• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

زيارة القبور وشد الرحال إليها

أفتي ابن تيمية بتحريم شد الرحال لزيارة الصلحاء والأنبياء والأئمة مستدلا بما ورد من النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة (1).
وقالت الوهابية لا تجوز زيارة قبور الأئمة ولا تشد الرحال من الأماكن البعيدة لأجل زيارة قبر النبي (ص)، وأنها من الشرك وعبادة لغير الله تعالى (2).
أما أهل السنة والإمامية فاتفقوا على جواز زيارة القبور، ويظهر ذلك لمن راجع الكتب الفقهية الحديثية. ويكفي في ذلك ما أفتى به أئمة المذاهب الأربعة حيث جاء في كتاب " الفقه على المذاهب الربعة " ما يلي: " زيارة القبور مندوبة للاتعاض وتذكر الآخرة، وتتأكد يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها.
وينبغي للزائر الانشغال بالدعاء والتضرع والاعتبار بالموتى، وقراءة القرآن للميت فإن ذلك ينفع الميت على الأصح، إلى أن قال: ولا فرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة، بل يندب السفر لزيارة الموتى خصوصا مقابر الصالحين، وأما زيارة قبر النبي (ص) فهي من أعظم القرب " (3).
ومن الروايات التي تحث على زيارة القبور قوله (ص): " قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر بالآخرة ". رواه الخمسة إلا البخاري واللفظ للترمذي. ولا تنحصر الروايات الواردة في هذا المجال بهذا، بل هناك روايات متضافرة جمعها العلامة السمهودي في كتابه " وفاء الوفاء " (4).
أما الحديث الذي تشبث به ابن تيمية والوهابية فقد تعرض له العلماء بالشرح والتحليل وأوضحوا المقصود منه. فقد روي عن الرسول (ص) أنه قال:
" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي، والمسجد الأقصى " رواه البخاري عن أبي هريرة.
وهذا الحديث الذي تمسك به الوهابيون لا يدل على حرمة شد الرحال إلى زيارة القبور، والأماكن والمشاهد المشرفة، وذلك لأن الاستثناء الوارد في الحديث مفرغ قد حذف فيه المستثنى منه، فكما يمكن أن يكون تقدير المستثنى منه: " لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة " يمكن أن يكون تقديره:
" لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد ". ولكن المتعين هو الثاني لكون الاستثناء متصلا وهو يقتضي تقدير " المسجد " بعنوان مستثنى منه، لا غيره.
أضف إلى ذلك يقول الشيخ السبحاني: " أن الضرورة قاضية بجواز شد الرحال إلى طلب التجارة، وإلى طلب العلم، وإلى الجهاد، وزيارة العلماء والصلحاء، وإلى التداوي والنزهة، وأن المسلمين في مواسم الحج يشدون الرحال إلى عرفة والمزدلفة ومنى.. هذا مضمون الحديث ومعناه ومع ذلك لا يفهم من هذا الحديث وأشباهه حرمة السفر إلى باقي المساجد، بل هي ظاهرة في أفضلية هذه المساجد على ما عداها بحيث بلغ فضلها أن تستحق شد الرحال والسفر إليها للصلاة فيها. أما سائر المساجد فليس لها هذا الشأن.
كما أن النهي عن شد الرحال إلى سائر المساجد دون الثلاثة ليس نهيا إلزاميا بل هو للإرشاد إلى عدم ترتب ثواب وافر على التوجه إلى سائر المساجد.
ويدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يشد الرحال إلى غير المساجد المذكورة في الحديث كما في صحيح البخاري: ففي باب إتيان مسجد قباء راكبا وماشيا " عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قباء راكبا وماشيا " (5).
أما الدليل على زيارة قبر الرسول (ص) وقبور الصالحين وغيرهم، فنذكر منها:
روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال النبي (ص): من جاءني زائرا لاتعمله (تحمله) إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة.
