• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الخامس والعشرون ردود فعل نبيل ومازن حيال تشيّع قاسم

وإذا ما كنت قد تحدّثت إلى سمير كذلك، وكان القوم من حولنا ممن أقاموا بين ظهرانينا، هم من أهل السنة، وحيث كانوا قد علموا باستبصار قاسم وطلال من قبله، وخالد وعمر، وفلان وفلان وغيرهم.. فكانوا قد انتبهوا إلى أمر وجب عليهم النهوض به وفي الحال. هكذا تصورت حالهم!
وفي ظهيرة اليوم الذي أعقب آخر يوم من أيام محادثاتي العلمية مع سمير، جاءني مازن، حتّى ترادف اليّ سمع فصول حديثي مع سمير وبالتفصيل. حيث كان مازن هذا، شاباً كثيراً ما كنت أجده متقلب الافكار، متغير الشمائل، لا يحسن سوى الانقياد نحو ذات اليمين وذات الشمال، ومن دون التفكير بمغبة ما يفعل. لا أقول ذلك مغالبة، إنّما عنيت حقيقة دون الامعان في مذهبه وطريقته في الحياة. إلاّ أ نّي كنت أجده وكأنه لم يشبّ عن الطوق بعد، ولحد الآن! إلاّ أ نّه بادرني بتحيته، وكأنه يغالب في نفسه شوقاً إلى القاء مرثية أو نعي يتفقد من خلالهما روحي المريضة، وحسبما وجدته يلفيها كأنه أخذ يفكر كيف أن لهذا الشاب (أعني نفسي) سيبدد لحظات عمره، ويتلف أوراق مستقبله هذا، إن عمد الى الاستبصار، وأراد أن يتشيع.. فقال وكأنه يلتقط عصا لحديثه، يتوكأ عليها، علّه يدرج ومن خلالها نحو فضاء يستلقي وفي أرجاء مرجته اليانعة بازهارها، كيما يخبرني بأ نّي سأكون أتعس مخلوق، لو كنت أفكر فيما أحاول أن أقدم عليه، فسألني مازن، وهو يقول:
ــ " أسمعت بالخبر المشؤوم؟! ".
قلت:
ــ " أي خبر؟ ".
قال:
ــ " قاسم! ".
قلت:
ــ " أووه، نعم (ثُمّ التفتّ إليه مستغرباً وأنا تملأني روح ضاحكة في داخل نفسي، لشدما خفت أن أفجرها دون وعي منّي. كنت أمازح ذاتي في دخائلي، وبقدر ما كنت أسائلها مغضباً في ظاهري، أغالب ابتساماتي المفرطة التي ربما انفتلت وانقلبت ضحكات صارخة) ما به؟ ".
سألته، وأنا أكاد استصرخ دموع الفرح في قلبي للأسلوب نفسه، والذي ابتدرت به متسائلا، بعد ان ساءلني هو وبدوره، فجعلت أكابد شوقاً يعتمل في صدري، يسوقني نحو الرغبة اطلاق كركرة ليس لها نظير، ولا أقول ذلك وأنا أشعر بالرثاء لمازن، أو قاسم، أو كأني أحاول أن أسدّد فعل قاسم، لا، وكلا.. إنما والحقيقة لا أكاد أخفيها، لم يكن لدي أيّما تعصب يمكن أن يصطلح عليه كذلك، ولو كنت أتعصب شيئاً ما، إلاّ أ نّي ما كنت أعتبره كذلك، فيما لو قايسوه مع تعصب مازن أو نبيل، فإنّ لمثله أن يختلف عن نسب كلاهما، بمقدار المسافة التي تفصل ما بين السماء والأرض،.. هكذا اعتقدت.. والأدهى من ذلك صرت، أفكر في التغاضي عن ابتسامة، وضحكة أرادت، أن تعتريني ازاء كلام نبيل وأسلوبه، فضلاً عن أسلوبي أن الآخر حياله، فإذا بي أجد نبيل ييمّم بوجهته صوبي.. وذلك لما رأى مازن قد تحلّق حولي حتّى جعل يحاذيني، وكأنه عرف الموضوع الذي يريد مازن أن يطرحه بين يدي.. ولذلك، أراد أن يؤكد حصيلة مازن، ويكرر كلامه، بل لما سيكون هو الآخر وراء مثل هذا الموضوع. فإن بوسع ذهنه أن يخمن أين سأنصاع أكثر، وسيضع مثل هذا التحذير، صنعه في نفسي، وبذلك أكون قد نأيت بنفسي عن التفكير بمثل هذه الترهات (حسب ما يظنون وصدق ظني) فاجأني مازن بالقول:
ــ " إني ما كنت أظنه (قاسم) ليجرؤ ذات يوم على الاقدام على مثل هذه الترهات.. ".
