الفصل الثاني : بعــد الرســول
وبعد الرسول - حيث ازدحمت الحوادث واختلفت النعرات - نراه يقف جنباً إلى جنب مع والده العظيم في قضية الحق ويعلنها في أوضح برهان .
والمسلمون هناك ، يهتدون على من يهتدون .
ومرة أخرى نلتقي بالحسين (ع) وهو شاب يمثل شمائل أبيه المهيبة ، ويقود الجيوش المزمجرة ضد طاغية الشام معاوية بن أبي سفيان .
وتتم على مضاء عزمه ، ومضاء سيفه ، وسداد فكره ، وسداد خططه انتصارات باهرة ضد الطغيان الأموي الذي أراد أن يرجع بالأمة الإسلامية إلى جاهليتها الأولى ، وقد فعل .
.. ثم تُدَبَّرُ مؤامرة لئيمة لاغتيال الإمام علي (ع) وينتهي الأمر بمصرعه الفاجع ، وتلقي الأمة بأبهض مسؤولياتها وأخطرها على كاهل الإمام الحسن (ع) فيمارس الإمام الحسين جهاده المقدس في أداء أمانة الحق ، ومسؤولية الأمة ، ويحرض الشعب الإسلامي ضدَّ الباطل المحتشدة كل قواه في عرصات الشام، ويحذره من كل ما يُرتقب من مآسي وويلات على يد الطاغية إن تمَّ له الأمر .
وينتهي دور الإمام الحسن فيُقتل بسمٍّ يدسه إليه طاغية الشام .
فتقع دفة الخلافة الإلهية بيد الحسين (ع) ويتابعه المسلمون الواقعيون الذين لم يشاهدوا في بني أمية إلاّ مُلكاً عضوضاً كلُّ همّه القضاء على مقدسات الأمة ومشاعرها في آن واحد .
نعم ، انتقلت الإمامة إلى رحاب الحسين (ع) في أوائل السنة الخمسين من الهجرة النبوية، ولنلقي نظرة خاطفة على الوضع السائد في البلاد الإسلامية آنذاك .
في السنة الواحد والخمسين : حج معاوية إلى بيت اللـه الحرام ليرى من قريب الوضع السياسي في مركز الحركة المناوئة لخلافته ، حيث إن الحرمين كانا مقرا الصحابة والمهاجرين ، وهم أبغض خلق اللـه لمعاوية لأنهم أشدهم خلافاً عليه .
فلما طاف بالبلاد المقدسة عرف أن الأنصار - بصورة خاصة - يبغضونه ويكرهون خلافته على أشد ما تكون الكراهية والبغض .
وذات يوم سأل الملأ حوله : ما بال الأنصار لم يستقبلوني ؟
فأجابه طائفة من زبانيته : إنهم لايملكون من الإبل ما يستطيعون استقبالك عليها .
وكان معاوية يعرف الحقيقة من برودة تلقي الأنصار مجيئه ، فحينما سمع هذا الجواب الروتيني لمز وغمز وقال : ما فعلت النواضح - أراد الاستهزاء بساحة الأنصار ، بأنهم كانوا ذات يوم من عمال اليهود في المدينة ، أصحاب إبل تنضح الماء لبساتين اليهود ، وكان في الحاضرين بعض زعماء الأنصار فأجابه - وهو قيس بن سعد بن عبادة - قائلاً :
أفنوها يوم بدر وأُحد وما بعدهما من مشاهد رسول اللـه حيث ضربوك وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر اللـه وأنتم كارهون . اما إن رسول اللـه عهد إلينا أنّا سنلقي بعده أثرة .
