• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

المانع الثالث/ التعصّب


إنّ التعصّب يعدّ من الموانع الأخرى التي تحول بين المرء و وبين إذعانه واتّباعه للحقّ، لأنّ التعصّب يدفع صاحبه إلى الجمود على فكرة معيّنة وعدم السماح لنفسه بتغيير معتقداته مهما بلغت الأدلّة والبراهين المثبتة لبطلان ماهو عليه.
والتعصّب يدفع صاحبه إلى التشبث بآراء طائفة معيّنة مصرّاً على أنّها دون غيرها هي الحق الذي يجب اتباعه.
ومن آثار هذا الداء العضال أنّه يصدّ صاحبه عن الإصغاء إلى دليل المخالف أو الاهتمام بما يذكر من أدلّه، لأنّه يكون دائماً مسيىء الظن بكلّ من يخالفه في الرأي، فيؤدّي به ذلك إلى أن يعيش حالة الحرمان من الرؤية المترويّة والمتّزنة لأفكار من يخالفه في الرأي، ومن ثمّ يندفع هكذا شخص إلى عدم قبول الحق حين ثبوته موافقاً لما يذهب إليه الآخر.
ولهذا يكون المتعصّب محروماً من معرفة الحق و إن جُعلت الحقيقة أمام بصيرته كالشمس في رابعة النهار.
و يشير محمد مرعي الانطاكي إلى هذه الحقيقة في كتابه (لماذا اخترت مذهب الشيعة) قائلاً:
" انظر بدقّة وإمعان، إلى ما أوردناه لك من الحجج والبراهين في هذا الكتاب، كيف تجلّى الحقّ، واّتضح السبيل لسالكيه الذين أخلصوا النيّة، وتجرّدوا عن العصبيّة المذهبيّة والنعرات الطائفيّة العمياء المهلكة، امّا من بقي مصرّاً على عناده، فلا تفيد الروايات وإن كثرت وكثرت، ولو قدّمناه له ألف دليل ودليل "(1).
ولهذا ينبغي للباحث الذي يودّ أن يمتلك جرأة التخلّي عن معتقداته عند ثبوت خطئها أن يروّض نفسه للأخذ بالحق، وأن يتجرّد عن الرؤية الطائفيّة، وأن لا يدع للتعصّب مجالاً للتوغّل في سريرته، وإن كان مبتلياً به، فعليه أن يخلع رداء التعصّب عن ذاته وأن يميت كلّ عصبيّة مستقرّة في سويداء قلبه، ليتعامل مع آراء المذاهب الأخرى بمرونة وليمتلك قدرة النظر إلى من يخالفه في الرأي بعين الحياد.
ولكن من المؤسف ـ كما يذكر المستبصرون ـ أنّ الكثير من الجهات المتوليّة لإدارة شؤون الناس الدينيّة تحاول نتيجة عدم امتلاكها الأدلّة الكافية لإثبات أحقّيتها أن تحمي عقيدة الناس بغرس التعصّب في نفوسهم.
لأنّ المتعصّب يدفعه التعصّب إلى عدم الإصغاء لأقوال المخالفين، لأنّ من المقرّر سلفاً أنّ ماعندهم باطل، فلا داعي لتضييع الوقت في الإصغاء إلى الباطل.
ويشير التيجاني السماوي إلى معاناته من الذين قيّدوا عقله ردحاً من الزمن، قائلاً:
" قومي الذين جمّدوا فكري ردحاً من الزمن وحجّروا عليّ أن أفقه الحديث أو أحلل الأحداث التاريخيّة بميزان العقل والمقاييس الشرعيّة التي علّمنا إيّاها القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة.
ولذلك سوف أتمرّد على نفسي وأنفض عنّي غبار التعصّب الذي غلّفوني به وأتحرّر من القيود والأغلال التي كبّلوني بها أكثر من عشرين عاماً ولسان حالي يقول لهم:
ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين.
ياليت قومي اكتشفوا العالم الذي يجهلونه ويعادونه دون أن يعرفونه "(2).
ويرى ياسين المعيوف البدراني أن محاولة غرس التعصّب أعم من أن تكون حالة عفويّة من قبل بعض الجهات، بل هي تسير وفق خطط مدروسة تدعمها جهات تعي ما تفعل.
ولهذا يقول في هذا المجال:
" يبدوا أن هناك إشكالاً عميقاً يكمن في منهاج الدراسة في الجامعات والمعاهد الدينيّة حيث تقتصر كل مؤسّسة على تدريس اتّجاه معيّن ونمط واحد من العقائد والفقه والعلوم الدينيّة متجاهلةً سائر الاتّجاهات والمذاهب الأخرى.
وإنّ الأنكى والأخطر من ذلك هو تعبئة الطلاب فكريّاً ونفسيّاً ضدّ كل ما يخالف تلك المؤسّسة ومنهجها، فيتخرّج طلاب هذه العلوم بفكر منغلق وعقليّة ضيّقة محدودة جاهلين الرأي الآخر ومنحازين بتعصّب أعمى ضد كل مالا يوافق فكرهم "(3).