وهنا صارعت نفسي، فلم أجدها هذه المرة، تتمثل حتّى انفجرت بكُلّ ما وسعني المجال خلاله أن أضحك.. وعندها بدأ يفتح قلبه لي حتّى شعرت بأن ضحكتي هذه قد آتت أكلها، وصنعت صنعها، إذا ما اطلقتها حتّى كنت أرى مازن، قد انفتحت قريحته للكلام، وهو يعبر عن حزنه الغالب، وبؤسه الشاحب، وكأني قد شاطرته في مجال التعبير عنه، وهو يقول:
ــ " أجل، فإنه ليستحق الضحك بدلاً من الشعور بالأسى، لأنّ شرّ المصائب ما يضحك، وما أراك إلاّ انك أنت الآخر، لا بدّ وان كنت قد استغربت منه مثل هذا الصنيع. فقاسم الذي كان يقول إنّ هؤلاء مزقوا حتّى الصلاة، وأرادوا أن يتخلصوا من عنائها، فجعلوا يصلوها مجموعة، كيما ينتهوا منها ويستريحوا، فيصلوا الظهر والعصر معاً، والمغرب والعشاء كذلك ".
ــ " وهذا الأفضل، أليس كذلك؟! ".
وما كنت لأفوه بذلك حتّى رماني بنظرات شزراء، وكأن الشرر قد جعل يتطاير منها.. فقال ساخراً:
ــ " باللّه عليك، إن الوقت ليس وقت هذر وتندّر ".
ــ " وماذا في ذلك؟ ".
ــ " أي ذلك؟ ".
ــ " ألا ترغب أن تصلّي أيضاً، وتنتبه كذلك إلى أوضاعك الأُخرى في سائر الأوقات الأُخرى، وتسعى في مناكبها، فلا نصير كحال ذلك الذي جعل يقضي عمره كُلّه في المسجد، ومن ثُمّ وجدوا أن آمر الجحفل قد صار إلى التفكيك والتشتت.. لأ نّه أهمل العناية بشأنه! وجعل يقضي عمره كُلّه في المساجد.. ".
سكتّ، وعدت بعدها إلى الكلام:
ــ " ألا يكون علينا أن نفكر، ولا للحظة واحدة في حسن ما نجده لدى هؤلاء الشيعة، فنستفيد منه نحن الآخرون.. ألا تجد أننا قد أسرفنا في مسائل عفّ الشيعة عن الوقوف عليها، بمثل هذا المقدار الذي نقف نحن عليها.. فإن اللّه لا يدعو إلى التهلكة، بل لا يكلف الإنسان فوق طاقته ".
ــ " إذن، لقد صدق سمير؟ ".
ــ " ما الذي أخبرك به؟ ".
ــ " إنه هو الآخر قد تغير، ولم يتغير قد كنت قد شاركته الحديث في يوم أمس، إنّه قد انقلب على عقبيه ".
ــ " أتقصد أ نّه أنقلب ظهراً لبطن أم.. ".
ــ " لا أعني ما قلت.. هل يثبت ذلك أنك أنت الآخر سائر في الدرب، أم أنك تقف على الأعراف، وتضع نفسك في جملة دول عدم الانحياز ".
ــ " هذا كلام معقول ".
