طباعة

أما التوسلات المشروعة فهي

1 - التوسل بأسماء الله وصفاته. ودليله قوله سبحانه * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) * (الأعراف، الآية 180).
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد فقال النبي: " لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى " (1). والأحاديث في ذلك كثيرة، وليس هناك خلاف في هذا التوسل بأسمائه وصفاته سبحانه.
2 - التوسل بالقرآن الكريم: وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. روى الإمام أحمد، عن عمران بن الحصين، أنه مر على رجل يقص، فقال عمران: إنا لله وإنا إليه راجعون سمعت رسول الله يقول
" اقرأوا القرآن واسألوا الله تبارك وتعالى به قبل أن يجئ قوم يسألون به الناس " (2). وورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنه يستحب في ليلة القدر أن يفتح القرآن فيقول: " اللهم إني أسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه اسمك الأكبر وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار " (3).
3 - التوسل بالأعمال الصالحة، حيث يتقرب الإنسان إلى ربه بأحسن عمل عمله، وقد تظافرت الأحاديث عن الرسول في ذكر هذا التوسل، أهمها حديث النفر الذي انطبق عليهم الغار فاتفقوا على أن يدعو كل واحد منهم بأحسن عمل عمله، فلما فعلوا ذلك فرج الله عنهم ونجاهم. وقد رواه البخاري في صحيحه وهو حديث مشهور (4).
4 - التوسل بدعاء الرسول: وهو من أعظم الوسائل وأخصها، لأن الرسول الأكرم مستجاب الدعوة مقبول عند ربه ومرسله. وقد أشار القرآن إلى هذه الخاصية. يقول سبحانه وتعالى: * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) * (النساء، الآية 64). والآيات القرآنية التي نزلت في الرسول (ص) وسيرته العطرة تشهد بأن للرسول (ص) مقاما كريما وعظيما. فهو ليس كأحد من الناس أو كأحد من المؤمنين، لأن الوهابية يساوون دعاءه بدعاء غيره من المؤمنين وهذا خطأ فاحش وسوء أدب في حقه عليه السلام، وجهل بتاريخ الرسالات، ومكانة الأنبياء.
لقد استجاب الله لدعاء نبيه نوح بهلاك قومه. وحكم أنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا، فجاء الطوفان. وكذلك سائر الأنبياء وعلى رأسهم خاتمهم محمد بن عبد الله الذي قال الله في شأنه * (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) *.
5 - التوسل بدعاء المؤمن: وقد جاء في القرآن إن الملائكة يستغفرون للمؤمنين. وكذا المؤمنون لبعضهم البعض، وفي الأحاديث حث على دعاء المؤمن لأخيه، بل إن ذلك من أسباب تعجيل الإجابة.
إلا أن الوهابية وإن كانوا يؤمنون بصحة التوسل بدعاء النبي فإنهم يشترطون حياته، فدعاؤه كان مجديا في حياته أما بعد موته فلا يصح دعاؤه ولا يجوز وهو طريق إلى الشرك. وهذا الاعتقاد مبني على موت الأنبياء وانقطاع صلتهم بالدنيا تماما. وهذا خلاف ما جاء به القرآن وما فهمه وعلمه علماء الصحابة والتابعين. وإذا كان الشهداء - بنص القرآن - أحياء في عالم البرزخ يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من الكرامة والنعيم فبالأولى أن يكون الأنبياء كذلك، فهم أفضل من الشهداء، وهذا ما فهمه الصحابة. فدعاء النبي (ص) حيا كدعائه ميتا، وقد جاءت الأحاديث بهذا المعنى.
ففي صحيح البخاري في باب كيفية فرض الصلاة وملاقاة النبي - ليلة الإسراء - الأنبياء: من آدم وإدريس وموسى، وعيسى وإبراهيم تكلمه معهم سلام الله عليهم... وفي سنن النسائي وإحياء العلوم: قال رسول الله (ص) إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغون من أمتي السلام. وقال: أكثروا على من الصلاة، فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال: إن الله تعالى قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبي الله حي يرزق. وقوله: فنبي الله حي يرزق. ظاهر في العموم، لأن الإضافة تفيده فإذا كان الأنبياء والشهداء أحياء يرزقون.
ويشهدون الصلاة والسلام ممن يصلي عليهم من قريب أو بعيد، فكيف لا يشهدون نداء من يناديهم، واستغاثة من يستغيث بهم ؟. وقال رسول الله (ص) علمي بعد مماتي كعلمي في حياتي. وفي إحياء العلوم: أن الله وكل ملكا يسمعني أقوال الخلائق (5).
ومما يؤكد ذلك ما رواه البيهقي وابن شيبة أن " الناس أصابهم قحط في خلافة عمر فجاء بلال بن الحارث إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله استق لأمتك فإنهم هلكوا. فأتاه الرسول في المنام وأخبره بأنهم يسقون " ووجه الاستدلال هنا ليس الرؤيا، ولكن طلب الاستسقاء من الرسول وهو ميت (6).
في الجوهر المنظم: ولا فرق في التوسل بين أن يكون بلفظ التوسل أو التشفع أو الاستغاثة أو التوجه، لأن التوجه من الجاه، وهو علو المنزلة، وقد يتوسل بذي الجاه إلى من هو أعلى منه جاها، والاستغاثة طلب الغوث والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره وإن كان أعلى منه فالتوجه والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره ليس لهما معنى في قلوب المسلمين غير ذلك ولا يقصد بهما أحد منهم سواه، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك على نفسه (7).
