• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

تطور مفهوم أهل السنة

لكن مصطلح " أهل السنة " سيعرف تطورا في المفهوم، حيث ستتعدد مصاديقه. فأهل السنة أو أصحاب الحديث والأثر سيقابلهم أهل الرأي.
وعندما ظهرت المدارس اللغوية والفقهية والكلامية فيما بعد انقسمت إلى اتجاهين اثنين، (الرأي والقياس، وأصحاب الحديث والأثر). تيار يعتبر الرأي والقياس ويعتمده فيما يصل إليه من نتائج، وتيار يقدم الحديث أو النص ولا يتركه إلى غيره. وظهر عند كلا التيارين إفراط وتفريط. لقد أطلق مصطلح " أهل السنة " قبل ظهور الأشعري على جميع المحدثين ولم يكن يعني لدى أصحابه والملقبين به، سوى أنهم أصحاب الحديث النبوي، رواته وجامعوه والمدافعون عنه والعاملين بمضمونه. كما اختص جماعة آخرون بهذا اللقب كعبد الله بن سعيد الكلاب وأبو العباس أحمد بن عبد الرحمن القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي. وذلك لقيامهم بالرد على عقائد المعتزلة وتفنيد آرائهم. وقد كون هؤلاء الثلاثة وبالخصوص ابن كلاب مدرسة فكرية في العقائد، سيكون لها أبلغ الأثر في مدرسة الأشعري الكلامية والتي سترث عنها لقب " أهل السنة ".
كما سيعرف هذا اللقب مفهوما اصطلاحيا جديدا لا يحيد عنه ابتداء من القرن الرابع الهجري وإلى الآن. يقول أحمد أمين: سمي الأشعري وأتباعه والماتريدي وأتباعه ب‍ " أهل السنة " وقد استعملت كلمة " أهل " بدل النسبة فقالوا: أهل السنة أي السنيين... وسمي المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد، وسمي المبتدعة أهل الأهواء...
والسنة في " أهل السنة " تحتمل أحد معنيين: إما أن تكون السنة بمعنى الطريقة أي أن أهل السنة اتبعوا طريقة الصحابة والتابعين في تسليمهم بالمتشابهات من غير خوض دقيق في معانيها. بل تركوا علمها إلى الله، وإما أن تكون السنة بمعنى الحديث. أي أنهم يؤمنون بصحيح الحديث ويقرونه من غير تحرز كثير وتأويل كثير كما يفعل المعتزلة... واسم أهل السنة كان يطلق على جماعة قبل الأشعري والماتريدي. وقد حكي لنا أن جماعة كان يطلق عليها " أهل السنة " وكانت تناهض المعتزلة قبل الأشعري. ولما جاء الأشعري وتعلم على المعتزلة، اطلع أيضا على مذهب " أهل السنة " وتردد كثيرا في أي الفريقين أصح ثم أعلن انضمامه إلى " أهل السنة " وخروجه على المعتزلة (1).
وأهل السنة الذين سبقوا الأشعري هم كما ذكرنا مدرسة ابن كلاب ومناصريها أبو العباس القلانسي والمحاسبي، فهم الذين اشتهروا بالرد على المعتزلة. وأطلق الباحثون عليهم لقب " أوائل أهل السنة " (2). وعليه فإن لقب " أهل السنة " قد عرف فعلا تطورا في مفهومه الاصطلاحي وانطباقه. فلم يعد يعني " أصحاب الحديث والأثر " ومن حدا حدوهم بالتحديد، ولكنه أصبح يختص بمجموعة من العلماء قد لا يكونون ممن يشتغل بعلوم الحديث ويقفون عندها. بل ممن اشتغلوا بالكلام والرد على المعتزلة. ونحن نعلم نفور المحدثين كافة من علم الكلام وتضليل أصحابه والنهي عن الاشتغال به (3).
إن الاشتغال بعلم الكلام والرد على عقائد الاعتزال بالحجج العقلية مدعومة بالأدلة النقلية كما فعلت ذلك مدرسة ابن كلاب وأتباعها سيفجر الصراع مبكرا بين " أصحاب الحديث " و " أهل السنة الأوائل ". الممثلين في ابن كلاب والقلانسي والمحاسبي. لكن هل كان كل علماء الحديث وأصحابه على هذا الرأي، أي محاربة وذم الكلام وأصحابه ؟.
إن مدرسة ابن كلاب أو " أوائل أهل السنة " إنما اشتغلوا بعلم الكلام للدفاع عن عقائد أهل الحديث والانتصار لها. واعتمادهم العقل بجانب النقل فلكون خصومهم المعتزلة يعتمدون العقل، أما النقل فيلجأون إليه في حدود ضيقة لخوفهم - أي المعتزلة - من السقوط في الحشو، وما أدخل في الحديث النبوي من عقائد فاسدة. وإذا لماذا خاصمهم أصحاب الحديث وشنعوا عليهم ورموهم بالانحراف ؟.