وقد أشار الكثير من المستبصرين إلى هذا المانع الذي يقف بوجه كل باحث سنّي يقصد تغيير انتمائه المذهبي بعد وصوله إلى القناعة التامّة بأحقّية مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
ويقول التيجاني السماوي حول هذا المانع الذي اعترى طريقه ليصدّه عن ترك موروثاته العقائديّة، أنّه بعد ما جرى بينه وبين صديقه الشيعي الأستاذ منعم في بغداد حواراً أدي إلى توسيع آفاق رؤاه، طرأت على باله خواطر، منها أنّه قال في قرارة نفسه:
" ياإلهي، لماذا أُكابر وأُعاند وقد أعطاني حجّة ملموسة من أصحّ الكتب عندنا؟... أأسلّم لهم بهذه الحقيقة؟...، ولكن أخاف من هذه الحقيقة فلعلّها تتبعها حقائق أخرى لا أحبّ الاعتراف بها، وقد انهزمتُ أمام صديقي مرّتين... ولكنّي لا أريد هزيمة أخرى، وأنا الذي كنت منذ أيّام قلائل عالماً في مصر أفخر بنفسي ويمجّدني علماء الأزهر الشريف، أجد نفسي اليوم مهزوماً مغلوباٌ ومع من؟ مع الذين كنت ولا أزال أعتقد أنّهم على خطأ، فقد تعوّدت على أنّ كلمة (الشيعة) هي مُسبّة.
إنّه الكبرياء وحبّ الذات، إنّها الأنانيّة واللجاج والعصبيّة، إلهي ألهمني رشدي، وأعنّي على تقبّل الحقيقة ولو كانت مُرّة.
اللهمّ افتح بصري وبصيرتي واهدني إلى صراطك المستقيم، واجعلني من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
اللهمّ أرنا الحقَّ حقّاً وارزقنا اتّباعه وأرنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابه.
رجع بي صديقي إلى البيت وأنا أردّد هذه الدعوات فقال مبتسماً:
هدانا الله وإيّاكم وجميع المسلمين، وقد قال في محكم كتابه: ( والّذينَ جاهَدُوا فينَا لنَهديَنَّهُم سُبُلَنا وإنّ اللهَ لَمَعَ المُحسنينَ) والجهاد في هذه الآية يحمل معنى البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة، والله سبحانه يهدي إلى الحق كلّ من بحث عن الحق "(4).
ويشير التيجاني السماوي في كتابه (ثمّ اهتديت) إلى دور التعصّب في إبعاد الإنسان عن اتّباع الحق بعد ذكره جملة من معتقدات أهل البيت (عليهم السلام):
" ولَعمري إنّه الحق الذي لا مفرّ منه لو يتحرّر الإنسان عن تعصّبه الأعمى وكبريائه وينصاع للدليل الواضح "(5).
ولهذا يؤكّد التيجاني السماوي في العديد من كتبه على وجوب نبذ التعصّب لكلّ باحث يبتغي التعرّف على الفرقة الناجية من بين الفرق الإسلاميّة، وقد قال في كتابه (الشيعة هم أهل السنّة):
" هذا وقد ولّى عصر التعصّب والعداوة الورثيّة، وأقبل عهد النور والحريّة الفكريّة، فعلى الشاب المثقّف أن يفتح عينيه، وعليه أن يقرأ كتب الشيعة ويتّصل بهم ويتكلّم مع علمائهم كي يعرف الحقّ من بابه، فكم خُدعنَا بالكلام المعسول وبالأراجيف التي لا تثبتُ أمام الحجّة والدليل.
والعالم اليوم في متناول الجميع، والشيعة موجودون في كل بقاع الدنيا من هذه الأرض، وليس من الحقّ أن يسأل الباحث عن الشيعة أعداء الشيعة وخصومهم الذين يخالفونهم في العقيدة، وماذا ينتظر السائل من هؤلاء أن يقولوا في خصومهم منذ بداية التاريخ؟
فليست الشيعة فرقة سرّيّة لا تُطلع على عقائدها إلاّ من ينتمي إليها، بل كتبها وعقائدها منشورة في العالم، ومدارسها وحوزاتها الإسلاميّة مفتوحة لكلّ طلاّب العلم، وعلماؤهم يقيمون الندوات والمحاضرات والمناظرات والمؤتمرات، وينادون إلى كلمة سواء وإلى توحيد الأمّة الإسلاميّة.
وأنا على يقين بأنّ المنصفين من الأمّة الإسلاميّة إذا ما بحثوا في الموضوع بجدّ سوف يستبصرون إلى الحقّ الذي ليس بعده إلاّ الضّلال، لأنّ مانعهم من الوصول هو فقط وسائل الدعاية المغرضة والإشاعة الكاذبة من أعداء الشيعة أو تصرّف خاطىء من بعض عوام الشيعة.
ويكفي في أغلب الأحيان أن تزاح شبهة واحدة أو تنمحي خرافة باطلة حتى ترى من كان عدوّاً للشيعة يصبح منهم "(6).
