• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الأول التنكر لنصوص الإمامة

طائفة جديدة من الأسئلة

بعد ثلاثة أشهر هاتفني صديقي السني، وحددنا موعداً لجلستنا الثانية، أقبل الرجل بوجه طلق بشوش، فعانقني بحرارة بالغة، مبدياً أصدق العواطف، ثم جلسنا فقال صديقي:
لقد قرأت بتمعن ومرتين أجوبتكم عن كافة تساؤلاتي، وتفهمت الآن وبعمق مفهوم الشيعة والتشيع وأشهد أن أجوبتكم التي جاءت تحت عنوان (مفهوم الشيعة والتشيع) تصلح أن تكون بحثاً مستقلاً وقائماً بذاته، لقد استوعبت هذا المفهوم تماماً، وأصبحت مهيأً لهجر الأفكار الخاطئة والخرافات التي كانت عالقة بذهني عن الشيعة والتشيع وقد جئت طبقاً لاتفاقنا بطائفة جديدة من الأسئلة آمل أن تتلطفوا بالإجابة عنها. وناولني ورقة كتب عليها الطائفة الثانية من أسئلته وهي:
يبدو واضحاً أن منصب الإمامة أو الولاية أو القيادة أو الرئاسة العامة للمسلمين، من بعد النبي، كان السبب في حدوث أول خلاف بين المسلمين وأهمه. وربما كان السبب في تفريق الأمة إلى فرق شتى أهمها السنة والشيعة. فهل تتفضل فتبين لي كيف عالجت الشريعة الإسلامية قضية تولي هذا المنصب بعد وفاة النبي؟، وهل هنا لك نصوص تبين من يتولاه وكيفية انتقاله من شخص إلى آخر، وهل استبعدت هذه النصوص، ولماذا؟ وكيف أمكن التغطية على استبعاد نصوص شرعية عممت على المسلمين؟ وكيف أجمعت الأمة على إنكار هذه النصوص، ثم التنكر لها؟ وما هي أهم نقاط الخلاف والاختلاف بين شيعة أهل بيت النبوة وغيرهم من الشيع الإسلامية؟ راجياً أن توضح هذه النقاط - إن وجدت - توضيحاً كاملاً، مبيناً أدلة كل فريق من الفريقين، وهل هنالك تشابه بين نظام الخلفاء التاريخي، ونظام الأئمة الشرعي، وأرجو أن تكون الأجوبة موثقة بما أمكن من الإيجاز، ويمكنك عند الاقتضاء الإشارة إلى مرجع يتضمن هذه النصوص، وسأتولى بنفسي الرجوع إليه. وبتعبير جامع، ما هي عقيدة الشيعة في الإمامة أو القيادة أو الولاية بعد وفاة النبي، مستذكراً ما ورد تحت عنوان مفهوم الشيعة والتشيع؟
قلت لصديقي السني: سأجيب، إن شاء الله، عن كل تساؤلاتك، ولكن ليس وفق الترتيب الذي ذكرته، لأنه ترتيب نظري يتجاهل مجريات الواقع التاريخي، وستكون إجاباتي تحت عنوان (الإمامة أو الولاية، أو القيادة من بعد النبي) من دون الإشارة إلى تساؤلاتكم، حتى إذا تسلمت أجوبتني تأكدت ساعتها بأنني قد أجبت عنها جميعها، تاركاً الحكم لك على الأجوبة. ويهمني جداً أن أسمع رأيك، أو أقف على الأثر الذي ستتركه تلك الأجوبة عليك.
* * *
نجح تحالف شيع بطون قريش الذي أسفر عن ولادة الدولة التاريخية الإسلامية في استبعاد كافة النصوص النبوية التي بينت الأئمة من بعد النبي وطريقة تنصيبهم، مثلما نجحت في زحزحة أول أولئك الأئمة علي بن أبي طالب عن حقه في الإمامة بعد وفاة النبي، وتم رسمياً إلغاء الدور الشرعي المميز لأهل بيت النبوة باعتبارهم أحد الثقلين، لأن شيع البطون قد اجتهدت في دينها، ورأت أن من مصلحة المسلمين ووحدتهم استبعاد الرجل الذي وتر بطون قريش في أبنائها، واستبعاد ذريته ووضع حد للتميز الهاشمي. ورأت شيع البطون أنه ليس من العدالة والإنصاف أن يكون النبي من بني هاشم وأن يكون الإمام أو الولي من بعد النبي منهم، وأن تحرم بطون قريش ال‍ 23 من هذين الشرفين معاً، والصواب والتوفيق يكمنان في أن يكون النبي من بني هاشم، وأن تكون الخلافة من بعده لبطون قريش تتداولها في ما بينها (1).
وهكذا قدم الاجتهاد على النص الشرعي لمصلحة رأتها شيع بطون قريش، وعطلت عملياً كافة النصوص الشرعية النبوية المتعلقة بتحديد الأئمة وبيان شخصياتهم ووسيلة تنصيبهم، وتم استبدال هذا النمط الشرعي الذي يغطي بالكامل وبالوضوح التام ظاهرة تعيين الإمام وتنصيبه في إطار قواعد شرعية محكمة، بنمط اجتهادي مرن يحقق الغاية من إيجاده. ومع ولادة النمط الإجتهادي بذرت عملياً بذرة الخلاف والإختلاف بين المسلمين، واهتزت، ومن القواعد، مؤسسة الإمامة أو الولاية أو القيادة في الإسلام، ونمت تلك البذرة في ما بعد فتمسك فريق من المسلمين بالنص وهم (الشيعة) وتمسك الأكثرية بالاجتهاد أو الشورى أو الاختيار أو التخلية، وهم أهل السنة، ولأنهم هم الذين حكموا الدولة التاريخية الإسلامية، فقد سخروا مواردها ونفوذها وإعلامها الهائل لدعم نظرية الاجتهاد (الشورى، أو الاختيار، أو التخلية) وإثبات شرعيتها وسدادها وصوابها، فعلا شأن هذه النظرية وألقت في الأرض أجرانها وأصبحت العمود الفقري لعقائد الأكثرية الساحقة من المسلمين، بل وقدموها للعالم بوصفها قاعدة النظام السياسي الإسلامي، وعودي دعاة النص، واعتبروا شذاذاً ومبتدعة وخارجين على الجماعة الإسلامية!

