الخاتمة
وحيث قد أَبَنّا لك - بما ذكرنا - كذبَ حديث الضَّحْضاح ، وأوقفناك على ذلك بمزيدٍ من التِّبيان والإيضاح ، فلا ينبغي - بعدئذٍ - الارتيابُ في بطلانه ، ولا الشكُّ في افتراء واضعه وبُهتانه ، إذ إنّه من متخرّصات ذوي الفتن ، وروايات أهل الضّلال ، وموضوعات بني أميّة وأشياعهم الناصبين العداوةَ لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله - كما قال الإمام شمس الدين ابن مَعَدٍّ رحمه الله تعالى (145) .
هذا ، ولكنّ العلّامة البَرزنجيّ لمّا لم يتجرّأ على التصريح ببطلان هذا الحديث المخرَّج في الصحيحين - هَيْبةً منهما - التجأ إلى تأويله ، والخروج به عن ظاهر مدلوله ، فلا بأس بنقل كلامه في ذلك كَسْراً لسَوْرَة الاستبعاد ، وإقناعاً للمتعنِّت المتعسِّف من أهل اللِّجاج والعناد .
قال : ليس من شأن مَن مات على الكفر أن يكون في ضَحْضاحٍ من النار ، بل شأنُه أن يكون في الدَّرْك الأسفل من النار ، فقبول الشفاعة فيه حتّى صار في ضَحْضاحٍ ؛ دليلٌ على عدم كفره ، إذ لا تُقبل في الكافر شفاعة الشافعين .
وقوله صلى الله عليه وآله : (لولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار) معناه : لولا أنّ الله هداه بي للإيمان لَماتَ كافراً وكان في الدَّرْك الأسفل من النار ، فهو نظير قوله صلى الله عليه وآله - في ولد اليهودي الذي زاره في مرضه وعرض عليه الإسلام فأسلم ومات - : (الحمد للَّه الذي أنقذه بي من النار) .
قال : وحينئذٍ ظهر لنا معنىً لطيفٌ في هذا الحديث ، وهو أنّ أبا طالبٍ كان مُشْرِفاً على دخول الغَمَرات حيث أبى أن يشهد ، ثمّ تشفَّعْتُ فيه فهداه الله للإيمان ، ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وآله : (أنا لم أسمع) لجواز أن يكون الله أخبره بعد ذلك (146) (اهـ) .
وله كلامٌ آخر قَلَبَ فيه الاستدلال بحديث الضَّحضاح على المحتجّين به على عدم نجاة أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، وجعله دالّاً على النَّجاة ، فقال : إنّ نفسَ الحديث يدلّ على نجاته ، وذلك لأنّ الله تعالى قد أخبر عن الكفّار بأنّهم لا يُخفَّف عنهم من عذابها ، وبأنّهم لا يُفتَّرُ عنهم ، وبأنّهم ما هم منها بمُخْرَجين ، وبأنّهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، إلى غير ذلك ، وقد ثبت في الأثر الصحيح أنّ الجحيم هي الطبقة التي يُعذَّب فيها عُصاةُ المؤمنين ثمّ يخرجون منها ، وهي أعلى طبقات النار ، وعصاة المؤمنين عذابهم أخفُّ من عذاب الكفّار ، وحيث صحّ أنّ أبا طالبٍ أهونُ أهل النار عذاباً على الإطلاق ؛ فيكون أهون عذاباً حتّى من عُصاة المؤمنين ، ولو فُرض أنّه كافرٌ يُخلَّد في النار وهو أهون أهل النار عذاباً لكان عذابُ الكفر أهون من عذاب بعض المؤمنين العُصاة ، وهذا لا يقول به أحدٌ .
فثبت أنّ عذابه أهون من عذاب عصاة المؤمنين ، وثبت أنّه تنفعه الشفاعة ، ولهذا خُفِّف عنه العذاب وجُعل أخفّ أهل النار عذاباً ، فأُخرج من طَمْطَام النار وغَمَراتها ، أي أُبعد عمّا كان مُشْرِفاً على دخوله لولا النبيّ صلى الله عليه وآله وأنّ النار ما مسَّت إلّا تحت قدميه ، وليس ذلك إلّا في الطبقة الفوقانيّة التي هي مكان عصاة هذه الاُمّة ، وقد صحّت الأحاديث بأنّهم يخرجون منها بحيث لا يبقى فيها مَن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبّةٍ من خَرْدَلٍ من إيمانٍ .
وقد صحّ أيضاً أنّ هذه الطبقة بعدما يخرج منها عصاة هذه الأمّة تنطفىءُ نارها ، وتُصَفِّق الريح أبوابَها ، وينبت فيها الجِرْجِير ، ولا يجوز أن ينبت فيها الجِرْجِير وفيها نارٌ تمسّ تحت القدم ، فوجب أن يخرج منها أبو طالبٍ بهذه الأدلّة ، وكلّها صحيحة (147) (انتهى) .
هذا آخر ما قصدنا إيرادَه في هذا الجزء مختصراً ، والحمد للَّه أوّلاً وآخراً ، وباطناً وظاهراً ، و صلى الله على سيّد رسله محمّدٍ وآله وسلّم تسليماً متواتراً .
وفرغ منه مؤلّفه الفقير إلى رحمة ربّه الغنيّ ، الحسن بن صادق بن هاشمٍ الحسينيّ آل المجدِّد الشيرازيّ ، تجاوز الله عن سيّئاته ، وعفا عن خطيئاته ؛ بدار العلم ومَعْقِل الإيمان ، بلدة (قم) الطيّبة لازالت محروسةً على مرّ الزمان ؛ ليلةَ الثلاثاء رابع عِشْري شهر شوّالٍ المكرّم عام (1417) سبعة عشر وأربعمائةٍ وألفٍ من الهجرة النبويّة المباركة ، حامداً مصلّياً مسلِّماً .
_____________________________
145ـ الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالبٍ : 85 .
146ـ بلوغ المآرب : 202 - 203 ، أسنى المطالب : 37 - 38 .
147ـ بلوغ المآرب : 142 - 148 ، أسنى المطالب : 31 - 32 - 33 - 35 .