• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

كيف نعرضُ المذهب الاثني عشري للوهابيين؟

شرحت في كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية) الأسباب التي جعلتني أترك المذهب الوهابي، بعد أن أصبحت أحد أئمة المساجد الوهابية، وأصبحت أدّرس في مساجد الوهابية. وفي هذا الكتاب سأعرض حقائق وخصائص المذهب الاثني عشري، بطريقة تعالج مشكلات الفكر الوهابي أثناء طرحه للمذهب الاثني عشري. وفي نظري ما لم نعالج تلك المشكلات فلا يمكن أن يكون الحوار مع الوهابيين مثمراً.
ومن أجل معالجة الفكر الوهابي في كيفية تعامله مع المذهب الاثني عشري، رأيت أن يكون عَرض المذهب الاثني عشري للوهابيين عبر ثلاث مراحل رئيسية، لا بد من الالتزام بترتيب هذه المراحل الثلاث، وإلاّ فلن يتم معالجة الفكر الوهابي، ولن يتسنَّى للوهابيين أن يدركوا حقائق وخصائص المذهب الاثني عشري.
كما يجب أن نبين للوهابيين أنّ عدم ملاحظة هذه المراحل الثلاث، وعدم الالتزام بترتيبها هو الذي جعل منهجهم في دراسة حقائق وخصائص المذهب الاثني عشري ينحرفُ عن منهج أهل السنّة في دراستها.
وبسبب خروج الوهابية عنْ منهج أهل السنّة في دراسة الاثني عشرية؛ رسمت الوهابية صورة للاثني عشرية لا صلة بينها وبين الصورة التي رسمها قدماء أهل السنّة للاثني عشرية.
وتأتي أهمية هذه الدراسة من أنني لم أجد بحثاً علمياً يتناول موضوع (المنهج الجديد والصحيح في الحوار مع الوهابية)، أو يتناول موضوع (الفرق بين منهج الوهابية في التعامل مع المذاهب الإسلامية وبين منهج قدماء أهل السنّة). ولا بد أن هناك سبباً للخلاف الشديد في تعريف (حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه) بين قدماء أهل السنّة وبين الوهابية.
ونحن لا نشك بأنّ سبب اختلاف المنهجين إنّما يعود إلى اختلاف (طبيعة) منهج أهل السنّة عن (طبيعة) منهج الوهابية. ومما لا ريب فيه أنّ هنالك ارتباطاً وثيقاً بين (طبيعة المنهج) الذي تبنته الوهابية وطبيعة الصورة التي رسموها لـ (حقائق الاثني عشرية وخصائصها)؛ فقد يتم التأويل الباطل لها بحيث يجعلها بعيدة عن صورتها ورسمها الواقعي، ويلحقها التحريف والتشويه حينما تعرض بطريقة ومنهج غير علمي، يحمل في طبيعته مغالطة خفية.
ولا يمكن لنا أن ندرك دور (طبيعة المنهج) في التأثير على رسم وعرض حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه؛ إلاّ إذا قمنا بدراسة علمية تعتمد على المقارنة بين (حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه) التي رسمها أهل السنّة، و(حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه) التي رسمتها الوهابية.
إنّ الباحث المنصف عن الاثني عشرية ينبغي أن يميز بين الاثني عشرية كما هي في حقيقتها وواقعها، وبين مناهج دراستها وأساليب قراءتها التي وقعت في أخطاء كبيرة، ومن ثَمّ أوقعتنا في انحراف عن درك حقيقة الاثني عشرية. ويجب أن نعرف الفرق بين الاثني عشرية نفسها وبين مناهج دراستها، ومن هنا تأتي أهمية طرح (المنهج الصحيح والسليم) في دراسة المذهب الاثني عشري.
ونحن نخالف (منهج الوهابية) في دراسة الاثني عشرية، ونتفق في بعض الجوانب مع (منهج قدماء أهل السنّة) وبعض متأخريهم.
ومنهجنا في عرض ورسم (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) يمر بثلاث مراحل، لا بد من الالتزام بها حتى نسلم من الاخطاء التي انزلق فيها اتباع الوهابية أثناء عرضهم ورسمهم لـ (حقائق الاثني عشرية وخصائصها).
والمراحل الثلاث في هذا المنهج الذي اخترته ـ من أجل عرض حقائق وخصائص المذهب الاثني عشري على الوهابيين حتى يتمكنوا من فهمها ودركها ـ سوف أعرضها بهذا الترتيب الذي ينبغي مراعاته:

المرحلة الأُولى: (مرحلة المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري)(*)

وسوف ندرس في هذه المرحلة أسباب وعوامل خطأ الوهابية في مرحلة المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري. أو بتعبيرٍ آخر: أسباب وعوامل مشكلة الخلط بين المذهب الاثني عشري وفرق الغلاة عند اتباع الوهابية.
وهذه الأسباب والعوامل تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الأسباب والعوامل التي ترجع إلى جهل اتباع الوهابية بالمذهب الاثني عشري، وهي ثلاثة أسباب:
1 ـ السبب الأول: الجهل بمعنى الغلو.
2 ـ السبب الثاني: الجهل بمعنى المذهب الاثني عشري.
3 ـ السبب الثالث: الجهل بموقف المذهب الاثني عشري من الغلو وفِرَق الغلاة.
القسم الثاني: الأسباب والعوامل التي ترجع إلى طبيعة الجماعة الوهابية، ويمكن حصرها في سببين رئسييّن:
4 ـ السبب الرابع: طريقة التفكير عند الوهابية.
5 ـ السبب الخامس: الخروج عَنْ منهج أهل السنّة في التعامل مع المذهب الاثني عشري.
وبعد أن ينتهي القارئ من دراسة (المرحلة الأولى) يتناول (المرحلة الثانية).

المرحلة الثانية: (مرحلة المعرفة التحليلية للمذهب الاثني عشري)

وفي هذه المرحلة نتناول أربع حقائق هامة وهي:
الحقيقة الأُولى: حقيقة الالوهية والنبوة في المذهب الاثني عشري.
والحقيقة الثانية: حقيقة الشرائع والأحكام في المذهب الاثني عشري.
والحقيقة الثالثة: حقيقة أهداف المذهب الاثني عشري.
والحقيقة الرابعة: حقيقة معنى بعض المصطلحات في المذهب الاثني عشري.
وبعد أن ينتهي القارئ من دراسة (المرحلة الثانية) يتناول (المرحلة الثالثة).

المرحلة الثالثة: (مرحلة المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري)

وفي هذه المرحلة نتناول أربع حقائق هامة وهي:
الحقيقة الخامسة: حقيقة منابع المذهب الاثني عشري.
والحقيقة السادسة: حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري.
والحقيقة السابعة: حقيقة هوية المذهب الاثني عشري.
والحقيقة الثامنة: حقيقة نشأة المذهب الاثني عشري وعلل نشأته.
وبعد أن ينتهي القارئ من دراسة المراحل الثلاث ينتقل إلى دراسة (خصائص المذهب الاثني عشري).

خصائص المذهب الاثني عشري

وهذه الخصائص وإن كانت ترتبط بـ (مرحلة المعرفة التحليلية للمذهب الاثني عشري)، لكننا تعمدنا تأخيرها لأنها آخر ما يدركه الوهابيون من الاثني عشرية، وسوف ندرس ثلاث خصائص من خصائص هذا المذهب، وهي:
 الخاصية الأولى: خاصية الوسطية الإيجابية في التعامل مع أهل البيت عند الاثني عشرية.
والخاصية الثانية: خاصية الواقعية في التعامل مع الصحابة عند الاثني عشرية.
والخاصية الثالثة: خاصية غيبة الإمام الثاني عشر في المذهب الاثني عشري.
هذه هي مراحل دراسة المذهب الاثني عشري التي ينبغي بل يجب الالتزام بالترتيب المذكور عند طرح هذا المذهب للوهابيين. وإليك فيما يلي بحثاً مختصراً حول كل منها حسب الترتيب المذكور(1).
والشكل الآتي يبيّن خلاصة المنهج الجديد في عرض المذهب الاثني عشري على الوهابيين.

المرحلة الأولى
مرحلة المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري.