أسباب استبعاد هذه النصوص

يعود استبعاد هذه النصوص إلى أسباب كثيرة منها:
النصوص الشرعية النبوية منصبة بالكامل على حصر منصب الإمام بعد وفاة النبي في شخصيات مؤهلة من أهل بيت النبوة وهذه النصوص منصبة على إعطاء دور مميز لأهل بيت النبوة بقيادة الأمة من بعد النبي ما يعني أن لا حظ لشيع البطون في هذه (المكاسب جميعها) فاعتقدت أن هذه النصوص ما هي إلا ثمرة (اجتهادات) شخصية من الرسول الذي اختص ذريته بهذا الفضل كله، ولا علاقة للوحي بهذه (الاجتهادات النبوية)! ثم إن الرسول يتكلم بالغضب والرضى فهو بشر، ولا ينبغي أن يحمل كلامه كله على محمل الجد! ولا ينبغي أن ينفذ (2).
وعلى هذا الأساس لم تر شيع بطون قريش حرجاً ولا غضاضة من ترك كلام النبي وحديثه والاجتهاد في ما يهمها من أمور سبق للنبي الكريم وعالجها وبينها، ثم إنه لا علم لشيع بطون قريش، كما تزعم، بأن القرآن الكريم قد تطرق لمثل هذه الأمور، وإلا لما كان بالإمكان الاجتهاد في مورد النص القرآني!

بين النص والاجتهادات الشخصية

ولتضفي شيع البطون الشرعية الدينية على اجتهاداتها وقناعاتها رفعت شعار (حسبنا كتاب الله) أي أن كتاب الله يغني عن حديث النبي، ويغني عن وصيته، ويغني عن النبي نفسه عند الاقتضاء. فطالما أن كتاب الله موجود فهو يكفي، ولا حاجة لسواه. وقد رفعت شيع البطون هذا الشعار في مواجهة النبي نفسه، فعندما أراد الرسول في أثناء مرضه أن يكتب توجيهاته النهائية للأمة، قال قائل البطون:
(إن النبي يهجر، حسبنا كتاب الله) (3). وما أن أتم قائل شيع البطون قوله حتى قال من حضر من الشيع: (القول ما قال فلان، إن النبي يهجر حسبنا كتاب الله) (4).
وهكذا صدمت شيع البطون خاطر النبي الشريف فصرف النظر عن كتابة توجيهاته النهائية، لأن الكتابة في ذلك الجو صارت بمثابة باب من أبواب الفتنة.
ولما تسلم أبو بكر الخلافة جمع الناس وخطبهم قائلاً: (إنكم تحدثون أحاديثاً تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن الرسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله) (5)، وليسد أبو بكر باب الاختلاف الذي ينتج عن أحاديث رسول الله نهائياً، وليضمن وحدة الأمة خلف قرآنها بات يتقلب ليلة كما تروي ابنته السيدة عائشة. وعندما أصبح الصباح، قام أبو بكر بحرق الأحاديث التي سمعها شخصياً من رسول الله، وقام بكتابتها بنفسه.
وهكذا ينقطع دابر الخلاف والاختلاف ويصبح كتاب الله وحده هو الحاكم والحكم!
وعند ما آلت الخلافة إلى عمر بن الخطاب كان أول مشاريعه أن طلب من الناس وناشدهم ليأتوه بأحاديث الرسول التي كتبوها، وظن الناس أن عمر يريد أن يجمع أحاديث رسول الله فأتوه بها، فلما وضعت بين يديه أمر بتحريقها جميعاً.
وحرقت بالفعل (6).
جاء في كنز العمال (7) ومنتخب الكنز: (8) (أنه ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر وقال لهم: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله؟. وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ (9) في ترجمة أبي بكر أن عمر حبس ثلاثة بتهمة أنهم أكثروا الحديث عن الرسول الله، ولقد نهى عمر جيوشه عن التحديث عن رسول الله حتى لا يصد الناس عن القرآن (10). ويجدر بالذكر أن عمر بن الخطاب كان أول من رفع شعار: (حسبنا كتاب الله). وقد رفع هذا الشعار أمام الرسول نفسه.
وتولى عثمان الخلافة، من بعد عمر، وكان أول مشاريعه إصدار أمر بعدم جواز رواية أي حديث لم يسمع به في عهدي أبي بكر وعمر (11). ولما قبض معاوية على مقاليد الأمور أعلن بصراحة تامة: (أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب أو أهل البيت) (12). وهكذا أحكم الطوق ولم يتسرب رسمياً أي نص من النصوص المتعلقة بالإمامة أو الولاية أو القيادة من بعد النبي. وقد جاء في تعليل ذلك بأنه لا ينبغي أن يكون هنا لك مع كتاب الله، أو حتى لا يختلط الحديث مع القرآن، أو حتى لا يكون حديث الرسول سبباً في اختلاف الأمة، وتفرق كلمتها بعد الاجتماع.

