طباعة

أيام صباي


كانت تنتابني الرغبة منذ صغري.. وتسدني الفطرة نحو الالتزام بالدين، وكانت الصورة التي تراود ذهني واستشف منها مستقبلي، لا تخرج عن إطار التدين، فكنت أرى نفسي عبر أحلام اليقظة بطلاً، وفارساً إسلامياً مجاهداً، أردُّ للدين حرمته وللإسلام عزته، لم أكن قد تجاوزت المراحل الأولى في المدارس وحضارتهم محدوداً، ولم أكن أعرف إلا بعض القصص عن رسول الله (ص) وحروبه مع الكفار، وبطولات الإمام علي (ع) وشجاعته.. وبعد دراستنا لتاريخ الدولة المهدية في السودان، أعجبت بشخصية (عثمان دقنة) وهو أحد قواد جيش المهدي الثائر في شرق السودان، وكان يشدني جهاده عندما كان استأذنا في التاريخ يصور لنا استبساله وعظمة شخصيته، وهو مجاهد بين الجبال والوديان.. وهكذا تعلق قلبي به، وبنت آمالي على أن أكون مثله، وبدأت أفكر بعقلي الصغير، للوصول لهذا الهدف فكان طريقي الوحيد الذي كنت أتصوره أن أكون خريجاً في المستقبل من الكلية الحربية العسكرية، حتى أتدرب على فنون القتال واستعمال السلاح، وعشت على هذا الهوس سنين من عمري.. حتى انتقلت إلى المرحلة الثانوية، وفيها تفتحت مداركي وازدادت معرفتي،
فتعرفت على قادات التحرر في العالم الإسلامي، أمثال عبد الرحمن الكواكبي، والسنوسي، وعمر المختار.. وجمال الدين الأفغاني، ذلك الثائر والعبقري المفكر الذي انطلق من أفغانستان وتنقل في عواصم الدول الإسلامية والغير إسلامية ناشراً الفكر الحيوي الذي يتناول أبعاد التخلف في العالم الإسلامي وكيفية علاجها.
وما شدّ انتباهي! هو أسلوبه الذي كان يمارسه في عمله الجهادي من الحكمة والحنكة ونشر الثقافة وإعطاء الرشد الفكري للأمة الإسلامية، من غير أن يحمل سلاحاً..!
فقد كنت أعتقد، أن كل من يريد أن يجاهد ويدافع عنالمسلمين، لا بد أن يرفع السيف ويخوض الحروب والمعارك، فكان أسلوبه مغايراً تماماً لما كنت أتصوره، فأسلوب الكلمة والثقافة الواعية شيء جديد في تفكيري الديني، ولكني لم أستطع التخلي بسهولة عما بنيت عليه أفكاري وطموحاتي، رغم اكتشافي أن أزمة الأمة أزمة ثقافة رسالية ناضجة، لأن الثقافة هي التي يمكن أن تُحمّل كل فرد مسؤوليته، فهذا هو جمال الدين طاف العالم وهو يبث نوره وبركته وينشر الفكر والثقافة التي تلقاها المسلمون بترحيب وتفاعل، لأنها كانت تحل لهم مشاكلهم وتتعامل مع واقعهم، فأرهب بذلك القوى الاستعمارية الحاقدة، فكانت العروة الوثقى(1) وحدها تحد شامخ لهم جعلهم يعملون على محاصرتها ومنع إصدارها.
فكان التساؤل الذي يراودني:
كيف تمكن هذا لفرد الوحيد أن يغير تلك الموازنات، وكيف أرهب كل هذه القوى المستكبرة؟!
وللإجابة على هذا السؤال، انفتحت أمامي بوابة من الأسئلة بعضها بسيط، وبعضها لا إجابة له في الواقع السوداني.. مما جعلني أحاول أن أتحرر من هذا الواقع، وأفك كل القيود والأغلال التي كانت تدعوني للاستسلام والخضوع لهذا الواقع الديني، لكي أسير في هذه الحياة كما كان آبائي وأجدادي، ولكن شعوري بالمسؤولية وحبي لجمال الدين كان ناقوساً يدق على أوتار فطرتي.. فكنت أتساءل:
كيف يمكن لي أن أصير مثل جمال الدين؟!.
وهل الدين الذي ورثته يمكن أن يحملني لذلك المستوى؟!
ثم أقول: ولِمَ لا؟!، هل كان لجمال الدين دين غير ديننا؟!، وإسلام غير إسلامنا؟!.
وللإجابة، تحيرت سنين عديدة وكل ما توصلت إليه هو تغير مفهومي للدين بصورة إجمالية، فأصبحت أرى في جمال الدين القدوة والمثال بعدما كان عثمان دقنة، وتغيرت تبعاً لذلك الوسيلة، فبعدما كانت الكلية الحربية، أصبح المنهج السليم الذي يُعرّفني على الفكر والثقافة الإسلامية الأصيلة، التيمن خلالها تكون النهضة الإسلامية

____________

1- وهي جريدة اصدرها جمال الدين وتلميذه محمد عبده في لندن.بح المنهج السليم الذي يُعرّفني على الفكر والثقافة الإسلامية الأصيلة، التيمن خلالها تكون النهضة الإسلامية.