بين حران ونجد:
عرف الإسلام عبر تاريخه الطويل تفسيرات وتأويلات متعددة، نشأت عنها المدارس الفقهية والأصولية المختلفة. وكان لكل مدرسة جذورها الفكرية والواقعية التي تغديها وتصبغها بلون خاص، يؤكد خصوصيتها وتميزها.
والمدرسة السلفية كاجتهاد ووجهة نظر في الإسلام، لها ما يميزها كذلك.
وأهم ما لا حظه الباحثون، الجذور العميقة لأصحابها في البداوة. فإذا كانت " حران " مسقط رأس ابن تيمية، الأب الشرعي للحركة السلفية. فإنه " نجد " ستكون ليس فقط مولد الزعيم السلفي الثاني للسلفية والقائم بأمر دعوتها.
ولكن موطن هذه الحركة والرحم الطبيعية التي تفرخ الأتباع والأفكار.
أما أهم ما يجمع بين حران ونجد فإنها الطبيعة الصحراوية. حيث الجفاف والبعد عن المدنية، لذلك تميز سكانها بالعراقة في البداوة، ولم تعرف المنطقتان على طول التاريخ الإسلامي أية حركة مدنية واسعة أو تمركز عمراني حضاري، خصوصا بلاد نجد التي كانت وما زالت موطنا لقبائل البدو الرحل الذين يتنقلون بحثا عن الكلأ والخضرة طوال السنة.
ونحن عندما نسلط الضوء على الخلفيات الجغرافية والبشرية للحركة السلفية، نفعل ذلك للكشف عن جذور بعض الظواهر الفكرية والسلوكية التي تتميز بها هذه الحركة، والتي لا يمكن معرفتها وتحليلها، إلا بإرجاعها إلى منطلقاتها الأصلية. والبداوة الصحراوية بالخصوص لها مميزات خاصة يعرفها كل من درس حياة البدو الصحراويين أو عايشهم. فقساوة الطبيعة وشظف
العيش، والبحث الدائم والمستمر على المرعى والماء، وما بتبع ذلك من حياة عدم الاستقرار والمخاطر الدائمة، كل ذلك ينطبع على سلوكيات الأفراد - البدو - ويظهر جليا في معاملاتهم وتفكيرهم. فالجفاء والغلظة والقسوة وبساطة المعرفة والحرمان من إيجابيات المدنية والحضارة، كلها صفات وأوضاع يعرفها هؤلاء البدو، ويتمثلها صغيرهم بعد كبيرهم.
لذلك لما كانت نجد منطلق الدعوة السلفية وكان أبناؤها هم جند هذه الحركة وأتباعها ودعاتها. كان لزاما أن تصطبغ هذه الحركة بكل صفات البداوة وعلى رأسها الغلظة والخشونة، بالإضافة إلى ضعف المستوى العلمي والفكري والذي يكون عادة بسيطا بل سادجا وبدائيا: يقول محمد أسد في كتابه (الطريق إلى مكة): ".. إن كثيرا من مفاهيمهم - أي الوهابية - كانت بدائية، وأن حماستهم الدينية كثيرا ما قاربت الغلو " (1). ولا شك أن الغلو الذي عرفوا به وواكب حركتهم سببه القصور المعرفي الواضح. فلم تكن نجد قديما ولا حديثا حاضرة علمية، ومن أراد من أهلها أن يكسب حظا من العلم والمعرفة كان يهاجر إلى العراق أو الشام ومصر وكذا المدينة المنورة.
الخشونة وضيق الأفق:
وإذن فقد كانت بلاد نجد في فجر انطلاق الحركة الوهابية غارقة في الجهل والأمية والسذاجة المعرفية. لكن وبعد فترة قصيرة من الزمن سيصبح أبناء هاته المنطقة وفجأة، علماء وفقهاء ودعاة للإسلام وعقيدة التوحيد. ليس فقط ضمن مجالهم الجغرافي، الصحراوي الضيق، ولكن لأبعد من ذلك شرقا وغربا. حيث بدأت محاكمة الإسلام والمسلمين معا، انطلاقا من معارف هؤلاء الدعاة الجدد. فما ارتضوه حقا فهو الحق، وما جهلوه فهو الباطل الذي يجب أن يرفض ويزول بحد السيف. يقول الدكتور محمد عوض الخطيب:
" انطلقت الوهابية من نظرة خاصة للإسلام احتوت على الحد الأقصى من التزمت وضيق الأفق، مسيئة الظن بالمسلمين إلى درجة اعتبارهم، بشكل مسبق مشركين وكافرين (2).
وضيق الأفق والتزمت الذي عرف به دعاة الوهابية لم يكن بسبب المزاج الصحراوي فقط ولكن بسبب بساطتهم المعرفية وسذاجتهم الفكرية وضعف بضاعتهم في الفكر الإسلامي. يقول السيد محمد سليم الإسكندراني: " إني اجتمعت بكثير من علمائهم فوجدتهم من الجهل بمكان ومن العلم بمعزل (3).
وقد استغل ابن سعود هذا الجهل وهذه البساطة في فهم الإسلام عندما رسخ في أذهانهم أن حربهم للمسلمين مقدسة، حرب الموحدين ضد الكفار والمشركين وبذلك ضمن توسع مملكته وسيطرته على الحجاز وأطراف العراق والشام، وقد انتبه محمد أسد لذلك، عندما أشار إلى أن ابن سعود بقي قانعا بتعريف الإخوان إلى أبسط مبادئ الثقافة الدينية والدنيوية. والحق أنه لم يعرفهم إلى شئ من هذا، إلا بمقدار الذي بدأ ضروريا للحفاظ على حماستهم وغيرتهم، بكلمة أخرى لم ير ابن سعود في حركة الإخوان إلا وسيلة لبلوغه القوة واستتباب الحكم (4).
وهذه السياسية السعودية تجاه الوهابية ما زالت سارية المفعول. حيث يتم استغلال دعاتها وعلماءها لخدمة السياسة الخارجية السعودية، وخصوصا لإثارة الفتن المذهبية والطائفية. وتحريف وتمييع أهداف الصحوة الإسلامية، وإشغال المفكرين الإسلاميين بالقضايا والمسائل الجزئية والهامشية في حياة الأمة. بينما يواصل الغرب والشرق التهامه الحضاري العام والاقتصادي بالخصوص لإمكانيات الأمة وثرواتها.
____________
(1) الشيعة في المملكة العربية السعودية، حمزة الحسن، ج 2 ص 133. ويقول صاحب النفحة الزكية في الرد على شبه الفرقة الوهابية، عبد القادر الكيلاني الإسكندراني: " إن أتباع بن عبد الوهاب ربما يلتمس لهم عذر بأنهم جماعة قاطنون في بلاد نجد وهم بعيدون عن عالم الحضارة. لم يزالوا على البساطة والسذاجة في الفطرة. قد ساد عليهم الجهل وغلب عليهم الجفا وخشونة الطبع، لا يعرفون شيئا من العلوم العقلية ولا خاضوا في غمار الفنون العربية ولم يميزوا بين المنطوق والمفهوم بل ترى علماءهم الذين يزعمون أنهم على شئ ليس لهم وقوف على العلوم العربية اللهم إلا شئ من مبادئها.. " ص 7.
(2) صفحات من تاريخ الجزيرة العربية الحديث، ص 130.
(3) المرجع نفسه، ص 156.
(4) الشيعة في المملكة العربية السعودية، ج 2 ص 132.
السلفية وجهة نظر بدوية
- الزيارات: 913