1394 عاماً مقابل 23 عاماً

كانت حياة النبي، بعد البعثة، 23 عاماً في أرجح الأقوال، منها 15 عاماً قبل الهجرة وثمانية أعوام بعد الهجرة بمعنى أن الرسول قد قاد الدعوة 15 سنة، وقاد الدعوة والدولة ثماني سنين فيكون مجموع مدة عهده المبارك 23 عاماً، بينما استمر حكم الدولة التاريخية الإسلامية وأشياعها 1394 عاماً حتى الآن، وطوال عهود الدولة التاريخية الإسلامية، وهي تتنكر بكل نفوذها ووسائل إعلامها لأي نص نبوي يقول: إن الإمامة أو القيادة أو الولاية من بعد النبي هي حق خالص لشخصيات معينة من ذرية النبي أو لعلي وأولاد علي بخاصة، وأن صوتها هو المدوي والمعلن والمعمم بكل وسائل التعميم والنشر، وصوت معارضيها غير مسموع إلا نطاق ضيق، ومحاصر ومحاط به تماماً.

من التكر للنصوص إلى إنكارها

اجتهدت شيع البطون وتنكرت بالكامل لجميع النصوص النبوية التي نصت على إمامة علي بن أبي طالب وأحد عشر إماماً من بعد النبي، وفرضت حصاراً رهيباً على أحاديث النبي جميعها وصولاً إلى منع تداول الأحاديث التي عالجت الإمامة والقيادة من بعد النبي وبينتها بياناً يرفع الخلاف والإختلاف.
وقدرت شيع البطون أن مصلحة المسلمين ووحدتهم تقتضي بذلك للأسباب التي ذكرناها آنفاً. ثم وجدت نفسها في الحكم بجميع مزاياه وامتيازاته، فمضت في تنكرها قدماً، فالاعتراف يعني سحب بساط الشرعية من تحت أقدامها، وخسارتها للتميز والامتيازات. ومع الأيام واقتناع العامة، صار التنكر إنكاراً، وجهر القائمون على الأمر بإنكارهم فأعلنوا، بكل صراحة، أن النبي الكريم قد أغفل هذه الناحية تماماً، وأنه قد ترك أمته ولا راعي لها، أو بتعبيرهم قد (خلى على الناس أمرهم) ولم يستخلف أحداً قط، ولم يبين من هو الإمام أو الولي أو القائد من بعده ولا بين أسلوب تنصيبه. والقرآن الكريم لم يتطرق لهاتين الناحيتين تفصيلاً. وفي هذه الحالة وجدت الأمة نفسها مضطرة لاختيار خليفة للنبي، ولإيجاد أسلوب أو أساليب تعيين وتنصيب هذا الخليفة وآلية انتقال منصب
الخلافة، مستعينة بالمبادئ العامة الواردة في القرآن والسنة كمبدأ الشورى، ومبدأ حرية الاختيار، ومبدأ القوي الأمين.. إلخ، بالإضافة إلى مبادئ اخترعتها بنفسها لجلب المصالح، كتقديم المفضول على الأفضل! ولم يقل أحد بأن الأمة كلها قد قامت بذلك إنما قامت به جماعة، ورضيت أكثرية الأمة، بما فعلت تلك الجماعة.
ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا أهل بيت النبوة وحفنة من الناس تشيعت لهم! حيث تمسكوا بوجود النصوص الشرعية التي بينت من هم الأئمة، وبينت أسلوب تنصيبهم، وطريقة انتقال منصب الإمامة من إمام إلى إمام، وقدرت الفئة المتغلبة أن معارضة أهل بيت النبوة ومن تشيع لهم لا تخدش إجماع الأمة، واعتبرت أهل بيت النبوة وشيعتهم خارجة من الجماعة الإسلامية وشذاذاً ومبتدعة على حد تعبير ابن خلدون في مقدمته الشهيرة ; حيث قال بالحرف (وشذ أهل بيت النبوة بمذاهب (ابتدعوها) وفقه تفردوا به... وهي كلها أصول واهية) وتابع ابن خلدون قوله:
(وشذ بمثل ذلك الخوارج) (13).

