• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

المسألة الخامسة عشرة :التقيّة (*)

 التقيّة من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها الموَمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة، ليصون بها نفسه وعرضه وماله، أو نفس من يمتُّ إليه بصلة وعرضَه ومالَه، كما استعملها موَمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل (1)ولاذ بها عمّـار عندما أُخذ وأُسِر و هُدِّد بالقتل (2)إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنّة، فمن المحتّم علينا أن نتعرّف عليها، مفهوماً وغايةً ودليلاً وحدّاً، حتى نتجنَّب الافراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.
إنّ التقية، إسم لـ «إتّقى يتّقي» (3)والتـاء بدل من الواو، وأصله من الوقاية، ومن ذلك اطلاق التقوى على اطاعة اللّه، لاَنّ المطيع يتخذها وقاية من النار والعذاب. والمراد هو التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ.
 مفهومها:
 إذا كانت التقية هي اتخاذ الوقاية من الشرِّ، فمفهومها في الكتاب والسنّة هو: إظهار الكفر وإبطان الاِيمان، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحق. وإذا كان هذا مفهومها، فهي تُقابل النفاق، تَقابُل الاِيمان والكفر، فإنّ النفاق ضدها وخلافها، فهو عبارة عن إظهار الاِيمان وابطان الكفر، والتظاهر بالحقّ واخفاء الباطل، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدها من فروع النفاق.
 نعم: من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن، وبه صوَّر التقية ـ الواردة في الكتاب والسنّة ـ من فروعه، فقد فسّـره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن، فإنّه يُعرِّف المنافقين بالمتظاهرين بالاِيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى: "إذَا جَاءَكَ المنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ" (4)فإذا كان هذا حدُّ المنافق فكيف يعمُ من يستعمل التقية تجاه الكفار والعصاة فيخفي إيمانه ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس، والعرض والمال من التعرّض ؟!
 ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الاِسلامي، ولو كانت من قسم النفاق، لكان ذلك أمراً بالقبيح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به: "قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (5)
 غايتها:
 الغاية من التقية: هي صيانة النفس والعرض والمال، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها الموَمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن يترتّب على ذلك مضار وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة كممارسة الحكومات الظالمة الارهاب، والتشريد والنفي، والقتل والتنكيل، ومصادرة الاَموال، وسلب الحقوق الحقة، فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقاً محيص عن إبطانها، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجّهاته حتى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل، إلى أن يُحدِث اللّه أمراً.
 إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله، لا لشيء إلاّ لاَنّه لا يتفق معه في بعض المبادىَ والاَفكار.
 إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت والسكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لابد منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوة، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولاً إلى ذلك كما كان عليه موَمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.
 إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها، يتصوّر أو يصوِّر أنّ الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب، كما هو المعروف من الباطنيين والاَحزاب الاِلحادية السرية، وهو تصوّر خاطىَ ذهب إليه أُولئك جهلاً أو عمداً دون أن يركزّوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره، ولو لم تُلجىَ الظروف القاهرة والاَحكام المتعسفة هذه الجموع المستضعفة من الموَمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية، ولما تحمّلوا عبء اخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علناً ودون تردّد، إلاّ أنّ السيف والنطع سلاح لا تتردد كل الحكومات الفاسدة من التلويح به أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها.
 أين العمل الدفاعي من الاَعمال البدائية التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للاِطاحة بالسلطة وامتطاء ناصية الحكم، فأعمالهم كلها تخطيطات مدبّرة لغايات ساقطة.
 وهوَلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرّر الوسائل» فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشوَومة.
 إنّ القول بالتشابه بين هوَلاء وبين من يتخذ التقية غطاءً، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير، حتى لا يُقْتَل ولا يُستأصل، ولا تُنهب داره وماله، إلى أن يُحدث اللّه أمراً، من قبيل عطف المبائن على مثله.
 إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولاأن تتصورها، فإنّ الشيوعيّين طيلة تسلّطهم على المناطق الاِسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ، فصادروا أموالهم وأراضيهم، ومساكنهم، ومساجدهم، ومدارسهم، وأحرقوا مكتباتهم، وقتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً ووحشياً، فلم ينج منهم إلاّ من اتقاهم بشيء من التظاهر بالمرونة، واخفاء المراسم الدينية، والعمل على اقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم اللّه سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد، فملكوا أرضهم وديارهم، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً فشيئاً، وما هذا إلاّ ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها اللّه تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين.
 فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها، وكانت هذه غايتها وهدفها، فهو أمر فطري يسوق الانسان إليه قبل كل شيء عقلُه ولبُّه، وتدعوه إليه فطرته، ولاَجل ذلك يستعملها كل من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك، من غير فرق بين المسلم ـ شيعياً كان أم سنيّاً ـ وغيره، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.
 ولاَجل دعم هذا الاَصل الحيويّ ندرس دليله من القرآن والسنّة.
 دليلها في القرآن والسنّة:
 شرّعت التقية بنص القرآن الكريم حيث وردت جملة من الآيات الكريمة (6). سنحاول استعراضها في الصفحات التالية:
الآية الا َُولى:
 قال سبحانه: "مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيمَـانِ وَلَـكِن مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (النحل| 106).
 ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالاِيمان، وصرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى والجدد، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنّباً عن الاِطالة والاسهاب، ولمن يبتغي المزيد فعليه بمراجعة كتب التفسير المختلفة:
 1ـ قال الطبرسي: قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر، وهم عمّـار وأبوه ياسر وأُمّه سمية، وقُتلَ الاَبوان لاَنّهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبيّ، وأعطاهم عمّـار ما أرادوا منه، فأطلقوه، ثمّ أخبر عمّـار بذلك رسول اللّه، وانتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمّـار، فقال الرسول: كلاّ إنّ عمّـاراً مُلىَ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الاِيمان بلحمه ودمه.
 وفي ذلك نزلت الآية السابقة، وكان عمّـار يبكي، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت (7)
 2ـ وقال الزمخشري: روي أنّ أُناساً من أهل مكّة فُتِنُوا فارتدّوا عن الاِسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للاِيمان، منهم عمّـار بن ياسر وأبواه: ياسر وسمية، وصهيب وبلال وخباب.
أمّا عمّـار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ... (8)
 3ـ وقال الحافظ ابن ماجة: «والايتاء: معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية، والتقية في مثل هذه الحال جائزة لقوله تعالى: "إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِِيمَـانِ" » (9)
 4ـ وقال القرطبي: قال الحسن: التقية جائزة للانسان إلى يوم القيامة ـ ثمّ قال: ـ أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا اثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالاِيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بالكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي (10)
 5ـ قال الخازن: «التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة، قال اللّه تعالى: "إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالاِيمان" ثمّ هذه التقية رخصة» (11)
 6ـ قال الخطيب الشربيني: « "إلاّ من أُكره" أي على التلفّظ به "وقلبه مطمئن بالاِيمان" فلا شيء عليه لاَنّ محل الاِيمان هو القلب» (12)
 7ـ وقال إسماعيل حقّي: « "إلاّ من أُكره" أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه ... لاَنّ الكفر اعتقاد، والاكراه على القول دون الاعتقاد، والمعنى: «ولكن المكره على الكفر باللسان»، "وقلبه مطمئن بالاِيمان"
لا تتغير عقيدته، وفيه دليل على أنّ الاِيمان المنجي المعتبر عند اللّه، هو التصديق بالقلب» (13).
 الآية الثانية:
 قال سبحانه: "لا يَتَّخِذِ الْمُوَْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْموَْمِنِينَ وَمَن يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِـي شَـيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلى اللّهِ الْمصيرُ " (14)
 وكلمات المفسّـرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح:
 1ـ قال الطبري: " إلاّ أن تتقوا منهم تقاة " : قال أبو العالية: التقية باللسان، وليس بالعمل، حُدّثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ قال: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحّاك يقول في قوله تعالى: " إلاّ أن تتقوا منهم تقاة " قال: التقيّة باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به وهو للّه معصية فتكلم مخافة نفسه "وقلبه مطمئن بالاِيمان" فلا اثم عليه، إنّما التقية باللسان (15)
 2ـ وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: " إلاّ أن تتقوا منهم تقاة ": رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة: مخالفة ومعاشرة ظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع (16)
3ـ قال الرازي في تفسير قوله تعالى: " إلاّ أن تتقوا منهم تقاة": المسألة الرابعة: اعلم: أنّ للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها:
 ألف: إنّ التقيّة إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار، ويخاف منهم على نفسه، وماله، فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول، فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.