ويقول التيجاني السماوي أيضاً في هذا المجال في كتاب آخر له:
" وها نحن اليوم، في عهد الحرّيات، في عهد النور كما يسمّونه في عهد العلم وتسابق الدول لغزو الفضاء والسيطرة على الأرض، إذا ما قام عالمٌ وتحرّر من قيود التعصّب والتقليد، وكتب أيّ شيء يُشمّ منه رائحة التشيّع لأهل البيت، فتثور ثائرتُهم وتُعبَّأُ طاقاتهم لسبّه وتكفيره والتشنيع عليه لا لشيء سوى أنّه خالف المألوف عندهم "(7).
ويشير صائب عبد الحميد إلى تجربته ومعاناته من الكبرياء الذي حاول أن يمنعه من الاستبصار قائلاً:
" وإنّي أعترف على نفسي أن لو لم تتداركني رحمة ربّي وتوفيقاته لصرعتني تلك النفس (المعاندة) ولقد كادت ونجحت مرّةً، ولكنّ الله أعانني عليها...
فبعد أن أمضيت الشهور في الدرس والتنقيب والمناظرة والبحث، وبلغت كامل اليقين واستجمعت قواي في ليلة ختمتُ فيها مجلساً في بحث متشعّب عميق في هذه المواضيع، فخرجتُ منه وأنا أشدّ يقيناً وأثبتُ حجّةً عازماً أن أبدأ الفجر الجديد بالصلاة وفق مذهب أهل البيت (عليهم السلام)...
وبينما كنت أعيش نشوة الإنتصار وحلاوة اليقين، إذ صادف أن اجتمعت مع ثلّة من أبناء الشيعة، فتناولنا أطراف الحديث، فلمّا رأيتهم يتحدّثون وملؤهم الفخر بمذهبهم ثارت فيّ تلك النفس ـ المعاندة ـ من جديد، وأبت أن توافقهم!
فخضت الحديث معهم أُغالط نفسي على علم وإصرار، ومضيت هكذا حتى سئمت نفسي واضطربت في داخلي، ولكنّي لست مستعدّاً للانقياد لهم!
فعدت متحيّراً من نفسي وما فيها، ونمتُ مصروعاً ثقيلاً.. وعدت أقضي شهوراً أخرى مضطرباً بين يقين عرفته وأعتقده وبين عناد وكبرياء لهما جذور قديمة!
وبقيت هكذا أصطنع العلل والأعذار وأجعلها شرعيّةً طبعاً، ولكنّها كانت كبيوتات الصغار، يشيدونها على الرمال فتنقشع وتزول آثارها بعد ساعة حتى أجليتُ ما في صدري بدموع الليل وزفرات الخلوة، أبكي حبّاً وشوقاً إلى سادة الخلق وأنوار الهدى، وأبكي على نفسي وغَلَبتها.
حتى أحسست و أنا في هدأة الليل كأنّ قطرة من تلك الدموع قد أتت على آخر عِرق من عروق تلك الكبرياء، فاقتلعتها من محلّها، وسقت مكانها بذرة، بذرة الطّاعة الولاء، فانتفضتُ مُكبّلاً أُطلق لتَوّه، خفيف الحمل كطائر صغير، مستبشراً كضائع أشرفَ فجأةً على أحبّته وذويه.. وأفقتُ مطمئنّاً في أوسط سفينة النجاة، أنهل من منهلها العذب الصافي "(8).
ولهذا يقول صائب عبد الحميد لإخوانه من أهل السنّة مشيراً إلى خطورة التعصّب و دوره في صدّ الإنسان عن الإذعان للحقّ:
" إنّي ـ يا صديقي ـ قد ورثت مثلكم تلك القناعات، ولم أكن آلِف سواها، بل إنّي ممّا يخالفها لحذر نَفور.
ولست أنسى كم نحاول الغوص في أعماقها، حتى إذا تغلغلنا يسيراً، اصطدمنا بذلك الحاجز الموهوم، لنرتدّ عل أدبارنا القهقري!
فكم مرّةً بلغنا ـ والحرقة تقوي قلوبنا، والدمعة لها بريق في أعيننا ـ أن نقول: إنّ الإمام عليّاً كان مظلوماً.
لقد قلناها كلّنا غير مرّة، ولكنّنا لم نتمكّن ـ لما في أنفسنا من حواجز ـ أن نستغرق النظر، لنعرف مسؤوليّتنا تجاه ذلك الظلم وتلك الظُلامة!
لقد أنستنا تلك الحواجز أنّنا مؤمنون، علينا أن نتحرّى الحق فنتّبعه، ونلتزم الموقف السليم الذي ينجو بنا يوم الموقف العسير!
ورجائي أن لا أكون مؤاخذاً عندك إن قلتها، فهي حقيقة حاكمة مهما حاولنا التنكّر لها، إنّها العصبيّة والكبرياء، هي التي تحجبنا عن تبنّي الموقف الشرعيّ أينما وجدناه.
ولسنا أوّل منهزمين أمامها، فلقد قهرت من هم أشدّ منّا قوّةً، وأكثر جمعاً! ولعلّ من بينهم أبو حامد الغزإلى، الذي قال مرّة ـ معتقداً بصحّة ما يقول -: ولكن أسفرت الحجّة وجهها، وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته (صلى الله عليه وآله)في يوم غدير خمّ، باتفاق الجميع، وهو يقول: (مَن كُنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاه).
