الفصل العاشر
فإن قال قائلٌ : لا سبيلَ إلى ردّ حديث الضَّحْضاح وإبطاله ، والطَّعن عليه بخَلْقه وافتعاله ، لأنّ الشيخين قد اتّفقا على إخراجه في (الصحيحين) وهما أصحّ الكتب بعد كتاب الله العزيز بإجماع العلماء ، وتلقَّتْهما الأمّة بالقبول (112) .
قلنا : سبحانك اللّهمَّ هذا بُهتانٌ عظيم ، قُتِل الأفّاك الأثيم ، كيف وأنّ هذه دعوىً زائفة وحديث خُرافة ، لا يتفوّه بها إلّا مَن لم يُمْعِنْ نظرَه فيما يقول ، وإنْ عُدَّ صاحبها من الجهابذة الفحول .
فقد نقل الحافظ شمس الدين ابن الجَزَريّ في (المَصْعد الأحمد) (113) عن ابن تَيميّة أنّه قال : إنّ الموضوع يُراد به ما يُعلم انتفاء خبره ، وإن كان صاحبه لم يتعمّد الكذب بل أخطأ فيه .
قال : وهذا الضَّرْب في المسْنَد - يعني مسند أحمد - منه ، بل وفي سُنَن أبي داود والنّسائيّ وفي صحيح مسلمٍ والبخاريّ أيضاً ألفاظٌ في بعض الأحاديث من هذا الباب (اهـ) .
وصرّح ابن حَزْمٍ وجماعة بوضع الحديث الذي رواه مسلم من طريق عِكْرِمَة ابن عمّارٍ ، عن أبي زُمَيْلٍ ، عن ابن عبّاسٍ قال : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يُقاعدونه ، فقال للنبيّ صلى الله عليه وآله : يا نبيَّ الله ، ثلاثٌ أعطنيهنّ ، قال : نعم ، قال : عندي أحسن العرب وأجمله أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان أُزوّجكها ، قال : نعم . . الحديث .
فهذا مخالفٌ لما ثبت بالتواتر أنّ اُمّ حبيبة تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وآله قبل إظهار أبي سفيان للإسلام ، زوّجها إيّاه النجاشيّ وهي في الحبشة ، ثمّ قَدِمَت على رسول الله صلى الله عليه وآله قبل أن يُظهر أبوها الإسلام ، لا خلاف بين أهل السِّيَر في ذلك (114) .
قال الحافظ أبو الفيض شهاب الدين أحمد بن الصِّدِّيق : والحقّ أنّه موضوعٌ حصل عن سهوٍ وغلطٍ ، لا عن قَصْدٍ وتعمّدٍ ، والموضوع الذي من هذا القبيل موجودٌ في الصحيحين (115) (اهـ) .
وحديث الإسراء الذي رواه الشيخان من رواية شَريكٍ ؛ فيه زياداتٌ باطلة مخالفة لما رواه الجمهور ، وَهَمَ فيها شَريكٌ ، إلّا أنّ مسلماً ساق إسناده ولم يسُق لفظَه .
وأخرج البخاريّ من حديث أبي هريرة مرفوعاً : يلقى إبراهيمعليه السلام أباه آزَرَ يوم القيامة وعلى وجه آزَرَ قَتَرَةٌ وغَبَرَةٌ - الحديث ، وفيه : فيقول إبراهيم : ياربّ ، إنّك وعدْتني أنْ لا تُخْزيَني يومَ يُبعثون ، فأيّ خزيٍّ أخزى من أبي .
وقد طعنوا فيه بأنّه مخالفٌ لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِِ تَبَرَّأَ مِنْهُ (116) } .
وقال الإسماعيليّ : هذا خبرٌ في صحّته نظر ، من جهة أنّ إبراهيمعليه السلام عَلِمَ أنّ الله لا يُخلف الميعاد ، فكيف يجعل ما صار لأبيه خزياً ، مع علمه بذلك؟
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أيضاً : خلق الله التربة يوم السبت ، وذكر باقي الأيّام ، وقد حكموا بوضعه لمخالفته نصَّ القرآن في أنّ الخلق كان في ستّة أيّامٍ لا في سبعةٍ ، ولإجماع أهل الأخبار على أنّ السبت لم يُخْلَقْ فيه شيءٌ ، وقد بيّن علّته البيهقيّ في (الأسماء والصفات) وأشار إلى بعضها ابن كثيرٍ في تفسير سورة البقرة ، وأنّه ممّا غلط فيه بعض الرواة فرفعه ، وإنّما سمعه أبو هريرة من كعب الأحبار .