نقطتا الخلاف والاختلاف

1 - النقطة الرئيسية الأولى: شيعة أهل بيت النبوة يؤمنون إيماناً مطلقاً بأن الله تعالى قد اختار علياً بن أبي طالب ليكون أول إمام وولي وقائد للأمة من بعد النبي، وأنه تعالى قد اختار من ذرية النبي وأولاد علي أحد عشر إماماً ليقودوا الأمة بالتتابع والتعاقب يعين كل واحد منهم بنص ممن سبقه، وقد أمر الله رسوله أن يعلن هذا الاختيار ويبينه للناس، فصدع رسول الله بما أمر فأعلن ذلك مراراً وتكراراً، وسمى رسول الله الأئمة بأسمائهم، وكان تسعة منهم لم يولدوا بعد، وأعلن أن كل واحد من الأئمة الاثني عشر في زمانه هو الأولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأن ولاية هذا الإمام كولاية الرسول، وولاية الرسول كولاية الله، وطاعة هذا الإمام كطاعة الرسول وطاعة الرسول كطاعة الله، ومعصية هذا الإمام كمعصية الرسول ومعصية الرسول هي معصية الله، وأن الأمة لن تهتدي إطلاقاً إلا إذا تمسكت بالثقلين، فالقرآن ثقل وأهل البيت وعلى رأسهم إمام الزمان الثقل الآخر، ويستحيل على الأمة أن تتجنب الضلالة إلا إذا تمسكت بالثقلين معاً، وكان آخر الإعلانات العامة في (غدير خم). وأحيط الجميع علماً بذلك وفهم الناس ذلك كله، حتى الطلقاء، وقدم الجميع التهاني لأمير المؤمنين، وكان من جملة المهنئين عمر بن الخطاب وأبو بكر، وما أن نزل الرسول من مكانه الذي أعلن منه النبأ، حتى نزل قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [ المائدة / 3 ] وعلى هذا كله أجمع أهل بيت النبوة بلا خلاف، وأجمعت شيعتهم تبعاً لإجماعهم بلا خلاف. وإجماع أهل بيت النبوة حجة، لأنهم أحد الثقلين، ويكفيهم شرفاً أن الصلاة عليهم ركن من أركان الصلوات المفروضة على العباد.
2 - النقطة الرئيسة الثانية: تؤمن شيعة أهل بيت النبوة إيماناً مطلقاً بأن كل واحد من الأئمة الاثني عشر معد ومؤهل تأهيلاً إلهياً بحيث يكون في زمانه هو الأعلم والأفهم بالدين، والأتقى والأقرب لله ولرسوله، والأصلح وأفضل الموجودين على الإطلاق بمعنى أنه أوحد زمانه، وهو المؤتمن على تبليغ الدين وبيان القرآن بياناً قائماً على الجزم واليقين، ولا يخطئ في ذلك لأن الله تعالى قد عصمه عن الوقوع في الزلل تماماً، كما عصم الرسول عن الوقوع بالزلل عند تبليغ الدين وبيان القرآن، فالدعوة الإسلامية مستمرة إلى يوم الدين وبيان القرآن لا ينبغي أن يتوقف، والإمام هو القائم مقام النبي في هذا وغيره، وهو مرجع الأمة الموثوق الذي يقدم الجواب اليقيني عن كل سؤال. وهذا لا يتأتى إلا بفضل من الله وملكة خاصة تكون بمثابة الثمرة الطبيعية للإعداد والتأهيل الإلهي.
وبالفعل فقد انتهى علم النبوة إلى كل واحد من الأئمة الاثني عشر، فعلي تتلمذ على يد رسول الله قبل البعثة بسنين وبعد البعثة كان يسكن وإياه في بيت واحد حتى انتقل رسول الله إلى جوار ربه، خلال هذه الآونة زقه رسول الله بالعلم زقاً، حتى ورث علم النبوة كله. والإمامان: الحسن والحسين عاشا في كنف رسول الله وكنف أبيهما ونهلا علم النبوة حتى صار كل واحد منهم الأوحد في زمانه علماً وتقوى وفضلاً وقرباً. وعلي بن الحسين عاش في كنف أبيه الحسين وانتهى إليه علم النبوة، وكذلك كل واحد من الأئمة الثمانية آل إليه علم النبوة عن أبيه.