الحقيقة أن فريقا مخصوصا من أهل الحديث هم من حمل راية الهجوم على " أوائل أهل السنة " ووصفوهم بالابتداع. هذا الفريق هم " حشوية أهل الحديث "، وهم سلف " السلفية الحشوية " كما ذكرنا سابقا. والنصوص التي تدعم هذا الرأي كثيرة.
يرى أهل السلف أو بمعنى أدق " الحنابلة " وخاصة المتأخرين منهم، إنه ضاق بابن كلاب والقلانسي وأضرابهما النفس بضآلة معرفتهم بالسنن وتركهم قبولها، والتجائهم إلى العقل، وهذا خطأ كبير من الحنابلة، لأن ابن كلاب والقلانسي كانا من أعمق المحدثين، ولكنهما اعتبرا الآثار الواردة في أن كلام الله حروف وأصوات قديمة، أخبار آحاد لا توجب علما. والحنابلة لا يرون هذا، ويرون أن ابن كلاب والقلانسي وغيرهما " التزموا ما قالته المعتزلة، وركبوا مكابرة العيان وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة المسلم والكافر (4). وقول النشار " الحنابلة " ليس دقيقا لأن من قال بأن كلام الله حرف وصوت وهو قديم، إنما هم " حشوية الحنابلة ". أما باقي الحنابلة فقد كانوا على رأي الأشاعرة " أهل السنة " في الأصول. أو مفوضة متوقفين على الخوض في هذه المسائل.
ومما يؤكد هذا القول أن ابن خزيمة صاحب كتاب " التوحيد " يعتبر من أهم رجالات " الحشوية السلفية " قديما وحديثا وقد كان من أعداء مدرسة ابن كلاب ومن تبعه من الأشاعرة متقدمين ومتأخرين.
إن المفهوم الاصطلاحي الجديد " لأهل السنة " سيعني بعد ظهور الأشعري وانتشار مذهبه في الآفاق، مدرسة كلامية في العقائد تقابل مدرسة الاعتزال.
وسيكون لها منهجها الخاص في تناول العقائد وترتيبها وتفريعها والدفاع عنها. لم يكن لأهل الحديث مدرسة فكرية عقائدية متكاملة أو مدونة يجتمعون عليها قبل الأشعري وتلامذته. إنما تشاطرتهم عدة آراء وأفكار ومعتقدات متضاربة سيتميز فيها تيار الحشو السلفي، الذي سيكون لنفسه فيما بعد مذهبا خاصا في الأصول بعد ظهور المحدث الكبير أحمد بن حنبل على الساحة الدينية الإسلامية واشتهاره.
وأتباع أبي الحسن الأشعري عندما يعرضون لمنهج أستاذهم وطريقته الجديدة التي أتى بها، لا يعتبرونه مجرد عالم بالعقائد يتبع أصحاب الحديث وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، بل أكدوا على أن منهجه هو التوفيق بين طرفين متقابلين. ولدينا شاهد واضح على ذلك هو نص طويل للجويني يذكره ابن عساكر في " تبيينه ". فالقاضي المشهور يبين كيف اتبع إمامه، في أمهات المسائل طريقا وسطا بين إفراط المعتزلة وتفريط الحشوية، وهم في الحقيقة من غلاة الحنابلة (5).
ويرى الدكتور مصطفى الشكعة أن الإمام أبا الحسن الأشعري قد استطاع أن يصدر أحكاما في قضايا العقائد في جو من الاعتدال والصفاء بعيدا عن التهور والاندفاع، بالرغم من أن بعض الفقهاء ارتابوا في عقيدته وأن " الحنابلة " رموه بالكفر، فإن ذلك لم ينهض دليلا على زيغه (6) بل نصره كبار العلماء كأبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني والإسفرائيني وغيرهم من الأعلام الذين تبنوا أفكاره بعد موته. وقد سمي هؤلاء الأعلام رأي الأشعري بمذهب " أهل السنة والجماعة " (7). ويعزز ابن خلدون المؤرخ هذا الرأي كذلك، حينما يعلن بأن منهج الأشعري توسط بين الطرق. وقد ذهب الدكتور الشكعة وغيره من المؤرخين إلى أن أول من لقب " بأهل السنة " هم الأشاعرة.
حيث أصبح المذاهب الذي خرج به أستاذهم هو بالذات " مذهب أهل السنة " في الإسلام (8) وبعد ظهور أبو منصور الماتريدي وتصنيفه في العقائد " قرر الكثير من علماء المذهب الحنفي أن النتائج التي وصل إليها تتفق تمام الاتفاق مع ما قرره أبو حنيفة في العقائد. كما قرروا أن آراء أبي حنيفة في العقائد هي الأصل الذي تفرعت منه آراء الماتريدي ". وقد خالف الماتريدي أصحاب الحديث جميعا لأنه اعتمد على العقل بإرشاد الشرع، كما أوجب النظر العقلي.
