا يجب عليه شئ تعالى الله، بل العالم ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيهما مايشاء، فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار كان عادلا منه، ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك " (31).
أجل إن العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه، لكن الله وعد المؤمنين بالجنة والكافرين بالنار والله لا يخلف وعده (إن وعد الله حق) (32) وذلك الكلام هو عين الظلم (ولا يظلم ربك أحدا) (33) كما أنه معارض بالآيات التي جاءت تبشر المؤمنين بالجنة والكافرين بالنار وما أكثرها!
إن الله يجب عليه ما أوجبه لنفسه كالرحمة، قال تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) (34).
وإذا كان الله لا يجب عليه شئ فلماذا أوجد الثواب والعقاب وبعث الأنبياء والرسل (عليهم السلام)؟!! أفتونا يا أولي الألباب.
وقال القاضي الإيجي في المواقف: " المقصد السابع: تكليف ما لا يطاق جائز عندنا " (35).
وهذه العقيدة الأشعرية مخالفة لصريح القرآن قال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (36) وقال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) (37) فأين هذه العقيدة من القرآن؟!
وقال الأشاعرة: إن الله يأمر بما يكره وينهى عما يحب!! وإن الله يفعل بدون غرض، وإن أفعال العباد مخلوقة لله، وإن أفعالهم خيرها وشرها من الله!! (38).

 السياسة أوجدت المذاهب

بالقراءة المتأنية للتاريخ نجد أن السياسة هي التي أوجدت المذاهب الأربعة وحاربت كل من تمذهب بغيرها. ولو عملت السياسة بالمذاهب الأخرى مثلما عملت بالمذاهب الأربعة لكانت موجودة الآن يتعبد بها الناس ولا يرضون بغيرها بدلا.
فمعتنقوها خلقوا فوجدوا هذه المذاهب في مجتمعاتهم وتبنوها، هذا كل ما في الأمر، وليس في هذا دليل على وجوب اتباعها.
يقول المقريزي: " استمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 566 هـ‍ حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة، وعودي من تمذهب بغيرها، وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم، وأعلن الظاهر بيبرس سد باب الاجتهاد، ومازال أمر بيبرس نافذا بالرغم من زوال ملكه " (39).
قال عبد المتعال الصعيدي: " وإني أستطيع أن أحكم هنا بأن منع الاجتهاد قد حصل بطرق ظالمة، وبوسائل القهر والإغراء بالمال، ولا شك أن هذه الوسائل لو قدرت لغير المذاهب الأربعة التي نقلدها الآن لبقي لها جمهور يقلدها أيضا، ولكانت الآن مقبولة عند من ينكرها " (40).