 ب: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة: لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ولقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من قتل دون ماله فهو شهيد» (17)
 4ـ وقال النسفي: " إلاّ أن تتقوا منهم تقاة " إلاّ أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتّقاوَه، أي ألاّ يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة وإبطان المعاداة (18)
 5ـ وقال الآلوسي: وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرَّفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الاَعداء. والعدو قسمان:
 الاَوّل: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين، كالكافر والمسلم.
 الثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية، كالمال والمتاع والملك والامارة (19).
 6ـ وقال جمال الدين القاسمي: ومن هذه الآية: " إلاّ أن تتقوا منهم تقاة " استنبط الاَئمّة مشروعية التقية عند الخوف، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الاِمام مرتضى اليماني في كتابه (ايثار الحق على الخلق) (20)
 7ـ وفسّـر المراغي قوله تعالى: " إلاّ أن تتقوا منهم تقاة " بقوله: أي إنّ ترك موالاة الموَمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يُتّقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية «انّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».
 وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، وإذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الا َُولى إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شيء يضر المسلمين، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت.
 وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الانسان أو يفعل ما يخالف الحق، لاَجـل توقّي ضرر من الاَعـداء يعود إلى النفس، أو العرض، أو المال.
 فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالاِيمان، لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّـار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مليىَ بالاِيمان وفيه نزلت الآية:
 "مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيمان" (21)
هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالاً إلاّ أن يحكم بشرعية التقيّة بالمعنى الذي عرفته بل قد لا يجد أحد مفسّـراً أو فقيهاً وقف على مفهومها وغايتها يتردد في الحكم بجوازها، كما أنّك أخي القارىَ لا تجد انساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.
 وامّا المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها، فإنّما يفسّـرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية والمذاهب الهدّامة كالنصيرية والدروز، والباطنية كلّهم، إلاّ أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدامة لكل فضيلة رابية.
 الآية الثالثة: قوله سبحانه:
 "وَقَالَ رَجُلٌ مُوَْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّـيَ اللّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقَاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يهدِي مَنْ هُوَ مُسْـرِفٌ كَذَّابٌ"(22).
 وكانت عاقبة أمره أن: "وَقَاهُ اللّهُ سِيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ "(23).
 وما كان ذلك إلاّ لاَنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبيّ اللّه من الموت: "قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الملاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ" (24)
 وهذه الآيات تدل على جواز التقية لانقاذ الموَمن من شرّ عدوّه الكافر.
اتّقاء المسلم من المسلم في ظروف خاصة:
 إنّ مورد الآيات وإن كان هو اتقاء المسلم من الكافر، ولكن المورد ليس بمخصّص لحكم الآية، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلاّ صيانة النفس والنفيس من الشر، فإذ ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية، ولو كان هناك وزر فإنّما يتوجّه على من يُتقى منه لا على المتقي، فلو سادت الحرية جميع الفرق الاِسلامية، وتحمّلت كل فرقة آراء الفرقة الا َُخرى لوقفت على أنّ الرأي الآخر هو نتيجة اجتهادها، ولما اضطرّ أحد من المسلمين إلى استخدام التقية، ولساد الوئام مكان النزاع.
 وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرّحوا به، وإليك نصوص بعضهم:
 1ـ يقول الاِمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: "إلاّ أن تتقوا منهم تقاة": ظاهر الآية يدل على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفار الغالبين، إلاّ أنّ مذهب الشافعي ـ رضي اللّه عنه ـ: أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس، وقال: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله «صلى الله عليه وآله وسلم»: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه»، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من قتل دون ماله فهو شهيد» (25)
2ـ ينقل جمال الدين القاسمي عن الاِمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحق على الخلق» ما نصّـه: «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين ـ مع قلّتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن، واجماع أهل الاِسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، ولا برح المحق عدوّاً لاَكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أنّه قال ـ في ذلك العصر الاَوّل ـ: حفظت من رسول اللّه «صلى الله عليه وآله وسلم» وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم (26).