رأي الشيع الإسلامية في نقطتي الخلاف الرئيستين

أهل السنة شيع إسلامية مختلفة، تتنازع الهيمنة على معتقداتهم عدة مذاهب، ومجموعة كبيرة من التوجهات والاتجاهات ومع ذلك فلهم رأي موحد في نقطتي الخلاف القائمتين بينهم وبين شيعة أهل بيت النبوة.
النقطة الأولى: النبي لم يستخلف أحداً
تنكرت الدولة التاريخية إسلامية، في البداية، لجميع أحاديث الرسول المتعلقة بالإمامة والولاية والقيادة من بعد النبي. ثم وفي مرحلة لا حقة أنكرت إنكاراً مطلقاً استخلاف الرسول لأي كان من بعده، أي أنها نفت وجود النص نفياً قاطعاً، وأوجدت بممارساتها ثقافة تاريخية نما فيها هذا النفي حتى صار قناعة مطلقة لأغلبية عامة المسلمين، وهم أهل السنة. فقالوا: (إن الرسول قد خلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم)، وأنه لم يبين طريقة اختيار خليفته، ولا آلية انتقال منصب الخلافة من خليفة إلى آخر. وهذه أمور أغفلها رسول الله، ولم يحسمها القرآن الكريم، وترك للناس الحرية بأن يتصرفوا كما يريدون على ضوء المبادئ العامة في القرآن والسنة، أي من دون سند شرعي أي من دون نص شرعي محدد في القرآن أو السنة. عندئذ نهضت فئة من فئات الأمة بالواجب ونصبت خليفة اختارته، فبايعته الأمة، ورضيت به ولم يشذ عن ذلك غير أهل بيت النبوة وشيعتهم. وهذا لا يخدش إجماع أكثرية الأمة! ومن هنا صار الإجماع بهذا المعنى سابقة دستورية، وهو أول سند شرعي للخلافة التاريخية! وبعد أن تولى أبو بكر الخلافة، وعهد بها من بعده لعمر، وعهد بها عمر لعثمان عملياً وللستة نظرياً، وجدت أنماط جديدة لانتقال منصب الخلافة من خليفة إلى آخر، وصارت أفعال الخلفاء الثلاثة في هذا المجال بمثابة سنن شرعية واجبة الاتباع! بل وقدمت هذه السنن على الإجماع نفسه، إذ لم يعد هذا الإجماع بمعناه الآنف شرطاً لعقد الخلافة (14) وجاء، في الأحكام السلطانية للماوردي، وفي الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء: (إن الخلافة تثبت بالقهر والقوة ولا تفتقر إلى العقد، فمن غلب بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً براً كان أو فاجراً فهو أميرً المؤمنين) والسند الشرعي لهذا هو قول عبد الله بن عمر يوم الحرة: نحن مع من غلب. وأنت تلاحظ أن هذه القواعد في تعيين الإمام وانتقال الخلافة من شخص إلى آخر لم ترد في القرآن، ولم ترد في السنة، وإنما هي إنتاج إبداع الذين اخترعوها، ولم تستند لنص شرعي قريب المنال بل أسندت لواضعيها صراحة، ودعمت بتأويل النصوص تأويلاً بعيداً. وجاء الفقهاء الذين لمعوا وتألقوا لتبني الدولة التاريخية لهم، ولتبنيهم لمواقف الدولة التاريخية فقاموا بوصف ما حدث وتكييفه ومحاولة إلباسه اللباس الشرعي بتأويل النصوص الشرعية ومقاصدها، لقد قاموا بوظيفة الفكر السياسي.
دليل أهل السنة: استكمالاً لبحث نقطة الخلاف الأولى، بين شيعة أهل بيت النبوة وشيع أهل السنة نطرح هذا السؤال: ما دليل أهل السنة على أن رسول الله لم يستخلف أحداً من بعده؟.
لقد أجمع خلفاء الدولة التاريخية الإسلامية وأشياعهم ورعاياهم، طوال التاريخ، بأن الرسول لم يستخلف، وهم يشكلون الأكثرية الساحقة من الأمة، وإجماعهم حجة لأنهم الأكثر عدداً.
1 - وهم أصحاب الحول والقوة والطول، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا أهل بيت النبوة وحفنة من الناس تشيعوا لهم، وهذه القلة لا يعتد برأيها، لأنها قلة.
2 - قال أبو بكر، عند ما حاول جذب العباس إلى صفة: (... حتى اختار الله لرسوله ما عنده فخلى على الناس أمرهم..) (15) فإذا صدقت هذه الرواية فإن أبا بكر يشهد بأن الرسول لم يستخلف.
3 - جاء في تاريخ الطبري (16) أن أبا بكر قال في مرضه الذي توفي منه (.... ووددت أني سألت رسول الله لمن هذا الأمر من بعده فلا ينازعه أحد...) وهذا يؤكد الرواية الأولى بأن رسول الله لم يستخلف أحداً من بعده.
4 - وجاء، في حلية الأولياء لأبي نعيم (17) أن عمر قال في أثناء مرضه (إن لم أستخلف فإن رسول الله لم يستخلف).
5 - وروى المسعودي في مروج الذهب (18) أن عمر قال في مرضه: (إن أدع فقد ودع من هو خير مني (يعني الرسول) وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني (يعني أبا بكر).
6 - ومن الثابت أن أبا بكر قال للأنصار في سقيفة بني ساعدة: (هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا) وقد أجابه الاثنان: (والله لا نتولى هذا الأمر عليك) (19).
وهذا ينفي استخلاف الرسول لأي واحد من هؤلاء الثلاثة، فلو استخلف الرسول أحدهم لما كان جائزاً له أن يتنازل عن حقه لآخر.
وهذه الأمور الستة إذا ما جمعت وإذا اعتبرناها صحيحة فإنها تؤكد أن الرسول لم يستخلف. وهذه هي عقيدة شيع أهل السنة في النقطة الرئيسية الأولى.