قيل في الأئمة الأربعة

وهؤلاء الأئمة تكلموا في بعضهم البعض، وانتقدهم العلماء في مختلف العصور، من ذلك: ما أخرجه الخطيب بالإسناد إلى وكيع، قال: اجتمع سفيان الثوري وشريك والحسن بن صالح وابن أبي ليلى، فبعثوا إلى أبي حنيفة، قال: فأتاهم، فقالوا له: ما تقول في رجل قتل أباه، ونكح أمه، وشرب الخمر في رأس أبيه؟ فقال: مؤمن، فقال له ابن أبي ليلى: لا قبلت لك شهادة ابدا، وقال له سفيان الثوري: لا كلمتك ابدا، وقال له شريك:
لو كان لي من الأمر شئ لضربت عنقك وقال له الحسن بن صالح: وجهي من وجهك حرام أن أنظر إلى وجهك ابدا... وعندما سمع بوفاته سفيان الثوري قال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه " (41).
وعن الوليد بن مسلم قال: قال لي مالك بن أنس: أيذكر أبو حنيفة ببلدكم؟ قلت:
نعم، قال: ماينبغي لبلدكم أن يسكن! (42) وقد رد على أبي حنيفة مايقرب من خمسة وثلاثين إماما، منهم: أيوب السجستاني، جرير بن حازم، حماد بن سلمة، أبو عوانة، مالك بن أنس، جعفر بن محمد، والأوزاعي، وعبد الله بن مبارك، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وابن أبي ليلى... " (43).
" وكان الأوزاعي يقول: إنا لاننقم على أبي حنيفة أنه رأى، كلنا يرى، ولكننا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخالفه إلى غيره " (44).
وأخرج الخطيب البغدادي عن أبي صالح القراء، قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعمائة حديث أو أكثر.
قال: وقال أبو حنيفة لو أدركني النبي وأدركته لأخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن " (45).
* * *
وعن سفيان قال: " استتاب أصحاب أبي حنيفة أبا حنيفة مرتين أو ثلاثا " وكان سفيان شديد القول في الإرجاء والرد عليهم (46).
يقول ابن عبد البر: " وممن طعن عليه وجرحه محمد بن إسماعيل البخاري، فقال في كتابه الضعفاء والمتروكين: أبو حنيفة النعماني بن ثابت الكوفي، قال نعيم بن حماد:
حدثنا يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ سمعنا سفيان الثوري يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين، وقال نعيم الفزاري: كنت عند سفيان بن عيينة، فجاء نعي أبي حنيفة، فقال: كان يهدم الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود شر منه. هذا ما ذكره البخاري " (47).
وقال الألباني: " إن الإمام (رحمه الله) - يقصد أبا حنيفة - قد ضعفه من جهة حفظه:
البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن عدي، وغيرهم من أئمة الحديث " ثم ذكر أقوالهم (48).
ولم يسلم أبو حنيفة من التكفير في هذا العصر، فقد كفره زعيم السلفية في مصر حامد الفقهي (49).
أما الإمام مالك بن أنس، فقال فيه ابن عبد البر: " وقد تكلم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة كرهت ذكره وهو مشهور عنه، قال إنكارا منه لقول مالك في حديث البيعين بالخيار، وكان إبراهيم بن سعد يتكلم وكان ابراهيم بن يحيى يدعو عليه، وتكلم في مالك أيضا - فيما ذكره الساجي في كتاب العلل - عبد العزيز ابن أبي سلمة وعبد الرحمن بن زيد بن اسلم وابن اسحاق وابن أبي يحيى وابن أبي الزناد، وعابوا أشياء من مذهبه، وتكلم فيه غيرهم لتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم، وروايته عن داود بن الحصين وثور بن زيد.
وتحامل عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شئ من رأيه حسدا لموضع إمامته، وعابه قوم في إنكاره المسح على الخفين في الحضر والسفر، وفي كلامه في علي وعثمان، وفي فتياه بإتيان النساء في الأعجاز... " (50).
وفي تاريخ بغداد: " أن جماعة من أهل العلم عابوا مالكا بإطلاق لسانه في قوم معروفين بالصلاح والديانة والصدق والأمانة " (51).
أما الشافعي فقد تكلم فيه يحيى بن معين - إمام الجرح والتعديل - فقال عنه:
" ليس بثقة " (52).
قال ابن عبد البر: " وقد صح عن ابن معين من طرق أنه كان يتكلم في الشافعي " (53).

الأئمة الأربعة والسنة الشريفة

وبتتبع آراء الأئمة نجد أنهم خالفوا السنة، كطلاق الثلاث بلفظ واحد، فقد عده الأئمة الأربعة ثلاث طلقات خلافا لسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، (54) وجمع المحقق ابن دقيق العيد المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث الصحيح فيها انفرادا واجتماعا، في مجلد ضخم ((55).
وقد ذكر الألباني خمسا وخمسين مسألة خالف بها الأئمة والفقهاء السنة الصحيحة. وقال ابن حزم عن الأحاديث التي خالفها الأئمة والفقهاء: " لو تتبعها المتتبع لربما بلغت الألوف " (56).
وقال الليث بن سعد: " أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما قال فيها برأيه " (57).
وقد يقال: إن الأئمة خالفوا السنة لأنها لم تصلهم. نعم وهذا احتمال وارد، ولكن ما ذنبنا نحن؟! هل نقلدهم ونخالف السنة لأن السنة لم تصلهم؟! فالذي يظهر لي أننا أمام خيارين: أن نقلدهم ونخالف السنة، أو أن نترك تقليدهم لنتبع السنة، والثاني هو الصحيح، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالإتباع من الأئمة الأربعة، ومن قال غير ذلك فنسأل الله له السلامة!

الخلاصة

بعد ما مضى، نخلص إلى القول بأن هذا المنهج ليس هو المنظومة الإلهية التي يريد الله لنا أن نتبعها، لكثرة الثغرات والجوانب السلبية فيها (58)، فلا دليل على هذا المنهج ورموز هذا المنهج أموات، ولا نستطيع ترجيح مذهب على آخر. كما أن هؤلاء الأئمة كثيرا ما يختلفون ويتعثرون في آرائهم ويخالفون السنة ولو بدون قصد. فضلا عن هذا كله فقد نهوا الناس عن تقليدهم، كل هذا يجعلنا ننتقل نقلة لا رجعة فيها لنرى الأطروحة الثانية فربما نجد بغيتنا.
يقول الزمخشري المفسر المعروف:
 إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به * وأكتمه كتمانه لي أسلم
فإن حنفيا قلت قالوا بأنني * أبيح الطلا وهو الشراب المحرم
وإن مالكيا قلت قالوا بأنني * أبيح لهم أكل الكلاب وهم هم
وإن شافعيا قلت قالوا بأنني * أبيح نكاح البنت والبنت تحرم
وإن حنبليا قلت قالوا بأنني * ثقيل حلولي بغيض مجسم (59)