ولذلك اعتبر هذان المذهبان في العقائد والأصول هما " مذهب أهل السنة الكلامي " في مقابل المعتزلة وحشوية الحنابلة. لقد سلكت مدرسة الأشعري والماتريدي - كما يقول المؤرخون من أهل السنة - سبيل التوسط والتوفيق، الأشعري توسط بين أهل الحديث والمعتزلة، والماتريدية توسطوا بين الأشاعرة والمعتزلة، ينتصرون لأهل الحديث حينا، ولبعض آراء المعتزلة حينا آخر.
وقد عرفت مدرسة الأشعري الكلامية خصوصا، شهرة واسعة وانتشارا كبيرا، غطت معه أو كادت على مدرسة الماتريدي الكلامية. وعلل بعض المؤرخين ذلك إلى انطلاقة هذه المدرسة من بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، وتبني بعض الحكومات لمذهبها العقائدي بالخصوص. ومهما يكن فقد نال الأشعري بذلك منزلة عظيمة وصار له أنصار - كما يقول الشيخ أبو زهرة - فتعقب خصومه من المعتزلة وأهل الأهواء والكفار، وبث أنصاره في الأقاليم يحاربون خصوم الجماعة (9)، ومخالفيها ولقبه أكثر علماء عصره بإمام " أهل السنة والجماعة " (10). لكن حشوية الحنابلة ومن تبعهم من السلفية لم يرتضوه إماما لهم. فشكوا أولا في حقيقة توبته من الاعتزال، ثم كفروه وأصحابه. ودارت بين الفئتين حروب الدامية، وفتن ومساجلات فكرية عليه طول التاريخ الإسلامي وإلى يوم الناس هذا. كلا المدرستين تدعي لنفسها اتباع السلف، وتعتبر نفسها دون غيرها المستحق للقب " أهل السنة " لكن المحقق في عقائد الفريقين، الأشاعرة والماتريدية " أهل السنة " و " حشوية الحنابلة " السلفية، يجد تباينا واضحا واختلافا كبيرا ينطلق من المنهج ويتعمق من خلال النتائج وتفريعاتها.
وهذه الاختلافات العقائدية، وما جرى بين الفريقين من تطاحن واقتتال على مدى أكثر من عشرة قرون يوضح بما لا مجال للشك أن مدرسة " أهل السنة " الكلامية ممثلة ب‍ " الأشاعرة والماتريدية " وخصومهم " حشوية الحنابلة " أو " السلفية " وعلى رأسهم زعيمهم ابن تيمية الحنبلي. فرقتان أو مدرستان مختلفتان تماما عن بعضهما البعض في المنطلقات وفي النتائج. وأن أي محاولة لدمج المنهجين، واعتبار الفريقين يمثلان تيارا واحدا يسمى تارة بأهل السنة والجماعة، وتارة بالسلف أو السلفية، إنما هي محاولة قاصرة ينقصها التحقيق والمعرفة الدقيقة بكلا المدرستين. وإن وجد بعض الكتاب قديما وحديثا يخلطون في إيراد هذين المصطلحين ويقصدون بهما مفهوما معينا واحدا فيقولون: " السلف أو مذهب السلف " ويقصدون به " أهل السنة " من أشاعرة وماتريدية وكذلك يوردون مصطلح " أهل السنة " ويقصدون به " الحشوية الحنبلية ".
وقد كثر استعمال هذا المصطلح " أهل السنة " لدى " السلفية الوهابية " المعاصرة في كتبهم وبحوثهم. وليس يعني عندهم سوى منهج ابن تيمية بالخصوص، وتلميذه ابن القيم الجوزية. الصادرين عن الإطار العام لمذهب الإمام أحمد بن حنبل، وباقي السلف من الحشوية الحنبلية وأهل الحديث.
***


____________
(1) أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج 4 ص 97.
(2) أنظر نشأة الفكر الفلسفي، مصدر سابق، الجزء الأول.
(3) سيدفع هذا الموقف الأشعري إلى تأليف رسالة في الدفاع عن الكلام وجواز الاشتغال به.
أنظر رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام للأشعري، طبعت في حيدر أباد بالهند الطبعة الأولى سنة 1323 ه‍.
(4) نشأة الفكر الفلسفي، م س، ج 1 ص 282.
(5) لويس غرديه، وج قنواتي، فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، ج 1 ص 102.
(6) الدكتور مصطفى الشكعة، إسلام بلا مذاهب، الدار المصرية للطباعة والنشر بيروت ص 462.
(7) فلسفة الفكر الديني، م س، ج 1 ص 92.
(8) المدخل إلى دراسة الأديان والمذاهب، العميد عبد الرزاق محمد أسود، الدار العربية للموسوعات، بيروت ط 1 - 1980 م، ج 3 ص 221.
(9) سمي العام الذي أخذ فيه معاوية بن أبي سفيان الخلافة من الحسن بن علي بعام الجماعة، وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبر وغلبة أنظر الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام، دكتور نوري جعفر، ص 47.
(10) المذاهب الإسلامية: ص 278.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page