فقال عمر: بَخ بَخ لك يا أبا الحسن، لقد أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
فهذا تسليم ورضى وتحكيم ثمّ بعد هذا غلب الهوى بحبّ الرئاسة وحمل عمود الخلافة، وعقود البنود، وخفقان الهواء في قعقعة الرايات، واشتباك ازدحام الخيل، وفتح الأمصار سقاهم كأس الهواء، فعادوا إلى الخلاف الأوّل، فنبذوا الحقّ وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، فبئس ما يشترون(9).
ولعلّ منهم في عصرنا هذا: شيخ الأزهر الأسبق الشيخ سليم البشري، وقد صرّح هو بذلك في جوابه للسيّد شرف الدين الموسوي، بعد مناقشات ومراسلات طويلة بينهما عرض عليه السيد الموسوي من خلالها أدلّةً وبراهين قاطعة بأحقّية مذهب أهل البيت، وأنّهم ـ (عليهم السلام) ـ أولى بالاتّباع من سواهم، فأجابه الشيخ قائلاً:
وحين اغرقت في البحث في حجّتك، وأمعنت في التنقيب عن أدلّتك، رأيتني في أمر مَريج:
أنظر في حججك فأراها مُلزمة، وفي بيّناتك فأراها مسلّمة، وأنظر في أئمّة العترة الطاهرة فإذا هم بمكانة من الله ورسوله يُخفض لها جناح الذلّ هيبةً وإجلالاً..
ثمّ أنظر إلى جمهور أهل القبلة، والسواد الأعظم من ممثّلي هذه الملّة فأراهم مع أهل البيت على خلاف لما توجبه ظواهر الأدلّة!
فأنا أؤامر منّي نفسين:
نفس تنزع إلى متابعة الأدلّة..
وأخرى تفزع إلى الأكثريّة من أهل القبلة! قد بذلت لك الأولى قيادها، فلا تنبو في يديك، ونَبت عنك الأخرى بعنادها، فاستعصت عليك..!!(10)"(11).
ويشير صائب عبد الحميد أيضاً في كتابه (منهج في الانتماء المذهبي) إلى مبحث مفصّل حول أسباب نشوء التعصّب والموقف الانحيازي وأثره في الوجود الاجتماعي لهذه الأمة وكيف ينبغي أن نواجهه؟ ويبدأ حديثه حول هذا المبحث بطرح هذا السؤال قائلاً:
" لماذا هذا التجافي بين أبناء المذاهب الإسلاميّة؟
هل انتخب كلّ منّا مذهبه عن وعي وإدراك وبعد الدرس والتحقيق؟ أم كيف حصل هذا الانتماء؟
بين هذين السؤالين تدور أشياء كثيرة، منها ما هو بديهي، ومنها مايتطلّب بعض العمليّات العقليّة، وما لم نمتلك الروح الموضوعيّة في مواجهة القضايا، فسوف تغيب عنّا حتى تلك الأمور البديهيّة.
ولابدّ أن نعترف مقدّماً بأنّ هذه الموضوعيّة ستكون أمراً صعباً للغاية عندما نواجه قضايا تتعلّق بالعقائد والتقاليد والموروثات التي تشبّعت بها العروق، وألفتها النفوس.
وسوف تكون أشدّ وأصعب عندما يدور الحديث بين تلك العقائد والموروثات من جهة، وبين ما يقابلها لدى الآخرين من جهة أخرى، فالانحياز الفوري نحو المألوف هو النتيجة المتوقّعة دائماً، بينما يبقى الموقف الموضوعي أمراً نادر الحصول.
كيف نشأ هذا الموقف الانحيازيّ؟
وما هو نصيبه من الصحّة؟
وما هو أثره في الوجود الاجتماعي لهذه الأمّة؟
وكيف ينبغي أن نواجهه؟
... ينبغي أن يثيرنا سؤال واحد يجب أن نضعه أمام أنفسنا لأجل البحث عن سرّ اختلافنا، وهذا التجافي الحاصل بيننا. ولعلّنا سوف نمسك بطرف من أطراف الاتّفاق، ونقترب خطوةً نحو الموضوعيّة لو ابتدأنا من هذه الملاحظة البسيطة:
فلو أنّك سألت شابّاً ولد في مدينة (النجف) فقلت له: هل ستكون شيعيّاً لو حصل أنّك ولدتَ في (حَلَب) من أبوين سنّيين؟
وهكذا لو سألت الحلبي، هل ترى أنّك ستكون سنّياً بهذه الطريقة، لو أنّك ولدت في (النجف) في أسرة شيعيّة؟
هنا سوف لا يختلف منّا اثنان حول الجواب الذي سنسمعه، بل يمكننا أن نضع الجواب مقدّماً، متّفقين على أنّه من المسلّمات التي لا خلاف فيها.
وهذه الملاحظة وحدها تكفي لأن تضعنا أمام الحقيقة كلّها، وتكفي لأن تبعث فينا الاستغراب لهذا التجافي والتنافر الحاصل بيننا، كما تسمح لنا هذه الملاحظة أيضاً أن نطرح مزيداً من الأسئلة اللازمة، لنقترب أكثر نحو الموضوعيّة كلّما استطعنا أن نزيح شيئاً من دواعي الانحياز الوهميّة المتراكمة فينا.