 


_____________
1 - البداية والنهاية، ابن كثير: 7 / 138.
2 - النووي مقدمة شرح المهذب، تحقيق محمد نجيب مطيعي 1 / 57، وراجع إرشاد الفحول، الشوكاني:
ص 254 - 255.
3 - الحجر: 9.
4 - آل عمران: 103.
5 - الأنفال: 46.
6 - آل عمران: 105.
7 - الأنبياء: 92.
8 - الأنعام: 159.
9 - أسد حيدر: 3 / 12 نقلا عن الغيث المسجم في شرح لامية العجم: 1 / 165.
10 - الفكر السامي: 3 / 38.
11 - البداية والنهاية: 14 / 76. مرآة الجنان: 3 / 343.
12 - معجم البلدان: 1 / 209 و 3 / 117.
13 - تذكرة الحفاظ: 3 / 375.
14 - شذرات الذهب: 3 / 252.
15 - إرشاد النقاد / الصنعاني، وراجع الدين الخالص: 3 / 355.
16 - ميزان الاعتدال: 4 / 51 - 52.
17 - مرآة الزمان: 8 / 44.
18 - الأعراف: 156.
19 - النساء: 82.
20 - الأنعام: 153.
21 - سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1 / 76 ح 57.
22 - الإحكام في اصول الأحكام: 5 / 61.
23 - الأنعام: 38.
24 - النساء: 82.
25 - نهج البلاغة، محمد عبده: 1 / 55.
26 - الأحوال الشخصية / محيي الدين عبد الحميد بحث النسب، وجميع كتب الحنفية.
27 - راجع هذه الأقوال في تأسيس النظر: ص 148 - 149، تحقيق وتصحيح مصطفى محمد القباني الدمشقي، وانظر بدائع الصنائع للكاساني الحنفي: 7 / 35.
28 - تأويل مختلف الحديث: 51.
29 - راجع رسالة مغيث الخلق للجويني: ص 56 - 59، وذكر هذه الحادثة ابن خلكان في وفياته في ترجمة السلطان محمود بن سبكتكين.
30 - راجع كتب الشافعية منها مثلا: مغني المحتاج للخطيب الشربيني: 3 / 178.
31 - صحيح مسلم بشرح النووي: 17 / 160.
32 - لقمان: 33.
33 - الكهف: 49.
34 - الأنعام: 54.
35 - ص 330.
36 - البقرة: 186.
37 - الطلاق: 7.
38 - راجع: المواقف في علم الكلام، والفروق للقرافي، والمذاهب الإسلامية لأبي زهرة 1 / 163.
39 - الخطط المقريزية: 2 / 333. وقد ذهب السيد سابق الى أن للحكام دورا كبيرا في ايجاد هذه المذاهب، راجع: فقه السنة: 1 / 14.
40 - ميدان الاجتهاد: ص 14.
41 - تاريخ بغداد: 13 / 374.
42 - العلل ومعرفة الرجال: أحمد بن حنبل 2 / 547، تحقيق وتخريج وصى الله عباس، وصحح اسناده.
43 - تاريخ بغداد: 13 / 369 - 370.
44 - تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة: ص 52.
45 - راجع هذه الأخبار وغيرها الكثير في تاريخ بغداد: 13 / 369 - 424.
46 - العلل ومعرفة الرجال، وصححه وصي الله عباس: 3 / 239.
47 - الانتقاء: ص 150.
48 - سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1 / 465 عند حديث رقم: 458.
49 - راجع سر تأخر العرب والمسلمين، محمد الغزالي: ص 53 - 54.
50 - جامع بيان العلم: 2 / 1115.
51 - ترجمة ابن إسحاق من تاريخ بغداد.
52 - جامع بيان العلم: 2 / 1114.
53 - المصدر السابق: ص 394.
54 - صحيح مسلم: كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث.
55 - راجع صفة صلاة النبي، الألباني: ص 37.
56 - الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام، الألباني: ص 58.
57 - جامع بيان العلم: 2 / 1080.
58 - ومع أننا انتهينا من مدرسة الأشاعرة وإشكالاتها إلا أن هناك إشكالات اخرى ترد عليها سنعرض لها - في الباب الثاني. ولا داعي لتشخيصها بل يدركها قارئنا اللبيب بنفسه.
59 - ترجمة الزمخشري المطبوعة بالجزء الرابع من الكشاف: 310.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page