ثم جاش صدر قيس فاندلعت منه شرارة فيها ذكريات الماضي الزاهر ، وعواصف هذا اليوم الأسود ، فقال وأمعن في إيضاح سوابق بني أمية ولواحقهم ، وشرح ما كان من وقوفهم ضد الدعوة النبوية - أول يوم - وما كان من إنكارهم حق عليٍّ (ع) بعد ذلك ، وما كان من أمر معاوية - بالذات - مع إمام زمانه، وما جاء عن لسان النبي (ص) من الأحاديث بشأن علي ، الذي افترضه معاوية مناوئه الوحيد على كرسي الحكم .
ولم يدر قيس ذلك اليوم ما الذي كان يحمله معاوية من بغض وكره - سوف يحدوان به إلى مالا تحمد عواقبه - .
ورجع معاوية يفكر في إجراء التدابير اللازمة ضد مناوآت الأنصار والمهاجرين . وأول خطة اتخذها هي التي سوف يُتلى عليك تفصيلها .
وعرف معاوية أن في البلاد الإسلامية كثرة واعية من المفكرين الذين محضوا عن تجارب الماضي القريب ، ولمسوا حقيقة أمر الحزب الأموي الحاكم ، كما آمنوا بقداسة الحق ، وبوجوب متابعته ، والدفاع عن نواميسه السامية مهما كلفهم الأمر .
وعرف كذلك أنه يستقر في مركز حركة هؤلاء الذين ناوأوه ، عليّاً أولاً والحسن ثانياً ، وهذا الإمام ثالثاً . ثم عرف أيضاً ما لهذا البيت العلوي من دعائم وطيدة ، ومؤهلات كافية تنذر عرش الأمويين بالفناء العاجل .
فمن هنا بدأت خطته اللئيمة ، ففكر في أن من يحب عليّاً وآل عليٍّ لا شك في أنه يستاء من مُلك بني أمية . إذاً فلنقلع حب الإمام أولاً من صدور الشعب المسلم ، ولنستأصل مقاييس المسلمين التي يميزون بها الحق عن الباطل - الا وهي تمثل الإسلام الحق في بيت الرسالة - .
فأخذ يكتب إلى كل والٍ له في أطراف البلاد برسالة إليك نصها بالحرف :
أما بعد ، انظروا إلى من قامت عليه البينة أنه يحب عليّاً وأهل بيته فأمحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه . ولا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة .
وهذه أول محنة واجهها أنصار عليٍّ الذين كانوا يشكلون الجبهة المناوئة للحزب الأموي الحاكم . وقد كانت جبهةً شديدةً عنيفةً جدّاً .
ثم راح معاوية في ظلمه يخطو خطوة أخرى - أقسى من الأولى وأعنف كثيراً - فكتب إلى ولاته يقول : أما بعد ، خذوهم على الظنة ، واقتلوهم على التهمة .
ففكِّروا في هذه الكلمة : ( اقتلوهم على التهمة ) فهل تعرفون أقسى منها في قاموس المجرمين وأعنف حكماً ؟!
في مثل هذا الجو الرهيب كان يعيش الإمام الحسين (ع) وهو يتقلد منصب الخلافة الإلهية . ولا شك في أنه كان يؤلمه الشوك في طريق أصحاب الحق على الظنة ، وإبادتهم بالتهمة .
ولكنَّ الظروف التي كان يعيشها لم تكن بالتي تجيز له المقاومة المسلحة ضد العدوان الأموي الأرعن؛ لأن معاوية كان يعالج الأمر بالمكر والخدعة ، ويخدّر أعصاب الأمة بالأموال الطائلة من ثروة الدولة التي إن لم تُعط الفائدة فهناك شيء كان يسميه بجنود العسل ، ويقصد به الغدر بحياة الشخصيات عن طريق السم يديفه في مطعمه أو مشربه ، كما فعل ذلك بالإمام الحسن (ع) بواسطة زوجته الغادرة ، وكان يستعمله دائماً ضدّ أولئك العظماء الذين لايخضعون لسلطان المال والمنصب .
إما إذا استعصى عليه الإغراء بالمال أو القضاء بالسم ، فيأتي دور القوَّة التي كان يستعملها بدون رحمة في مناسبة وغير مناسبة .
