لقد هاجم ابن تيمية علماء الكلام والمشتغلين به، وكذا الفلاسفة ووصف نهجهم بأنه خلاف طريقة السلف وأن القرآن قد جاء بأفضل الطرائق لتوضيح عقائد التوحيد والدفاع عنها، فلسنا في حاجة إلى هذا العلم ولا إلى مصطلحاته، لذلك حمل على أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية لانشغالهم بهذا العلم ونسبهم إلى الانحراف.
وهذا الموقف في اعتداله، وكذا الدعوة إلى عدم إعتماد أو مزج المنطق والفلسفة اليونانية بالفكر الإسلامي العقائدي، فيه الكثير من الحقيقة والصواب، وتدعمه النتائج التي توصل إليها من قاموا بهذه العملية الخطيرة، والتي أسفرت عن تلفيق وتشويق لعقائد الإسلام البسيطة والواضحة.
وقد دعا بعض علماء أهل السنة وغيرهم إلى إبعاد اليوناني ذو الجذور الوثنية عن عقائد الإسلام بشكل عام، كما اتفقوا على إلجام العوام عن علم الكلام، أي إبعادهم عن الخوض في مسائل التوحيد احترازا عليهم من الانحراف. ولكن الخلاف بين ابن تيمية وعلماء أهل السنة سينحصر في الاشتغال بعلم الكلام ذاته، ومشروعيته وجدواه. فابن تيمية ومعه الحنابلة جملة يذمون تعلم هذا العلم والاشتغال به، أما أهل السنة فإنهم يدافعون عن هذا الاشتغال. وقد ألف شيخهم الأشعري من قبل رسالة في مشروعية تعلم هذا العلم والاشتغال به، ويبرون عملهم هذا انطلاقا من تعريفهم لهذا العلم الذي " يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة " (1).
فعلم الكلام في نظرهم بطرقه الاحتجاجية ومنهجه المنطقي أفضل وسيلة للدفاع عن عقائد السلف وأهل السنة أمام شبهات الخصوم من اليهود والنصارى وأصحاب الملل والنحل التي أصبح أهلها مواطنين في دولة الإسلام.
وإن كان الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب الفقهية لم يعرف عنهم الاشتغال بهذا العلم فإنما ذلك راجع للحاجة والضرورة. فالسلف لم يكونوا في حاجة إلى تعلم هذا العلم، أما الخلف فهم مضطرون لأن لا سبيل للدفاع عن عقائد الإسلام أمام شبهات الخصوم إلا به. فالخصم يعتمد الأساليب المنطقية ويستخدم اصطلاحات مستحدثة وبذلك يكثر التشويش ويتعرض عامة المسلمين وخاصتهم للاضطراب.
وابن تيمية لما أنحى بالأئمة على الغزالي بسبب خوضه في تلك المصطلحات والمقاييس (2)، أو بسبب اعتماده المنطق وجعله باب العلوم ومقدمتها، كان متناقضا في رأيه وسلوكه، فهو في فتاويه يصرح بأن " مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة.. فإذا عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووزنت بالكتاب والسنة بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة. كان ذلك هو الحق " (3).
وهذا كما يقول الدكتور البوطي هو ما اتفق عليه سائر المشتغلين بعلم الكلام قديما وحديثا من أهل السنة والجماعة. فإن أحدهم لم يتبن المضامين الباطلة للفلاسفة والمناطقة اليونانين، ولكنهم لم يجدوا مناصا من استعمال اصطلاحاتهم ومقاييسهم اللفظية في عصر انتشرت فيه هذه الاصطلاحات والمقايس (4).
أما من حيث السلوك فلا يشك أحد في أن ابن تيمية قد اشتغل بعلم الكلام والفلسفة، وقد اعتكف على قراءة كتب الفلاسفة وعلماء الكلام. وإلا كيف تسنى له معرفة آرائهم ومن ثم رد عليها، ويظهر من مجموع كتبه تبحره في هذا الميدان ومعرفته باصطلاحات القوم وهو قد استخدمها غير ما مرة، لقد تربع على موائد الفلاسفة وعلماء الكلام فشرب منها حد الارتواء، وملأ بطنه من أصناف مأكولاتها حتى التخمة وقد ظهر ذلك جليا في إنتاجه وكتاباته.
ولعمري إن أحدا ممن يعتبرهم الشيخ سلفا لم يفعل ذلك ولا عرف عنه حتى معرفته بعناوين كتب القوم، وليس الدراسة والهضم من ثم الرد والمناقشة، والخوض في الدقائق عبارات اليونسية والفلاسفة كما يقوله عنه الحافظ الذهبي معاصره مخاطبا: " يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات، وكثرة استعمال السموم يدمن عليه الجسم، وتكمن والله في الجسد (5). وفعلا فقد كمن بعضها في جسد الشيخ، فتجرد للدفاع عنه ونشره ليس باعتباره من عقائد الفلاسفة وإنما من عقائد السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الفقهية. الذين يتبرأون مما نسب إليهم ادعاء وزورا.