مناقشة هذه الحجج

1 - قالت عائشة، أم المؤمنين، لعبد الله بن عمر، عند ما جاءها بأمر من أبيه ليستأذنها بأن يدفن بجانب الرسول: (يا بني أبلغ عمر سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملاً فإني أخشى عليهم الفتنة) (20) فالسيدة عائشة، وهي امرأة، أدركت أن ترك الأمة من دون راع لها من بعد راعيها عمل غير حكيم ويفضي إلى الفتنة!
2 - قال عبد الله بن عمر لأبيه، وهو يحضه على استخلاف خليفة له: (ماذا تقول لله عز وجل إذا لقيته ولم تستخلف على عباده، فلو كان لك راعي إبل أو راعي غنم وترك رعيته، رأيت أنه قد فرط) (21).
3 - قال المسعودي أن عبد الله بن عمر قال لأبيه: (لو جاءك راعي إبلك أو غنمك وترك إبله أو غنمه، ولا راعي لها للمته وقلت له: كيف تركت أمانتك ضائعة، فكيف يا أمير المؤمنين بأمة محمد) (22)!
ومع أن عبد الله بن عمر شخص عادي وليس نبياً إلا أنه أدرك أن ترك الأمة دون راع عمل يوجب اللوم، وهو تفريط وتضييع للأمانة!
فهل يعقل ألا يتمكن رسول الله من إدراك ما أدركته امرأة كعائشة، أو رجل عادي كعبد الله بن عمر!
4 - عملياً، لم يصدف، وعلى الإطلاق، أن مات خليفة من دون أن يعهد بالخلافة لآخر، فأبو بكر عهد لعمر قبل وفاته (23). وعند ما مات عمر عهد بالخلافة لعثمان عملياً. أخرج ابن زرعة في كتاب العدل عن عبد الله بن عمر أنه لما طعن قلت: يا أمير المؤمنين لو أجهدت نفسك وأمرت عليهم رجلاً... فقال عمر:
(والذي نفسي بيده لأردنها للذي دفعها إلي أول مرة) يعني عثمان، فعثمان هو الذي دفعها لعمر عند ما كتب عهد أبي بكر، وكان يعرف بالرديف فبعد وفاة أبي عبيدة وقع اختيار أبي بكر وعمر على عثمان ليكون الخليفة الثالث. وعلي بن أبي طالب عهد بالخلافة من بعده لابنه الحسن، ومعاوية عهد بالخلافة ليزيد ومروان عهد بالخلافة لا بنه عبد الملك، ولم يمت ملك من ملوك بني أمية، أو بني العباس، أو بني عثمان، إلا وكان قد استخلف من بعده خليفة له، لإدراك كل حاكم أن موته من دون تحديد من يتولى المسؤولية من بعده هو بمثابة كارثة حقيقة تجعل الأمة كالغنم التي لا راعي لها، وقد يؤدي ذلك إلى الفتنة والاختلاف والقتال. وتمزيق وحدة الأمة.
5 - ويرى علماء الدولة التاريخية الإسلامية أن تنصيب الخليفة لمن يأتي بعده حق من حقوقه. (إن الإمام - الخليفة - ينظر للناس حال حياته وتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته ويقيم لهم من يتولى أمورهم) (24) وعلى هذا أطبق علماء الدولة التاريخية واتفقوا بعد أن يتيقنوا من خطورة موت الإمام من أن يعين من يخلفه، لأنه يؤدي حتماً إلى الفتنة، وتفريق الملة، وسفك الدماء على حد تعبير معاوية ابن أبي سفيان (25).
6 - لم يصدف، في تاريخ البشرية على الإطلاق، أن مات رئيس دولة - أي دولة - أوقائد جماعة - أي جماعة - من دون أن يبين هذا الرئيس أو القائد من يتولى المسؤولية من بعده! للأسباب نفسها التي أدركها المسلمون، حتى أن هذا البيان صار أمراً طبيعياً ومن أبجديات السياسة حتى على مستوى شيخ القبيلة أو رب الأسرة! لست أدري كيف يدرك العالم كله أهمية هذا الموضوع ولا يدركه رسول الله وهو سيد ولد آدم! إنها لكارثة حقيقية أن يلصق المسلمون هذه التهمة برسول الله.
7 - ثم إن المسلمين قاطبة يسلمون بأن سنة الرسول تعني (القول والفعل والتقرير) فإذا كان صحيحاً أن رسول الله قد انتقل إلى جوار ربه، وترك أمته ولا راعي لها من بعده فإن هذا يعني أن فعل الرسول هذا سنة عملية أو فعلية ومن واجب المسلمين أن يتبعوها فهل تدلني الشيع الإسلامية، مجتمعة ومنفردة، مشكورة، على خليفة أو ملك من ملوك المسلمين قد اتبع هذه السنة؟
8 - ثم إن القول بكمال الدين وتمام النعمة من مستلزمات الإيمان، والقول بأن القرآن الكريم قد جاء بياناً لكل شئ، وأن مهمة الرسول الأولى هي أن يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم يشكل حجر الزاوية في العقيدة الإسلامية، فإذا كان الدين لم يبين من هو القائم مقام رسول الله بعد وفاته ولا بين طريقة تنصيبه واختياره، ولا أسلوب انتقال الإمامة من إمام إلى آخر، فإن هذا لا يتفق مع كمال الدين ولا مع تمام النعمة! ولو جارينا القوم فقلنا بوجود إجماع، ومبدأ الإجماع مبدأ إسلامي، وقد تولى الإجماع بيان الإمام وبيان طريقة تنصيبه واختياره، وأسلوب انتقال الإمامة من إمام إلى آخر ووضع القواعد اللازمة لذلك كله. وهذا يعني أن الإسلام كان خالياً من هذه القواعد ومفتقراً إليها فجاء الإجماع ليضع قواعد دينية لم تكن موجودة أو لسيد نقصاً! مع أن الدين كامل قبل الإجماع، والنعمة تامة وجاهزة ليتمتع المسلمون بها.
9 - ثم إن الإسلام قد بين الأمور الأقل أهمية، فبين للناس كيف يتبولون، وكيف يتغوطون، وكيف يساكنون أزواجهم وكيف يطرحون السلام، فهل يعقل أن يبين الإسلام ونبي الإسلام غير المهم أو المهم ويترك الأهم!؟ خاصة وأن جميع الفتن والحروب بين المسلمين ناتجة عن الاختلاف على من يتولى الرئاسة من بعد النبي.
وهذا كله يعني أن نظرية (أن رسول الله قد ترك أمته ولا راعي لها من بعده، وأنه لم يبين الإمام من بعده، ولا بين طريقة تعيينه، ولا أسلوب انتقال منصب الإمام من إمام لآخر) ساقطة في جميع الموازين العلمية والعقلية والمنطقية، وليت شيع أهل السنة قالت بأن الرسول قد أوصى بالخلافة لأبي بكر، أو لمعاوية أو لأي رجل آخر، لكان أخف وطأة على النفس من قولهم إن رسول الله ترك أمته ولا راعي لها من بعده وأنه لم يبين الأئمة، أو لم يحدد طريقة اختيارهم، ولا أسلوب انتقال الإمامة من إمام لآخر.

