ربما عبّر القرآن الكريم عن الصلاة كلّها بالركوع والسجود، قال تعالى: ( يا أيُّها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلّكم تفلحون ) (1). ومثله ما حكاه القرآن من قول الملائكة لمريم: ( يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) (2).
ومع هذا الاشتراك بين الركوع والسجود، وكونهما مثالين لغاية التذلّل
والتخضّع، ومقرونين بالذكر الخاص بكل منهما، لكن في السجود زيادة تخضّع ظاهرة، فبين الانحناءة ومدّ العنق وبين وضع الجبهة على الاَرض، مصحوباً بهذا الذكر الجليل «سبحان ربي الاعلى» فارق مرتبة جعل العبد في حالة السجود أشدّ قرباً إلى الله تعالى، وبه يتجلّى لنا معنى قوله تعالى: ( واسجد واقترب ) (3) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أقرب ما يكون العبد من الله عزَّ وجلَّ وهو ساجد » (4).
وفي حديث الإمام جعفر الصادق عليه السلام يوازن فيه بين الركوع والسجود، جاء فيه: «.. الركوع أول والسجود ثانٍ، فمن أتى بمعنى الاَول صلح للثاني، وفي الركوع أدب، وفي السجود قرب، ومن لا يحسن الاَدب لا يصلح للقرب،... فإنّ الله تعالى يرفع عباده بقدر تواضعهم له ويهديهم إلى اُصول التواضع والخضوع بقدر اطلاع عظمته على سرائرهم » (5).
وقد علّق الاِمام الخميني قدس الله سره على هذا النصّ بقوله: (وفي هذا الحديث الشريف إشارات وبشارات وآداب ووظائف.. ومن هنا يعلم أن السجود فناء ذاتي كما قال أهل المعرفة، لاَنّ الركوع أول هذه المقامات والسجود ثانٍ، فليس هو إلاّ مقام الفناء في الذات) (6).
وأما من حيث الذكر، فالذكر الذي ينبغي قوله في كل منهما يشترك في جوانب ويختلف في أُخرى، فالاشتراك بذكر التسبيح والتحميد، وهو التنزيه والشكر على النعم.
سأل محمد بن سنان الاِمام الرضا عليه السلام عن علّة جعل التسبيح في الركوع والسجود فقال عليه السلام: « لعللٍ، منها أن يكون العبد مع خضوعه وخشوعه وتعبّده وتورّعه واستكانته وتذللـه وتواضعه وتقربه إلى الله مُقدِّساً له وممجّداً، مسبّحاً مطيعاً، معظّماً شاكراً لخالقه ورازقه فلا يذهب به الفكر والاَماني إلى غير الله » (7).
وأما موضع الافتراق ففي الاَول التعظيم في الانحناء، وفي الثاني ذكره بالعلو مع التذلل والانحطاط والصاق الجبين بالتراب بمعنى ربي أنت العلي وأنا الوضيع الداني.
عن هشام بن الحكم، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ـ في حديث صلاة النبي صلى الله عليه وآله في الاسراء ـ قال: قلت له.. ولاَي علة يقال في الركوع: (سبحان ربي العظيم وبحمده) ويقال في السجود: (سبحان ربي الاَعلى وبحمده)؟
قال عليه السلام: « يا هشام.. فلمّا ذكر ما رأى من عظمة الله ارتعدت فرائصه،
فابترك على ركبتيه، وأخذ يقول: (سبحان ربي العظيم وبحمده) فلمّا اعتدل من ركوعه قائماً نظر إليه (8)في موضع أعلى من ذلك الموضع خرَّ على وجهه وجعل يقول: (سبحان ربي الاَعلى وبحمده) فلمّا قال سبع مرات سكن ذلك الرعب، فلذلك جرت به السُنّة » (9).
ومن بديع التعبير عن علاقة الركوع بالسجود ما قاله السيد السبزواري رحمه الله:
إنَّ الرُّكوعَ والسُّجُودَ والثَّنا * أعظمُ طاعةٍ لخالقِ السَّما
إنَّ الرُّكوعَ والسُّجُودَ حقّـُهُ * بِذاتِهِ لِذاكَ يَستحقُّهُ (10)
____________
(1) سورة الحج: 22|77.
(2) سورة آل عمران: 3|124.
(3) سورة العلق: 96|19.
(4) راجع: صحيح مسلم بشرح النووي 4: 167|482 باب 42 كتاب الصلاة. والسنن الكبرى|النسائي 1: 242|723 باب 25كتاب التطبيق، دار الكتب العلمية ـ بيروت 1411هـ ط1. وجامع احاديث الشيعة 5: 225|2937 باب أفضل السجود وآدابه من أبواب السجود.
(5) وسائل الشيعة 6: 309.
(6) الآداب المعنوية للصلاة|الامام الخميني: 527 ـ 528. والحديث منقول من
كتاب مصباح الشريعة: 12 باب 15.
(7) عيون أخبار الرضا عليه السلام|الشيخ الصدوق 2: 106|1 باب 34. العلل التي ذكرها الفضل بن شاذان والتي سمعها من الإمام الرضا عليه السلام مرة بعد مرة، تحقيق السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الأعلمي ـ طهران (أُوفسيت على طبعة المكتبة الحيدرية ـ النجف الاشرف ) 1390هـ.
(8)الضمير في ( إليه ) راجع الى الموصول في قوله عليه السلام: « فلما ذكر ما رأى من عظمة الله » وليس المراد به ما ذهب اليه المجسمة الذين ما قدروا الله حق قدره، فقالوا بالرؤية، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
(9) علل الشرائع|الصدوق 2: 332 ـ 333|4 باب 30.
(10) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام|السيد السبزواري 6: 415.
رابعاً: العلاقة العبادية بين الركوع والسجود:
- الزيارات: 1081