الفصل الثامن
وأمّا حديث عامر بن شُراحيل الشَّعْبيّ ؛ فقد أخرجه ابن جريرٍ في (تفسيره) (96) قال : حدّثنا ابن حُميدٍ ، قال : حدّثنا جَريرٌ ، عن عطاءٍ ، عن عامرٍ : لمّا حضر أبا طالبٍ الموتُ قال له النبيّ صلى الله عليه وآله : يا عمّاه ، قل : لا إله إلّا الله ، أشهد لك بها يومَ القيامة ، فقال له : ياابن أخي ، إنّه لولا أن يكون عليك عارٌ لم أُبالِ أن أفعل ، فقال له ذلك مراراً ، فلمّا مات اشتدّ ذلك على النبيّ صلى الله عليه وآله وقالوا : ما تنفع قرابة أبي طالبٍ منك ؟ فقال : بلى ، والذي نفسي بيده إنّه الساعةَ لفي ضَحْضاحٍ من النار ، عليه نعلان من نارٍ تغلي منهما أُمّ رأسه ، وما من أهل النار من إنسان هو أهون عذاباً منه .
قلت : ذا حديثٌ مرسلٌ ، ومحمّد بن حُميدٍ الرازيّ - شيخ ابن جريرٍ - كذّبه الجمّ الغفير من أئمّة الجرح والتعديل (97) .
وفي طريقه أيضاً : جرير بن عبد الحميد بن قُرْطٍ الضَّبّيّ أبو عبد الله الرازيّ ، وقد حكى الشاذكونيّ عنه ما يدلّ على التدليس ، قال : حدّثنا - يعني جريراً - عن مُغِيرَة ، عن إبراهيم ؛ في طلاق الأخرس ، ثمّ حدّثنا به عن سفيان ، عن مُغِيرة ، ثمّ وجدته على ظهر كتابٍ لابن أخيه ، عن ابن المبارك ، عن سفيان ، عن مُغِيرَة .
قال : سليمان الشاذكونيّ : فوقّفتُ جريراً عليه فقال لي : حدّثنيه رجلٌ عن ابن المبارك ، عن سفيان ، عن مُغِيرَة ، عن إبراهيم .
قال الحافظ ابن حجرٍ : إنْ صحّت حكاية الشاذكونيّ فجريرٌ كان يدلّس (98) (اهـ) .
ثمّ إنّ جريراً قد سمع من عطاء بن السَّائب بعدَ اختلاطه ، فليس سَماعه بشيءٍ - كما قال الإمام أحمد - وقال ابن مَعينٍ : ما سَمِعَ منه جَريرٌ وذووه ليس من صحيح حديثه ، وقال أيضاً : جميع من سمع من عطاءٍ سمع منه في الاختلاط إلّا شعبة والثوريّ (99) .
وقال ابن الجارود في (الضُّعفاء) : حديث سفيان وشعبة وحمّاد بن سَلَمة عنه جيّدٌ ، وحديث جريرٍ وأشباه جريرٍ ليس بذاك (100) .
وفي الطريق أيضاً : أبو عمروٍ عامر بن شُراحيل الهَمْدانيّ الشَّعْبيّ ، وقد كذّبه إبراهيم النخعيّ ، قال ابن عبد البَرّ في (جامع بيان العلم وفضله) (101) : ذكر الحسن بن عليٍّ الحلوانيّ ، قال : حدّثنا نعيم بن حمّادٍ ، حدّثنا أبو معاوية ، عن الأعمش قال : كنتُ عند الشَّعبيّ فذكروا إبراهيم ، فقال : ذاك رجلٌ يختلف إلينا ليلاً ويحدّث الناس نهاراً ، فأتيتُ إبراهيم فأخبرته ، فقال : ذاك يحدّث عن مسروقٍ ، والله ما سمع منه شيئاً قطّ .
وقال ابن عبد البَرِّ أيضاً : حدّثنا أحمد بن محمّدٍ ، حدّثنا أحمد بن الفضل ، حدّثنا محمّد بن جريرٍ ، حدّثنا زكريّا بن يحيى ، حدّثنا قاسم بن محمّد بن أبي شَيْبة ، حدّثنا أبو معاوية ، عن الأعمش قال : ذُكر إبراهيم النخعيّ عند الشَّعْبيّ فقال : ذاك الأعور الذي يستفتي بالليل ويجلس يُفتي الناسَ بالنهار ، قال : فذكرتُ ذلك لإبراهيم فقال : ذاك كذّابٌ ، لم يسمع من مسروقٍ شيئاً .