(ولا تَلْبِسوا الحقَّ بالباطلِ)(2).
إنّ أول ما يجب مراعاته والالتزام به لمن يريد أن يكتب عن المذهب الاثني عشري من غير أتباع هذا المذهب، ـ حتى يتجنب جريمة التشويه لحقائق وخصائص هذا المذهب ـ هو أن يبدأ قبل الكتابة عن الاثني عشرية بملاحظة هذه المرحلة، ففي هذه المرحلة ا لهامة والضرورية سوف ندرك أنّه يوجد جفوة أصيلة ومفارقة عميقة بين (حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه) وبين (مشخصات الغلو)، بين الحقائق والخصائص الإسلامية العظيمة عند الاثني عشرية وتلك الصفات ا لهجينة والمبتذلة للفرق المغالية المنحرفة، بين العقيدة الإ لهية الإسلامية عند الاثني عشرية وتلك الأساطير البشرية المجوسية.
في هذه المرحلة الأولى ا لهامة سوف نتعرّف على النتائج الخطيرة التي نشأت من مشكلة الخلط بين (الفكر الإسلامي الاثني عشري) و(الفكر المغالي)، وكان لهذا الخلط الأثر الكبير على اتباع الوهابية؛ حيث نسبوا للاثني عشرية أموراً غريبةً غرابةً تامةً عنها وعن حقائقها وخصائصها.
ولعله مما يحتم الالتزام بهذا المنهج السليم ـ الذي طرحناه في هذا الكتاب ـ وجود هذه المرحلة ا لهامة التي لا بد لنا من إدراكها. وعدم إدراك أتباع الوهابية لهذه المرحلة هو الذي جعلهم ينسبون كل ما سمعوه من مخلفات المجوسية واليهودية والنصرانية إلى المذهب الاثني عشري، وكان لعدم ادراكهم لهذه المرحلة الأثر في أن يَعرِضوا حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه عرضاً مشوهاً مضطرباً.
وإنّني على يقين بأنّ (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) لن تدرك كما هي في صفائها ونقائها إلاّ عند الالتفات إلى هذه المرحلة الأُولى ا لهامة والأساسية.
ونحن في هذا الكتاب أطلقنا عليها (مرحلة المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري)؛ لأنّه لا بد لنا قبل أنْ نشرع في دراسة (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) أن نميّز بين ما هو من صميم الاثني عشرية، وما هو من صميم الغلو؛ فعدم التمييز بينهما جعل أتباع الوهابية ينسبون للاثني عشرية الاساطير والخرافات المتعلّقة بالفرق المغالية المنحرفة. وفي هذه المرحلة سوف نفصل الأُمور التي نُسبت إلى الاثني عشرية، وهي في حقيقة الأمر من نصيب فرق الغلاة، ومن ثَمّ فهي (مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية). ولمّا كانت (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) مستمدّة من القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة؛ فلا بد أن تتباين وتنفصل عن المقالات الإلحادية والوثنية المستمدّة من المجوسية واليهودية والمسيحية.
وإنَّه لن يتم تصحيح دراسات الوهابية عن حقائق الاثني عشرية وخصائصها إلاّ في اليوم الذي يتحررون من مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة.
وفي هذه المرحلة قمنا في البداية بتوضيح وتبيين (مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند أتباع الوهابية)، وبعد أن انتهينا من تبيينها وتوضيحها قمنا بدراسة علمية للأسباب والعوامل التي كانت وراء ايجاد هذه المشكلة عند اتباع الوهابية.
ولا بد هنا أن ننبّه إلى أنّ قدماء أهل السنّة قد تحرروا من هذه المشكلة، كما تحرر منها ـ أيضاً ـ المتأخرون والمعاصرون من أهل السنّة، ومن ثَمّ نجدهم دافعوا عن المذهب الاثني عشري وهاجموا الذين ما زالوا يخلطون بينه وبين فِرَق الغلاة(3).
وقبل استكمال الحديث عن هذه المرحلة لا بد من التحدّث عن حقيقة حتمية في هذا المنهج الذي رسمناه وهي:
إنّ هذا المنهج ينقسم إلى ثلاث مراحل ـ كما أشرنا إلى ذلك ـ، ولقد سارت هذه المراحل الثلاث بطريقة خاصة وترتيب معين؛ لا بد من الالتزام بتلك الطريقة وهذا الترتيب دون أدنى تغيير أو تحوير.
وأنا على يقين وجزم بأنّ عدم الالتزام بذلك سوف يفقد هذا المنهج مقوّماته الاساسية وهدفه ا لهام، وهو تصحيح دراسات الوهابية عن المذهب الاثني عشري، وتبيين الفرق بين منهج أهل السنّة وبين منهج الوهابية في دراسة هذا المذهب.
ونحن على يقين بأنّه لن تخلص كتابات أتباع الوهابية عن المذهب الاثني عشري من التشويه والانحراف والمسخ إلاّ حين تلتزم بهذا المنهج.
وحين نلقي صورة مجملة لأسباب نجاح قدماء أهل السنّة ومتأخريهم ومعاصريهم بالقياس إلى الوهابية، في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها؛ سوف يتبين لنا أنّ العامل الأوّل في نجاحهم هو أنّهم لم يقعوا في مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفِرَق الغلاة.
* * * *
إنّ هذه المرحلة ـ أي مرحلة المعرفة الانتسابية كما قلنا ـ هي مرحلة هامة وضرورية؛ لأنّه من خلال تصحيح خطأ الوهابية في هذه المرحلة سوف يتم تصحيح أخطاء أتباع الوهابية في تفسير حقائق الاثني وخصائصها (وهما المرحلتان الأولى والثانية)، وبالتالي تكون دراساتهم قائمة على منهج واقعي ونظام علمي، ولأنّ أهل السنّة المعاصرين صاروا على منهج قدمائهم فهم يدركون خطورة الخطأ في معرفة هذه المرحلة، ومن هنا فسّروا حقائق الاثني عشرية وخصائصها بصورة مباينة لتفسير الوهابية، وأعلنوا رفضهم لتفسير أتباع الوهابية لتلك الحقائق وهذه الخصائص، وقرروا موازين علمية يجب أن يرجع إليها أتباع الوهابية قبل الشروع بتفسير (حقائق الاثني عشرية وخصائصها)، ومن ثَمَّ لم يكن بدٌ من دراسة هذه المرحلة ا لهامة كي لا يتأثر أحدٌ من عوامِّ أهل السنّة بمنهج الوهابية.
ولا يمكن لأتباع الوهابية أن يدركوا (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) إلاّ عند التأمّل الكامل في خطورة الخطأ في هذه المرحلة.
ومن ثَمَّ فنحن لا نبغي من القارئ الكريم مجرد القراءة السطحية الساذجة لهذه المرحلة، القراءة التي لا تغوص في المعاني والافكار؛ إنّما نحن نبتغي من القارئ القراءة المتأمّلة العميقة التي تدرك ا لهدف من كتابة هذه المرحلة.. نبتغي استجاشة ضمير أتباع الوهابية لقراءة هذه المرحلة؛ لأنّه تولّد من الخطأ في هذه المرحلة كل الاخطاء التي ارتكبوها في تفسير (حقائق الاثني عشرية وخصائصها). نبتغي من كتابة هذه المرحلة ا لهامة أن يعود أتباع الوهابية إلى المنهج السليم والصحيح في دراسة (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) الذي نهجه قدماء أهل السنّة ومتأخريهم. وهذا المنهج الصحيح هو الذي يريده الله وتفرضه الأمانة الدينية.
ولا يخفى على القارئ أنّني في كتابي (الصلة بين الاثني عشرية وفرق الغلاة) والذي خلطت فيه بين الاثني عشرية وفِرق الغلاة، وبالتالي كفرّت الاثني عشرية؛ إنّما كان نتيجة حتمية لعدم إدراكي لهذه المرحلة، لأنني اعتمدت على كتابات الوهابية لا على كتابات أهل السنّة. ومن ثَمَّ فنحن سوف نجعل هذه المرحلة في رأس هرم المذهب الاثني عشري الذي سنرسمه في هذا الكتاب.
لقد كنت ـ قبل أن أصحو من غفلتي عن هذه المرحلة ا لهامة والخطيرة ـ أنسبُ للمذهب الاثني عشري التصورات المجوسية والوثنية، وأنسب إليه الأساطير الجاهلية، وأنسب إليه الشطحات الصوفية، وأنسب إليه كل أفكار فِرَق الغلاة وما فيها من لوثةٍ وثنية.. وجمعت كل ذلك في كتابي (الصلة بين الاثني عشرية وفرق الغلاة)؛ كما بيّنت ذلك بصورة مفصلة في كتابي (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
لقد نسبت في كتابي (الصلة بين الاثني عشرية وفرق الغلاة)(4) كل الأفكار الوثنية المغالية إلى المذهب الاثني عشري، وكنت أحسب أنني مُصيبٌ في كتابته. وبعد أن أدركت هذه المرحلة اكتشفت خطئي، وعلمت أنّ الخطأ في فهم مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية يساوي الخلط بين المذهب الاثني عشري وفرق الغلاة. وبعد أن تمّ تصحيح خطئي في فهم هذه المرحلة (مرحلة المعرفة الانتسابية) أصبحت أميز بين ما نُسب للاثني عشرية ـ وهو ليس منها ـ وبين ما نفي عنها ـ وهو منها ـ، وعندئذٍ أحرقت ذلك الكتاب قبل طباعته بفترة قصيرة.
في ذلك العهد ـ قبل تصحيح فهم هذه المرحلة عندي ـ كنت أحسب أنّ هذه الصفات ـ مثل صفة المجوسية واليهودية والغنّوصية ـ يمكن لنا أن نطلقها على الاثني عشرية، وبعد أن أدركت خطئي في فهم هذه المرحلة استيقنت أنّ تلك الصفات إنّما تنطبق على الفرق المغالية المنحرفة؛ كما كان لإدراك خطئي في فهم هذه المرحلة ارتباطاً وثيقاً بتركي لمنهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية، واقتناعي ـ لا بصورة كلية وكاملة ـ بمنهج قدماء أهل السنّة ومتأخريهم السائرين على نهجهم. وكان لتصحيح خطئي في ادراك هذه المرحلة أثرٌ حاسمٌ في تصحيح وتقويم نظرتي عن الاثني عشرية، وكان له أثرٌ حاسمٌ في استنقاذي من مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفِرَق الغلاة؛ التي جعلتني أنسب للمذهب الاثني عشري ما هو من نصيب الغلو والغلاة.
ولا شك أنّ للبيئة الفكرية التي نشأت فيها صلةً كبيرة في تكوّن هذه المشكلة عندي؛ فقد درست في المعاهد الدينية الوهابية في مدينة صنعاء (عاصمة اليمن) التي كانت تنشر كتباً حول الاثني عشرية، ألفها أُناسٌ لا يدركون خطورة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، ومن ثَمَّ فهم يخلطون بينها وبين فِرَق الغلاة، وينسبون الخرافات والتصورات الوثنية المغالية إليها. واثرّت عليّ تلك الكتب تأثيراً قوياً. وكانت تلك المعاهد تكتفي بتلك الكتب التي كتبت حسب منهج الوهابية، وهو منهج يخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة. ولم تكن تلك المعاهد الوهابية تسمح بنشر الكتب التي كتبها علماء أهل السنّة عن المذهب الاثني عشري؛ التي تعتمد على منهج يخالف منهج الوهابية، ويرى هذا المنهج أنّهم يخلطون بين الاثني عشرية والغلاة وينسبون انحرافات الغلاة إلى الاثني عشرية.
وبعد مرور فترة زمنية تهيأت لي الفرصة لقراءة بعض الكتب التي كتبت حول المذهب الاثني عشرية والتي كتبها كبار أهل السنَّة، وكانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي؛ لأنني وجدتها تختلف عن منهج الوهابية اختلافاً جوهرياً، وتدرك خطورة الخطأ في المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري، وتنتقد منهج الوهابية في دراسة المذهب الاثني عشري، وتعتبر أنّه لا يوجد عند الوهابية أدنى تمييز بين الاثني عشرية والغلاة، وترى أنّ القارئ في كل ما كتبه أتباع الوهابية عن الاثني عشرية لا يخرج إلى نتيجة معينة تعرّفه على حقائق هذا المذهب وخصائصه، وفي هذا يقول الكاتب السنّي المعاصر الأُستاذ حامد حنفي(5):
(بعد أن قضيت ردحاً طويلاً من الزمن أدرس فيها عقائد الأئمة الاثني عشر بخاصة وعقائد الشيعة بعامة؛ فما خرجت من هذه الدراسة الطويلة التي قضيتها... بشيء ذي بال)(6).
ويرى كبار أهل السنة أنّ الوهابيين لا يدركون خطورة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية. ومن ثَمَّ كان من الطبيعي أنّهم لا يفصلون بين الاثني عشرية والغلاة، وفي هذا يقول المفكّر الإسلامي السنِّي المصري أنور الجندي ـ رحمه الله ـ في كتابه القيم (الإسلام وحركة التاريخ):
(ومن الحق أنّ يكون الباحثُ يقظاً في التفرقة بين الشيعة [يعني: الاثني عشرية] والغلاة، هؤلاء الذين هاجمهم أئمة الشيعة أنفسهم وحذروا مما يدسونه)(7).
والعلامة المفكر الإسلامي المصري علي عبد الواحد وافي ـ رحمه الله ـ(8) عالج هذه المشكلة في كتابه القيّم (بين الشيعة وأهل السنَّة) ومما قاله:
(إن كثيراً من مؤلفينا قد خلط بين الشيعة الجعفرية وغيرها من فرق الشيعة)(9).