والذي يراجع سيرة السلف من الصحابة والتابعين يجدهم يتوسلون بدعائه عليه السلام في حياته وبعد مماته ولا يفرقون بين ذلك. قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان في كتابه " مصباح الظلام " إن الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله (ص) بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي (ص)، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه ما وعينا عنك، وكان فيما أنزل عليك، * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله...) * الآية، وقد ظلمت، وجئتك تستغفر لي فنودي من القبر أنه قد غفر لك. انتهى (8).
وقال أبو عبد الله محمد بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب " باب زيارة قبر النبي (ص) " وذكر آداب الزيارة، وقال: ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره، وذكر كيفية السلام والدعاء.
منه: اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك مستغفرا، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك (ص) وذكر دعاء طويلا (9).
وخلاصة الكلام أن الوهابية يمنعون من التوسل بالأنبياء حال وفاتهم لأنهم يعتقدون أن البرزخ مانع من الاتصال وهذا بخلاف القرآن والسنة وسيرة المسلمين سلف عن خلف، اللهم إلا ابن تيمية ومن تبعه. كما يقولون بأن الميت لا يسمع وقد انقطع عمله عن الدنيا ويستدلون ببعض الأحاديث والآيات لإثبات صحة هذه الشبهات. والذي يجب أن يعلم أنهم عندما ينتقون بضع أحاديث قد يدل ظاهرها أو فهمها الابتدائي بأنها تدعم مذهبهم، فإنهم يضربون كشحا عن مئات الأحاديث الصحيحة. التي تخالفهم، والتي يعتد بها مخالفوهم. بل إن الكثير من معتمداتهم الحديثية وجهت لها سهام الطعن والتضعيف. أما استدلالهم بالآيات فإنه يرجع إلى فهم خاطئ بخلاف علماء التفسير وأرباب العلم.
إن التوسل بذوات الأنبياء والصالحين. وبالأمكنة الفاضلة كالكعبة.
وبالأزمنة المباركة كشهر رمضان وليلة القدر. والتوسل إلى الله بجاه بعض الصالحين وحرمتهم أو الإقسام على الله تعالى بالمتوسل بهم، كلها توسلات باطلة وممنوعة عند الوهابية، لأنها إما شرك صريح أو طريق إليه. حججهم كما أسلفنا الفهم الخاطئ للعبادة ولمعنى الشرك المذكور في الآيات القرآنية الواصفة لحال المشركين أولا، ولأنهم رأوا بعض العامة يتوسعون في الكلام ويأتون بألفاظ توهم أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى ويطلبون من الصالحين أحياءا وأمواتا أشياءا جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله تعالى. ويقولون للولي إفعل لي كذا وكذا، وربما يعتقدون الولاية في أشخاص لم يتصفوا بها، بل اتصفوا بالتخليط وعدم الاستقامة، وينسبون لهم كرامات وخوارق عادات وأحوالا ومقامات ليسوا بأهل لها، ولم يوجد فيهم شئ منها. فإنما أراد هؤلاء المانعون للتوسل أن يمنعوا العامة من تلك التوسعات دفعا للإبهام وسداللذريعة...
وإذا كان الأمر كذلك وقصدتم سد الذريعة، فما الحامل لكم على تكفير الأمة عالمهم وجاهلهم خاصهم وعامهم، وما الحامل لكم على منع التوسل مطلقا ؟ بل كان ينبغي لكم أن تمنعوا العامة من الألفاظ الموهمة وتأمروهم سلوك الأدب في التوسل، مع أن تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على الإسناد المجازي مجازا عقليا كما يحمل على ذلك قول القائل: هذا الطعام أشبعني وهذا الماء أرواني وهذا الدواء نفعني، فإن ذلك كله عند أهل السنة محمول على المجاز العقلي. فإن الطعام لا يشبع والمشبع هو الله تعالى (10).
يقول الشيخ النبهاني: " والحاصل أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، كما دلت عليه الأحاديث السابقة لأنا معاشر أهل السنة لا نعتقد تأثيرا ولا خلقا ولا إيجادا ولا إعداما ولا نفعا ولا ضرا إلا لله وحده لا شريك له... وأما الذين يفرقون بين الأحياء والأموات فإنهم يعتقدون التأثير للأحياء دون الأموات ونحن نقول * (الله خالق كل شئ) *، * (والله خلقكم وما تعلمون) *، فهؤلاء المجوزون التوسل بالأحياء دون الأموات هم الذين دخل الشرك في توحيدهم لكونهم اعتقدوا تأثير الأحياء دون الأموات. فهم الذين اعتقدوا تأثير غير الله تعالى، فكيف يدعون المحافظة على التوحيد وينسبون غيرهم إلى الإشراك * (سبحانك هذا بهتان عظيم) * (11).




____________
(1) الترمذي، الصحيح، ج 5، ص 515. الحديث رقم 3475. أنظر، م س، ص 22.
(2) المسند، ج 4، ص 445. أنظر، م س، ص 26.
(3) الإقبال لابن طاوس الحلي، ص 41.
(4) الصحيح، ج 4، ص 173، كتاب الأنبياء.
(5) سعادة الدارين، لإبراهيم السمهودي، ص 183، بتوسط، صفحات من تاريخ الجزيرة، العربية، م س، ص 89.
(6) البراهين الجلية في رفع تشكيلات الوهابية، السيد محمد حسن الموسوي، مطبوعات النجاح بالقاهرة، ط 2 1977 م، ص 33 - 34.
(7) شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، يوسف بن إسماعيل النبهاني، ضمن علماء المسلمين والوهابيون، ص 168.
(8) التوسل، ص 56.
(9) المرجع نفسه، ص 58، نقلا عن وفاء الوفا للسمهودي، ج 4 ص 1362.
(10) شواهد الحق، م س، ص 159.
(11) شواهد الحق، ص 158 - 159.