الخلاف الجوهري

قلنا إن الخلاف الجوهري، بين خلفاء الدولة التاريخية الإسلامية، وشيعهم، أهل السنة من جهة، وبين أهل بيت النبوة وشيعتهم من جهة أخرى، ينحصر في نقطتين: أولاهما أن خلفاء الدولة التاريخية وأشياعهم يصرون على القول أن رسول الله قد انتقل إلى جوار ربه، ولم يعين من يخلفه، ولا حدد الخلفاء من بعده، ولا بين طريقة تعيينهم وانتخابهم ولا بين الأسلوب الذي تنتقل فيه الخلافة أو الإمامة من خليفة أو إمام إلى آخر. بينما يؤمن أهل بيت النبوة وشيعتهم بأن رسول الله قد أعلن بأمر من ربه أن الإمام من بعده هو علي بن أبي طالب، ومن بعده ابنه الإمام الحسن، ومن بعده ابنه الآخر الإمام الحسين، ومن بعد الحسين علي بن الحسين، ومن بعده ابنه محمد بن علي، ومن بعده جعفر بن محمد، ومن بعده موسى بن جعفر، ومن بعده علي بن موسى، ومن بعده محمد بن علي، ومن بعده علي بن محمد، ومن بعده الحسن بن علي، ومن بعده محمد بن الحسن (المهدي) هؤلاء اثنا عشر إماماً سماهم رسول الله بأسمائهم قبل أن يولد تسعة منهم، وبين الرسول أن كل واحد منهم في زمانه هو الأولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأن كل إمام منهم يعلن عنه ويعين بنص ممن سبقه، وعلى هذا أجمع أهل بيت النبوة وأجمعت شيعتهم المعتبرة على ذلك، وبعد أن يعلن الإمام الجديد، ويموت الإمام السابق تبادر الأمة إلى بيعة الإمام الجديد الذي اختاره الله ورسوله وأعلنه الإمام السابق.

نقطة الخلاف الرئيسية الثانية: صفات الإمام من بعد النبي ومؤهلاته

يؤمن أهل بيت النبوة وشيعتهم المعتبرة بأن الإمامة وظيفة من وظائف النبوة، فرسول الله كان إماماً أو ولياً أو قائداً للأمة، ولا خلاف بين أحد من المسلمين بأن رسول الله كان الأعلم والأفهم بالدين، والأتقى والأقرب لله تعالى وأنه كان أفضل المسلمين وأصلحهم عند ما كان حياً، بل وأفضل أبناء الجنس البشري، وهو المرجع الموثوق للأمة وللناس أجمعين فهو لا ينطق عن الهوى على الأقل في ما يتعلق بتبليغ أحكام الدين وبيان القرآن الكريم، وبما أن التبليغ والبيان مستمران إلى يوم الدين، فإن هذه الأمة تكون منوطة بالإمام القائم مقام النبي بعد وفاته وبالتالي يتوجب أن يكون هذا الإمام بالضرورة هو الأعلم والأفهم بالدين، والأقرب لله ولرسوله والأتقى، والأفضل والأصلح في زمانه، والمرجع والموثوق والمؤتمن على تبليغ الدين وبيان القرآن، وبتعبير آخر يجب أن يكون أوحد زمانه في جميع هذه الأمور. أو إن شئت فقل أنه معد ومؤهل إلهياً، أو مصان عن الوقوع بالزلل ومعصوم من هذا الزلل تماماً كما كان الرسول معصوماً في هذه الناحية المتعلقة بالتبليغ والبيان على الأقل!
وهذه مؤهلات لا بد من توافرها في الإمام القائم مقام النبي حتى يكون أهلاً لهذا المقام، وجديراً بالطاعة، لأن طاعته كطاعة الرسول، وولايته كولاية الرسول، وطاعة الرسول وولايته كولاية الله وطاعته، وكيف يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم إذا لم يتصف بهذه الصفات أو تكون له هذه المؤهلات.
أما خلفاء الدولة التاريخية وشيعهم أهل السنة فيرون أن هذه الصفات والمؤهلات مثالية، وليتها تتوافر في الخليفة أو الإمام من بعد النبي، ولكن إن توافرت في شخص معين، واقتضت المصلحة أن يتقدم عليه من هو أقل منه علماً وفضلاً، فيقدم في هذه الحالة المفضول على الأفضل! ابتغاء لتحقيق المصلحة الشرعية! ولكنهم لا يبينون لنا من هو هذا الذي يحدد المصلحة الشرعية! ومن الذي يقرر تقديم المفضول على الأفضل. نظرياً الأمة هي التي تفعل ذلك برأيهم، وعملياً لم يرو لنا راو قط أن الأمة قد اجتمعت عن بكرة أبيها على صعيد واحد في أي يوم من الأيام، وقالت: إن هذا مفضول وذلك أفضل، وأن المصلحة الفلانية تقتضي أن يقدم هذا المفضول على ذلك الأفضل.
وعملياً، فإن الخليفة المتغلب هو وحده الذي يقرر من يتولى الخلافة من بعده، بغض النظر عن الصفات أو المؤهلات، وله أن يقدم أو يؤخر من دون تعليل أو بتعليل.
لقد حاول فقهاء الدولة التاريخية أن يضعوا مؤهلات الخليفة القائم مقام الرسول وصفاته، وانتهت محاولاتهم إلى وضع شروط فضفاضة تنطبق على كل من تلفظ بالشهادتين، فقالوا أنه يتوجب أن يكون الخليفة مسلماً وذكراً وبالغاً وعاقلاً... الخ مع العلم بأنه لا توجد مؤسسة أو هيئة أو شخص مخول بالتأكد من توافر هذه الصفات في هذا الشخص أو ذاك، والخليفة المتغلب القابض على مقاليد الأمور هو وحده الذي يقوم بهذا الدور!
وقد توالت على منصب الخلافة تاريخياً تشكيلة عجيبة من الأشخاص من أهل التقوى والصلاح ومن أهل الفجور والفساد، فمن الفئة الأخيرة من لعن أهل بيت النبوة واستباح دماء الناس وأموالهم وهدم الكعبة، وختم أعناق الصحابة، وعطل الحدود وضيع الحقوق وقتل أولاد النبي، وسبى بناته ولكن هذه الجرائم وغيرها مما هو أكبر، لم تمنعه من القول بأنه خليفة النبي والقائم مقامه، ولم تمنع الشيع الإسلامية من الاعتراف له بذلك ومن أداء جميع الحقوق التي رتبها الشرع لخليفة النبي الشرعي القائم مقامه.
فلا ترى الأكثرية الساحقة من شيع أهل السنة عجباً ولا تستغرب أن يكون الخليفة، القائم مقام الرسول في أمور الدنيا والآخرة، ظالماً، أو فاسقاً، أو معطلاً للحدود، أو مضيعاً للحقوق، أو غاصباً للأموال، أو ضارباً للأبشار، أو متناولاً للنفوس المحرمة أو ممارساً لأي رذيلة! فهذه أمور طبيعية ومن مقتضيات الملك لا توجب خلع الخليفة لأنه قائم مقام الرسول، ولا توجب عدم طاعته أو الخروج عليه، ويجب وعظه وتخويفه. وهكذا تنقلب الآية وتتحول الرعية إلى واعظة لإمامها بعد أن كانت (موعوضة).
قال النووي، في شرحه بيان لزوم طاعة الأمراء: (قال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه وتخويفه، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين...) وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق (26).
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: قال الجمهور، من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: (لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه فالأخبار متضافرة عن النبي وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمة) (27).
فالعبرة أن يغلب الرجل ويصبح خليفة، فإذا غلبت بالقوة والقهر أو بأي طريقة من الطرق وصار خليفة، فهو مؤهل للخلافة، وصفاتها متوفرة فيه ضمناً،
بغض النظر عما سيكون عليه سلوكه وعمله المستقبلي، فقد يحسن وقد يسيئ، فإحسانه وإساءته ليستا موضعاً للمسألة عملياً! وله على الأمة من الطاعة ما لرسول الله وخلفائه الأئمة الشرعيين. فإذا دنت منية هذا الرجل يختار رجلاً ليخلفه، وعلى الأمة أن تبايع هذا الرجل الذي اختاره الخليفة القوي المتغلب.
وهذا المنهج يختلف اختلافاً جذرياً عن المنهج الذي يقول به أهل بيت النبوة وشيعتهم تماماً، فالإمام عندهم اختاره الله ورسوله وأهله، وأعده للإمامة وجعله الأتقى والأعلم والأفهم والأفضل والأرحم. وبعد أن أودع فيه هذه الصفات أعطاه الله سبحانه وتعالى صلاحيات واسعة لقيادة الدعوة والدولة وجعل الناس في مأمن من أية شرور أو بوائق تأتي منه. أما الإمام عند شيع أهل السنة فمؤهله الوحيد أنه الغالب القاهر أو المعين من خليفة متغلب وقاهر، ويجد نفسه ومعه الصلاحيات الهائلة التي كان يتمتع بها النبي نفسه من دون أدنى احتياط لإساءته باستعمال هذه السلطات الهائلة!
* * *