وقد بذل إمام أهل السنّة في العصر الحديث (الشيخ محمد الغزالي) ـ رحمه الله ـ جهوداً عظيمة مثمرة في تصحيح منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية؛ كما بذل جهوداً جبارة في مقاومة المقلِّدين لمنهج الوهابية من أهل السنّة المعاصرين، وبذل جهوداً كبيرة في معالجة المصابين بمشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة، أو بتعبيرٍ أدق: في معالجة المصابين بمشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، وفي هذا يقول:
(ومن هؤلاء الأفاكين [ الذين يخلطون بين الاثني عشرية والغلاة] من روّج أنّ الشيعة أتباع عليّ، وأن السنيين أتباع محمدٍ، وأن الشيعة يرون علياً أحق بالرسالة، أو أنّها أخطأته إلى غيره. وهذا لغوٌ قبيح وتزوير شائن)(10). وهو لا ينطبق إلاّ على الفرق المغالية المنقرضة.
وقد توسع الإمام الغزالي ـ إمام أهل السنة في العصر الحديث ـ في كتابه القيّم (ليس من الإسلام) في نقد منهج المتأخرين من أهل السنّة، المقلدين للوهابية في دراسة الاثني عشرية، ونقد الذين ما زالوا لا يفرّقون بين الاثني عشرية والغلاة، وفي هذا يقول ـ رحمه الله ـ:
(نسب [(11)بعض الذين يخلطون بين الاثني عشرية وفرق الغلاة] إلى الإمامية ـ افتراء وتنكيلاً ـ نقصان آيات من القرآن)(12).
ويرى بعض مفكري أهل السنَّة أنّ منهج الوهابية يعتبر منهجاً متطرفاً في دراسة الاثني عشرية، ومنهجاً مُخلِّطاً بين الاثني عشرية والغلاة، ومنهجاً منحرفاً في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية. وقد تبنى هذا الرأي المفكر الإسلامي السنّي المصري (محمد البهي)(13) ـ رحمه الله ـ وقال في صدد نقده منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية:
(وسَّعت [الوهابية] شقة الخلاف بين السنّة والشيعة، وأصبحت الفجوة كبيرة في النزاع المذهبي بين السنّة والشيعة منذ القرن الثامن عشر الميلادي، بل أصبحت أشدّ من ذي قبل. وكان لزيادة الفجوة على هذا النحو أثرٌ سلبيٌ للدعوة الوهابية)(14).
ويقول العلامة السنّي (عبد الحليم الجندي) ـ حفظه الله ـ عن الذين يخلطون بين الاثني عشرية والغلاة أنّهم:
(... نسبوا عمل الغلاة إلى الشيعة... فأحدثوا بذلك أثراً كاذباً في فهم الآخرين بدعاوى هم [أي الاثني عشرية] منها براء، مثل: إنّ الإمام هو الله ظهوراً واتحاداً وهو غلو يبلغ الكفر)(15).
وفي الحقيقة أنّ الذي لا يدرك مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية سوف ينسب للاثني عشرية ما ليس له صلة بها، وسوف يكون مثل الذين وصفهم الدكتور طه حسين ـ رحمه الله ـ(16) في كتابه (علي وبنوه) بقوله:
(إنّ خصوم الشيعة نسبوا إليهم ما يعلمون وما لا يعلمون... لا يكتفي خصوم الشيعة من الشيعة بما يسمعون عنهم أو بما يرون من سيرتهم وإنّما يضيفون إليهم أكثر مما قالوا وأكثر مما سمعوا، ثُمّ لا يكتفون بذلك... بل يحملون ذلك كلّه على أصحاب أهل البيت... وخصومهم واقفون لهم بالمرصاد، يحصون عليهم كل ما يقولون ويفعلون، ويضيفون إليهم أكثر مما قالوا ومما فعلوا، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال... ثم يتقدم الزمان فيزداد الأمر تعقيداً وإشكالاً، ثم تختلط الأُمور بعد أن يبعد عهد الناس بالأحاديث...)(17).
وقد ذكرنا ـ سابقاً ـ أنّ من كبار علماء أهل السنّة الذين أدركوا خطورة مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة؛ العلامة الدكتور علي عبد الواحد وافي(18)، الذي عالج هذه المشكلة في كتابه (بين الشيعة وأهل السنّة)، وقال في الرد على الوهابية الذين يخلقون ضجة مفتعلة بين السنّة والاثني عشرية:
(... الخلاف بيننا وبينهم ـ أي بين السنّة والاثني عشرية ـ مهما بدا في ظاهره كبيراً لا يخرج في أهمِّ أوضاعه عندنا وعندهم من حيز الاجتهاد المسموح به)(19).
ومن كبار مفكري أهل السنّة الذين أدركوا أنّ الخلط بين المذهب الاثني عشري وفرق الغلاة عند أتباع الفرقة الوهابية يعدّ هو السبب في إصرارهم على تكفير الاثني عشرية؛ المفكر الإسلامي السني (فهمي هويدي) ـ حفظه الله ـ حيث يقول:
(تعتبر قضية تكفير الشيعة [يعني الاثني عشرية] إحدى الأطروحات الرئيسية في الفكر الوهابي)(20).
كل هذه الأقوال التي نقلناها عن كبار أهل السنّة تعتَبرُ أنّ منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية قد قادهم إلى الخلط والتخليط بين الاثني عشرية والغلاة، ومن ثَمّ وقعوا في انحراف كبير في مرحلة المعرفة الانتسابية لهذا المذهب.
ويرى بعض علماء أهل السنّة أنّ التصور الذي يحمله أتباع الوهابية عن الاثني عشرية مناقض أو مصادم لحقيقتها ولخصائصها، ومُسَاوٍ ومتحدّ مع حقيقة الغلو؛ كما نلمس ذلك في كتابات المفكر الإسلامي السنِّي سالم البهنساوي ـ حفظه الله ـ صاحب (السنّة المفترى عليها). وهو يعدُّ من الذين التفتوا إلى خطورة مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرقة الغلاة عند الوهابية، أو بتعبير أدق وأصح: إلى خطورة خطأ الوهابية في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية. وكتابه يحتوي على دراسة عميقة تدعو إلى ضرورة تصحيح منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية، وتبين خروجهم عن منهج أهل السنّة في دراسة هذا المذهب. كما انتقد كل التهّم التي شاعت في وسط الوهابيين، ومن أهم هذه التهم التهمة القائلة بـ (أنّ للاثني عشرية مصحفاً آخر...)، فهاجم البهنساوي هذه التهمة وقال:
(إنّ المصحف الموجود بين أهل السنّة هو نفسه الموجود في مساجد وبيوت الشيعة)(21).
ويرى بعض مفكري أهل السنّة أنّ أتباع الفرقة الوهابية أخذوا تصوراتهم عن الاثني عشرية من مقالات الغلاة، بل أخذ بعضهم تصوراتهم عن الاثني عشرية من مقالات اليهودية والنصرانية والمجوسية ومن مقالات المستشرقين.
وحينما أخذوا معلوماتهم عن الاثني عشرية من تلك المقالات أُصيبوا بمرض الخلط بين المذهب الاثني عشري وبين فرق الغلاة، وأُصيبوا بمشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، ومن هؤلاء الذين يرون هذا الرأي المفكر الإسلامي السنّي (أنور الجندي)، والذي سبق أن ذكرنا عبارة مقتطفة من كلامه حول ذلك(22).
وكان الإمام حسن البنا ـ زعيم الحركة الإسلامية السنّية في العالم ـ من أكثر المتحمسين لتصحيح منهج الوهابيين في دراسة الاثني عشرية، ومن أكثر المحاربين للذين يخلطون بين الاثني عشرية والغلاة أو للذين يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية؛ كما كان الإمام حسن البنا ـ رضوان الله عليه ـ يعجب ـ كثيراً ـ من الذين يخلطون بين الاثني عشرية والغلاة! (مع العلم بأنّ أئمة الشيعة [يعني: أئمة وعلماء الشيعة الاثني عشرية] قد أثروا التأليف الإسلامي ثروة لا تزال المكتبات تعج بها)(23).
وكان الكاتب الإسلامي السنّي الكبير (عبّاس محمود العقاد) ـ رحمه الله ـ من الذين أدركوا دور مشكلة الخلط بين الاثني عشرية، أو دور مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية؛ التي هي وراء كل الأكاذيب المنسوبة للمذهب الاثني عشري. وكان يتمنى ـ لولا أن وافته المنية ـ أن يكتب كتاباً في
الدفاع عن الاثني عشرية، وفي هذا قال الكاتب المشهور المصري (أنيس منصور): إنّه سمع العقاد يقول له:
(إنّه يريد ـ قبل أن يموت ـ أن يؤلف دراسة موضوعية عن المذهب الشيعي، فقد أدخلت عليه أكاذيب(24) أفسدت صورته عند كثير من الناس [الذين لا يميزون بين حقيقة الاثني عشرية وبين تلك الاكاذيب]، ولم يتسع عمره لأن يكتب هذا الكتاب)(25).
وكان المؤرّخ السنِّي (محمد كرد علي) ـ رحمه الله ـ يهاجم الذين يخطئون في المرحلة الأُولى، ويخلطون بين الاثني عشرية والغلاة ولا يميزون بين قادة الاثني عشرية وقادة الغلاة.. ويقول:
(أما ما ذهب إليه بعض الكتاب [الذين يخلطون بين قادة الغلاة وقادة الاثني عشرية] من أنّ مذهب التشيع من بدعة عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء؛ فهو وهم وقلة علم بتحقيق مذهبهم. ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة(26) وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله، وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك؛ علم مبلغ هذا القول من الصواب)(27).
والمرشد الروحي ـ السابق ـ للإخوان المسلمين في العالم، الإمام (عمر التلمساني) ـ رحمه الله ـ يعجب من الذين يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، ثُمّ يقولون: بأنّ الاثني عشرية من فرق الغلاة. مع أنّ الواقع يثبت ويؤكد بأنّ (الفقه الشيعي(28) أغنى العالم الإسلامي من حيث التفكير)(29).
أمّا إمام أهل السنّة وفقيههم في العصر الحديث (محمد أبو زهرة) ـ رحمه الله ـ فقد هاله منهج الوهابية الذين يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري، فيخلطون بين الاثني عشرية والغلاة، وانتقد منهج الوهابية في التعامل مع بعض المصطلحات الكلامية عند الاثني عشرية، وقال في تبيين وتوضيح مصطلح (التقية) الذي يعتبر من أهمِّ المصطلحات التي لم تدرك معناها الوهابية، فاثبت إمام أهل السنّة أنّ معنى التقية عند الاثني عشرية قد أُخذ من القرآن الكريم، وفي هذا يقول:
(والتقية [يعني: عند الاثني عشرية] أن يخفي المؤمن بعض ما يعتقد ولا يجهر به؛ خشية الأذى، أو للتمكن من الوصول إلى ما يريد من نصرة لدين الله أو للحق في ذاته. والأصل فيها ـ التقية ـ قوله تعالى: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إلاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإلى اللّهِ الْمَصِيرُ) (30)..)(31).
ويقول الإمام (محمد أبو زهرة) في صدد الرد على الوهابية الذين يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، ثم يخلطون بين مقام الإمام عند الغلاة ومقامه عند الاثني عشرية:
(وإنّ الإمامية [الاثني عشرية] لا يصلون بالإمام إلى مرتبة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم)(32).
وكان إمام أهل السنّة الإمام الأكبر شيخ الأزهر (محمود شلتوت) ـ رحمه الله ـ من أكثر الذين دافعوا عن منهج قدماء أهل السنّة في التعامل مع المذهب الاثني عشري، وبذلوا جهوداً في محاربة المنهج الوهابي في دراسة هذا المذهب؛ لأنّهم ما زالوا يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية لهذا المذهب، وبالتالي فهم يخلطون بين الاثني عشرية وفرق الغلاة.
ولقد حاول الإمام شلتوت ـ رحمه الله ـ دعوة الوهابية البريئة إلى الرجوع لمنهج أهل السنّة، كما حاول أن يزيل الضجة التي خلقتها الوهابية بين الاثني عشرية وأهل السنّة، فحاربه الذين ما زالوا مصابين بمشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة من الوهابيين، وحسبوا أنّه يدعو للتقريب بين أهل السنّة وبين فرق الغلاة.
وأراد ـ رحمه الله ـ أن يبين للوهابيين أنّ المقالات التي ينسبوها للاثني عشرية هي مقالات السبئية والخطابية والبيانية الذين كفرهم الاثنا عشرية وأهل السنّة، واعتبر أنّهم نسبوا تلك المقالات القبيحة إلى الاثني عشرية لأنهم يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، ومن ثَمَّ فلا غرابة أن يخلطوا بين حقائق الاثني عشرية ومقالات الغلاة.
وقد اضطر إلى مهاجمة بعض المعاصرين من أهل السنّة الذين تأثروا بالمنهج الوهابي، وبدأوا يشككون في منهج قدماء أهل السنّة في التعامل مع الاثني عشرية؛ لأنّهم كانوا العقبة الكبرى ـ في نظره ـ أمام التقريب بين السنّة والاثني عشرية، قال رحمه الله:
