الفصل الحادي عشر
وهنا أمورٌ أخرى تحظُر التمسّكَ بهذه الأحاديث ، وتمنع اللَّبيب من الرُّكون إليها والتعويل عليها .
(الأوّل) : أنّ أحاديث الباب مضطربة ، ففي بعضها أنّه صلى الله عليه وآله وجد عمّه أبا طالبٍ في غَمَراتٍ من النار فأخرجه إلى ضَحْضاحٍ منها ، وأنّه لولاه صلى الله عليه وآله لكان في الدَّرْك الأسفل من النار ، وهذا ظاهرٌ جدّاً في أنّ شفاعة النبيّ صلى الله عليه وآله لعمّه بتخفيف العذاب عنه وإخراجه إلى الضَّحْضاح قد تحقّق في هذه الدُّنيا .
وهو ينافي ما في بعض الأحاديث ا لأُخْرى من رجائِه صلى الله عليه وآله أن تنفعه شفاعتُه يوم القيامة فيُجعل في ضَحْضاحٍ من النار يبلغ كعبَيْه يغلي منه دِماغه ، أي أنّ ذلك لم يَقَعْ بَعْدُ ، وإنّما سيكون بشفاعته صلى الله عليه وآله له يومَ القيامة ، فكيف الجمع والتوفيق بينهما ؟
(الثاني) : أنّ الأمّة متّفقةٌ على أنّ الآخرة ليس فيها نارٌ سوى الجنّة والنار ، فالمؤمن يُدخله الله الجنّة ، والكافر يُدخله الله النار .
فإن كان أبو طالبٍ كافراً - على ما يقوله المخالف - فما بالُه يكون في ضَحْضاحٍ من نارٍ من بين الكفّار ، ولم تُجعل له نارٌ وحده من بين الخلائق.
والقرآن متضمِّنٌ أنّ الكافر يستحقّ التأبيد والخلود في النار ؟
فإن قيل : إنّما جُعل في ضَحْضاحٍ من نارٍ لتربيته للنبيّ صلى الله عليه وآله وذَبِّه عنه ، وشفقته عليه ، ونَصْره إيّاه .
قلنا : تربية النبيّ صلى الله عليه وآله والذبّ عنه وشفقته عليه والنصرة له طاعةٌ للَّه تعالى يستحقّ في مقابلها الثواب الدائم ، فإن كان أبو طالبٍ فعَلها وهو مؤمن فما بالُه لا يكون في الجنّة كغيره من المؤمنين .
وإن كان فَعَلها وهو كافرٌ فإنّها غير نافعةٍ له ، لأنّ الكافر إذا فعل فعلاً للَّه تعالى فيه طاعة لا يستحقّ عليه ثواباً ، لأنّه لم يُوقِعْه لوجهه متقرِّباً به إلى الله تعالى ، من حيث إنّه لم يعرف الله تعالى ليتقرَّبَ إليه ، فيجب أن يكون عمله غير نافعٍ له ، فما استحقّ أن يُجعل في ضَحْضاحٍ من نارٍ .
فهو إمّا مؤمنٌ يستحقّ الجنّة - كما نقول - وإمّا كافرٌ يستحقّ التأبيد في الدَّرْك الأسفل من النارعلى وجه الاستحقاق والهَوان كغيره من الكفّار، وهذا لايقوله مخالفنا.
وقد أبطلنا أن يكون في ضَحْضاحٍ من نارٍ ، فلم يبق إلّا أن يكون في الجنّة - كما أفاد الإمام شمس الدين فخّار بن مَعَدٍّ رحمه الله (121) .
وأيضاً فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قد علّق الشفاعة لعمّه رضي الله تعالى عنه - عند موته - بالنطق بكلمة الإخلاص ، فقال له : قل كلمةً تجب لك بها الشفاعة يومَ القيامة ، قل : لا إله إلّا الله (122) ، بل قد أناط بها مطلقَ الشفاعة - كما في أحاديث كثيرة - .
فالمنفيُّ عند انتفاء الشفاعة جنسُ الشفاعة ، بمعنى عدمها بالكلّيّة ؛ لعدم أهليّة الكافر لها حتّى في بعض مراتب العذاب ، فالشفاعة للتخفيف في العذاب من مراتبها المنفيّة ، فافهم (123) .
(الثالث) : أنّ الكافر ليس أهلاً للشفاعة مطلقاً ، كما قال سبحانه : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (124) } وقال عزّ من قائلٍ : { فما تنفعهم شفاعةُ الشافعين } وإنّما هي لأهل لا إله إلّا الله ، ولمن مات لا يُشرك بربّه شيئاً (125) ، فلا تنال الشفاعة مُشْرِكاً ، ولذلك يُخلَّد الكفّارُ في نار جهنّم أعاذنا الله منها { لا يُخَفَّفُ عنهم العذابُ ولا هم يُنْظَرون } { ولا هم يُنصرون } { لهم شرابٌ من حميمٍ وعذابٌ أليمٌ بما كانوا يكفرون } .
فإذا كان أبو طالبٍ قد مات كافراً - كما يزعم الخصم - فإنّه لا يُخفَّف عنه شيءٌ من عذاب جهنّم ، ولا يُخرَج من الدَّرْك الأسفل من النار إلى ضحضاحٍ منها ، ولا كان النبيّ صلى الله عليه وآله يسأل ربّه ما لا يكون .
ولكن قد ثبت بحديث الضحضاح قبول شفاعته صلى الله عليه وآله في عمّه بتخفيف العذاب عنه وإخراجه من غَمَرات النار ، فدلّ ذلك على عدم إشراكه .
فيلزم منه بطلان هذه الأحاديث ، لمناقضتها لهذا الأصل المتقرِّر الذي لا مَحِيدَ عنه ، وما هذا شأنه يُردُّ ولا كرامَةَ (126) .
_____________________________
121ـ الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب : 86 - 87 .
122ـ المستدرك على الصحيحين : 2 / 336 .
123ـ الغدير : 8 / 25 .
124ـ غافر : 18 .
125ـ أنظر : الترغيب والترهيب : 4 / 433 - 437 .
126ـ اُنظر : أسنى المطالب : 29 و 32 - 33 ، بلوغ المآرب : 144 - 146 .