وإذا بنبيل الذي ظل يحوم حول أطراف مجلسنا، وهو يراقب انعكاسات حديثنا، كالدجاجة التي تريد أن تضع بيضها، حتّى إذا ما وجد الفرصة مؤاتية، قفز إلى حلقتنا هذه، ليقلبها مأتماً نعزي فيه بعضنا البعض الآخر. فقال:
ــ ".. وأكثر من ذلك، فإن معسكري الشرق والغرب، يعلن كلٌّ منهما عن مبادئه، ويعلن بين الفينة والأُخرى، أنهما على أهبة الاستعداد لعقد أية مفاوضات، تضمن صلحاً بعيد المدى.. مع أ نّهما لم يكونا وليدي الاعصار القديمة، إنما هما قد أولدتهما الاحقاب المعاصرة. إلاّ أن هذا الأمر الذي بيننا وبين الشيعة ما أراه إلاّ أ نّه يغور في أعماق التاريخ حتّى سيجر بأسبابه نحونا، ويصير بنا صوب التسليم إلى حقيقة مفادها أن الميراث التاريخي لا بدّ وان يحلم بين شدقي العصور والدهور كُلّ حرارة وتعاسة ".
قلت له:
ــ " لا بدّ أنك أنت الآخر تشعر بالحزن تجاه ما فعله قاسم؟ ".
ــ " ولِمَ لا، فإنّي ما كنت أجد أحداً أكثر تعصباً منه لدينه ومذهبه.. وإذا بي ألفيه في ليلة وضحاها يغيّر، ليتغير لدينا قالب الحياة ولونها ".
ــ " لماذا، أكنت تتعبد على مذهبك لأجل قاسم؟ ".
ــ " لا، ولكني كنت أثق به ثقة عمياء جداً، فلا يمكنك أن تتصور إلى اي حد كان له أن يؤثر على كافة قراراتي ".
ــ " أجده واضحاً لا شك ".
ــ " أتمزح؟ ".
ــ " ولِمَ لا؟ وها أنت تثبت أنّه ليس له سلطان عليك ولقد أفردته وحده، دون صاحب وصديق، إلاّ من تراهم حولنا من إخواننا الشيعة. إنّه لا يمكن للعقيدة أن تتلاعب بعواطفنا، فمهما كان لقاسم من تأثير على شخصيتي، إلاّ أ نّي ما كنت لا سمح له ولا لمقدار ذرة من الوقت أن يفحم عقيدتي في عرض مثل هذه الصداقة، فيعرضها إلى الخطر لأجل أن لا يكون بميسوري مثلاً التضحية بمثلها.. هيهات! ".
ــ " أقول، لو أن قاسماً انتقل من المذهب الحنفي إلى الشافعي وإلى الحنبلي، أو إلى المالكي. أكان يستبد بك كُلّ هذا الشك والقلق بمشاعر، وأحاسيس قاسم، بل أكان لك أن تقلب الصورة التي تخيلتها عن قاسم، واحتفظت بها له في داخل سويداء قلبك ".
ــ "؟! ".
وبعد قليل من الصمت، عاد إلى التأكيد:
ــ " فلو أنّه اختار أي مذهب آخر،.. حقيقة! فلو أ نّه اختار أي من.. وتحرك في اطار هذه المذاهب، لما كان لي أن أنسف رأسي بمثل هذا اللون من التفكير أو حتّى بالتفكير به ".
فقلت له:
ــ " كفّ عن هذا، يا أخ! إنك لتقلقني، فإنّي لأراك كأبي لهب! ".
وعندها أمتقع لونه، وذابت وجنتيه، حتّى خلته سيضربني أو يهوى على رأسي بفأس يخفيها في أعطاف ملابسه!
ــ " أبو لهب؟! ".
ابتدرني بعصبية، فقلت له:
ــ " أعذرني، ولكن من دون مقايسة ما بين الدين والتشبيه، فإنّ أبو لهب عرض على رسول اللّه حتّى عرض عليه الآخير الدخول في دين الإسلام، إن يخبره في التعصب لواحدة مما يعبدها أبو لهب نفسه من بين الآلهة التي يعبدها المشركون من قريش، أما مناة، أو اللاة، أو العزّى.. فلو كان ليختار الرسول من يعبده أبو لهب، لقبل الآخر عرضه، ولتحزب له ولعاضده.. إلاّ أنّه لما يدعوه إلى هذا الدين الجديد، فإنه ليسوؤه مثل هذا الأمر، كأشد ما يسؤه حتّى يعلن له العداوة صريحاً ".
ــ " أتقارن مذاهبنا الأربعة بأصنام المشركين من قريش؟ ".