(حارب هذه الفكرة [أي فكرة التقريب بين السنّة والاثني عشرية] ضيقوا الأُفق، كما حاربها صنف آخر من ذوي الاغراض الخاصّة السيئة، ولا تخلوا أية أُمة من هذا الصنف من الناس.. حاربها من يجدون في التفرق ضماناً لبقائهم وعيشهم، وحاربها ذوو النفوس المريضة [من أمثال المصابين بمرض الخلط بين الاثني عشرية والغلاة] وأصحاب الأهواء والنزعات الخاصّة، هؤلاء وأولئك ممن يؤجرون أقلامهم لسياسات مفرقة، لها أساليبها المباشرة وغير المباشرة في قاومة أية حركة إصلاحية، والوقوف في سبيل كل عمل يضم شمل المسلمين ويجمع كلمتهم)(33).
والذين يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية هم الذين لا يميزون بين الاثني عشرية والغلاة، وبالتالي لا يمكن لهم أن يدركوا ـ أيضاً ـ الفرق بين الرافضة والاثني عشرية. وقد واجه المفكّر السنِّي الكبير (أنور الجندي) أتباع الوهابية الذين لا يفرِّقون بين الرافضة وبين الاثني عشرية وقال:
(والرافضة غير السنّة والشيعة)(34)؛ لأنّ الرافضة كلمة عامة في كتب الفرق تشمل الكثير من الفرق المغالية التي كفرّها علماء الاثني عشرية قبل أن يكفرّها أهل السنّة.
وهناك مئات الأقوال لكبار علماء أهل السنة التي تحذر من مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية أو من مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة؛ لو ذكرناها كلها لتضاعف حجم الكتاب، وسنذكر الكثير منها في القسم الثاني من هذا الكتاب.
بعد أن ذكرنا أقوال كبار علماء أهل السنّة في خطورة مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، أو خطورة مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة؛ يتضح لنا أنّه ليس هناك مشكلة اخترعها خصوم الإسلام في سبيل ضرب المسلمين وهدم وحدتهم أعظم من مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة. وتأتي الخطورة الكبرى في هذه المشكلة أنها من المشكلات غير البارزة والظاهرة التي يمكن كشفها ومعرفتها لأوّل وهلة، بل هي مشكلة خفية استطاع خصوم الإسلام ـ بطريقة ماكرة تُظهر الخير وتُبطن الشر ـ أن يزرعوها بين المسلمين من أجل تحطيم الوحدة الإسلامية المقدَّسة.
ومن ثَمّ وقع في حبال هذه المشكلة الخبيثة القبيحة بعض عوام أهل السنّة في العصور المتأخرة، الذين انخدعوا بالمنهج الوهابي في دراسة الاثني عشرية، ولم يَكتشف خباياها ومقاصدها الخطيرة إلاّ كبار علماء أهل السنّة المحققين. وبفضل جهود كبار علماء أهل السنّة بدأت هذه المشكلة تنحصر في إطار جماعة قليلة مهددة بالانقراض.
ونحب ـ هنا ـ أنّ ننبه إلى أننا رأينا تلك الوهابية البريئة تقول: بأنّ هنالك مشكلة غلو عند الاثني عشرية. وهم لا يدركون أنّه يوجد عندهم في الحقيقة مشكلة خلط بين الاثني عشرية والغلو، أو مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية. وحقيقة الأمر أنّ هنالك مشكلة خلط عند الوهابية لا مشكلة غلو عند الاثني عشرية. ونرى هؤلاء المصابين بمشكلة الخلط يبحثون عن علل الغلو عند الاثني عشرية، وهم لا يدركون أنه كان الأولى لهم أن يبحثوا عن علل خلطهم بين الاثني عشرية وفِرَق الغلاة، وأنّه ليس هناك مشكلة غلو عند الاثني عشرية، بل هي مشكلة خلط بين فرق الغلاة والاثني عشرية أو مشكلة خطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية.
وقد لاحظت أنّ أتباع الوهابية ـ من حيث لا يعلمون ـ يبحثون ويجهدون أنفسهم في البحث عن علل الغلو عند الاثني عشرية، ويبحثون عن مشكلة الغلو عند الاثني عشرية. أما أهل السنّة المحققون المعاصرون فقد اكتشفوا أنّ أتباع الفرقة الوهابية مصابون بالخلط بين الاثني عشرية والغلاة، بسبب عدم قراءتهم الصحيحة لكتب قدماء أهل السنّة عن الاثني عشرية. ومن ثَمّ اتجه كبار أهل السنّة المعاصرين المحققين إلى دراسة علل الخلط بين الغلاة والاثني عشرية عند الوهابية، وصرّحوا بأنّ الوهابيين يحسبون أنّ هنالك مشكلة غلو عند الاثني عشرية، ولا يعرفون أنّ المشكلة فيهم، ولم يدركوا أنّها مشكلة خلط عندهم بين الاثني عشرية والغلاة. وتبين لعلماء أهل السنّة المحققين أنّ الاثني عشرية لم يصابوا ـ أبداً ـ بالغلو، وإنّما أتباع الوهابية التبس عليهم الأمر، فلم يميزوا بين الاثني عشرية والغلاة.
* * * *
ونحن بعد دراسة طويلة لمناهج البحث عن حقائق الاثني عشرية وخصائصها قد حصرناها في مناهج ثلاثة:
1 ـ المنهج الأول: منهج الجماعة الوهابية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
2 ـ المنهج الثاني: منهج قدماء أهل السنّة ومتأخريهم في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
3 ـ المنهج الثالث: منهج علماء الاثني عشرية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
ونحن ـ في بداية الأمر ـ كنا نؤمن بمنهج الوهابية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها، ثم تعرّفنا على منهج قدماء علماء أهل السنّة ومتأخريهم وانتقلنا إليه، ثم اهتدينا إلى منهج علماء الاثني عشرية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها. وقد لاحظنا أنّ هنالك تناقضاً في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها؛ بين منهج الوهابية ومنهج قدماء علماء أهل السنّة ومتأخريهم. ولا شك أنّه من المستحيل أن تكون كل تفسيراتهم صحيحة في الوقت الذي ينعدم الاتفاق بينها. ولو قلنا بصحتها مع تعارضها وتباينها للزم أن تكون كلها باطلة ـ بالمعنى المنطقي ـ أي غير صحيحة، ولما استحق أي تفسير يقدّمه علماء الوهابية أو علماء أهل السنّة لحقائق الاثني عشرية وخصائصها أن ينظر إليه بتقدير واحترام.
ومن ثَمّ لا بد أن نقول بصحة بعض تفسيرات حقائق الاثني عشرية وخصائصها وبطلان بعضها. وسوف نثبت في البحوث القادمة(35) أنّ تفسير أهل السنّة من القدماء والمتأخرين لحقائق الاثني عشرية وخصائصها كان مصيباً غالباً، وأنّ تفسير الوهابية لحقائق الاثني عشرية وخصائصها كان مخطئاً وبعيداً عن حقيقة الاثني عشرية.
إننا حين نراجع المنهج الوهابي في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها نجده عاجزاً عن الاهتداء إلى التفسير الصحيح لحقائق الاثني عشرية وخصائصها؛ الذي اهتدى إليه قدماء علماء أهل السنّة ومتأخريهم.
إنّ الاثني عشرية التي تبحث عن حقائقها وخصائصها الوهابية لا تعني أهل السنّة في شيء؛ لأنّ بحث الوهابية عن الاثني عشرية ـ على ذلك المنهج الغريب ـ لن يجعلها تدرك أنّ الاثني عشرية الحقة هي التي صوّرها ورسمها علماء أهل السنّة، وهي التي دلّنا عليها كبار علماء الاثني عشرية.
وقد عجزت الوهابية عن الاهتداء إلى حقيقة الالوهية والنبوة عند الاثني عشرية، وعجزت عن إدراك كل حقائق الاثني عشرية وخصائصها؛ لأنّها حاولت دائماً أن تفسر هذه الحقائق وأن تصورها تحت نفوذ مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، أو مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة، في حين أن الاثني عشرية ليس لها صلة بالغلو.
وبمثل هذا العجز فسرّت الوهابية خصائص الاثني عشرية، وضربت في التيه عندما حاولت دراسة (خصائص الاثني عشرية).
والعجب العُجاب ما يصادفه الإنسان من بعض عوام أهل السنّة؛ أنّك تجدهم يؤمنون بما قاله بعض الوهابية عن حقائق الاثني عشرية وخصائصها، بينما
يسخرون بما قاله كبار قدماء علماء أهل السنّة ومتأخريهم في تلك الحقائق وهذه الخصائص!!
ويعجب الإنسان ـ أيضاً ـ أن الكثير من عوام أهل السنّة لم يبحثوا عن سبب اختلاف الوهابية البريئة وقدماء أهل السنّة؛ في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها، مع اتحاد الموضوع المبحوث عنه، أي موضوع الاثني عشرية! ومن الغريب أنّ بعض عوام أهل السنّة يغفلون عن الصراع الكبير والخطير بين الوهابية وبين أهل السنّة حول تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها!
ويبدو أنّ هذه المشكلة الخبيثة ـ مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، أو مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الوهابية ـ كانت وما زالت وراء هذا الصراع الشديد بين الوهابية وعلماء أهل السنّة.
وإذا كانت هذه المشكلة سبباً في توسيع مساحة الصراع بين السنّة وبين الاثني عشرية منذ ظهور الوهابية في القرن الثامن عشر؛ فقد أصبحت هذه المشكلة ـ في عصرنا ـ سبباً في توسيع مساحة الصراع بين الوهابية وأهل السنّة. ولا يمكن لنا أن نكشف سرّ اختلاف الوهابية مع أهل السنّة في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها ما لم ندرك هذه المشكلة.
والذين يخطئون في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، أو يخلطون بين الاثني عشرية وفرق الغلاة هم الذين فسروا حقائق الاثني عشرية وخصائصها بصورة مخالفة لتفسير الذين أصابوا في إدراك مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، وميزوا بين المذهب الاثني عشري وبين فِرَق الغلاة.
ولقد لاحظنا أنّ الكثير من القضايا المُثارة المتنازع عليها بين الاثني عشرية وبين الوهابية أصبحت ـ الآن ـ قضايا مثارة ومتنازع عليها بين الوهابية وكبار أهل السنّة في العصر الحديث.
وإنّه من الطبيعي أن تثار تلك القضايا بين الاثني عشرية والوهابية من جهة وبين السنّة والوهابية من جهة أُخرى؛ لأنّ أتباع الوهابية مصابون بمشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية.
وبعبارة أُخرى: مصابون بمشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة.
لقد بيّن أهل السنّة أنّ القضايا التي أثارتها الوهابية البريئة ضد الاثني عشرية إنّما هي من شأن الغلو والغلاة؛ لأن أهل السنّة يدركون الفرق بين الاثني عشرية والغلو. ومن ثَمّ لا يوجد نزاع وصراع بين السنّة والاثني عشرية، بينما يوجد هذا الصراع وذلك النزاع بين أهل السنّة والوهابية الذين يخلطون بين الاثني عشرية وفرق الغلاة.
ومن هنا فهذه المشكلة الخبيثة وسّعت الخلاف بين السنّة والاثني عشرية من خلال تأثير الوهابيين، ثُمّ وسّعت الخلاف بين السنّة والوهابية. وهذا هو الذي يفسرّ لنا سرّ تحذير كبار علماء أهل السنّة وكبار علماء الاثني عشرية من هذه المشكلة، ويفسرّ لنا السبب الذي جعلهم يعدّونها أكبر مشكلة زُرعت من أجل تمزيق الصف بين السنّة والاثني عشرية، وتمزيق الصف بين السنّة والوهابية، لأن اختلاف أهل السنّة مع الوهابية حول الاثني عشرية قد خلق صراعاً شديداً بين الوهابيين وأهل السنّة، ولا يمكن أن يتم التقريب بين الاثني عشرية والوهابية إلا إذا عالجنا هذه المشكلة، كما لا يمكن أن يتم التقريب بين أهل السنّة والوهابية إلا إذا عالجنا هذه المشكلة.
وقد عبّر عن حالة الصراع الشديد والاضطراب المرير بين مفهوم الاثني عشرية عند الوهابية ومفهومه عند أهل السنّة؛ أحدُ الكتاب المكفرّين للاثني عشرية والمؤيدين للمنهج الوهابي في دراستها، صاحب المؤلفات المشهورة ضد الاثني عشرية، وهو الدكتور الشيخ (ناصر القفاري) من كبار الوهابيين المعاصرين، فقال:
(استرعى انتباهي تضخم الخلاف حول الاثني عشرية لدى الكتّاب المعاصرين؛ فمن فريقٍ يرى أنّهم كفرة وأنّ غلوهم تجاوز الحدود الإسلامية، كما في كتابات الاستاذ محب الدين الخطيب، وإحسان ا لهي ظهير، وإبراهيم الجبهان وغيرهم. وفريقٍ يرى أنّ الاثني عشرية طائفة معتدلة لم تجنح إلى الغلو الذي وقعت فيه الفرق الباطنية، مثل: كتابات النشار، وسليمان دنيا، ومصطفى الشكعة. وفريق ثالث التبس عليه الأمر حتى ذهبَ يستفتي شيوخ الشيعة الاثني عشرية فيما كتبه عنهم احسان ا لهي ظهير، ومحبّ الدين الخطيب؛ كما تجد ذلك فيما كتبهُ البهنساوي في كتابه (السنّة المفترى عليها)، ومن خلال هذه الاختلافات قد تضيع الحقيقة أو تخفى على الكثير)(36)-(37).
