طباعة

الإعتقاد بالعلة الأرسطية خلافا لأهل السنة

أما المسألة الخلافة الثانية التي ذكرها البوطي، فهي اعتقاده. خلافا لأهل السنة من الأشاعرة بالتحديد (1)، بالعلة الأرسطو طاليسية، فهو يحمل على الأشعري ومن تبعه من المالكية والشوافع والحنابلة وغيرهم الذين أنكروا الأسباب وقالوا بأن الله يفعل عند الشئ لا به. فالماء ليس سببا في إنبات الزرع، وإنما هو فعل الله عندما يلتقي الماء بالزرع. وهذه من المسائل التي اختلف فيها علماء الإسلام ومفكروه. وابن تيمية يقف هنا في صف فلاسفة الإسلام مثل الفارابي وابن رشد القائلين بوجود أسباب كامنة في الأشياء كقوى أودعها الله فيها. فهي بمثابة الأسباب والعلل لمسبباتها (2).
وإذا كان ابن تيمية قد آمن بالأسباب والعلل وذلك انطلاقا من عداوته لأهل السنة والجماعة كما يدعي الدكتور سامي النشار، فإن الشيخ الحنبلي سيعتبر إنكار هذه الأسباب مخالفة صريحة لما جاء به القرآن " والسنة وإجماع السلف " (3). هذه المخالفة التي سيرفضها أهل السنة والجماعة، الذين يعتبرون أن الباء في بعض الآيات القرآنية مثل " فأنزلنا به الماء " و " فأخرجنا به من كل الثمرات " لا تفيد السببية الحقيقية، وإن اعتقاد ذلك " كفر وشرك بالله عز وجل باتفاق الملة وبدلالة النصوص القرآنية القاطعة (4).
طبعا نحن هنا لا ننتصر لرأي الدكتور البوطي على إطلاقه وإنما أوردنا هذه المسألة الشائكة، والتي أدلى الشيخ الحراني بدلوه فيها، فقط لتأكيد ما ذهبنا إليه من أن الشيخ قد خاض غمار الفلسفة وعلم الكلام وأنه أبحر بعيدا جدا عن شاطئ السلف. على الأقل كما يفهم هو من مصطلح السلف.
وأصحابه اليوم عاجزون تماما عن إيجاد مستند تاريخي يثبت أن الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الفقهية، قد اشتغلوا بهذه المواضيع الفلسفية والكلامية الدقيقة، فضلا عن الدراسة والتحليل وترجيح الآراء والانتصار لبعضها دون الآخر، كما فعله الشيخ الحنبلي ! والحقيقة أننا لا نعيب عليه ذلك فطلب العلم ونشدان الحقيقة فرض عقلي وشرعي.
وإنما المذموم هو أن نحرم على الناس ما أبحناه لأنفسنا. وأن نمنعهم من تذوق لذة المعرفة والبحث، كما أن احتكار الحقيقة فيه من الغرور والتطاول على الحقيقة ما فيه. ولا شك أن التعدد في الآراء والاستنتاجات يغذي ميدان المعرفة وينعشه، وإنما الحكمة ضالة المؤمن. ولا يمكن لأحد أن يصد باب المعرفة والبحث بحجة أن بعضا من الصحابة لم يفعلوا ذلك أو أن النتائج التي نتوصل إليها لم يعرفها هؤلاء أو غيرهم من السلف.
لقد أجمع الباحثون على أن " شيخ الإسلام " قد توصل في معالجته لكثير من قضايا العقائد إلى ما لم يرد عن السلف. أو عرف عنهم، وكتب التاريخ ونصوصه شاهدة على ذلك. وهذا الكلام قد انتبه إليه أصدقاء الشيخ قبل خصومه. أنظر إلى قول الحافظ القسطلاني وهو يعالج مسألة خلق القرآن:
" العجب ممن ينتمي إلى أهل السنة ويتعرض للاقتداء بالسلف الصالح منهم ويعتمد على ما ورد في الكتاب والسنة كيف يخالف قوله قولهم وينتهي إلى ما لم يرد عن السادة المقتدى بهم، من الخوض في كيفية الكلام فيزيد فيه - بحرف وصوت - ولم يرد ذلك في كتاب ولا سنة، ويستدل على إثبات المقطوع به بالمظنون من الأحاديث المتضادة المتون " (5).
أما إذا رجعنا إلى القضايا الأخرى التي اختلف حولها الشيخ الحراني مع خصومه من أهل السنة والصوفية، مثل تحريمه شد الرحال لزيارة قبر الرسول أو التوسل بذاته (ص)، أو مفهومه الخاص بالشرك والتوحيد، ودعاء الأنبياء والصالحين وزيارة قبورهم والاعتكاف عندها للعبادة وغير ذلك من القضايا.
فإن الباحثين يقولون بأن أحدا قبل الشيخ لم يوليها الاهتمام الذي أولاه لها الشيخ، وقد درج السلف والخلف قبل ابن تيمية على شد الرحال لزيارة قبر الرسول وقبور الأولياء والصالحين، والتوسل بذاته (ص) وبناء الأضرحة على قبور الصالحين والعبادة عندها، كما أنهم فهموا قضايا التوحيد والشرك بخلاف ما ذهب إليه الشيخ. وتراث الصحابة والتابعين والأئمة كان وما زال معتمد الجمهور فيما يعتقدونه ويسلكونه، طيلة سبعة قرون خلت. إلى أن بزغ نجم الشيخ الحنبلي فخالفهم وأنكر سلفيتهم.
وإنما مبلغ علم الشيخ أنه انتقى لنفسه أحاديث وروايات، ورجحها على كثير غيرها، وأضاف إليها فهمه الخاص، معضدا بأقوال منقولة عن بعض الأئمة والفقهاء، حيث شكى الكثير من الباحثين قديما وحديثا عدم أمانة الشيخ في نقله كلامهم. بل صرح بعضهم بكذب الشيخ وافترائه، مثل الشيخ شهاب الخفاجي والقسطلاني.
فقد ادعى ابن تيمية مثلا بأن الحكاية التي رواها أبو حسن علي بن فهر في كتابه فضائل مالك وأوردها أيضا القاضي عياض في " الشفا " وهي: " أن مالك أمر أبو جعفر المنصور باستقبال قبر النبي (ص) والدعاء عنده "، لا تصح عن مالك وإنما هي مفتراة عليه. والذي دعى الشيخ الحنبلي لقول ذلك ليس التحقيق العلمي. لأن أصحاب مالك يقولون بأن إسناد الرواية صحيح. وليس فيه كذاب أو وضاع. ولكن الشيخ لما ابتدع له مذهبا بعدم تعظيم القبور كان يدفع كل ما يرد عن السلف من أقوال أو أفعال يفهم منها التعظيم. فهو، يقول الشيخ الزرقاني المالكي: إذا لم يجد له شبهه واهية يدفع بها زعمه انتقل إلى دعوى أنه كذب على من نسب إليه، مباهتة ومجازفة وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله (117). وهكذا تتوالى الردود على الشيخ من طرف علماء وفقهاء المذاهب الأربعة لتبرئة السلف مما يدعيه مذهبا لهم.
إن مذهب الشيخ الحراني عند التحقيق ليس إلا مجمل اجتهاداته وترجيحاته وأفكاره المتباينة، وضعت في قالب سماه وأطلق عليه " مذهب السلف " أو ما كان عليه السلف وهم من عاش في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام.
***
 