ــ " لا، قلت لك، لم أعن ذلك أبداً.. ولكني عنيت وجه الشبه، وإني لأقسم، لو كان لقاسم ان يتنصر، ويصبح مسيحياً، ويرتد عن دين الإسلام لما كان لك أن تظهر ما تظهره الآن.. وهذا لا يعني إلاّ التعبير عما تكنّه في أنفسنا من عداء للشيعة والتشيع ليس إلاّ.. ذلك لأ نّه وفي نظرنا أن الشيعة أخطر على الإسلام من المسيحية واليهودية، وهو علينا الخطأ الشنيع بنظري.. ".
ــ " اسمع يا هذا، إنّي لا احتمل منك أن تحدثني كذلك ".
عندها طفق مازن ينقل بخط لسانه الذي ألجمه طوال حديثي مع نبيل، وقال مشيراً إلى نبيل أن يسكت، وقال:
ــ " أظنني الآن أمام شخص يصعب التكهن بما يعتقد.. وهو بنظري أخطر على المرء من قاسم وغيره ".
ــ " لماذا يا أخ، أرَاوَدك الشك في عقيدتي، فلو كنت أغير، فإنّي ما كنت لانتظر لحظة واحدة، ولا كنت لأتردد في الاعلان عن صدق دعوتي في التشيع. إلاّ أنّي وكما قلت من قبل قد غدوت على الاعراف.. مع أنّي ما زلت أتعبد على مذهبي، وأحنّ إلى مذهبي، وأقول في نفسي: ليتني أجد من يشاطرني العزاء، ويصنع مذهباً يجمع بين المذهب الشيعي والسني، فأريح واستريح من هذا العناء ".
فقال مازن:
ــ " هذا محال، لا يمكن الجمع بين الخط الأبيض والأسود ".
ــ " ولماذا، فما كان الفجر إلاّ كذلك؟ ".
عندها سكت، ليعلن نبيل عن فكرة أُخرى:
ــ " هذا لا يمكن.. ".
ــ " لماذا؟ ".
ــ " لأ نّه لو كان أن يجتمع العالم كذلك، كان للمسيحي واليهودي أن يفكرا قبلنا، في هذا الأمر ".
ــ " إنك تقلقني بعصبيتك الساذجة هذه، إنّ المسلمين وحدة واحدة، وما كانت مشاريع التقريب بين المذاهب إلاّ كذلك.. ".
ــ " إنّ هذه المشاريع ما هي إلاّ مداراة وتضييع للوقت ".
ــ " يجب علينا أن نتآلف مع بعضنا البعض، ذلك أن دينهم واحد ورسولهم واحد. بينما ما قلت أنت فإن ما كان صاحب المسيحيين واليهود، إلاّ أثنين من الرسل، وما كانت شرعتهما إلاّ من ضمن الشرع البائدة والمنسوخة دون الإشارة فيها إلى عدم صحتهما.. لأنّ موسى وعيسى(عليهما السلام) ما كانا إلاّ مسلمَين، غير أنّي عنيت أنّ زمانهما أنقضي، ما كان للعالمين إلاّ أن يذعنوا لدين محمّد ".
ــ " هذا صحيح، لا شك فيه، ولكن.. ".
قاطعته:
ــ " ومما لا شك فيه كذلك، هو أ نّي كُلّما أبصرت إلى مذهبي، وجدته قد أنقضي، واعتصرته آي السنين من العصور والدهور.. ".
وهنا صرخ نبيل:
ــ " انك تستفزنا! ".
ــ " لا، إنّي لا أستفز أيّما أحد.. لأ نّي وجدتني أُقلد من منع من تقليد نفسه! ".
ــ "؟! ".
ــ ".. بل، ولربما حرم مثل هذا الأمر، وخفي علينا واقعه ".
قال نبيل:
ــ " أتقول إن تقليدنا لأي أحد من الأئمة الأربعة، ليس شرعياً ".
صمتُّ لحظات، ثُمّ قلت له:
ــ " اسمع وعِ..! ".
ــ " إنّما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة ".
ــ " طيب وما معنى هذا الذي تقوله؟ ".