 3ـ وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه: "مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيمَـان": ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسّـم في وجوههم وبذل المال لهم، لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما وَقَى الموَمن به عرضَه فهو صدقة» (27).
 إنّ الشيعة تتقي الكفّار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لاَجلها يتقيهم السنّي، غير أنّ الشيعي ولاَسباب لا تخفى، يلجأ إلى اتقاء أخيه المسلم لا لقصور في الشيعي، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك لاَنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو موافق لا َُصول الشرع الاِسلامي وعقائده، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول: إنّ اللّه ليس له جهة، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لاَهل البيت بعد رحلة النبي
الاَكرم، أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ. إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق ـ التي استنبطت من الكتـاب والسنّة ـ سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مرّ عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب، جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم، ورفض للملاك الذي شُـرّعت لاَجله التقية، واعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الاَهم إذا عارض المهم.
 والتاريخ بين أيدينا يحدثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تودي بحياتهم وبما يملكون، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه (7|195ـ 206) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الاِقرار بخلق القرآن قسراً حتى وإن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة، ولما أبصر أُولئك المحدثون حد السيف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسرّوا معتقدهم في صدورهم، ولما عوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برّروا عملهم بعمل عمّـار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئن بالاِيمان، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع فيها على الشيعة وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة.
 الظروف العصيبة التي مرّت بها الشيعة:
 الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين اخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة فلو لم يكن هناك في غابر القـرون ـ من عصـر الاَمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين ـ أي ضغط على الشيعة، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضّبة بدمائهم والتاريخ خير شاهد على ذلك، كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها، ولكن ياللاَسف إنّ كثيراً من اخوانهم كانوا أداة طيّعة بيد الاَمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم، فكانوا يوَلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة، بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادىَ المقدّسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله.
 والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعد، إلاّ أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها: فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا وكيفما كانوا، وإليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة:
 بيان معاوية إلى عمّاله:
 روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب «الاَحداث» قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي ـ عليه السّلام ـ فاستعمل عليها زياد بن سمية، وضم إليه البصرة، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف، لاَنّه كان منهم أيام علي ـ عليه السّلام ـ ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الاَيدي والاَرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرَّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، وكتب معاوية إلى عمّـاله في جميع الآفاق: ألاّ يجيزوا لاَحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.
 ثمّ كتب إلى عمّـاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة أُخرى: من اتهمتموه بموالاة هوَلاء القوم، فنكّلوا به، واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرجل من شيعة علي ـ عليه السّلام ـ ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيُلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الاَيمان الغليظة، ليكتمن عليه.
 وأضاف ابن أبي الحديد: فلم يزل الاَمر كذلك حتى مات الحسن بن علي (عليهما السلام) ، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه، أو طريد في الاَرض.
 ثمّ تفاقم الاَمر بعد قتل الحسين ـ عليه السّلام ـ ، وولي عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، وولّـى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداوَه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من البغض من علي ـ عليه السّلام ـ وعيبه، والطعن فيه، والشنان له، حتى أنّ إنساناً وقف للحجاج ـ ويقال إنّه جد الاَصمعي ـ عبد الملك بن قريب بن قريب فصاح به: أيّها الاَمير إنّ أهلي عقوني فسمّوني علياً، وإنّي فقير وبائس وأنا إلى صلة الاَمير محتاج، فتضاحك له الحجاج، وقال: للطف ما توسّلتَ به، قد ولّيتك موضع كذا (28)
 ونتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة، فقتل الآلاف منهم، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرّض إلى شتى صنوف التنكيل والارهاب والتخويف، والحق يقال إنّ من الا َُمور العجيبة أن يبقى لهذه الطائفة باقية رغم كل ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع، بل العجب العجاب أن تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوّة وعدة، وأقامت دولاً وشيّدت حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكّرين.