____________
(1) للمعتزلة والشيعة الإمامية رأي آخر في هذه المسألة. وهو الذي يرجحه ابن تيمية وينتصر له. يقول الإمامية في هذا الباب: " مما يجب الاعتقاد به هو توحيد الله في أفعاله ومعنى التوحيد الأفعالي إن جميع الأفعال صادرة منه تعالى ولا مؤثر في الوجود غيره، بل التأثير بالاستقلال له لا لغيره. إلا أن جعل التأثير لله ليس معناه سلب التأثير عن العلل الأخرى التي جعل الله لها التأثير. أن تأثير العلل الأخرى ليس بالاستقلال بل يستند إلى الله تعالى، وبعبارة علمية أن تأثيرها ليس في عرض تأثير الله بل في طوله.
بمعنى أن الله أجرى النظام على هذه الكيفية، وكما ورد في الحديث عنهم عليهم السلام " أي أئمة أهل البيت ": " أبى الله أن تجري الأمور إلا بأسبابها ". ولكن هذه الأسباب تستمد سببيتها منه تعالى ولذا ورد: " اللهم يا سبب من لا سبب له يا سبب كل ذي سبب يا سبب الأسباب من غير سبب ". فالأسباب والعلل لها تأثير لا كما يزعم الأشاعرة أنه لا تأثير لها، لأن ذلك خلاف ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تنص على أن لهذه العلل تأثير في معلولاتها، إلا أن تأثيرها ليس من لدن نفسها بل مستمدة من الله ". أنظر توحيد الصدوق وصفات الله عند المسلمين، للشيخ حسين العايش، ص 77.
(2) السلفية، ص 173.
(3) الرد على المناطقة لابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 9 ص 287، أنظر، المرجع السابق ص 174.
(4) السلفية، ص 175.
(5) الأسماء والصفات للبيهقي، تعليق الشيخ محمد زاهد الكوثري، ص 202.
(6) الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، رئيس محكمة الحقوق العليا بيروت سابقا. شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق (ص)، ضمن كتاب علماء المسلمين والوهابيون، لحسين حلمي الاستانبولي، ص 187.