وروي أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي (ص) أنه قال: من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي.
وأما فعله، فقد روي عن طلحة بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله يريد قبور الشهداء إلى أن قال: فلما جئنا قبور الشهداء، قال: هذه قبور إخواننا (6).
أما الإجماع فإطباق السلف والخلف، لأن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته (ص)، وأن منهم من يفعل ذلك قبل الحج، قال السبكي: هكذا شاهدناه، وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة، وينفقون فيه الأموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين إن ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مر السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرب به إلى الله عز وجل، ومن تأخر فإنما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير من تأسفه عليه، وود لو تيسر له، ومن ادعى إن هذا الجمع العظيم مجمع على الخطأ فهو المخطئ (7).
وأقوال علماء أهل السنة في استحباب الزيارة لقبر الرسول كثيرة جدا وقد تتبع بعضها المحقق الأميني وجمعها في موسوعته القيمة منها:
قال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الفقيه البغدادي الحنبلي المتوفى (سنة 510 ه‍) في مناسكه: إذا كمل لك حجك وعمرتك على الوجه الشروع، لم يبق بعد ذلك إلا إتيان مسجد رسول الله للسلام على النبي والدعاء عنده، والسلام على صاحبيه، والوصول إلى البقيع وزيارة ما فيه من قبور الصحابة والتابعين.
وقال الإمام ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي، المتوفى سنة (737 ه‍) في (المدخل) في فصل زيارة القبور (1: 257)، أما عظيم جناب الأنبياء والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فيأتي إليهم الزائر، ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة.
وقال القاضي شهاب الدين الخفاجي الحنفي المصري المتوفى (سنة 1062 ه‍) في شرح الشفا (3 / 566) واعلم أن هذا الحديث " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد " هو الذي دعا ابن تيمية ومن معه كابن القيم إلى مقالته الشنيعة التي كفروه بها، وصنف فيها السبكي مصنفا مستقلا وهي منعه من زيارة قبر النبي وشد الرحال إليه، وهو كما قيل:
لمهبط الوحي حقا ترحل النجب * وعند ذاك المرجى ينتهي الطلب
فتوهم أن حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها.
وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري في تكملة السيف الصقيل (ص 156):
ولم يخف ابن تيمية من الله في رواية عد السفر لزيارة النبي (ص) سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة عن الإمام ابن الوفاء ابن عقيل الحنبلي - وحاشاه عن ذلك - راجع كتاب التذكرة له تجد فيه مبلغ عنايته بزيارة المصطفى والتوسل به، كما هو مذهب الحنابلة، ثم ذكر كلامه وفيه القول باستحباب قدوم المدينة وزيارة النبي (ص) وكيفية زيارته (8).
إلى ذلك من الأقوال والأدلة التي تنقض ما يذهب إليه السلفيون الآن، ويلبسون به على غالبية أبناء الصحوة الذين لا يعرفون عن تراث أهل السنة والإمامية شيئا يذكر في هذه المباحث والقضايا، فيتصورون إن الحق هو ما يكتبه دعاة السلف، خصوصا وكتبهم تمتلئ بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والإجماعات السلفية الموهومة واتفاق أهل العلم الذين لا يعرف من هم
وأين كتبهم (9). فضلا عن طباعة أنيقة متعددة الألوان والزخارف، ونشر مجاني على نطاق واسع جدا. في الوقت الذي تمنع الكتب الإسلامية التي تخالف السلفية وتحارب وتجمع من المعارض والمكتبات.
إن الخلاف حول هذه الأمور العقائدية متشعب ومتفرع، فليس ما ذكرناه هو كل ما اختلف حوله. بل هناك قضايا أخرى متفرعة عما ذكرناه لا يسعنا أن نأتي بها هنا لأنها قتلت بحتا وتمحيصا، وألف فيها الكثير من الكتب، ذكرنا مجملها عند حديثنا عن الردود الفكرية على الوهابية في الفصل الرابع، فمن أراد أن يتوسع في هذه المباحث فليراجع أحد تلك المصادر كي يشفي غليله.