ــ " إن ما قلته ما كان إلاّ عبارة أطلقها لسان مالك بن أنس ".
ــ " الإمام مالك بن أنس؟! ".
ــ " أجل! ".
فقال مازن:
ــ " يقول هذا؟ ".
فقال نبيل:
ــ " وإذن، فهل يمكنك أن تخبرنا بما يقوله الإمام الشافعي بهذا الخصوص؟ ".
ــ " يقول الشافعي: إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط ".
فكاد لبّ مازن أن يطيش قبل أن يخلب عقل نبيل! بينما عدت إلى الكلام، وأنا أقول:
ــ " وإذا كان لكما شوق إلى سماع ما يقوله الإمام أبو حنيفة فهاكما أسمعا مني هذه المقولة: هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي غير هذا قبلناه. حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ".
ــ " إنك تتجرى عليهم ".
قالها مازن!
ــ " لا واللّه ما كنت لأجترئ على أحد بأي ظلم! ".
في حين خيم علينا الصمت قليلاً، وعاد نبيل إلى الكلام:
ــ " وهل يمكنك أن تخبرنا بما يقوله الإمام أحمد بن حنبل في هذا المقام؟ ".
فقلت له:
ــ " إنه يقول: ".
ــ " من ضيق علم الرجال أن يقلدوا الرجال، لا تقلد دينك الرجال فإنّهم لن يسلموا من أن يغلطوا، وقيل له: لم لا تضع لأصحابك كتاباً في الفقه قال: ألأحَد كلام مع كلام اللّه ورسوله؟ ".
وعندها قفز مازن، وهو يعرب عن خطة كان قد بحث عن أوراقها طويلاً
حتّى فتش عنها ووقع عليها بالتالي كيما تنقذه من قبضة هذا الأسر. فقال وكأنه قد خلص من مأزقه الذي لم ير أحد قد دبّره سواي:
ــ " إن هذا هو رمز تواضعهم.. وهم لا يريدون حمل الناس على تقليدهم.. إن مثل هذا ليكون هو أقرب إلى مدحهم من القدح ـ معاذ اللّه ـ عليهم! ".
بينما تجاوزت كلامه، وكأني لم أسمعه.. في حين كان نبيل يبتسم وكأنه كان قد استساغ الفكرة التي عرضها مازن، إلاّ أ نّي شعرت كما لو أ نّه كان في قرارة نفسه، يزداد سخرية من مازن ومما يقول! فقلت:
ــ " لا يجوز ترك آية أو خبر صحيح لقول صاحب أو إمام ومن يفعل ذلك فقد ضل ضلالاً مبيناً وخرج عن دين اللّه ".
فقال نبيل:
ــ " ومن قال هذا؟ ".
قلت:
ــ " محيي الدين بن العربي ".
فسكت كلاهما، وكأنهما لم يسمعا باسمه، فلم يرغبا أن يقولا أنا لا نعرف الرجل، فأعلنا عن دقيقة صمت حداداً على ما تبقى لديهم من معلومات.
فقلت:
ــ " في حين يمكنني أن أورد لكم أقوال عديدة لعظماء من أعلام وعلماء العامة، ومفكريهم وكتابهم! فهاكم قول الشعراني: ".
ــ " لم يبلغنا أن أحداً من السلف أمر أحداً أن يتقيد بمذهب معين، ولو وقع ذلك منهم لوقعوا في الإثُمّ، لتفويتهم العمل بكُلّ حديث لم يأخذ به ذلك المجتهد الذي أمر الخلق باتباعه وحده، والشريعة حقيقة إنّما هي مجموع ما بأيدي المجتهدين كُلّهم لا بيد مجتهد واحد، ومن أين جاء الوجوب، والأئمة كُلّهم قد تبرأوا من الأمر باتباعهم، وقالوا: إذا بلغكم حديث فاعملوا به واضربوا بكلامنا الحائط ".
فقال مازن:
ــ " وابن تيمية ".
فتابعه نبيل:
ــ " أجل.. ابن تيمية، ترى ماذا يقول؟ ".