 

 



___________
(1) راجع: الكامل لابن الأثير 3 / 124، آخر سيرة عمر حوادث سنة 23، وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد 3 / 97 و 107، كما نقلها عن تاريخ بغداد لأبي الفضل أحمد بن أبي الطاهر.
(2) راجع: سنن الدارمي 1 / 125، وسنن أبي داود 2 / 126، ومسند أحمد 2 / 162 و 207 و 216، ومستدرك الحاكم 1 / 105 و 106.
(3) راجع: تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 62، وسر العالمين وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي ص 21.
(4) راجع صحيح البخاري 1 / 37 و 2 / 132، و 4 / 31 و 7 / 9، وصحيح مسلم 2 / 16 و 5 / 75، وصحيح مسلم بشرح النووي 11 / 94 - 95، وتاريخ الطبري 2 / 192، والكامل لابن الأثير 2 / 320، ومسند الإمام أحمد 1 / 2 و 3 / 286.
(5) راجع تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 2 - 3.
(6) راجع الطبقات لابن سعد 5 / 140.
(7) 5 / 239، حديث رقم 4865.
(8) 4 / 61.
(9) 1 / 2 - 3.
(10) راجع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2 / 147، وتذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 4 - 5.
(11) راجع منتخب الكنز بهامش مسند الإمام أحمد 4 / 64.
(12) راجع شرح النهج، 3 / 595 - 597، تحقيق حسن تميم.
(13) راجع النص والاجتهاد، ص 539 للإمام السيد عبد الحسين شرف الدين.
(14) راجع الإرشاد في الكلام لإمام الحرمين الجويني ص 424، وشرح سنن الترمذي  13 / 229، لا بن العربي، وأحكام القرآن للقرطبي 1 / 269 - 272.
(15) راجع الإمامة والسياسية لابن قتيبة 1 / 15.
(16) 2 / 245.
(17) 1 / 44، وصحيح مسلم والبخاري والبيهقي في سننه وابن الجوزي في سيرة عمر.
(18) 2 / 253.
(19) راجع تاريخ الطبري 3 / 207 وما بعدها، والإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 4 وما بعدها، وتاريخ اليعقوبي 2 / 100.
(2) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 24.
(21) راجع حلية الأولياء لأبي نعيم 1 / 44، وذكرها البيهقي في سننه 8 / 149، وابن الجوزي في سيرة عمر.
(22) راجع مروج الذهب للمسعودي 2 / 153.
(23) راجع على سبيل المثال تاريخ الطبري 4 / 52، وتاريخ ابن خلدون 2 / 85، وسيرة عمر لابن الجوزي وتيسير الوصول لابن الديبع 2 / 48
(24) أنظر إلى قول ابن خلدون ص 177.
(25) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 167 و 171.
(26) راجع: صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 229، وسنن البيهقي 8 / 158 - 159.
(27) راجع كتاب التمهيد لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني باب ذكر ما يوجب خلع الإمام.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page