 فلو كان الاَخ السنّي يرى التقية أمراً محرّماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي، وأن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الاِسلام لاَبنائه، وليعذره في عقيدته وعمله كما هو عذر أُناساً كثيرين خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فماذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.
 وإذا كانـوا يقـولـون ـ وذاك هـو العجيب ـ انّ الخـروج على الاِمام علي ـ عليه السّلام ـ غير مضر بعدالة الخارجين والثائرين عليه، وفي مقدمتهم طلحة والزبير وأُمّ الموَمنين عائشـة، وإنّ إثـارة الفتن في صفّين ـ التي انتهت إلى قتـل كثير من الصحابة والتابعين وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين ـ لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد
وأخطأ فَلِمَ لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ويذهب إلى أنّهم معذورون ومثابون!!
 نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضاءل أُخرى، حسب قوّة الضغط وضآلته، فشتان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت، ويكرم العلويين، وبين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.
 فهذا ابن السكيت أحد أعلام الاَدب في زمن المتوكل، وقد اختاره معلّماً لولديه فسأله يوماً: أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ قال ابن السكيت: واللّه إنّ قنبر خادم علي ـ عليه السّلام ـ خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك به فمات. وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعين ومائتين، وقيل ثلاث وأربعين، وكان عمره ثمانية وخمسين سنة. ولما مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال: هذه دية والدك !! (29)
 وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي:
اكلّ أوانٍ للنبيّ محمّد * قتيل زكيّ بالدماء مضرَّجُ
 بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم * لبلواكم عمّـا قليل مفرِّجُ
 أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم * تضيء مصابيح السماء فتسرجُ (30)
فإذا كان هذا هو حال أبناء الرسول، فما هو حال شيعتهم ومقتفي آثارهم ؟!
 قال العلاّمة الشهرستاني: إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لاَنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الاَموية كلّه، وفي عهد العباسيين على طوله، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية، ولاَجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أي قوم، ولما كانت الشيعة، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين وفي كثير من الاَحكام الفقهيّة، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وتصدقه التجارب، لذلك أضحت شيعة الاَئمّة من آل البيت مضطرّة في أكثر الاَحيان إلى كتمان ما تختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك، تبتغي بهذا الكتمان صيانة النفس والنفيس، والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين، لئلاّ تنشق عصا الطاعة، ولكي لا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في المجتمع الاِسلامي فيوسع الخلاف بين الا َُمّة المحمدية.
 لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الا َُخرى، متبعة في ذلك سيرة الاَئمّة من آل محمد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل: «التقية ديني ودين آبائي»، إذ أنّ دين اللّه يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم (31).
روي عن صادق آل البيت ـ عليهم السّلام ـ في الاَثر الصحيح:
 «التقية ديني ودين آبائي» و: «من لا تقية له لا دين له» .
 لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت ـ عليهم السّلام ـ دفعاً للضرر عنهم، وعن أتباعهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، ولمّاً لشعثهم، وما زالت سمة تُعرف بها الاِمامية دون غيرها من الطوائف والاَُمم. وكل انسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه، أو ماله بسبب نشر معتقده، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول.
 من المعلوم أنّ الاِمامية وأئمّتهم لاقوا من ضروب المحن، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة، أو أُمّة أُخرى، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم، وترك مظاهرتهم، وستر عقائدهم، وأعمالهم المختصة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.
 ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم.
 وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها، بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة(32)
حدّها:
 قد تعرّفت على مفهوم التقية وغايتها، ودليلها، بقي الكلام في تبيين حدودها، فنقول:
 عرفت الشيعة بالتقية وأنّهم يتقون في أقوالهم وأفعالهم، فصار ذلك منشأ لوهم عالق بأذهان بعض السطحيين والمغالطين، فقالوا: بما أنّ التقية من مبادىَ التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون ويكتبون وينشرون، إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعاياتٍ والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة.