فقلت:
ــ " سئل الشيخ تقي الدين بن تيمية عن رجل تفقه على مذهب من المذاهب، وتبصر فيه، واشتغل بعده بالحديث فوجد أحاديث صحيحة، لا يعلم لها ناسخاً ولا مخصصاً ولا معارضاً، وذلك المذهب فيه ما يخالف تلك الأحاديث، فهل له العمل بالمذهب، أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالحديث ومخالفة مذهبه؟ ".
ــ " فبماذا أجاب: ".
سأل مازن، فقلت له:
ــ " فأجاب بما هذا نصه: الحمد للّه ربِّ العالمين قد ثبت في الكتاب والسنّة والإجماع أن اللّه افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله صلى اللّه عليه وسلم، ولم يوجب على هذه الأُمّة طاعة أحد بعينه في كُلّ ما أمر به ونهى عنه إلاّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حتّى كان صدّيق الأمة وأفضلها بعد نبيها عليه الصلاة والسلام، ورضي اللّه عنه يقول: أطيعوني ما أطعت اللّه، فإذا عصيت اللّه عزّ وجلّ فلا طاعة لي عليكم. وأتفق كُلّهم على أ نّه ليس أحدمعصوماً في كُلّ ما أمر اللّه به ونهى عنه إلاّ رسول اللّه، ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كُلّ أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلاّ رسول اللّه عليه الصلاة والسلام. وهؤلاء الأئمة الأربع رحمهم اللّه تعالى أجمعين قد نهوا الناس عن تقليدهم في كُلّ ما يقولون، وذلك هو الواجب، قال الإمام أبو حنيفة: هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي خير منه قبلناه، لهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس وسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخراوات، ومسألة الاجناس؟ فأخبر مالك بما دلت عليه السنة في ذلك. فقال أبو يوسف: رجعت لقولك يا أبا عبد اللّه ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. ومالك رحمه اللّه كان يقول: إنّما أنا بشر أصيب وأُخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة، أو كلام هذا معناه، والشافعي رحمه اللّه كان يقول: إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على ففريق قولي ".
وعندها كانا قد أصبحا وكأن على رأسيهما الطير.. فلقد وفر عليهما هذا الخبر مؤونة السؤال عن مصادر مقالات ائمة المذاهب الأربعة التي أوردتها لهم.. وما أنساهم السؤال عنها إلاّ لجاجتهما واضطرابهما المتأرجح ما بين التسليم صاغرين وما بين العناد معاندين.. بينما خرج عليّ مازن هذه المرة وكأنه يطلق باتجاهي آخر قذيفة تيسر له العثور عليها.. فاطلقها ومن دون ان يعرف اين ستصطدم، فقال لي:
ــ " وهذا الخبر، أين قرأته، هل يمكنك أن تخبرنا؟ ".
فقلت له وبكل هدوء وأناة:
ــ " انه في كتاب جلاء العينين للآلوسي، ص 107 ".
ــ "؟! ".
ــ " من حصر فضل اللّه على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره، فقد تجرأ على اللّه عزّ وجلّ، ثُمّ على شريعته الموضوعة لكُلّ عباده الذين تعبدهم بالكتاب والسنة، فإذا كان التعبد بهما مختصاً بأهل العصور السابقة ولم يبق لهولاء المتأخرين إلاّ التقليد لمن تقدمهم ولا يتمكنون من معرفة كتاب اللّه وسنة رسوله فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة، والمقالة الزائفة، وهل النسخ إلاّ هذا؟ سبحانك اللّهم هذا بهتان عظيم ".
ــ " ومن قال هذا؟ ".
قالها مازن..
قلت:
ــ " أوردها الآلوسي في جلاء العينين، ص 107، حيث قال إن حسن خان كان هو قائلها ".
ــ " ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه لا يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلداً فيه غير إمامه مستجمعاً شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر لأن إمضاء القاضي لا ينقض ".
ــ "؟! ".
ــ " أما هذه فكانت لابن عابدين ".
ــ "؟! ".
ــ " إعلم أن المقلد على غير فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل،لأ نّه إنّما خلق للتدبر، وقبيح بمن أُعطيَ شمعة يستضيء بها أن يطفئهايمشي في الظلمة. وأعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال، وهذا عين الضلال، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل ".
ــ " هه، انتظر.. من قائل هذه الأخيرة؟ ".


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page