وبهذه الوسيلة الأخيرة قضى على الصحابي الكبير والزعيم الشيعي القدير : حِجْر بن عدي ، حيث استدعاه هو وأصحابه إلى الشام ، وقبل أن يصلوا إلى العاصمة أرسل سرية من شرطته فقتلت بعضهم ودفنت بعضهم أحياءً بغير جرم إلاّ أنهم كانوا أصحاب عليٍّ (ع) وقواد جيشه .
وكان مقتل حجر هذا منبِّهاً فعّالاً ، للشعب الإسلامي الذي دعا إلى إعلان التمرد ، حتى من بعض أصحاب الأمويين كوالي خراسان ربيع بن زياد الحارثي ، حيث جاء المسجد ونادى بالناس ليجتمعوا ، فلما اكتمل اجتماعهم قام خطيباً وذكر المأساة بالتفصيل وقال : إن كان في المسلمين من حمية شيء لوجب عليهم أن يطالبوا بدم حِجْرٍ الشهيد .
وحتى من مثل عائشة التي كانت بالأمس في الصف المخالف لعلي (ع) فإنها لما سمعت الفاجعة قالت : أما واللـه لقد كان لجمجمة العرب عز ومنعة ، ثم أنشدت :
ذهب الذيـن يعاش في أكنافهم و بقيـت في خلـف كجلد الأجرِب
ومشت في الأوساط السياسية رجة تبعتها اضطرابات جعلت معاوية يندم من سوء فعله لأول مرة .
ولكن لم يكن مقتل حِجْر بالوحيد من نوعه ، فقد رافقه مقتل الصحابي الكبير المعترف به لدى سائر المسلمين عمرو بن الحمق ، الذي حُمل رأسه على الرمح لأول مرة في تاريخ الإسلام ، حيث لم يُحمل فيه قبل ذلك اليوم رأس مسلم قط .
وتبع حادثة حِجْر وأصحابه الستة عشر حوادث مرعبة نشرت على دنيا المسلمين التوتر والإضطراب .
ويمكننا أن نكشف عن بعض مظاهر هذا التوتر بما يلي :
لقد سيطر زياد ابن أبيه على الكوفة والبصرة ، ولقد كان متشيعاً قبل أن يُلحقه معاوية بنسبه ، فكان يعرف أسرار الشيعة وخباياهم وزعماءهم وقادتهم . فلما استتب له الأمر راحَ يلاحقهم تحت كل حجر ومدر ويمعن فيهم القتل والتنكيل حتى ليَقول الرجل : أنا كافر لا أؤمن بنبيٍّ خير له من أن يقول : إني شيعي أؤمن بقداسة الحق وأكفر بالجبت والطاغوت .
فلما ضبط العراقيين إرهاب بني أمية رفع زياد كتاباً إلى البلاد الملكي هذا نصه بالحرف :
إني ضبطت العراق بشمالي ، ويميني فارغة . فولني الحجاز أشغل يميني به ..
ولما أذيع نبأ هذه الرسالة في المدينة المنورة اجتمع المسلمون في المسجد النبوي وابتهلوا إلى اللـه ضارعين : اللـهم اكفنا يمين زياد .
ولسنا بصدد بيان أنه كفّ اللـه عنهم يمين زياد فعلاً ، حيث أصابه الطاعون فمات ذليلاً ، إلاّ أننا بصدد أن نعرف مدى الإرهاب المخيم على الأوساط السياسية حتى أن الناس يجتمعون للدعاء ضد والٍ واحد ، رهيب الجانب ، مرعب السلطة .
وإذا سألت عن موقف السبط ، فنحن لا يهمنا من هذا الاستعراض الخاطف للأوضاع السياسية في عهد معاوية إلاّ لنعرف موقف الإمام الحسين (ع) منها .