ومن ثَمّ كان تأكيدي على ضرورة معالجة هذه المشكلة، فجعلت رسالة الماجستير الجامعية تحت عنوان (مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الوهابية)، وبينت أنّ هذه المشكلة هي وراء تعدد مناهج دراسة الاثني عشرية.
وإنّني بعد دراسة طويلة للمناهج الثلاثة التي ذكرتها ـ منهج الجماعة الوهابية، ومنهج أهل السنّة، ومنهج الاثني عشرية ـ استيقنت بأنّه لا يصّح أن يستفاد من المنهج الوهابي، لا سيما بعد الاختلاف الشديد بين منهج الوهابية في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها من جهة، وبين منهج أهل السنّة ومنهج الاثني عشرية في تفسيرها من جهة أخرى..
إنّ دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها ـ حسب المنهج الوهابي ـ تتمُ بطريقة تقتضي أن يُضّحى بالموضوع (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) في سبيل المنهج، وكأنّ الموضوع (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) لا يفرضُ منهجه من داخله، وكأنّ أتباع المذهب الاثني عشري الذي ينتمي إليهم الموضوع (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) لا منهج لهم.
ولا يمكن للمنهج الوهابي في دراسة الاثني عشرية أن يخرج من أزمة الصراع مع أهل السنّة حول تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها؛ إلاّ عند مراجعة منهج الاثني عشرية في تفسير هذه الحقائق والخصائص، ومن ثَمّ نجد أنّ الكاتب الوهابي (ناصر القفاري)(38) ذكر أنّ العلامة السنّي (سالم البهنساوي) بعد أن رأى اختلاف (إحسان ا لهي ظهير) مع العلامة (مصطفى الشكعة) في مفهوم الاثني عشرية؛ لجأ إلى شيوخ الاثني عشرية، وكتب نتيجة حواره مع الاثني عشرية في كتابه (السنة المفترى عليها)، وعرف أنّ الحق مع منهج أهل السنّة. ونجدُ ـ أيضاً ـ المفكر الإسلامي السنّي (الدكتور حامد حنفي داود)(39) يدعو إلى ضرورة نبذ المنهج الوهابي في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها، وإلى ضرورة الرجوع إلى منهج الاثني عشرية في دراستها، وفي هذا يقول:
(يُخطىء كثيراً من يدعي أنّه يستطيع أن يقف على عقائد الشيعة الإمامية وعلومهم وآدابهم مما كتبه عنهم الخصوم، مهما بلغ هؤلاء الخصوم منْ العلم والإحاطة، ومهما أحرزوا من الأمانة العلمية في نقل النصوص والتعليق عليها بأسلوب نزيه بعيد عن التعصب الأعمى. أقول هذا جازماً بعد أن قضيت ردحاً طويلاً من الزمن أدرس فيه عقائد الأئمة الاثني عشر بخاصّة، وعقائد الشيعة بعامة، فما خرجت من هذه الدراسة الطويلة التي قضيتها متصفحاً في كتب المؤرخين والنقاد... بشيء ذي بال، وما زادني إلى هذه الدراسة، وميلي الشديد في الوقوف على دقائقها إلاّ بعداً عنها وخروجاً عليها... ذلك لأنّها دراسة بتراء أحلتُ نفسي فيها على كتب الخصوم لهذا المذهب، وهو المذهب الذي يمثل شطر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ومن ثمّ اضطررت ـ بحكم ميلي الشديد إلى طلب الحقيقة حيث كانت، والحكمة حيث وجدت، والحكمة ضالة المؤمن ـ أن أدير دفة دراستي العلمية لمذهب الأئمة الاثني عشر إلى الناحية الأُخرى، تلك هي دراسة هذا المذهب في كتب أربابه، وأن أتعرف على عقائد القوم ممّا كتبه شيوخهم والباحثون المحققون من علمائهم وجهابذتهم.
ومن البديهي أنّ رجال المذاهب أشدّ معرفة لمذهبهم من معرفة الخصوم به، مهما بلغ أولئك الخصوم من الفصاحة والبلاغة، أو أُوتوا حظاً من اللسن والإبانة عمّا في النفس، وفضلاً عن ذلك فإنّ الأمانة العلمية التي هي من أوائل أسس المنهج العلمي الحديث، وهو المنهج الذي اخترته وجعلته دستوري في أبحاثي ومؤلفاتي حين أحاول الكشف عن الحقائق المادية والروحية؛ هذه الأمانة المذكورة تقتضي التثبت التام في نقل النصوص والدراسة الفاحصة لها، فكيف لباحث بالغاً ما بلغ من المهارة العلمية والفراسة التامة في إدراك الحقائق أن يتحقق من صحة النصوص المتعلقة بالشيعة والتشيع في غير مصادرهم؟!
إذن، لارتاب في بحثه العلمي على غير أساس متين.. ذلك ما دعاني أن أتوسع في دراسة الشيعة والتشيع في كتب الشيعة أنفسهم، وأن أتعرف عقائد القوم نقلاً عمّا كتبوه بأيديهم ونطقت به ألسنتهم، لا زيادة ولا نقص، حتى لا أقع في الإلتباس [والخلط بين الاثني عشرية والغلاة] الذي وقع فيه غيري من المؤرخين والنقاد حين قصدوا للحكم على الشيعة والتشيع. وإنَّ الباحث الذي يريد أن يدرس مجموعة ما من الحقائق في غير مصادرها ومظانها الأصلية إنّما يسلك شططاً ويفعل عبثاً، ليس هو من العلم ولا من العلم في شيء. ومثل هذا ما وقع فيه العلامة الدكتور (أحمد أمين) حين تعرّض لمذهب الشيعة في كتبه، فقد حاول هذا العالم أن يجلّي للمثقفين بعضاً من جوانب ذلك المذهب، فورّط نفسه في كثير من المباحث الشيعية كقوله: (إنّ اليهودية ظهرت في التشيع)، وقوله: (إنّ النار محرمة على الشيعي إلاّ قليلاً)، وقوله: (بتبعيتهم لعبد الله بن سبأ)، وغير هذا من المباحث التي ثبت بطلانها وبراءة الشيعة منها، وتصدّى لها علماؤهم بالنقد والتجريح، وفصّل الحديث فيها العلامة محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه أصل الشيعة وأُصولها)(40).
ولكي يدرك القارئ الخطورة الكبيرة في منهجية الوهابية في بيان (حقائق الاثني عشرية وخصائصها)؛ نذكر مثالاً هاماً يبيّن ويوضّح مشكلة خلط أتباع الوهابية بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، فقد نقل الوهابية في كتبهم أن ّ الرافضة ـ ويقصدون الاثني عشرية لأنّهم يخلطون بين الاثني عشرية والرافضة ـ تقول: (إنّ عليّاً في السحاب، فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي منادٍ من السماء، ـ يريد علياًَ ينادي ـ: اخرجوا مع فلان)!
ومن المعلوم أنّ الذين يزعمون أنّ علياً في السحاب هم الغلاة لا الاثني عشرية.. كما أن الذين يزعمون ان الإمام علياً ينادي من أعلى السحاب:
(اخرجوا مع فلان) هم الغلاة لا الاثني عشرية!
ونحن بعد دراسة عميقة في المذهب الاثني عشري عند كبار علمائه، وفي أعظم مدينة علمية للاثني عشرية في العصر الحديث؛ وجدنا الاثني عشرية في كتبهم القديمة والحديثة يتبرؤون ويلعنون من يقول: (إن علياً في السحاب أو إنه ينادي من السحاب)! والثابت عندهم هو عين الثابت عند أهل السنّة، وهو: أنّه عندما يخرج الإمام المهدي ـ الذي أجمع على خروجه أهل السنّة والاثنا عشرية ـ سوف ينادي ملك من السماء باسمه، ويأمر بنصرته. ومن ثمَّ يجب علينا أن لا نعتمد على كتب الوهابية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
وهكذا؛ تتجلى في هذه المقتطفات الكبيرة وا لهامة مشكلة خطأ الوهابية في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية أو مشكلة خلط الوهابية بين الاثني عشرية والغلاة، وكيف كانت سبباً في اخفاقات المنهج الوهابي في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها على مدار فترة زمنية طويلة، وكانت سبباً في التباين الشديد بين حكم الوهابية وحكم أهل السنّة على هذه الحقائق وتلك الخصائص.
والغرض من توضيح مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية أو مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، والتي توسعنا عامدين في عرضها من خلال أقوال كبار مفكري أهل السنة وعلمائهم؛ إنّما يعود للأسباب التالية:
أولاً: خطر هذه المشكلة باعتبارها كانت وما زالت السبب الأول في توسيع الاختلاف بين السنّة والاثني عشرية، بعد أن اندسَّ الوهابيون في صفوف أهل السنّة؛ كما أصبحت هذه المشكلة سبباً في توسيع الاختلاف بين السنّة والوهابية.
ثانياً: خطأ منهج الوهابية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها كان نتيجة حتمية لهذه المشكلة. ولا شك أنّ خطأ منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية كان سبباً لاختلاف أهل السنّة مع الوهابية في تفسير مفهوم الاثني عشرية.
ثالثاً: معرفة هذه المشكلة بينّت لنا أهمية هذه المرحلة، أي مرحلة المعرفة الانتسابية؛ لأنّها قاعدة رئيسية في هذا المنهج الذي رسمناه من أجل تصحيح منهج الوهابية في دراسة حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه، ومن أجل التقريب بين الاثني عشرية والوهابية، ومن أجل التقريب بين أهل السنة والوهابية كما أسلفنا في أوائل البحث عن هذه المرحلة.
رابعاً: يكتسب البحث عن مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة أهمية كبيرة، لأنّ مشكلة الخلط بين الحقائق والأوهام تمثل أكبر خطر يهدد جميع الديانات والمذاهب الدينية. وإذا كانت الأفكار المادية الإلحادية تمثل أكبر عدو خارجي للديانات والمذاهب الدينية، فإنّ مشكلة الخلط بين الحقائق والأوهام تشكّل أكبر عدوٍ داخلي يهدد كيان الديانات والمذاهب الدينية. وإذا كان الفكر المادي يثير الشبهات ضد الديانات والمذاهب الدينية، فإنّ مشكلة الخلط بين الحقائق وبين الأوهام تصر على التفسير الغريب والفهم البعيد لحقائق الأديان والمذاهب الدينية، وتعطي صورة مشوهة لكل المذاهب الدينية، وبالتالي تجعل العقل البشري ينفر من الدين ـ أي دين ـ ويتجه صوب الإلحاد والمذاهب اللادينية.
خامساً: لقد كانت مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وبين فرق الغلاة، عند الوهابية هي السبب الأول الذي جعلهم يقولون بأنّ هنالك صلة بين الاثني عشرية وبين غلاة الصوفية، في حين أن علماء الاثني عشرية يكفرّون الطرق الصوفية المغالية.
كان هذا توضيحاً وتبييناً للمرحلة الأُولى في معرفة المذهب الاثني عشري.
* * * *
ومن المسائل ا لهامة في المرحلة الأولى لمعرفة المذهب الاثني عشري، معرفة أسباب وعوامل خطأ الوهابية في المرحلة الأولى لمعرفة الاثني عشرية، فالخطأ في هذه المرحلة يساوي ايجاد مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة.
وسوف نبحث ـ الآن ـ عن أسباب وعوامل خطأ الوهابية في مرحلة المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري، أو بتعبير آخر: أسباب وعوامل مشكلة الخلط بين المذهب الاثني عشري وفِرَق الغلاة عند أتباع الوهابية. وهي ترجع إلى قسمين:
القسم الأول: الأسباب والعوامل التي ترجع إلى جهل أتباع الوهابية. وهي ترجع إلى عدة أسباب:
السبب الأُول: الجهل بمعنى الغلو.
السبب الثاني: الجهل بمعنى المذهب الاثني عشري.
السبب الثالث: الجهل بموقف المذهب الاثني عشري من الغلو وفِرَق الغلاة.
القسم الثاني: الأسباب والعوامل التي ترجع إلى طبيعة الوهابية. وهذه الأسباب ترجع إلى سببين رئسيين وهما:
السبب الرابع: طريقة التفكير عند الوهابية.
السبب الخامس: الخروج عن منهج أهل السنّة في التعامل مع المذهب الاثني عشري.
وقبل تناول هذه الأسباب بصورة مفصلة(41) نريد أن نبين للقارئ الكريم أننا لا نريد من البحث عن هذه المشكلة مجرّد (المعرفة الباردة)، إنّما نبتغي من القارئ الكريم أن يدرك خطورة هذه المشكلة على الوحدة الإسلامية المقدسة.. نبتغي أنّ تستحيل معرفة القارئ لهذه المشكلة إلى قوةٍ تفصله وتبعده عن الوقوع في حبا لها، ومن ثمَّ آثرنا أن نرسم هذه المشكلة على شكل قنبلة يدوية من أجل تجسيم وتصوير شدّة خطرها على وحدة المسلمين، فهي المشكلة التي وسعت دائرة الخلاف بين السنّة والاثني عشرية من جهة، وبين الاثني عشرية والوهابية من جهة أُخرى، وبين السنّة والوهابية من جهة ثالثة.
وهذه هي صورة المشكلة مع الأسباب الخمسة التي كانت وراء تكوين أو توسيع هذه المشكلة رسمناها بالشكل التالي:


