طباعة

كتاب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية

قال الراوي(1) : وكتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يُخبره بقتل الحسين (عليه السّلام) وخبر أهل بيته ، وكتب أيضاً إلى عمرو بن سعيد بن العاص(2) أمير المدينة بمثل ذلك ؛ أمّا عمرو ، فحين وصله الخبر صعد المنبر وخطب النّاس وأعلمهم ذلك ، فعظمت واعية بني هاشم ، وأقاموا سنن المصائب والمآتم ، وكانت زينب بنت عقيل بن أبي طالب(3) تندب(4) الحسين (عليه السّلام) وتقول :

مـا ذا تـقـولون إنْ قال النبيُّ لـكمْ        مـاذا فـعـلتم وأنـتم آخر الاُممِ
‏ بـعـترتي  وبـأهلي بـعد مفتـقدي         منهم اُسارى ومنـهم ضُرّجوا بدم‏ِِِِ
مـا كـان هذا جزائي إذ نصحت لكم     أنْ تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحِمي

قال : فلمّا جاء الليل سمع أهل المدينة هاتفاً ينادي ، ويقول :
أيّـهـا القاتلون ظلماًحسيناً      أبـشِـروا بالعذاب والتنكيلِ
‏كلّ مَن في السّماء يبكي عليه      من  نبيٍّ وشاهدٍ ورسولِ(5)
‏قد  لُعنتم على لسان ابن داود      ومـوسى  وصاحب الإنجيلِ