ولنبدأ بالسؤال حول الانحياز نفسه، والعصبيّة ذاتها:
فهل سيرضى أحدُنا لو وجد آخر يتعصّب ضدّه من غير دواع حقيقيّة، وبدون أن يتعرّف على حقيقة مواقفه وآرائه؟
فاذا كان الجواب بالنفي بديهيّاً لدى هذا الشخص، فلماذا نتوقّع أن يكون موقف أشخاص محايدين، نفترض أنّهم يراقبون هذا المشهد؟ قطعاً انّهم سيؤاخذون المتعصّب على تعصّبه.
إذن، فعند الجميع كان التعصّب لذاته شيئاً ممقوتاً.
أفلا يكون من التناقض إذن أن نحمل بين جوانحنا أشيائاً نمقتُها لدى الآخرين، ونمقتُها بالأصل؟!
فلماذا لا نكون إذن على مستوى تقبّل الطرح العلميّ والموضوعي الذي يتناول شيئاً من مواقفنا تجاه الأشياء والقضايا المبدئيّة، وتجاه بعضنا؟
وماذا في الأمر؟ فما دام الطرح موضوعيّاً وعلميّاً، فإنّه سيثبّتنا على ما نحن عليه، إن وافقنا الأصل والصواب، أو أنّه سيرشدنا إلى ما هو أحقّ وأهدى، إن لم نكن قد وافقناه.
ألسنا جميعاً من دعاة الحقّ، وطلابه؟
ولكنّ السرّ كلّه يكمن ها هنا، فثمّة حقيقة نستطيع أن نطلق عليها:
(الخوف من الهزيمة) أمام الطرف المقابل، تراودنا جميعاً، وهذه حقيقة لايمكن لنا أن نوافق الصواب إن تنكّرنا لها، وقد تتجلّى هذه الظاهرة في الملاحظات التالية:
ـ أفلا ترون أنّنا لو صدمتنا الحقيقة بشيء يخالف ما ألفناه واعتقدناه، لظهرت ردود الفعل فينا ـ فوراً ـ على هيئة غضب وثورة، ثمّ أحكام تُلقى جزافاً، وربما أعقبتها سخريّة، ثمّ يستدل الستار على الموضوع، حتى لو عاد يواجهنا ثانيةً لما أحدث فينا أثراً يُذكر، ولأصبح كأيّة مسألة لا تستحق العناية، أو الالتفات!
وبهذه الطريقة يدفعنا اللاشعور للتسلّح بالمناعة الكافية ضدّ أيّ مفهوم يخالف المألوف، ولو كان اكثر منه ثباتاً، وأقوى حجّةً.
وهذه ظاهرة عامّة في بني الإنسان، إلاّ من تحرّر منها بالوعي والمعرفة، وتلك شجاعة ما أعزّها!
ـ وترانا أيضاً حين نواجه الأمر معكوساً نقف منه الموقف المناسب! فلو عرض علينا مذهبنا مفهوماً أو اعتقاداً لا يستقيم مع الفطرة السليمة والعقل المستقيم والبيان الشرعيّ، فإنّ ردّ الفعل هذه المرّة سيأتي على هيئة تنازل تلقائي عمّا نرتضيه حقيقةً، لنخضع ـ بأي مستوى من مستويات الخضوع ـ لمعان تأباها عقولنا، وتنفر منها فطرتنا ولكنّنا ورثناها!
ولو خشينا من أنّ هذه المعاني الجديدة قد تستولي علينا، فإنّنا نلجأ ـ من حيث ندري، أو لا ندري ـ إلى غضّ النظر عنها، مؤثرين السكوت، والوقوف عند أيّ مستوى يمكننا أن نخضع له، مستبعدين إمكان المناقشة والحوار!
فما الذي يدفعنا إلى كلّ هذا؟ إنّه (الخوف من الهزيمة)!
ذلك الشبح الذي يراود كل من يواجه مثل هذا الموضوع، حيث يرغب، بل يندفع من الداخل لأن يكون متفوّقاً، ويهرب من أيّ نوع من أنواع التراجع، حتى لو كان تراجعاً أمام الحقّ وأمام الحكم الشرعي!
وهو لإجل إرضاء هذه الرغبة يطرح في المقابل آراء وحججاً ليقتنع بها ويجعلها في النهاية سدّاً منيعاً دون الدخول في أيّة محاولة للمناقشة الجادّة، والحوار والمتابعة.
وعندما تكون تلك الهواجس متفوقة لديه جدّاً، فإنّه سيكتسب قناعات شديدة بكلّ ما من شأنه قطع السبيل إلى ميادين التفكير الحرّ، ويجعل أيّ شيء من هذا القبيل بمثابة الأمر المحرّم الذي يجب إنكاره كلّياً.
ثمّ كيف نفسّر وجود هذه العُقد النفسيّة المتراكمة فينا تراكماً جعل أحدنا يرى أن مجرّد اقترابه من الآخر يُعدّ مستوى من مستويات الهزيمة، أو الضعف العقائدي، أو أنّه مجاملة على حساب المبادىء!