الشكل رقم (2) كما يرى في الصورة يعبّر بوضوح عن خطورة مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة.. فقد رسمنا العقل الوهابي الذي أُصيب بهذه المشكلة على صورة قنبلة يدوية.
وكما ترى في الشكل فإننا رسمنا الأسباب الخمسة المكونة أو الموسعة للمشكلة عند الوهابية بصورة الأسهم التي تقوم بتعبئة القنبلة اليدوية أو العقل الوهابي بالمواد المفجِّرة، وهو تعبير حاسم وصريح عن النتائج الخطيرة التي ستنبثق من هذه المشكلة الخبيثة، فعندما يُستكمل تعبئتها سوف تنفجر فتمزق وحدة الصف بين السنّة والاثني عشرية من جهة، ثُمّ تمزق وحدة الصف بين السنّة والوهابية من جهة أُخرى، ثم تمزق وحدة الصف بين الاثني عشرية والوهابية من جهة ثالثة، وسوف تخلق اختلافاً شديداً بين منهج أهل السنّة في تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها وبين منهج الوهابية في تفسير هذه الخصائص وتلك الحقائق، وسوف تكون السبب الأول في خطأ أتباع الوهابية في تفسيرهم لحقائق الاثني عشرية وخصائصها.
النتائج السلبية لهذه المشكلة:
سوف نكتفي بالإشارة إلى الأخطاء التي طرأت على العقل الوهابي ـ من حيث لا يعلم ـ بعد أن تمكَّنت هذه المشكلة من السيطرة عليه وهي:
1 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة الأولى وهي: (حقيقة الألوهية والنبوة في المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين موقف الاثني عشرية من هذه الحقيقة وموقف الغلاة منها.
2 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة الثانية وهي: (حقيقة الشرائع والأحكام في المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين موقف الاثني عشرية من هذه الحقيقة وموقف الغلاة منها.
3 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة الثالثة وهي: (حقيقة أهداف المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين أهداف الاثني عشرية وأهداف فِرَق الغلاة.
4 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة الرابعة وهي: (حقيقة معنى بعض المصطلحات في المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه زيادة محتويات ومضامين جديدة وغريبة عن تلك المصطلحات، وانبثق منه خلط الوهابية بين معاني تلك المصطلحات عند أهل السنّة وبين معانيها عند الاثني عشرية.
5 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة الخامسة وهي: (حقيقة منابع المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين منابع الاثني عشرية ومنابع فِرَق الغلاة.
6 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة السادسة وهي: (حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين حقيقة معنى الإمامة عند الاثني عشرية وحقيقة معناها عند فِرَق الغلاة، والخلط ـ أيضاً ـ بين حقيقة معنى الإمامة عند الاثني عشرية وبين معنى الإمامة عند أهل السنّة.
7 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة السابعة وهي: (حقيقة هوية المذهب الاثني عشري)، والذي انبثق منه الخلط بين هوية الاثني عشرية وهوية فِرَق الغلاة.
8 ـ الخطأ في تفسير الحقيقة الثامنة وهي: (حقيقة نشأة المذهب الاثني عشري وعلل هذه النشأة)، والذي انبثق منه الخلط بين نشأة الاثني عشرية ونشأة فِرَق الغلاة من جهة، والخلط بين علل نشأة الاثني عشرية وبين علل نشأة فرق الغلاة من جهة أُخرى.