 ولكن نلفت نظر القارىَ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس، فإذا دلّت القرائن على أنّه في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت يحتمل أن يدفع بالموَمن إلى الضرر يصبح هذا المورد من مواردها، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتقاء حتى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الا َُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصوّر فيها التقية، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الاَخير، إذ لا خوف هناك حتى يكتب خلاف ما يعتقد، حيث ليس هناك لزوم للكتابة أصلاً في هذه الحال فله أن يسكت ولا يكتب شيئاً.
 فما يدعيه هوَلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشىَ عن قلّة معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة. والحاصل: أنّ الشيعة إنّما كانت تتقي في عصر لم تكن لهم دولة تحميهم، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الاَخطار. وأمّا هذه الاَعصار فلا مسوّغ ولا مبرّر للتقية إلاّ في موارد خاصة.
 إنّ الشيعة كما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك، وهو حق لا أعتقد أن يخالفها فيه أحد ينظر إلى الا َُمور بلبّه لا بعواطفه، إلاّ أنّ من الا َُمور المسلّمة في تاريخ التشيّع، انحصار التقية في مستوى الفتاوى، ولم تترجم إلاّ قليلاً على المستوى العملي، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحية، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره من الحكّام الاَمويين، والحكام العباسيين، أمثال حجر بن عدي، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وكميل بن زياد، ومئات من غيرهم، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوراتهم المتتالية.
 التقية المحرّمة:
 إنّ التقية تنقسم حسب الاَحكام الخمسة، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس والاَعراض والاَموال، فإنّها تحرم إذا ترتّب عليها مفسدة أعظم، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الاَجيال الآتية، وتسلّط الاَعداء على شوَون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم، ولاَجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الاَحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين، فللتقية مواضع معينة، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.
 إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتى يزول الخطر، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش، ولكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة، خائف متردّد الخطوات يملاَ حناياه الذل، كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا تتعداها، فكما هي واجبة في حين، هي حرام في حين آخر، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف، وإنّما تحددها جوازاً ومنعاً مصالح الاِسلام والمسلمين.
 إنّ للاِمام الخميني ـ قدّس اللّه سرّه ـ كلاماً في المقام ننقله بنصّه حتى يقف القارىَ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة وربّما تحرم لمصالح عالية. قال ـ قدّس اللّه سرّه ـ:
 تحرم التقية في بعض المحرّمات والواجبات التي تمثّل في نظر الشارع والمتشرّعة مكانة بالغة، مثل هدم الكعبة، والمشاهد المشرّفة، والرد على الاِسلام والقرآن والتفسير بما يفسّـر المذهب ويطابق الالحاد وغيرها من عظائم المحرّمات، ولا تعمّها أدلة التقية ولا الاضطرار ولا الاكراه.
 وتدل على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها: «فكل شيء يعمل الموَمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يوَدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز» (33)
 ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمه، كما لو أُكره على شرب المسكر والزنا مثلاً، فإنّ جواز التقية في مثله متمسّكاً بحكومة دليل الرفع (34)وأدلّة التقية مشكل بل ممنوع، وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية، ما لو كان أصل من أُصول الاِسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الارث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أُصول الاَحكام فضلاً عن أُصول الدين أو المذهب، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الا َُصول وجمع شتات المسلمين لاِقامة الدين وأُصوله، فإذا بلغ الاَمر إلى هدمها فلا تجوز التقية، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة .(35)
 وهكذا فقد بيّنّا للجميع الاَبعاد الحقيقية والواقعية للتقية، وخرجنا بالنتائج التالية:
 1ـ إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية، وقد استعملها في عصر الرسالة من ابتلي بها من الصحابة لصيانة نفسه فلم يعارضه الرسول بل أيّده بالنص القرآني كما في قضية عمّـار بن ياسر، حيث أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعودة إذا عادوا.
 2ـ إنّ التقية بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب والهدم، مرفوضة عند المسلمين عامة والشيعة خاصة، وهو لا يمت إلى التقيّة المتبناة من قبل الشيعة بصلة.
 3ـ إنّ المفسّـرين في كتبهم التفسيرية عندما تعرّضوا لتفسير الآيات الواردة في التقية اتفقوا على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.
4ـ إنّ التقية لا تختص بالاتقاء من الكافـر، بل تعم الاتقـاء من المسلم المخالف، الذي يريد السوء والبطش بأخيه.