ومن منّا ينكر ظاهرة الانكماش النفسي المفاجىء، والنفور غير الإراديّ التي فرضت نفسها حتى على الكثير ممّن جاء ليعالج هذا الداء العُضال، ويرسم حدود هذه المشكلة المُستعصية في الأمّة؟
فحتى الكثير من هؤلاء ينزلق من حيث لا يشعر، فيمارس مرّة أخرى تجسيد تلك الروحيّة، وتعميق تلك الحواجز النفسيّة التي سيكون لها هنا آثار أكثر سلبيّة حتى من تلك البحوث التي تُكرّس أصلاً لتعميق الخلاف وإحياء الروح الطائفيّة، وذلك لأنّها ستوحي للقارىء بأنّ هذه الظاهرة هي بمستوى الحقيقة التي تأصّلت في النفوس، واصبحت جزءاً لا يتجزّأ من عقائدنا وعواطفنا، وعند هذا يصبح مجرّد مناقشاتها أمراً مخالفاً للطبع، وليس له موضع بيننا على الإطلاق.
ومن أبرز الأمثلة على هذا النمط، ما نجده عند بعض من كتب في الدفاع عن الوحدة الإسلاميّة، متحمّساً ضدّ الطائفيّة ومروّجيها، ثمّ إذا أراد أن يستشهد بمثال، أو يأتي بمصاديق على دعواه، مال على الجانب الآخر، مسجّلاً نماذج من حملات بعض رجالهم ضدّ المذهب الذي ينتمي إليه هو، فكأنّه يريد أن يقول: إنّ أولئك هم أساس هذه النزاعات، وهم الذين يؤجّجون نار الفتنة بين المسلمين، ولم يكن أصحابه هو إلاّ مدافعين عن مذهبهم المُستهدَف!
وهكذا يمارس دوره من جديد في إثارة النزاع بما يثيره من ردود فعل سلبيّة لدى الأطراف الأخرى، فيضيف حلقةً أخرى إلى مسلسل النزاعات!
بينما كان الأجدر به ـ حين يلجأ إلى مثل هذا الاستشهاد ـ أن ينتخب نموذجاً من حملات أصحابه هو ضدّ المذاهب الأخرى، فيردّها، ويبعدها عن ساحة القبول، وبهذا يكون قد أعطى نموذجاً صادقاً ورائعاً في هذا المضمار، وقدّم مثالاً لروحيّة عالية تترفّع على الأهواء والعصبيّات، وتميل بصدق لتحقيق التآلف بين أبناء هذه الأمّة الواحدة.
ذلك بحقّ إنسان في القمّة، وما أحوجنا إليه في كلّ مكان وزمان.
إنّ تلك الروحيّة العالية وحدها هي التي تحقّق أثراً إيجابيّاً يرجى أن يؤتي ثماره على طريق التقارب والتفاهم والحوار العقلاني الواعي الذي سيزيدنا قوّةً ويوفّر بيننا مستوى من الانسجام والاتّحاد لا يقلّ عن درجة الإحساس الصادق بالارتباط المصيريّ والاتّحاد العقيدي.
وسيعيننا هذا الفهم، بل سيدفعنا إلى التعرّف على بعضنا من جديد، بروح أخويّة نزيهة، ويزوّدنا برغبة صادقة في البحث عن الحقائق الناصعة المبرّأة من كلّ ما تراكم من غبار زمن طويل، مليء بالنزاعات والتخاصم، وتبادل التهم والشتائم و...
وبمثل هذه الصيغة يمكننا أن نتوصّل إلى جذور تلك الحواجز النفسيّة وخلفيّات هذا التشنّج وتلك العصبيّات المقيتة.
فلقد بلغت بنا تلك العصبيّات حدّاً بالغ الخطورة، حتى صار تعصّبنا لأيّ شيء ألفناه هو أشدّ ألف مرّة من استعدادنا للتمسّك بالحكم الشرعي الثابت.
وهذا يقابله تعصّب مماثل ضدّ ما نراه لدى الأطراف الأخرى.
ومن المهم أن أؤكّد هنا أنّي لا أعني مفهوماً بالذات، أو طائفة من المسلمين دون غيرها، ولا فرداً دون آخر، بل أريد تلك الظاهرة التي أضحت (مرضاً) نفسيّاً أرسى جذوره في أعماقنا - أفراداً وجماعات - حتى أصبحت معظم التقاليد التي نُسبت إلى المذهب وألصقت به وهي ليست منه، حاكمةً حتى على النصّ الشرعي الثابت لدينا.
فرحنا نلجأ إلى تحوير كل نصّ لا ينسجم مع هذا التقليد، أو ذلك الرأي وصياغته بحسب قوالب صنعناها نحن بأيدينا، وإن كانت لا تمّت إلى الدين بصلة، ولكنّها ارتقت في أذهاننا إلى مستوى الشعائر المقدّسة، فأصبح مجرّد الإشارة إليها أمراً يثير المشاعر ويؤجّج فينا نار الغضب.
ولهذا نجد أنّ علماء المذهب نفسه لا يجرأون على استنكارها، أو وعظ أصحابهم بتخفيف شدّة تمسّكهم بها، ولو تجرّأ أحدهم على شيء من ذلك لنبذه أتباعه في الحال، ولأصبح بينهم عرضةً لألوان الشتائم والمطاعن، وربما بلغ الأمر إلى رميه بالزندقة والنفاق، ولو كان أتقى الأتقياء!