النتيجة النهائية لهذه الأخطاء الثمانية:

لقد تولّدَ من هذه الأخطاء الثمانية قضية خطيرة وهي: الخطأ في تفسير (خصائص المذهب الاثني عشري) وبالتالي أدّى إلى الخلط بين خصائص الاثني عشرية وخصائص فِرَق الغلاة.
وحتى يتضح للقارئ أنّ هذه الأخطاء الثمانية الخطيرة في تفسير حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه قد انبثقت من انفجار مشكلة الخلط بعد استكمال أسبابها الخمسة؛ قمنا برسم صورة تلك المشكلة الخبيثة وهي في حالة الانفجار الخطير.. ورسمناها بهذا الشكل:


 والشكل (3) ـ كما يُرى في الصورة ـ يعبّر بوضوح صريح وحاسم عن الارتباط الوثيق بين الأسباب الخمسة التي كونت المشكلة، وبين هذه الأخطاء الثمانية الخطيرة التي انبثقت من تلك الأسباب.
وعندما نعيد النظر في الشكل رقم (2)، ثم ننظر للمرة الثانية إلى الشكل رقم (3) سوف نرى في الشكل الثاني الأسهم الخمسة، التي تعبّر عن الأسباب الخمسة، وهي تتجه صوب العقل الوهابي لتكوّن هذه المشكلة، أمّا الشكل الثالث فسوف نلاحظ تلك الاسهم تتجه في اتجاه معاكس لاتجاهها في الشكل الثاني، وفي هذه دلالة صريحة بأنّ هذه الاخطاء الثمانية هي آثار ضرورية لتلك الأسباب الخمسة.
وعندما تقارن بين الشكل الثاني والشكل الثالث وتعيد النظر فيهما سوف يتضح لك أنّ الشكل الثالث يرسم انفجاراً شديداً للقنبلة اليدوية التي تم تعبئتها في الشكل الثاني.
وهذا تعبير صريح بأنّ انفجار المشكلة ـ التي نتج عنها الاخطاء الثمانية الخطيرة ـ كان مساوياً من حيث القوة لنسبة المواد الخمسة المفجِّرة، أو الأسباب الخمسة الخبيثة التي كوّنت أو وسّعت تلك المشكلة التي انفجرت داخل العقل الوهابي، ووسّعت دائرة الخلاف بين السنّة والاثني عشرية من جهة، وبين الوهابية والاثني عشرية من جهة أُخرى، وبين السنّة والوهابية من جهة ثالثة.
* * * *
إلى هنا اتضح لنا أنّ هذه الدراسة ترسم المنهج السليم في عرض المذهب الاثني عشري، وتحاول تصحيح منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية؛ كما تحاول طرح منهجٍ جديدٍ في الحوار مع الوهابية، كما تبذل جهداً كبيراً من أجل التقريب بين الاثني عشرية والوهابية ومن أجل التقريب بين أهل السنّة والوهابية واتضح لنا ـ أيضاً ـ أنّ هذه الدراسة للمذهب الاثني عشري تمر بمراحل ثلاث؛ المرحلة الأولى منها درسنا مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وبين فرق الغلاة عند الوهابية، وقلنا: بأنّ هذه المشكلة تمثّل في الحقيقة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، وذكرنا أنّ المرحلة الأُولى تُمثل رأس ا لهرم؛ لأنّ الخطأ في هذه المرحلة سوف يؤدّي بشكل حتمي إلى سراية الخطأ إلى المرحلة الثانية، أي مرحلة المعرفة التحليلية للمذهب الاثني عشري، وإلى المرحلة الثالثة، أي مرحلة المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري. وبالتالي سوف يؤدي الخطأ في المرحلة الأُولى إلى عدم إدراك الحقائق الثمان للمذهب الاثني عشري التي سوف ندرسها في المرحلتين الثانية والثالثة، وإلى عدم إدراك خصائص المذهب الاثني عشري التي سندرسها في قاعدة ا لهرم.
إذن، فكل الأخطاء التي وقعت في أجزاء وطبقات (هرم المذهب الاثني عشري) إنّما كانت منبثقة ومتولِّدة من الخطأ في رأس ا لهرم، أي الخطأ في المرحلة الأولى.
ونحن من أجل بيان وتصوير وتجسيم هذا المنهج الجديد في رسم المذهب الاثني عشري رسمنا (هرم المذهب الاثني عشري) بصورةٍ واضحة، تبين كل خطوات هذه المنهج المرسوم؛ من أجل تصحيح منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية، ومن أجل التقريب بين الاثني عشرية والوهابية، ومن أجل التقريب بين أهل السنّة والوهابية وهذه هي صورة المنهج على شكلٍ هندسي هرمي:


