قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاِْسْلاَمَ دِيناً}(1) وقد نزلت هذه الآية الكريمة بعدما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(2).
أيّ أمر هذا الذي إن لم يبلّغه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فكأنّه لم يبلّغ الرسالة من أساسها؟ وكان ذلك في حجّة الوداع أيّ أنّ كلّ الشريعة من صلاة وصيام وزكاة وأحكام الزواج والطلاق وأحكام الميراث، وما إلى ذلك من أحكام الشريعة قد بلّغه لنا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقطع، والأمر المأمور بإبلاغه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأهميّة بحيث إنّ جهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) طيلة ثلاث وعشرين سنة متوقّف على إبلاغه، فهذا الأمر أهمّ من كلّ ما بلّغه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ الأمر المأمور به هو جوهر هذه الرسالة وهو الضامن لاستمرارها حيّة، تؤدّي دورها المفترض لها، وهو المقوّم لها بحيث لولاه لأصبحت عديمة الفائدة بلا جدوى.
وممّا سبق بيانه علم أنّ هذا الأمر لم يكن إلاّ أمر الإمامة وتعيين الأئمّة من بعده، فلولاهم لما قام للدين عمود، والنعمة من معانيها الواضحة في القرآن الكريم هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولذا قال تعالى {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} والشاهد على النعمة بالمعنى الذي ذكر قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(3).
إذ لم تذهب العداوة بين الأوس والخزرج، ـ التي طالت مائة سنة، حيث لا يضعون سلاحاً لا باليل ولا بالنهار، حتّى شبّ على ذلك جيل بأكمله فلم تذهب تلك العداوة ولم تخمد نارها إلاّ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو النعمة المرادة في الآية، ولكنّها كانت نعمة لم تتمّ بعد، ليس المراد، ذاته الشريفة (صلى الله عليه وآله وسلم) بل المراد تماميّتها بالنسبة إلى الأمّة بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) فبالأئمّة تمّت النعمة، وكمل دين الله سبحانه وتعالى.
فقال صاحبي: إنّ آية الإكمال سابقة لآية التلبيغ، وبين الأولى والثانية أربع وستّون آية، فكيف تكون اللاحقة قد نزلت قبل السابقة؟
قلت: الجواب واضح، فالقرآن الكريم الذي بين أيدينا لم يجمع مرّتباً بحسب تسلسل نزول الآيات، فيمكن أن يقدّم اللاحق على السابق، أو تأخّر السابق على اللاحق، والذي يتدبّر القرآن ; ليخرج منه بموضوع متكامل إنّما يتدبّر تدبّراً متكاملا بتتبّع الآيات كلّها ذات الصلة بالموضوع المبحوث عنه، فلاضير من هذا الذي ذكرت مع أنّ هذا قليل في القرآن الكريم، ويدرك بقليل من التأمّل، مع أنّ ما ذكرت من تمامة الدين قبل تبليغ هذا الأمر إذ كيف يكمل الدين وبعد لم يتم تعيين الإمام بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! مع ما عرفت من الأهميّة البالغة لهذا الأمر، وكيف يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ثمّ بعد ذلك يعيّن الإمام بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! فهذا كلام مضطرب للغاية، لا يمكن أن يصدر من حكيم.
____________
1- سورة المائدة: 3.
2- سورة المائدة: 67.
3- سورة آل عمران: 103.
المراد من النعمة في آية الإكمال
- الزيارات: 1340