ولنتذكّر مرّةً أخرى أنّ من الخطورة بدرجة أن يميل كلّ منّا للاستفادة من هذه الإشارات في توجيه التهم إلى الآخرن، على أنّها من مزاياهم وحدهم، فإنّ هذا الأسلوب هو تجسيد كامل للعصبيّة، كما أنّه سوف يُبقي على كل معايبنا وأخطائنا، ثمّ يعود بنا إلى عمق مصيبتنا.
إنّما المطلوب منّا أن نفتّش عن تلك الظواهر في أنفسنا نحن لننتزعها، من قلوبنا وعواطفنا، ونتخلّص من آثارها.
فلوا امتلكنا مثل هذه الروحيّة، لاقتلعنا كلَّ جذور الخلاف، واكتسحنا كلَّ الآثار السلبيّة المترتّبة عليه.
والآن، لعلّي أصبحت قادراً على أن أطرح على نفسي السؤال الآتي:
ما الذي يحملني على الاعتقاد ـ إلى حدّ التسليم ـ بأنّ مذهبي الذي ورثته عن آبائي ومجتمعي الصغير هو الحقّ الأوحد والأمثل، وأنّه الصورة الأكثر كمالاً للدين الإسلامي الحنيف، بحيث لا يشاركه مذهب آخر في حظّه هذا من الكمال؟
ما الذي حملني على هذا الاعتقاد، أهو القرآن الكريم أم السنّة المطهّرة أم العقل السليم؟
أم هي العصبيّة التي لا تستند إلى شيء؟!
ولماذا لا يمكنني أن أعتقد بأن المذاهب الأخرى هي مثل مذهبي على الأقلّ؟ ومن يدري! فلعلّها تكون جميعاً أكثر سلامةً وكمالاً ممّا تعلّمته أنا!
وما العجب من هذا الافتراض، أليس هكذا يعتقد أبناء المذاهب الأخرى؟
إذن ما الذي يمنعني من أن أكون أبعد نظراً، لأتقبّل فكرة، أنّ المذاهب الأخرى هي أيضاً تحتمل الصحّة، على الأقل؟ ثمّ ألستُ مسؤولاً غداً عن سبب اعتقادي وتبعيّتي الدينيّة؟
وهذا هو السؤال الخطير الذي يجب أن أقف عنده موقف الجدّ.. سيبرز هنا سؤال آخر، وهو: ألا تقودني هذه الفكرة إلى الطائفيّة مرّة أخرى؟
أعني أنّني عندما أدخل طريق الدرس والمتابعة، فإنّ دراستي ستقودني حتماً إلى قناعة ما، وعلى أساس هذه القناعة سوف أنتخب المذهب عن وعي وإدراك هذه المرّة، كما تقتضي المسؤوليّة الشرعيّة، وأصول الدراسة العلميّة، أفلا يُفهم من هذا أنّني سوف أطعن بالمذاهب الأخرى، وسوف أصرّح بالفعل إن لم أصرّح بالقول، بأنّ المذهب الذي انتخبته هو الأكثر كمالاً ودقّة وعمقاً؟
نعم، قد تكون هذه الطريقة مصدراً للإثارة، ولكن إلى أيّ شيء تعود تلك الإثارة، وعلى أيّة أرضيّة تقوم؟
هل انبثقت من موقف علمي ورؤية موضوعيّة، أم أنّها نشأت عن غير ذلك؟
وبتعبير آخر، هل هي رؤية تصمد أمام قوله تعالى: ( قُل هاتُوا بُرهانَكُم إنْ كُنتُم صَادقينَ)(12). أم هي واقعة تحت ظلال قوله تعالى: ( إنْ يَتّبِعُونَ إلاّ الظَنَّ ومَا تَهوى الأنفُسُ)(13).
فهذا هو ميزان السماء لكلّ دعوى.
إنّ شيئاً من ردود الفعل هذه، ما هو إلاّ جزء من إفرازات تلك العُقَد النفسيّة المتجذّرة فينا، وإلاّ فمن أين جاء زعمنا: أنّ الفرد المسلم الذي انطلق من وعيه بمسؤوليّته الشرعيّة، ملتزماً قواعد البحث العلمي والدراسة الموضوعيّة المجرّدة، متسلّحاً بالشجاعة الكافية في اتّباع الحقّ الذي يستقرّ عليه، ثمّ انتهى إلى اختيار آخر، خالف فيه أصحابه، أنّه سيكون بالضرورة قد ناصبهم العداء، أو حكم عليهم بالضلال والجحيم؟
أليس العكس هو الصحيح، ما دمنا نقرّ جميعاً بأنّ هذا المنهج هو مسؤوليّة شرعيّة في أعناق الجميع دون استثناء؟
نعم، لنا أن نقول: إنّ مثل هذا الفرد لكي يكون متوازناً في مواقفه، ملتزماً علميّته، عليه:
أوّلاً: ألاّ يكون منفعلاً بتأثير نشوة الاكتشاف الجديد، فيندفع متحمّساً تجاه المذاهب الأخرى، ليشنّ عليها حملاته، بمناسبة أو بلا مناسبة، وكأنّه يتحدّث مع فرقة ضالّة قد مرقت من الدين.
