من الموانع الأخرى التي تردع الباحث عن الإذعان للحقّ، وتعيقه عن تغيير انتمائه المذهبي بعد القناعة ببطلان ماكان عليه من أفكار ومعتقدات هو الهوى، لأنّ الهوى يأخذ بزمام النفس لتنساق مع مغريات وشهوات وملاذ الحياة. ولهذا يمنع الهوى صاحبه عن قبول أيّة فكرة فيها منع لمشتهياته الدنيويّة، ولا يسمح لصاحبه أن يبادر إلى ما يخالف ميوله ورغباته.
ويتمرّد الهوى عن الحقيقة ويحاربها كلّما يجدها مناقضة لمصالحه الشخصيّة، ويحاول ـ تلبيةً للنزعات الأنانيّة الكامنة في النفس ـ أن يوظّف قدرات صاحبه من أجل خلق الأعذار لعدم التخلّي عمّا يخالف هواه.
وبعبارة أخرى فإن من له مصلحة أو منفعة أو هوى في فكرة معيّنة، فإنّه لو ترك زمام أموره بيد هواه لقاده الهوى إلى رفض كل فكرة لا تخدم مصالحه ومنافعه ولا تتماشى مع رغباته النفسية، وسيدير ظهره لتلك الفكرة ويكفّ بصرَه عن رؤيتها. ويكون الإنسان بعد وقوعه في أسر الهوى، على الرغم من اكتشاف فساد ما هو عليه، معرضاً عن قبول الفكرة الجديدة المخالفة لهواه.
ولهذا لا يستطيع هكذا انسان من اتباع الحق ما لم يكن لديه إرادة قويّة وعزيمة صادقة في طلب الحقّ، بحيث يدفعه ذلك نحو اعتناق الحقيقة ولو أدّى به ذلك إلى التضحية بممتلكاته وسحق شهواته ومخالفة أهوائه.
وأضف إلى ذلك أنّ الهوى يفرز في وجود الإنسان فهماً بشرياً خاصاً تنشأ منه اجتهادات خاطئة تزيّف الحقّ وتحرّف الواقع وتبعث بالحقيقة، بحيث يؤدّي ذلك إلى إرباك فهم الإنسان وفقدانه حالة الاتّزان.
ومن هذا المنطلق نجد الكثير من أهل الأهواء الذين يتّضح لهم الحقّ بالأدلّة والبراهين، يصعب عليهم التخلّي عن أفكارهم ومعتقداتهم السابقة وتغيير انتمائهم المذهبي وقبول الحقّ، لأنّهم تبعاً لما تملي عليهم أهواؤُهم لا يودّونَ ترك ما ألِفوه، ولا يرضون إتّهام آبائهم بالضلال.
بل البعض من هؤلاء يصعب عليهم أنّ يروا الحقّ في غير ما يخدم مصالحهم، فيكبر عليهم الأمر حينما يجدون الحقّ في خلاف ما تهواه أنفسهم، فتأخذهم العزّة بالإثم ويصرّون على البقاء على ماهم عليه ولو ظهر لهم الحقُّ كالشمس في رابعة النهار.
ويشير التيجاني السماوي إلى هذا الأمر قائلاً:
" كم من إنسان يُعادي الحقّ ويُعانده ردحاً من عمره، حتى يكتشف في يوم من الأيّام أنّه على خطأ فيُسارع بالتوبة والاستغفار وهذا هو واجب كل إنسان، فقد قيل: (الرجوع إلى الحقّ فضيلة).
وإنّما المصيبة في الذين يرون الحقَّ عياناً ويلمسونه بأيديهم ثمّ يقفون ضدّه ويحاربونه من أجل أغراض خسيسة ودنيا دنيئة وأحقاد دفينة "(1).
ولهذا ينبغي للباحث الذي يودّ أن يخضع دائماً للحقّ أن لا يبيح لنفسه اتّباع الهوى، وأن يرفض السير وفق ما تملي عليه أهواؤه النفسيّة، لتكون نفسه مستعدّة للتضحية حين بحثها عن الحقّ.
وسبيل ذلك هو الاتّباع الصادق والاستسلام والخضوع لأوامر الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) والإذعان بالحقّ ولو كان ذلك مخالفاً للميول والأهواء. وقد قال تعالى:
( إنّما كان قولَ المؤمنينَ إذا دُعوُا إلى الله ورَسُولِه ليَحكُمَ بينَهُم أنْ يقُولُوا سَمِعنا وأطَعنَا وأولئك همُ المُفلحونَ)(2).
( فَلا وربّك لا يؤمنونَ حتّى يُحكّموكَ فِيما شَجَر بينَهُم ثُمّ لا يَجِدُوا في أنفُسِهِم حَرَجاً ممّا قَضَيتَ وَيُسَلِّموا تَسلِيماً)(3).
( فإن لَم يَستَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَم أنّما يتّبعون أهواءَهُم ومَن أضَلُّ مِمّن اتّبع هواهُ بِغَيرِ هُدىً مِن الله إنّ الله لا يَهدي القومَ الظالمينَ)(1).
وينبغي أيضاً للباحث عن الحقيقة أن يعي بأنّه إن لم يتمكّن من التغلّب على هواه، فإنّ جميع جهوده في البحث عن الحقّ تذهب سُدى، لأن متّبع الهوى إذا عرف الحق سيكون غير قادر على اتّباعه، لأنّ الهوى سيدفعه إلى الإعراض عمّا توصّل إليه.
ولهذا ينبغي للباحث قبل البحث أن يوطّن نفسه لاعتناق الحقيقة مهما كلّف الأمر، وأن لا تكون نواياه حين البحث بأن يبحث عن الحقيقة التي تحقّق مصالحه الشخصيّة، لأن هذا يدفع الباحث في كثير من الأحيان إلى رفض الحقيقة فيما لو رآها لا تتماشى مع ميوله ومصالحه، فيدفعه ذلك على الرغم من اليقين بأحقّيتها إلى رفضها وعدم تقبّلها.
ولهذا يدعو التيجاني السماوي إلى الحذر من هذا المانع الذي يصدّ الإنسان عن اتّباع الحقّ قائلاً:
" لا تدع وساوس الشيطان، ولا الغرور بالنفس، ولا التعصّب المقيت يستولي عليك، ويصدّك عن الوصول إلى الهدف المنشود والحقّ المفقود وجنّة الخلود "(2).
وله أيضاً في كتابه (ثمّ اهتديت):
" ولماذا نهرب من الحقيقة ونحاول طمسها عندما لا تتماشى مع أهوائنا "(3).
____________
1- محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: 21.
2- النور: 51.
3- النساء: 65.
4- القصص: 50.
5- محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: 45.
6- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 86.
المانع الرابع/ الهوى
- الزيارات: 719