قال ابن عبد البَرّ : وذكر ابن أبي خَيْثَمة هذا الخبر عن أبيه ، قال : كان هذا الحديث في كتاب أبي معاوية ، فسألناه عنه فأبى أن يحدّثنا به (102) (اهـ) .
على أنّ الشَّعْبيّ ممّن والى بني أميّة اللئام - الشجرةَ الملعونةَ في القرآن - فكان من قضاة بني مروان ، وقد حُكي أنّ جميلة بنت عيسى بن جرادٍ - وكانت جميلةً كاسمها - ارتفعت إليه مع خصمٍ لها ، وكان الشَّعْبيُّ قاضي عبد الملك فقضى لها ، فقال هُذَيْل الأشجعيّ :
فُتِنَ الشَّعْبيُّ لَمّا***رَفَع الطَّرْفَ إليها
فَتَنَتْهُ بثنايا ***ها وقَوْسَيْ حاجِبَيْها
وَمَشتْ مَشْياً رُوَيْداً ***ثمّ هزّت مَنْكِبَيْها
فقضى جَوْراً على الخص ***-م ولم يقضِ عليها
فقبض الشعبيّ عليه وضربه ثلاثين سوطاً (103) . _______________________ 96ـ جامع البيان : 20 / 59 .
وكان من المتحاملين على أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، فقد دخل على الحجّاج بن يوسف الثقفيّ ونال من أمير المؤمنينعليه السلام فغضب منه الحسن البصريّ وجعل يعظه (104) .
وقال شمس الدين أبو الخير محمّد بن الجَزَريّ في (طبقات القرّاء) (105) : رُوِّينا عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ أنّه قال : ما رأيتُ ابنَ أُنثى أَقْرَأ لكتاب الله تعالى من عليٍ عليه السلام .
وقال أيضاً : ما رأيتُ أقرأَ من عليٍعليه السلام عرض القرآن على النبيّ صلى الله عليه وآله .
قال ابن الجَزَريّ : وهو من الذين حفظوه أَجْمَعَ بلا شكٍّ عندنا ، وقد أَبْعَدَ الشَّعْبيُّ في قوله : إنّه لم يحفظه .
قال يحيى بن آدم : قلت لأبي بكر بن أبي عيّاشٍ : يقولون : إنّ عليّاً رضى الله عنه لم يقرأ القرآن ، فقال : أبطل مَن قال هذا ، عرض عليه أبو عبد الرحمن السُّلَميّ وأبو الأسود الدُّؤَليّ وعبد الرحمن بن أبي ليلى (اهـ) .
فإذا كان هذا قوله في أمير المؤمنين ؛ فما ظنّك بقوله في أبيه ، فلا بِدْعَ أن يتجاهر بعداوة آل أبي طالبٍ ، فيروي مثل هذا الإفك البيِّن في حقّ شيخهم و{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (106) } .
على أنّه قد روى عبد الله بن أبي الصَّقر ، عن الشَّعْبيّ يرفعه عن أمير المؤمنين عليٍعليه السلام قال : كان - والله - أبو طالبٍ عبد مناف بن عبد المطّلب مؤمناً مسلماً ، يكتم إيمانه مخافةً على بني هاشمٍ أنْ تُنابذها قريش (107) .
97ـ أُنظر : تهذيب التهذيب : 5 / 85 - 86 .
98ـ تهذيب التهذيب: 1 / 369.
99ـ تهذيب التهذيب : 4 / 131 .
100ـ تهذيب التهذيب : 4 / 133 .
101ـ جامع بيان العلم وفضله : 2 / 1099 .
102ـ جامع بيان العلم وفضله : 2 / 1100 .
103ـ شرح نهج البلاغة : 17 / 66 .
104ـ إحياء علوم الدين : 2 / 346 .
105ـ غاية النهاية في طبقات القرّاء : 1 / 546 .
106ـ الفجر : 14 .
107ـ الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالبٍ : 122 .