لقد عاب ابن تيمية على أهل السنة " اشتغالهم بعلم الكلام ونسبهم إلى مخالفة السلف في ذلك لكنه تزود منه بما يكفيه وزيادة، فكان يحرم على غيره ما أباح لنفسه، وبعض السذج ممن يطلقون على أنفسهم " سلفية "، قد يرد على ذلك بأن شيخ الإسلام اطلع على ذلك ليعرف الصواب من الخطأ ولما حصل له العلم بذلك أفتى بما وصل إليه من الحقيقة فيجب إذا اتباعه في ذلك لأنه هو الحق.
ونرد على هذا الحشو الفكري بأن ابن تيمية كان مبتدعا في دراسته واشتغاله بعلم الكلام والفلاسفة ولم يكن سلفيا، ولكنه لما وصل إلى ما وصل إليه من نتائج انقلب على ابتداعه وادعى أتباعه للسلف وحمل على باقي المشتغلين بهذه العلوم فبدعهم وضللهم. لكن أحدا لا يقول بأن شيخ الإسلام كان ضالا مبتدعا سنوات اشتغاله بعلم الكلام والفلسفة، فيكف ذلك ؟ !
يقول الدكتور البوطي: لقد انعكس هذا الاضطراب في كلام ابن تيمية، على أذهان كثير ممن يقرأون له، بسطحية ودون صبر أو استيعاب. فقد أخذوا يروون عنه مستدلين ومحتجين أنه أنكر الاشتغال بعلم الكلام وحذر منه، وسفه المشتغلين به والمؤلفين فيه، مع أنه قرر نقيض ذلك تماما بل أنه خاض في المباحث الكلامية، طبقا للمقاييس الفلسفية في الجزء الثالث من مجموع فتاواه، خوضا سبق به أساطين علم الكلام الذين ينهال عليهم (السلفيون) كل يوم بالهجوم المقذع والنسبة إلى الابتداع. فقد تحدث عن العلاقة بين الوجود والموجود، وعن القدرة الصلوحية والتنجيزية، في العبد، وهو توجد القدرة عند مباشرة الفعل أم قبلها، وعن الجبر والاختيار، وعن القدم بالنوع والحدوث في الجزئيات.. وأوغل في ذلك أيما إيغال. وهو مما ينأى عنه - بدون ريب - منهج القرآن وطريقته في بيان عقائد الإسلام، على حد ما يقوله ابن تيمية، ويقرره في أكثر من مناسبة (6).
وعليه فابن تيمية لم يكن سلفيا عندما اشتغل بعلم الكلام والفلسفة.
وعندما أفتى بضلال من يشتغل بهما فإنما كان ذلك منه غرور علمي ليس إلا، وممارسة الأستاذية على الناس وطلبة العلم. وهذه الأستاذية التي إن قبل بها أتباعه من حشوية العوام، فإن باقي علماء الفرق والمذاهب رفضوها ولم يعتبروها إلا ادعاءا جديدا يضاف إلى ادعاءاته الكثيرة، وقد أوردنا سابقا بعضا من آراء علماء أهل السنة فيه وفي علمه واجتهاده.
لقد اطلع الشيخ الحنبلي على مجمل آراء الفلاسفة وعلماء الكلام واتخذ لنفسه رأيا ومذهبا فيما اطلع عليه ودرسه. فمن يمنع باقي الناس ممن له القدرة على ذلك مثل الشيخ أو أكثر ليسلك مسلكه ويكون لنفسه رأيا ومعرفة شخصية بتلك المواضع. هذا مع حسن الظن بما وصل إليه " شيخ الإسلام " من حقائق وأحكام بخصوص عقائد الرجال والفرق، وإن كان هناك شبه إجماع على أن الشيخ الحنبلي لم يكن أمينا في نقله كلام خصومه وعقائدهم كما هي عليه حقيقة. كما أوضحنا قبل ذلك مع أهل السنة والصوفية.
وإذن هل يطمأن إلى آرائه واستنتاجاته. بل إن الأمر يزداد تعقيدا وصعوبة عندما نتفحص كتابات الشيخ فنجد له في القضية الواحدة رأيين متناقضين تماما، أو مجموعة آراء مختلفة وغامضة. فأيهم نتبع حتى نكون بذلك سلفيين غير مبتدعين ولا ضالين ؟ !.
____________
(1) مقدمة ابن خلدون، ص 225، عن السلفية، ص 153.
(2) السلفية، ص 160.
(3) مجموع الفتاوى، ج 3 ص 307، عن السلفية، م س.
(4) السلفية، ص 159.
(5) بحوث في الملل والنحل، ج 4، ص 39.
(6) المذاهب الإسلامية، م س، ص 222 - 223.
ابن تيمية يشتغل بالفلسفة وعلم الكلام
- الزيارات: 2983