ونستطيع أن نلمس موقفه بصورة إجمالية ، إذا مضينا نفكر في هذه القضايا الثلاث ،التي سنتلوها تباعاً.
1- كانت الأنباء تتوالى على المدينة بنكبات فجيعة ، نزلت على رؤوس المسلمين بسبب مدحهم للإمام علي (ع) وبسبب تشيُّعهم لأهل البيت (ع) تماماً بعد إعلان معاوية حكمه الصارم :
كل من نقل فضيلة عن علي فَقَدَ الأمان على نفسه وماله !. وكان ذلك في مستهل السنة الواحدة والخمسين بعد الهجرة النبوية . فدبر الإمام خطة جريئة نفذها بنفسه ، فجمع الناس في محفل ضم من بني هاشم رجالاً ونساءً ومن أصحاب رسول اللـه ، ومن شيعته أكثر من سبعمائة رجلٍ ، ومن التابعين أكثر من مائتين ، فقام فيهم خطيباً فحمد اللـه وأثنى عليه ، ثم قال :
أما بعد ، فإن هذا الطاغية ( يعني معاوية بن أبي سفيان ) قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد علمتم وشهدتم ، وإني أريد أن أسألكم عن شيء ، فإن صدَقت فصدِّقوني ، وإن كذَبت فكذِّبوني ، وأسألكم بحق اللـه عليكم وحق رسول اللـه وقرابتي من نبيكم لما سترتم مقامي هذا ، ووصفتم مقالتي ، ودعوتم أجمعين في أمصاركم من قبائلكم مَن أمنتم من الناس .
إسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا فإني أتخوف أن يدرس [7] هذا الأمر ، ويذهب الحق ويُغلب « وَاللـه مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ » ( الصَّف/8)
ثم مضى الإمام في الخطبة القوية الهادرة ، يذكِّر الجمع بعليٍّ (ع) ، وفي كل مقطوعة يصبر هنيئة فيستشهد الأصحاب والتابعين على ذلك ، وهم لايزيدون على اعترافهم قائلين : اللـهم نعم .. اللـهم نعم .
حتى ما ترك شيئاً مما أنزل اللـه فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسره ، ولا شيئاً مما قاله الرسول (ص) في أبيــه وأخيــه وأمّه ونفسه وأهل بيته ، إلاّ رواه ، وفي كل ذلك يقول أصحابه : اللـهم نعم . لقد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي : اللـهم قد حدثني به من أصدِّقه وائتمِنه من الصحابة [8] .
أما وقد أشهدوا اللـه على ذلك قال : أنشدكم اللـه إلاّ حدثتم به من تثقون به وبدينه ... .
وكانت هذه خطة مناسبة للحدّ من طغيان معاوية في سب علي (ع) ، بل كانت خطة معاوية لسياسة بني أمية قاطبة الذين ارتأوا محو سطور في التاريخ هي أسطع ما فيه وأروع ما يحتويه ، ألا وهي مآثر أهل بيت الرسالة .
ولم يكتف بنو أمية في محوها بالقوة فقط بل لعبت خزينة الدولة دوراً بعيداً في ذلك أيضاً .
فقد كان الحديث يُشترى ويُباع كأي متاع آخر ، وكان المحدِّثون أوسع الناس ثروة أو أنكاهم نقمة . إن رضوا فلهم كل شيء ، وإن أبوا فعليهم كل شيء .
ربما كان معاوية وهو الداهية المعروف ينتظر من الإمام الحسين ذلك الاستنكار البالغ ، بيد أنه لم يكن يفكّر في أن الأمر سوف يدبّر على هذا الشكل المرعب ، وعلى أي حالٍ فقد كان الأمر مرتقباً .
ولكن حدث بعد هذا التظاهر الصارخ أمر لم يكن معاوية يحلم به أبداً :
2- إن عيراً لوالي اليمن كانت محملة بأنواع الأمتعة إلى البلاط الملكي لتوزع على أصحاب الضمائر المستأجرة .