وما ذكرناه كان الغرض من ورائه تقديم بعض الأمثلة حول هذه القضايا المختلف حولها وأن لأهل السنة أدلة قوية وراجحة في كل ما يعتقدونه أو يفعلونه في هذه المباحث بالذات، لا يقوم ولا يثبت الاختيار " السلفي " أمامها، بل ينهدم بنيانه وينقض صرحه. ونحن نجزم بأن غالبية أبناء الصحوة الإسلامية اليوم إذا ما تقبلوا عقائد السلفيين فإنما خوفا من الشرك وهروبا من مظاهره التي يرون غالبية العوام من أهل السنة متلبسين بها. بالإضافة إلى قلة الاطلاع والمعرفة الحقيقية بهذه المواضيع.
من هذه القضايا، البناء على القبور، والنذر لأصحابها، والعبادة عند القبور والأضرحة، والقسم بغير الله. وغير ذلك من المسائل العقائدية التي وضعها السلفيون في خانة الشرك. وقد فصل أهل السنة القول فيها وانتصروا بحجج القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح.
بالإضافة إلى قضايا أخرى اعتبرها السلفيون بدع محدثة لم تكن على عهد السلف الصالح. مثل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. بل إن هؤلاء قد توسعوا في مفهوم البدعة ليشمل الكثير من المستجدات في المأكل والمشرب وسائر الوسائل المادية المستخدمة في الحياة العامة. ولم يفرقوا بين الابتداع المحرم في الدين والمنهي عنه، والذي يجعل الفعل أو العمل مطلوبا بل واجبا دينيا، وبين الفعل المباح سواء أكان له أصل في الشريعة أم لا. فكثير من الأعمال والأفعال التي يصفها الوهابيون بالبدعة، لها أصل في الشريعة، وهي إما مندوبة أو مباحة. وكما قلنا سابقا فهذه المباحث قد قيل فيها الكثير فلا داعي للإطالة بذكرها أو إعادة بحثها (10).
***




____________
(1) بحوث في الملل والنحل، ج 4 ص 137.
(2) البراهين الجلية، ص 64.
(3) الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1 ص 424 - 425، آخر كتاب الصلاة. أنظر التوحيد والشرك، م س، ص 206.
(4) التوحيد والشرك، ص 207.
(5) صحيح البخاري، ج 2 ص 61، أنظر التوحيد والشرك، ص 208 - 209 بتصرف.
(6) أخرجه أبو داود في سننه، ج 1، ص 311.
(7) بحوث في الملل والنحل، م س، ص 142 - 143.
(8) الغدير، ج 5، ص 109 - 125، وقد نقل أربعين كلمة عن أعلام المذاهب الأربعة. وما نقلناه نحن فعن السبحاني، المرجع السابق، ج 4، ص 145 - 148.
(9) يقول سليمان أخو محمد بن عبد الوهاب زعيم السلفية: " ابتلى الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة ويستنبط من علومهما ولا يبالي من خالفه. وإذا طلبت منه أن تعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه ومن خالفه فهو عنده كافر. هذا وهو - يقصد أخوه محمد - لم يكن فيه خصلة واحدة من خصال الاجتهاد، لا والله عشر واحدة ومع ذلك راج كلامه على كثير من الجهال " أنظر صفحات من تاريخ الجزيرة العربية الحديث. ص 156.
(10) نحيل القارئ إلى بعض الكتب المهمة والجامعة التي تنتصر لعقائد أهل السنة والإمامية في هذه المباحث. مثل: وفاء الوفاء في أخبار دار المصطفى للسمهودي، وشفاء السقام في زيارة خير الأنام لتقي الدين السبكي. وتكملة السيف الصقيل للمحقق الشيخ محمد زاهد الكوثري. والتبرك لعلي الأحمدي.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page