إلى غير ذلك من أَحْرُفٍ وقعت في (الصحيحين) من هذا القبيل ، ترى الكثير منها في كلام ابن حزمٍ على الأحاديث (117) .
ونحن قد تكلّمنا على حديث السُّباطة وحديث سحر النبيّ صلى الله عليه وآله - وهما في الصحيحين - في جزءَيْن مُفْردَيْن ، وبيَّنّا بطلانَهما وعدمَ صحّتهما ، فالله المستعان .
وصرّح الإمام الحافظ أبو الفيض شهاب الدين أحمد بن محمد بن الصدِّيق الحسنيّ الغُماريّ المغربيّ في خاتمة كتابه (المُغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير) (118) : بأنّ في أحاديث الصحيحين ما هو مقطوعٌ ببطلانه .
قال : ولا تَتَهيَّب الحكمَ عليه بالوضع لما يذكرونه من الإجماع على صحّة ما فيهما ، فإنّها دعوىً فارغةٌ لا تثبت عند البحث والتمحيص ، فإنّ الإجماع على صحّة جميع أحاديث الصحيحين غير معقولٍ ولا مقبول .
قال : وليس معنى هذا أنّ أحاديثهما ضعيفة أو باطلة ، أو يوجد فيها ذلك بكثرةٍ كغيرهما من المصنَّفات في الحديث ، بل المراد أنّه يوجد فيهما أحاديث غير صحيحةٍ ، لمخالفتها للواقع ، وإن كان سندها صحيحاً على شرطهما ، وقد يوجد من بينها ما هو على خلاف شرطهما أيضاً - كما هو مبسوطٌ في محلّه - (انتهى) .
ولسيّدنا الإمام الشريف ابن شرف الدين العامليّ رحمه الله تعالى سَبْرٌ عميقٌ - في بعض مصنّفاته - لجملةٍ من أحاديث الصحيحين الواردة من طريق أبي هريرة وغيره ، فينبغي لبُغاة الحقّ وأرباب العلم والفضل الوقوف على ذلك ، والله الموفّق والمستعان .
هذه نُبذة يسيرة ممّا يتعلّق بمتون أحاديث الصحيحين .
وأمّا أسانيدها ، فقد يوجد من بينها ما هو على خلاف شرط البخاريّ ومسلم - كما مرّ آنفاً في كلام الحافظ ابن الصِّدِّيق - بل في رجال الصحيحين من رُمي بالكذب والوضع وتحريف حديث الرسول صلى الله عليه وآله بل فيهم فسّاق ، زنادقة لا إسلامَ ولا ا يمانَ ، فضلاً عن العدالة في الرواية (119) .
فمعاذَ الله أن يكون الكتاب الذي فيه حديث حَريز بن عثمان وعمران بن حَطّان من الكتب المقتصرة على الصحيح ، ولو أجمع على ذلك الجنّ كما أجمع عليه البشر ، كذا أفاد شيخنا العلّامة المحدّث أبو اليسر جمال الدين عبد العزيز بن الصِّدِّيق في (الباحث) (120) .
قال رحمه الله تعالى : ومن رجع إلى ترجمة حَريز بن عثمان يعرف ما نقول ، ويتحقّق أنّ حديث الملعون ينبغي أنْ يُذكر في (الموضوعات) لابن الجوزيّ (اهـ) .
___________________________
112ـ شرح النوويّ على صحيح مسلم : 1 / 20 - هَدْي الساري : 12 - 364 .
113ـ المَصْعد الأحمد في ختم مسند أحمد : 16 .
114ـ اُنظر : شرح صحيح مسلم للنوويّ : 9 / 397 .
115ـ فتح الملك العليّ : 123 .
116ـ التوبة : 114 .
117ـ فتح الملك العليّ : 124 - وانظر : نفحات الأزهار : 6 / 182 - 235 .
118ـ المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير : 138 .
119ـ الباحث عن عِلل الطعن في الحارث : 12 - 21 .
120ـ الباحث عن عِلَل الطعن في الحارث : 6 .