ومرَّت هذه العير بالمدينة فاستولى عليها الإمام (ع) وامتلكها حقّاً شرعيّاً له ، ليصرفه في مواقعه اللازمة .
وكتب إلى معاوية رسالة أرغمت أنفه وأطارت لبه وهذا نص الرسالة :
من الحسين بن علي ..
إلى معاوية بن أبي سفيان .
أما بعد فإن عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً إليك لتودعها خزائن دمشق ، وتعلّ بها بعد نهل ببني أبيك ، وإني احتجت إليها وأخذتها والسلام .. .
وأول ما لفت نظر معاوية من هذه الرسالة تقديم الإمام الحسين (ع) اسمه واسم أبيه على ذكر معاوية ، ثم دعاؤه له باسمه الشخصي دون أن يشفعه بلقب أمير المؤمنين ويعتبر ذلك - في منطق القرون الأولى - تحدياً بليغاً لسلطة معاوية ، بل يؤكد هذا في أن الكاتب قد خلع عن نفسه الرضوخ لسلطان الدولة الباطلة .
ثم جلب انتباهه موضوع أخذ اليد ، وفيه أبلغ دليل على التمرد على السلطة الحاكمة .
بيد أن معاوية بدهائه عرف أن الظروف لا تقتضي إلاّ الإغماض عن أمثال هذه الأعمال ، ولم يكن الإمام (ع) يريد أن يبتدئ بإعلان التمرد المسلح لأنه كان حريصاً على حفظ دماء المسلمين كحرصه على نشر الحقيقة .
فكتب إليه معاوية : في منطق مستعتب وبيّن أنه عارف بمكانته ، وجليل شأنه ، وانه لايريد أن يمس ساحته بسوء . بيد أن خلفه من بعده سوف يكون له بالمرصاد .
ومضى الحسين (ع) في توطيد دعائم الحقيقة ، ببث الوعي ، وجمع الأنصار ، ولازالت الأنباء تتوارد على البلاط الملكي بشأن الإمام ، وأنه يعد العدة لثورة فاصلة .
بيد أن معاوية كاد يتم الأمر بالخدعة قبل أن يدبر النقمة لعدم مؤاتاة الظروف للساعة المرتقبة ، فكتب رسالة أخرى إلى الإمام يستعتب ويؤنب ، ويذكّر بالصلات الودية بينه وبين الإمام (ع) .
ولكن الإمام الحسين (ع) كان يعلم بالفجائع التي كانت تنقضّ على رؤوس الشيعة من محبي آل الرسول في كل بلد .
3- فكتب إليه برسالة أخرى يسرد فيها أعماله واحداً تلو الآخر .
.. أما بعد فقد بلغني كتاب تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور أنت لي عنها راغب ، وأنا بغيرها عنك جدير ، وان الحسنات لايهدي لها ولا يسدد إليها إلاّ اللـه تعالى .
وأما ما ذكرت أنه رقى إليك عني ، فإنه إنما رقَّاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الجمع ، وكذب المعادون ، ما أردت حرباً ولا عليك خلافاً .
وإني لأخشى اللـه في ترك ذلك منك ومن الإعذار فيه إليك ، وإلى أوليائك القاسطين الملحدين - حزب الظلمة - وأولياء الشياطين .
ألست القاتل حِجْر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلِّين العابدين ، كانوا ينكرون ويستفضعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في اللـه لومة لائم ، ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة جرأة على اللـه واستخفافاً بعهده .
أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللـه (ص) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفــر لـونــه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته من العهود ما لو فهمه الموصم لزلت قدمُه من رؤوس الجبال ؟
أولست بمدَّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك وقد قال رسول اللـه (ص) : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، فتركت سنَّة رسول اللـه (ص) تعمداً ، وتبعت هواك بغير هدىً من اللـه . ثم سلطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسمِّل أعينهم ويصلبهم في جذوع النخل ، كأنك لست من هذه الأمة ، وليسو منك ؟.