 5ـ إنّ التقية تنقسم حسب انقسام الاَحكام إلى أقسـام خمسة، فبينما هي واجبة في موضع فهي محرّمة في موضع آخر.
 6ـ إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط، فلا موضوع للتقية لغاية الصيانة.
 وفي الختام نقول:
 نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه وعرضه وماله ولكنّها في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم ويدفعه إلى أن يتظاهر بشيء من القول والفعل الذي لا يعتقد به، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد، أن يسمح له الحرية في مجال الحياة ويتركه بحاله، وأقصى ما يصح في منطق العقل، أن يسأله عن دليل عقيدته ومصدر عمله، فإن كان على حجّة بيّنة يتبعه، وإن كان على خلافها يعذره في اجتهاده وجهاده العلمي والفكري.
 نحن ندعو المسلمين للتأمل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية، وأن يعملوا قدر الاِمكان على فسح المجال لاخوانهم في الدين فإنّ لكل فقيه مسلم، رأيه ونظره، وجهده وطاقته.
 إنّ الشيعة يقتفون أثر أئمّة أهل البيت في العقيدة والشريعة، ويرون رأيهم، لاَنّهم هم الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأحد الثقلين اللذين أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسّك بهما في مجال العقيدة والشريعة، وهذه عقائدهم لا تخفى على أحد، وهي حجّة على الجميع.
 نسأل اللّه سبحانه: أن يصون دماء المسلمين وأعراضهم عن تعرض أي متعرض، ويوحّد صفوفهم، ويوَلّف بين قلوبهم، ويجمع شملهم، ويجعلهم صفّاً واحداً في وجه الاَعداء، إنّه على ذلك قدير وبالاِجابة جدير.
____________
(1)القصص: الآية 20.
(2)النحل: الآية 106.
(3)قال ابن الاَثير في النهاية: 5|217:وأصل اتقى: أوتقى فقلبت الواو ياء لكسرة قبلها ثمّ أُبدلت تاء وأُدغمت. ومنه حديث علي ـ عليهالسّلام ـ : كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه، أي جعلناه وقاية من العدوّ. ولاحظ لسان العرب مادة «وقى».
(4)المنافقون: الآية 1.
(5)الاَعراف: الآية 28.
(6)غافر : الآية 28 و 45، والقصص: الآية 20 وستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.
(7)الطبرسي: مجمع البيان: 3|388.
(8)الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل: 2|430.
(9)ابن ماجة: السنن: 1|53، شرح حديث رقم 150.
(10)القرطبي: الجامع لاَحكام القرآن : 4|57.
(11)تفسير الخازن: 1|277.
(12)الخطيب الشربيني: السراج المنير. في تفسير الآية.
(13)إسماعيل حقي: تفسير روح البيان: 5|84.
(14)آل عمران: الآية 28.
(15)الطبري: جامع البيان : 3|153.
(16)الزمخشري: الكشاف: 1|422.
(17)مفاتيح الغيب: 8|13.
(18)النسفي: التفسير بهامش تفسير الخازن: 1|277.
(19)الآلوسي: روح المعاني: 3|121.
(20)جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل: 4|82.
(21)تفسير المراغي: 3|136.
(22)غافر : الآية 28.
(23)غافر : الآية 45.
(24)القصص : الآية 20.
(25)الرازي: مفاتيح الغيب : 8|13 في تفسير الآية.
(26)جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل: 4|82.
(27)مصطفى المراغي: التفسير : 3|136.
(28)شرح نهج البلاغة: 11|44ـ 46.
(29)ابن خلكان: وفيات الاَعيان: 3|33. الذهبي: سير أعلام النبلاء : 12|16.
(30)ديوان ابن الرومي : 2|243.
(31)غافر : الآية 28، النحل: الآية 106.
(32)مجلة المرشد: 3|252، 253، ولاحظ: تعليقة أوائل المقالات : ص 96.
(33)الوسائل كتاب الاَمر بالمعروف الباب 25 الحديث رقم 6.
(34)قال رسول اللّه ص : «رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه».
(35)الاِمام الخميني: الرسائل: 171ـ 178.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page