وثانياً: ألاّ يذوب كلّياً في المجتمع الجديد بكلّ مافيه، حتى التقاليد الموروثة التي لم يكن مصدرها الإسلام، وحتى العُقد النفسيّة المتراكمة فيهم تجاه كلّ من يخالفهم بشيء.
إنّ منهجاً كهذا لو التزمه الواعون منّا، لوصلنا إلى أفضل ممّا نحن عليه الآن بكثير.
وحتى لو لم نصل جميعاً إلى نتيجة واحدة، وحتى لو عاد كلّ واحد منّا فانتخب مذهبه الذي نشأ عليه من جديد، فلن يؤدّي ذلك إلى خلاف جديد بيننا بالمرّة، بل بالعكس تماماً سيؤدّي إلى احترام كلّ منّا للآخر; لأنّه سيعرف عنه الكثير مما كان مخفياً عليه، أو كان مشوّهاً في ذهنه، نتيجة ماورثه في ذلك الواقع الممزّق المخيف "(14).
الفرق بين العصبيّة والوفاء للذكريات:
يذهب صائب عبد الحميد إلى وجود فرق بين العصبيّة والوفاء للذكريات فيقول:
" لست من الذين يرون أنّ هزيمة اليقين أمام العاطفة هو من أثر العصبيّة وحدها، فربّما يكون ذلك، ولكن ربّما تكون هذه العاطفة وفاءً للذكريات الجميلة التي لا يشك صاحبها في صفائها، وربّما يجتمع الأمران معاً.
والوفاء لذاته ممدوح، بعكس العصبيّة..
فكثيراً ما يقف المرءُ على حقيقة كان يعتقد بخلافها، ولكن لعقيدته هذه في قلبه قدسيّة أحياناً، فينبعث عن هذه القدسيّة سؤال يقول: أحقّاً أنّ هذا المفهوم الذي عشت أُقدّسه لا أصل له، وأنّ الصواب في المفهوم الآخر الذي يأباه قلبي وتنفر منه نفسي؟!
هذه هي العصبيّة، وكم صدّت فحولاً عن مواصلة الطريق نحو الحقيقة الثابتة..
إنّ العصبيّة تمنح كثيراً من المفاهيم هالة قدسيّة، لكنّها سراب لا حقيقة لها.. وأصعب شيء على من يقدّس أمراً أن يقال له: إنّ الذي تُقدّسه سراب!!
وثمّة نوع آخر من العاطفة يشدّ المرء الى الوراء..إنّه الوفاء للذكريات.. فَلِم لا وقد أمضى أيّام شبابه وهو في ذروة الحماس الديني، مع ثلّة من إخوانه المؤمنين، تزدان مجالسهم بالذكر والبحث الصادق النقيّ الذي لا تشوبه شائبة من رياء أو مكابرة؟
إنّه ليعشق تلك الذكريات عشقاً لا تتخلّله سهام الطعن، فإذا ماواجهته الحقيقة بغير ما كان يرى ثار شوقه إلى تلك الذكريات وتأجّج عشقه لها، فينبعث من بين الشوق والعشق سؤال يُمِضُّ الفؤاد: أحقّاً كانت مجالسنا تلك قد تخلّلها شيء من الأوهام؟!
إنّه لايريد أن يشك في ذلك الماضي الجميل!!
وهذا هو الوفاء للذكريات...
ولقد كنت للعصبيّة عدوّاً حيثما واجهتني، غلبتها أو غلبتني، أمّا الذكريات فقد آخيتها وأحسنتُ صحبتها حتى النهاية، وقد جعلتها في فقرات من هذا الكتاب بمثابة صديق لي أحاوره فيستجيب لي ولو همساً.
وقد أعانني على ذلك كونها ذكريات واضحة لم تختلط في ذهني.. وكونها زاخرة بعلامات استفهام كانت تثيرها العقول في ساعات انطلاقاتها، فتخترق بحرّيتها أسوار القداسة، ثمّ تترك السؤال حائراً، وقلّما وجدت له جواباً مقنعاً وشافياً..
ورأيت أثناء رحلتي أن الوفاء للذكريات لا ينبغي ان يكون عاطفيّاً، فربّما ينعكس أثره فلا يكون عندئذ وفاءً.. وإنما المطلوب من الوفاء أن يكون وفاءً علميّاً إنْ صحّ التعبير "(15).

____________
1- محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: 490.
2- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 122.
3- ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: 50.
4- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 44.
5- المصدر السابق: 97.
6- محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: 19.
7- محمد التيجاني السماوي/ فاسألوا أهل الذّكر: 341.
8- صائب عبد الحميد/ منهج في الانتماء المذهبي: 311ـ312.
9- كتاب سرّ العاملين ـ للغزالي ـ المقالة الرابعة/ 20ـ24; ورواه سبط عنه ابن الجوزي في تذكرة الخواص: 62.
10- المراجعات/ المراجعة: 11.
11- صائب عبد الحميد/ منهج في الانتماء المذهبي: 309.
12- النمل: 64.
13- النجم: 23.
14- صائب عبد الحميد/ منهج في الانتماء المذهبي: 15ـ24.
15- المصدر السابق: 12.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page