أولست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد انه على دين علي صلوات اللـه عليه ، فكتبت إليه : أن اقتلْ كلَّ من كان على دين عليٍّ ، فقتلهم ومثّل بهم ؟.. .
إلى آخر الكتاب الذي كان سوط عذاب يُلهب متن معاوية ومن دار في فلكه من المنحرفين .
وهكذا عاش الإمام (ع) الصوت الوحيد الذي غدا يرعد أمام كل بدعة ، والسوط الفارع الذي بات يسوِّي كل تخلف أو تطرف في المجتمع ، فلطالما حرض ذوي الفكر والجاه ، وأثارهم على حكومة الضالين ، بيد أنهم فضلوا مصالح أنفسهم على مصالح الدين ، ولم يحفظوا ذممهم ، في حين راحت ذمة الإسلام ضحية كل فاجر .
ولطالما خاطر الإمام الحسين (ع) بوقوفه أمام اعتداءات بني أمية على مصلحة الأمة الإسلامية ، وعلى مقدسات الدين ونواميسه .
والواقع أننا لو أردنا أن نتصور الوضع الديني في عصر الإمام خالياً عنه وعن جهاده ، لكنَّا نراه أحلك عصر مرّ به المسلمون ، وأقساه وأعنفه . ولو كنَّا نتصور الإسلام وقد مرّ به ذلك العصر بدون أبي عبد اللـه (ع) لكنَّا نراه أضعف دين وأقربه إلى الإنحراف .
فلم يكن هناك من قوة تستطيع الوقوف أمام المد الأموي الأسود ، إلاّ شخص أبي عبد اللـه (ع) ومن دار في أفقه من الأنصار والمهاجرين ، لأن الحروب التي سبقت عصر الإمام أعلنت عن تجارب سيئة جدّاً ، واختبارات فظيعة لقوى الخير في المسلمين ، وما كان من شتيتها موجوداً لفّته زوابع الترهيب ، وأعاصير الترغيب ، فراحت مع التي راحت أولاً .
وبقي المحامي والنصير الأول والأخير للإسلام ، وهو الإمام الحسين (ع) الذي استطاع بسداد رأيه ، ومضاء عزمه ، وسبق قدمه ، وسمو حسبه ونسبه ، وما كان له من مؤهلات ورثها من جده رسول اللـه وأبيه علي أمير المؤمنين صلوات اللـه عليهما استطاع بكل ذلك أن يشكل جبهة قوية نسبيّاً أمام الطغيان الأموي الوسيع .
وكان ذلك شأنه في عصري معاوية ويزيد .
وها نحن قد استعرضنا جانباً موجزاً من عصر معاوية ، وسوف أستعرض شيئاً قليلاً عن عصر يزيد ، في الفصل الأخير ، وسوف لا نذهب في سرد القضايا تفصيلاً ، بل نجعلها موجزةً لسببين :
أولاً : اشتهار نهضته العظيمة في عهد يزيد حتى كاد يعيها كل شيعي مؤمن .
وثانيا : لأن ذلك يحتاج إلى موسوعة علمية كبيرة تحلل القضايا السياسية والدينية التي رافقت نهضة الحسين (ع) ليظفر من ذلك بأروع أمثلة الجهاد وأرفعها .
وهكذا يحق لنا أن ندع البحث أبتراً ، لندخل بحوثاً أخرى ، نتكلم فيها حول السمات الشخصية لسيد الشهداء الحسين (ع) ، تاركين جانب الدين والسياسة لمجال أفسح ، وفي بحث أوسع .
_____________________
([5]) أي غرف لهم من قدح ماء .
([6]) معالم الزلفى : ( ص 259 ) .
([7]) يمحى ويضمحل .
([8]) هذه المقطوعة من قول الراوي للحديث .