وأمّا يزيد بن معاوية ، فإنّه لمّا وصله كتاب ابن زياد ووقف عليه ، أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين (عليه السّلام) ورؤوس مَن قُتل معه ، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله . فاستدعى ابن زياد بمُحَفّر بن ثعلبة العائذي(6) ، فسلّم إليه الرؤوس والأسرى والنساء ، فسار بهم مُحَفّر إلى الشام كما يُسار بسبايا الكفّار ، يتصفّح وجوههن أهل الأقطار .
روى ابن لهيعة(7) وغيره حديثاً ـ أخذنا منه موضع الحاجة ـ قال : كنت أطوف بالبيت ، فإذا برجل يقول : اللهمَّ ، اغفر لي وما أراك فاعلاً .
فقلت له : يا عبد الله ، إتّقِ الله ولا تقل مثل هذا ، فإنّ ذنوبك لو كانت مثل قطر الأمطار وورق الأشجار فاستغفرت الله غفرها لك ؛ إنّه غفور رحيم .
قال : فقال لي : ادن منّي حتّى اُخبرك بقصّتي . فأتيته فقال : اعلم أنّنا كنّا خمسين نفراً ممّن سار مع رأس الحسين (عليه السّلام) إلى الشام ، فكنّا إذا أمسينا وضعنا الرأس في تابوت وشربنا الخمر حول التابوت ، فشرب أصحابي ليلة حتّى سكروا ، ولم أشرب معهم . فلمّا جنّ الليل سمعت رعداً ورأيت برقاً ، فإذا أبواب السّماء قد فُتحت ونزل آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ونبيّنا محمَّد (صلّى الله عليه وآله) وعليهم أجمعين ، ومعهم جبرئيل وخلق من الملائكة .
فدنا جبرئيل من التابوت ، وأخرج الرأس وضمّه إلى نفسه وقبّله ، ثمّ كذلك فعل الأنبياء كلّهم ، وبكى النّبي (صلّى الله عليه وآله) على رأس الحسين (عليه السّلام) وعزّاه الأنبياء ، وقال له جبرئيل (عليه السّلام) : يا محمَّد ، إنّ الله تعالى أمرني أنْ اُطيعك في اُمّتك ، فإن أمرتني زلزلت الأرض بهم ، وجعلت عاليها سافلها كما فعلت بقوم لوط . فقال النّبي (صلّى الله عليه وآله) : (( لا يا جبرئيل ، فإنّ لهم معي موقفاً بين يدي الله يوم القيامة )) .
ثم جاء الملائكة نحونا ليقتلونا ، فقلت : الأمان الأمان يا رسول الله ! فقال : (( اذهب ، فلا غفر الله لك ))(8)(9) .
ــــــــــــــــــــ
(1) الراوي ، من ع .
(2) عمرو بن سعيد بن العاص بن اُميّة بن عبد شمس الاُموي ، كان والي مكّة والمدينة لمعاوية وابنه يزيد ، وقدم الشام ، فلمّا طلب مروان بن الحكم الخلافة عاضده عمرو ، فجعل له ولاية العهد بعد ابنه عبد الملك ، ولمّا ولي عبد الملك أراد خلعه من ولاية العهد ، فنفر عمرو ، ولم يزل عبد الملك يتربّص به حتّى تمكّن منه ، فقتله سنة 70 هـ .
الإصابة ـ ترجمة رقم 6850 ، فوات الوفيات 2 / 118 ، تهذيب التهذيب 8 / 37 ، الأعلام 4 / 78 .
(3) في أنساب الأشراف / 221 : كانت زينب هذه عند علي بن يزيد بن ركانة من بني المطلب بن عبد مناف ، فولدت له وُلْداً ، منهم : عبدة ، وقد ولدت وهب بن وهب أبا البختري القاضي .
(4) ر : تندب على .
(5) ع :
أيّها القاتلون جهلا ًحـسيناً     أبشروا بـالعذاب والتـنكيلِ
كلُّ أهل السّماء يدعو عليكم    مـن نبيٍّ ومـالك وقبـيلِ
(6) اختلفت النّسخ والمصادر في ضبط اسمه ، فالمثبت من ع . وفي ر : مجفر ، وفي ب : مخفر .
وهو محفر بن ثعلبة بن مرّة بن خالد من بني عائذة ، من خزيمة بن لؤي ، من رجال بني اُميّة في صدر دولتهم .
نسب قريش / 441 وفيه : مخفر ، جمهرة الانساب / 165 ، الأعلام 5 / 291 .
(7) ر . ع : فروى ابن لهيعة ، والمثبت من ب .
وابن لهيعة : عبد الله بن لهيعة بن فرعان الحضرمي المصري ، أبو عبد الرحمن ، محدّث مصر وقاضيها ، ومن الكتّاب للحديث والجامعين للعلم والرحّالة فيه ، توفّي بالقاهرة سنة 174 هـ .
الولاة والقضاة / 368 ، النّجوم الزاهرة 2 / 77 ، ميزان الاعتدال 2 / 64 ، الأعلام 4 / 115 .
(8) ب : . . . فإنّ لهم معي موقفاً بين يدي الله يوم القيامة ، قال : ثمّ صلّوا عليه ، ثمّ أتى قوم من الملائكة وقالو : إنّ الله تبارك وتعالى أمرنا بقتل الخمسين ، فقال لهم النّبي (صلّى الله عليه وآله) : (( شأنكم بهم )) . فجعلوا يضربون بالحربات ، ثمّ قصدني واحد منهم بحربته ليضربني ، فقلت : الأمان الأمان يا رسول الله ، فقال : (( اذهب ، لا غفر الله لك )) . فلمّا أصبحت رأيت أصحابي كلّهم جاثمين رماداً .
(9) جاء بعد هذا في نسخة ع : ورأيت في تذييل محمَّد بن النجّار شيخ المحدّثين ببغداد ، في ترجمة علي بن نصر الشبوكي ، باسناده زيادة في هذا الحديث ما هذا لفظه ، قال : لما قُتل الحسين بن علي (عليه السّلام) وحملوا برأسه ، جلسوا يشربون ويجيء بعضهم بعضاً برأس ، فخرجت يد وكتبت بقلم الحديد على الحائط :
أترجو اُمة قتلت حسيناً     شفاعة جده يوم الحساب ؟
قال : فلمّا سمعوا بذلك تركوا الرأس وانهزموا .