وهرم المذهب الاثني عشري ـ كما يُرى في الصورة ـ يعبّر بوضوح حاسم عن المنهج الذي ذكرناه بلا لبسٍ أو إبهام، ويبين أنّه لا بد لنا قبل البحث عن المرحلة الثانية (مرحلة المعرفة التحليلية للمذهب الاثني عشري) أن نبدأ بالبحث عن المرحلة الأُولى، أيّ مرحلة المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري، والتي نعالج فيها مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفِرَق الغلاة عند الوهابية، حتى نتجنب الخطأ في فهم حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
كما ترى في الشكل ـ أيضاً ـ أنّ المرحلة الأُولى تقع في رأس ا لهرم، تعبيراً عن أهميتها، وتبييناً بأنّ الخطأ فيها سوف يؤدي إلى سقوط خطير وانزلاق كبير من أعلى هرم المذهب الاثني عشري إلى أسفله، ولو لاحظنا مرحلة رأس ا لهرم لاستنقذنا أنفسنا من خطر السقوط. وهذه المرحلة هي وراء كل أخطاء أتباع المنهج الوهابي في دراساتهم عن الاثني عشرية.
وعند إعادة النظر في الشكل ا لهرمي الاثني عشري سوف نرى (مرحلة المعرفة التحليلية لحقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه) تقع في الطبقة الثانية بعد طبقة رأس ا لهرم الاثني عشري، وهو تعبيرٌ حاسم عن درجة ومرتبة هذه المعرفة التي لا ينبغي أن تتقدم أو تتأخر عنها. ونحن نشاهد في الشكل ا لهرمي الاثني عشري الحقائق الاربع التي هي من صميم هذه المرحلة، والتي يجب دراستها وتحليلها في هذه المرحلة.
وعندما نعيد النظر في الشكل ا لهرمي الاثني عشري سوف نجد أنّ موضع (المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري) في الطبقة الثالثة، وهو تعبير صريح عن درجة ومرتبة هذه المعرفة التي لا ينبغي أن تتقدم أو تتأخر عنها، ونشاهد ـ كذلك ـ الحقائق الأربع ـ من الحقيقة الخامسة إلى الحقيقة الثامنة ـ التي هي من صميم هذه المرحلة، والتي يجب تحليلها ودراستها في هذه المرحلة، ونشاهد في الشكل ا لهرمي الاثني عشري ـ أيضاً ـ أنّ الطبقة الرابعة والأخيرة هي موضع وموقع (خصائص الاثني عشرية)، وهو تعبير صريح في أنّ (خصائص الاثني عشرية) لا يمكن أن تدرك ما لم نستوعب المراحل الثلاث السالفة، والحقائق الثمان المرتبطة بالمرحلتين الأخريتين. ولا شك أنّ الشكل ا لهرمي الاثني عشري بطبقاته الأربع يعبّر عن مرتبة ودرجة وأهمية كل مرحلة.
ونحن عندما وضعنا المرحلة الأولى في الطبقة الأولى (رأس ا لهرم الاثني عشري) لأجل تبيين وتوضيح تأثيرها الخطير والكبير على بقية طبقات ا لهرم الاثني عشري، وحين تقع الحقيقة الأولى (حقيقة الألوهية والنبوة في المذهب الاثني عشري) في رأس الطبقة الثانية فإنّه تعبير عن أهميّة هذه الحقيقة، وعن سمّو مرتبتها التي لا يمكن أن ترتقي إليها بقية الحقائق السبع؛ فليس هنالك حقيقة في كتب الاثني عشرية ترتفع إلى مستوى هذه الحقيقة؛ لأنّها تؤكد على الفصل التام بين مقام الألوهية ومقام العبودية، وتجريد كل العباد من خصائص الألوهية. كما تؤكد ـ هذه الحقيقة ـ على ضرورة ختم النبوة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهي حقيقةٌ هامة وضرورية يَكْفرُ من ينكرها بإجماع علماء المذهب الاثني عشري.
وهنالك تنبيه لا بد من ذكره وهو أنّ حقيقة الإمامة (الحقيقة السادسة) وضعت في الشكل ا لهرمي الاثني عشري في القسم الثاني من الطبقة الثالثة، ولا شك أنّها في هذا الموضع والموقع متأخّرة ـ كثيراً ـ عن الرتبة والدرجة التي تناسب أهميتها وخطورتها، وهكذا؛ (غيبة الإمام الثاني عشر في المذهب الاثني عشري) ـ أيضاً ـ وضعت في أسفل نقطة في الشكل ا لهرمي الاثني عشري (قاعدة ا لهرم)، ولا شك أنّها في هذا الموضع والموقع من ا لهرم جاءت متأخّرة ـ كثيراً ـ عن الرتبة والدرجة التي تناسب أهميتها وخطورتها، وقد جعلناها في نهاية هرم الاثني عشرية؛ لأننا أدركنا ـ من خلال انتقالنا من الوهابية إلى المذهب الاثني عشري ـ أنّ خاصّية غيبة الإمام الثاني عشر في المذهب الاثني عشري هي آخر ما يمكن أن يدركه أتباع المنهج الوهابي.
وهكذا؛ وضِعتْ (حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري) في مرحلة المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري وجعلتها الحقيقة السادسة في هذا الكتاب؛ لأنني رسمت هذا المنهج من أجل أن يدركه الوهابية. ومن خلال تجربتي السابقة فإنّني لم استوعب وأدرك (حقيقة الإمامة عند الاثني عشرية) إلاّ بعد أن استطعت تجاوز مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة (المرحلة الأولى)، وبعد أن استطعت تجاوز مرحلة المعرفة التحليلية العميقة للحقائق الأربع، وبعد أن استطعت الخروج من مشكلة الخلط ـ عندي ـ بين (منابع الاثني عشرية ومنابع الغلاة)، أي بعد أن أدركت الحقيقة الخامسة. وهكذا؛ شأن (خاصية الغيبة) فقد وضعتها في قاعدة ا لهرم الاثني عشري؛ لأنّها كانت آخر ما آمنت به من الاثني عشرية.
وإنّما ذكرت ذلك حتى لا يظن القارئ الكريم أننّي قصدت التقليل من شأن الإمامة ومن شأن غيبة الإمام الثاني عشر؛ المتفرعة عن حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري.
* * * *
وعندما نعيد النظر في الشكل ا لهرمي الاثني عشري سوف نلاحظ الخطوط الطولية المتصلة والمتحركة من رأس ا لهرم إلى قاعدته ونهايته. وهذه الخطوط المتصلة هي تمثيلٌ واضح وراسخ للاتصال الوثيق بين المراحل الثلاث ـ أي مرحلة المعرفة الانتسابية ومرحلة المعرفة التحليلة ومرحلة المعرفة الجذرية ـ في هذا المنهج، والاتصال الوثيق بين الحقائق الثمان المعروضة في المرحلتين الآخيرتين (مرحلة المعرفة التحليلية ومرحلة المعرفة الجذرية). كما أنّ هذه الخطوط الطولية تعبّر تعبيراً صريحاً عن الانبثاق الذاتي للمرحلة الثانية من المرحلة الأُولى والمرحلة الثالثة من المرحلة الثانية، وتعبّر ـ أيضاً ـ عن انبثاق خصائص الاثني عشرية من الحقائق الثمان، كما أنّ هذه الخطوط الطولية قاطعة في الدلالة ـ على ما قلناه سابقاً ـ على ضرورة التدرج في دراسة المراحل الثلاث، وفي دراسة الحقائق الثمان، وفي دراسة الخصائص الثلاث؛ فتلك المواضع والمواقع المعيّنة للمراحل وللحقائق وللخصائص في ا لهرم لها دلالة صريحة في تجسيم وتصوير ضرورة التدرج في هذا المنهج، وفي عرض المراحل الثلاث للمذهب الاثني عشري، وفي عرض الحقائق الثمان المرتبطة بالمرحلتين الأخيرتين، وفي عرض الخصائص الثلاث؛ حتى نستطيع التقريب بين الاثني عشرية والوهابية، وحتى نتجنب ونبتعد عن الأخطاء التي انزلق فيها أتباع المنهج الوهابي في دراسة المذهب الاثني عشري. وقد انزلقوا في تلك الأخطاء بسبب أنّ طريقتهم في دراسة الاثني عشرية لا تستند على نظام فكري واحد ولا على نظام منهجي واحد.
ويشاهد القارئ الترابط المحكم بين طبقات ا لهرم وأجزائه، من قمته إلى قاعدته، وفي هذا دلالة صريحة على أنّه يجب أن ينظر إلى حقائق الاثني عشرية وخصائصها كوحدة متماسكة مترابطة متحدة، وفي إطار منظومة مشتركة، تدب فيها روح واحدة، ومن ثَمَّ فهي (الحقائق والخصائص) تشكل مجموعة واحدة.
وكل حقيقة من حقائق الاثني عشرية وكل خاصّية من خصائصها لا بد أن تنظر في اطار هذه المجموعة المترابطة المتصلة، وحين ننظر إلى حقيقة واحدة من حقائق الاثني عشرية، أو ننظر إلى خاصّية من خصائصها، بالنظرة الجزئية المفردة المعزولة عن بقية الحقائق والخصائص؛ فإنّنا لا يمكن أن نُدِرك عظمة روح هذه الحقيقة التي نظرنا إليها بمفردها، ولن ندرك ما فيها من صفات الجمال والكمال. كما أنّ النظرة التجزيئية الفردية لحقيقة من حقائق الاثني عشرية، أو خاصّية من خصائصها دون النظر إلى بقية حقائقها وخصائصها؛ كانت من الأسباب الرئيسية التي جعلت أتباع المنهج الوهابي ينزلقون في أخطاء كبيرة في الكثير من أحكامهم على حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
ويلاحظ المشاهد للشكل ا لهرمي الاثني عشري أنّ هنالك تسلسلاً ظاهراً وصريحاً، وهو تعبير حاسم عن أنّ كل حقيقة من الحقائق الثمان للمذهب الاثني عشري تكون مقدمة للحقيقة التي بعدها، وفي نفس الوقت تكون نتيجة للحقيقة التي قبلها، والإيمان بالحقيقة الأُولى يقتضي الإيمان بالحقيقة الثانية.. وهكذا.. وهكذا؛ إلى الحقيقة الثامنة.
ونحن إذا لم نستطع فهم الحقيقة الأُولى فإنه ليس بالامكان فهم بقية الحقائق؛ لما عرفت من أن هناك تسلسلاً رياضياً وعلمياً بينها.
وحينما نعيد النظر في الشكل ا لهرمي الاثني عشري سوف نلاحظ أنّ هنالك خطوطاً عرضية في ا لهرم الاثني عشري. وهو تعبير حاسم عن قاعدة أساسية في هذا المنهج ـ الذي رسمناه من أجل تصحيح منهج الوهابية في دراسة المذهب الاثني عشري ومن أجل التقريب بين الاثني عشرية والوهابية ـ تقول: بأنّه يجب التأمّل والتدقيق والتعمق والدراسة التحليلية والموضوعية لكل مرحلة من المراحل الثلاث للمذهب الاثني عشري، ولكل حقيقة من حقائق هذا المذهب، ولكل خاصّية من خصائصه؛ فقد لمسنا ـ عند مراجعة ودراسة الكتب التي كتبت عن المذهب الاثني عشري حسب المنهج الوهابي ـ أنّ عدم التأمّل والتدقيق، وعدم التحليل الكامل للمراحل والحقائق والخصائص؛ كان وراء كل الأخطاء التي ارتكبوها في حق المذهب الاثني عشري.
ولو أعاد القارئ النظر إلى الشكل ا لهرمي الاثني عشري سوف يرى أننا رسمنا خطوطاً خارجية في السطح الخارجي للهرم، تشمل وتعم كل ا لهرم. وهو تعبير صريح وواضح عن حقيقة هامة في هذا المنهج تقول: بأنّ هنالك تشابكاً وانسجاماً بين المراحل والحقائق والخصائص، بحيث إنّ الخطأ في فهم المرحلة الأُولى ـ التي في رأس ا لهرم ـ يقتضي سريان الخطأ إلى المرحلتين الأخيرتين، والإصابة في فهم أول مرحلة يقتضي الإصابة في فهم المرحلتين الأخيرتين..
وهكذا.. وهكذا.. في الحقائق الثمان وفي الخصائص الثلاث أنّه لا يمكن أن نخطئ في (مرحلة المعرفة الانتسابية للمذهب الاثني عشري)، ثُمّ نصيب في (مرحلة المعرفة التحليلية لهذا المذهب) أو (المعرفة الجذرية له)؛ لأنّ العلاقة بين المعارف الثلاث للمذهب الاثني عشري متشابكة..
وإذا أعاد القارئ نظره إلى ا لهرم يرى أنّ قمته تبدأ ضيقة، ثم تتسع شيئاً فشيئاً كلَّما اتجهت نحو القاعدة. وهذا يعبّر عن حقيقة هامة أشرنا إليها وهي أنّه عندما أخطأ أتباع المنهج الوهابي في مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة ـ رأس ا لهرم ـ أخذت أخطاؤهم في فهم حقائق الاثني عشرية تتسع يوماً بعد يوم؛ كما أنه يعبّر عن حقيقة هامة وهي أنه عندما أخطأ أتباع المنهج الوهابي في مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة أخذ اختلافهم مع الاثني عشرية ومع أهل السنّة يتسع يوماً بعد يوم، حتى كادتْ الوهابية أن تنعزل عن الاثني عشريين وعن أهل السنّة.
ولن يستطيع أتباع المنهج الوهابي معرفة حقائق الاثني عشرية وخصائصها إلاّ إذا أدركوا الفرق بين الاثني عشرية وفِرَق الغلاة.
* * * *
والآن حان الوقت للبحث عن أسباب وعوامل خطأ الوهابية في هذه المرحلة الأُولى لمعرفة المذهب الاثني عشري، وقد انبثقت من الخطأ في هذه المرحلة وتولّدت مشكلة الخلط بين المذهب الاثني عشري وفرق الغلاة.
* * * *
ما هي أسباب وعوامل تكوين وتوسيع هذه المشكلة؟
قد أشرنا إليها فيما سبق والآن نريد أن نبحث عنها بنفس الترتيب الذي ذكرناه، ولكنا قبل البحث عن هذه العوامل والأسباب سوف نذكر تمهيداً هاماً، ثُمّ نعود إلى دراسة الأسباب الخمسة(42) التي كوّنت تلك المشكلة.
ولعل من الحتميات التي يجب معرفتها قبل دراسة أسباب هذه المشكلة الخطيرة أن ندرك هذه الحقائق ا لهامة:
الحقيقة الأولى: إنّ مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة ـ لدى المنهج الوهابي ـ لم تلِد فجأةً بدون مقدمات وإرهاصات اقتضت ولادتها، بل هي وليدة عوامل وأسباب كثيرة استغرقت فترة زمنية طويلة، وحينما استكمِلت الأسباب وجدت المشكلة. ومن الثابت ـ علمياً ـ أنّ المشكلات التاريخية ليست وليدة لحظة واحدة؛ كما هو شأن بعض الاكتشافات العلمية المفاجئة.
الحقيقة الثانية: إنّ عملية تحديد أسباب ظهور المشكلات التاريخية عملية شديدة الصعوبة، وليست كعملية اكتشاف أسباب الأمراض البسيطة، ومن ثَمّ سوف يلاحظ القارئ أنّ بعض الأسباب التي سوف نذكرها لم تكن سبباً في وجود المشكلة، بل كانت سبباً في توسيعها.
الحقيقة الثالثة: إنّه لا يمكن معرفة أسباب هذه المشكلة الخطيرة إلاّ بعد دراسة تاريخ هذه المشكلة، ومن ثمّ راجعنا كل كتابات الوهابية عن الاثني عشرية، واستكشفنا من خلال دراستها في سنوات عديدة تاريخ المشكلة، ثُمّ تعرّفنا على أسباب المشكلة بعد معرفة تاريخها، وتبين لنا أنّ جذور هذه المشكلة في الفكر الوهابي ترجع إلى زمن ظهور الوهابية في عصر الدولة العثمانية.
لقد كانت الدولة العثمانية تحارب المذهب الاثني عشري محاربةً شديدة؛ بسبب الصراع على السلطة بين الدولة العثمانية التركية وبين الدولة الصفوية الفارسية، ومن ثَمّ نجد الدولة العثمانية التركية تطرح مشروعاً جديداً وغريباً وهو مشروع (تكفير الاثني عشرية واستباحة دمائهم)؛ من أجل ترغيب شعوب الدولة العثمانية في مقاتلة إخوانهم من الاثني عشرية. وتسرّب هذا المشروع إلى القارة ا لهندية، وصدر كتابٌ في ا لهند التزم بالمشروع العثماني ـ الذي تأثر بالمشاريع الاستعمارية التي تسعى إلى محاربة الوحدة الإسلامية ـ، وهو كتاب (التحفة الاثني عشرية)، من تأليف شاه عبد العزيز الدهلوي (ت 1239 هـ)، وبعد ترجمته واختصاره قامت الدولة العثمانية بتوزيعه في وسط أهل السنّة. ووسّع هذا الكتاب دائرة الخلاف بين السنّة والاثني عشرية، وكان له الأثر الكبير على منهج الوهابية في التعامل مع الاثني عشرية، وعلى إيجاد مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الوهابية.
وقد ظهر أثر كتاب (التحفة) على محبِّ الدين الخطيب ـ رحمه الله ـ(43) في كتابه (الخطوط العريضة في دين الإمامية) الذي يعتبر صورة مختصرة عن (التحفة الاثني عشرية).
وظلّت طريقة صاحب (التحفة الاثني عشرية) مؤثرة على أتباع المنهج الوهابي في دراسة الاثني عشرية؛ كما نلمسُ ذلك بصورة صريحة في كتابات إحسان ا لهي ظهير عن الاثني عشرية، والتي ما زال لها التأثير الكبير على كل ما كتبه الوهابيون عن الاثني عشرية.
ولا يخفى على المؤرخين الظروف السياسية التي صدر فيها كتاب (التحفة الاثني عشرية)؛ فقد أجمع مؤرخو الديار ا لهندية ـ التي صدر فيها كتاب التحفة ـ أنّ الكتاب صدر عند انتهاء القرن الثاني عشر ا لهجري، في زمنٍ كان الصراع السياسي بين ملك مملكة (أوده) في لكنهو ـ والذي كان مناصراً للاثني عشرية ـ وبين الملوك المناصرين لأهل السنّة؛ قد بلغ أوجه وذروته.
وهكذا؛ نجد في التاريخ أنّه كلّما اشتدّ الصراع السياسي بين الملوك والسلاطين ظهرتْ الكتب الطائفية التي تخدم الملوك لا الشعوب المحكومة المظلومة، ومن ثمَّ نجدُ هذه الكتب الطائفية تُهدى إلى الملوك، وكتاب (التحفة الاثني عشرية) بعد ان اختصره وهذبه محمود شكري الآلوسي ـ رحمه الله ـ أهداه إلى السلطان وقال:
(... وقدمته لأعتاب خليفة الله في أرضه، ونائب رسوله عليه الصلاة والسلام في إحياء سنته وفرضه، الذي راعى رعاياه بجميل رعايته، ودبَّرهم بصائب تدبيره وواسع درايته، وسلك أحسن المسالك في استقامة أمورهم، وصيانة نفوسهم، وحراسة جمهورهم، وخَصَّ من بينهم علماءَ دولته، وصلحاء ملته، بحسن ملاحظته، وفضل محافظته، تمييزاً لهم بالعناية، وتخصيصاً بما يجب من الرعاية، ووضعاً للأُمور في مواضعها، وإصابة مواقعها، ألا وهو أمير المؤمنين، الواجب طاعته على الخلق أجمعين، سلطان البرَّين، وخاقان البحرين، السلطان ابن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد خان ابن السلطان الغازي عبد المجيد خان.
اللهم أيده بنصرك، وانصره لتأييد ذكرك، واطمس شرَّ سُوَيداء قلوب أعدائه وأعدائك، ودقَّ أعناقهم بسيوف قهرك وسطوتك)(44).
إلى أن يقول:
(وغرضي من عرض ذلك الكتاب إلى ساحته الرفيعة الأعتاب أن يذرَّ إكسير نظره عليه، ليحلَّ محلَّ القبول لديه.. فهناك ـ إن شاء الله تعإلى ـ يحصل الأمل، وأحضى بما رجوته من قبول العمل.. وقد رتبته على تسعة أبواب، وإلى الله الزلفى وحسنُ المآب.
الباب الأول: في ذكر فرق الشيعة وبيان أحوا لهم...)(45).
وكان الغرض من نقل هذا الكلام في مدح السلطان تعريف القارئ الكريم بأنّ الكتب الطائفية كانت تخدم السلاطين والملوك، لا المحكومين والشعوب.
لكننا نأسف ـ كثيراً ـ بأنّ هذا الكتاب ـ الذي صدر في ظروف سياسية خاصة ـ أصبح مؤثراً على الوهابيين في دراسة الاثني عشرية؛ ينهجون منهجه، ويسيرون على منواله، ويغضّون الطرف عن ردود كبار أهل السنّة على محتوياته. وهذا الكتاب وليد السياسة ومَا أتَتْ به السياسة، سوف تذهب به السياسة.
لقد كانت المقتضيات السياسية للدولة العثمانية تستوجب وتحتّم تشويه المذهب الاثني عشري، وخاصّة بعد سقوط بغداد في يد الدولة الإيرانية الاثني عشرية، حينئذ شعرت الدولة العثمانية بخطرٍ جدي يهدّد كيانها، واستيقنت بأنّ أهل السنّة لن يقاتلوا الاثني عشرية إلاّ إذا اقتنعوا بأنّ الاثني عشرية من فرق الغلاة لا من فرق المسلمين. وهكذا؛ ظهرت مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، مستمدة ـ ابتداءً ـ من الظروف السياسية في عهد الدولة العثمانية. وتوّسعت المشكلة بعد ظهور الوهابية التي استفادت من الكتب التي صدرت في عهد الدولة العثمانية، ولكنها أضافت إليها أموراً كثيرة.
وكل هذه الكتب تحملُ الطابع الإعلامي لا الطابع العلمي التحليلي، ومن المعلوم أنّ الطابع الإعلامي يسعى لتشويه صورة الخصم، ويرفض الحوار العلمي التحليلي مع خصمه.
وبعد أن سقطت الدولة العثمانية نادى علماء أهل السنّة إلى ضرورة إحياء منهج قدماء أهل السنّة في التعامل مع الاثني عشرية، بعد أن اختفى ذلك المنهج في عصر الدولة العثمانية الذي تزامن مع عصر ظهور الوهابية، وأصدر الإمام الأكبر محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر، وكبير علماء أهل السنّة؛ تلك الفتوى التي اعتبرت المذهب الاثني عشري مثل المذاهب الأربعة السنّية، ويجوز للمسلم أن يختار أي مذهب من تلك المذاهب الخمسة الإسلامية.
وهذا الذي ذكرناه في هذه الحقيقة هو جانب مختصر من (تاريخ مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفِرَق الغلاة عند الوهابية)، ولكن على قارئ هذا الكتاب أن يرجع إلى الادلة القوية المفصلة عن تاريخ هذه المشكلة، التي سنذكرها في البحوث القادمة باعتبارها هي الأصل. وهذه الحقيقة لم تجئ هنا إلاّ لمجرد الإشارة السريعة المختصرة.
الحقيقة الرابعة: إنّه لا بد من القيام بدراسة تحليلية تسعى إلى تفكيك وتجزئة عناصر (مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفِرق الغلاة عند الوهابية)، ولا بد من دراسة كل جزءٍ وكل عنصر من أجزاء وعناصر هذه المشكلة بصورة منفردة، ومن ثمّ قمنا بدراسة (الغلو)، وهو العنصر الأول لهذه المشكلة، ثُمّ درسنا
(الاثني عشرية)، وهي العنصر الثاني لهذه المشكلة، ثُمّ درسنا (نَوعَ العلاقة بين الاثني عشرية وبين الغلو)، وهي العنصر الثالث لهذه المشكلة؛ لنرى أنّه هل توجد علاقة توافق واتفاق أم أنّ هنالك اختلافاً عميقاً بين الاثني عشرية والغلو؟ وما هو موقف فِرَق الغلاة من الاثني عشرية؟ وما هو موقف الاثني عشرية من فِرَق الغلاة؟
ثُمّ درسنا (الوهابية) وهي العنصر الرابع لهذه المشكلة، فما هو ميزان معرفة الوهابية بالاثني عشرية؟ هل الوهابية تجهل حقيقة الاثني عشرية؟ وما هي طريقة الوهابية في التعامل مع الفرق الإسلامية بصفةٍ عامة؟ وما هي طريقة الوهابية في التعامل مع الاثني عشرية بصفة خاصة؟ وما هو تعريف الغلو عند الوهابية؟ وما هو تعريف الاثني عشرية عند الوهابية؟ وما الفرق بين منهج أهل السنّة في التعامل مع الاثني عشرية وبين منهج الوهابية في التعامل معها؟ ما هي طريقة التفكير عند الوهابية؟ وما هو تأثير طريقة الوهابية في التفكير على طريقتهم في التعامل مع الاثني عشرية؟
إنّه لا يمكن لنا أن ندرك خطأ الوهابية في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، أو بتعبير أصح: لا يمكن لنا أن ندرك مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الوهابية إلاّ بعد دراسةٍ علمية تحليلية عميقة لهذه العناصر الأربعة: (غلو + الاثنا عشرية + نوع العلاقة بين الغلو وبين الاثني عشرية + الوهابية).
وهذه المشكلة الخطيرة قد مزقت الوحدة الإسلامية المقدّسة التي نعتقد أنّها من أهم أُصول الدين، ونرى أنّ الحفاظ عليها فرض من الفروض العينية التي تجب على كلِّ مسلم، كما نرى أنّ التقريب بين الاثني عشرية والوهابية من أهم الواجبات الإسلامية.
الحقيقة الخامسة: بعد قراءة طويلة لكتب الوهابية حول الاثني عشرية، والتي كتبها كتابٌ مصابون بمرض الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة؛ وجدنا أنّ هؤلاء الكتاب ينقسمون إلى ستة أصناف:
الصنف الأول: كتبوا ضد الاثني عشرية من أجل ارضاء بعض الملوك الذين لهم خصومة شديدة مع الدولة الاثني عشرية الإيرانية، ومن ثمَّ نجد كتابتهم تحملُ طابعاً إعلامياً أمنياً وكأنها صدرت من جهازٍ أمني استخباراتي استعماري صليبي، ومن ثَمَّ فهي تمثّل السياسة الخارجية للدولة التي طَبَعتْ هذه الكتب، وليس لها صلة بحقيقة المذهب الاثني عشري. وهؤلاء الصنف من الكتّاب يُطلق عليهم (كتاب الملوك والسلاطين)، وكان لهذا الصنف من الكتاب الحصة الكبرى في توسيع مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة.
الصنف الثاني: وهم السذج البسطاء الذين وقعوا فريسة لمكر (الصنف الأول)، ومن سذاجتهم أنّهم كانوا يحسنون الظن بكتّاب الملوك والسلاطين ويصدقونهم في قو لهم: بـ ((أنّ الاثني عشرية من فرق الغلاة لا مِنْ فِرَق المسلمين))!
وقد كنت من هذا الصنف عندما كتبتُ كتابي (الصلة بين الاثني عشرية وفِرق الغلاة).
الصنف الثالث: كانوا من الكتّاب الذين لا يتصفون بالبساطة والسذاجة، بل تنقصهم الدقة والعمق والدراية. ومثل هذا الصنف يقعون في الخلط والتخليط من حيث لا يعلمون، وتراهم يجعلون من الغلو ما ليس منه، ويثبتون للاثني عشرية ما ليس منها، من دون دليل أو برهان، وتراهم يفهمون بعض حقائق الاثني عشرية وخصائصها فهماً غريباً؛ بسبب عدم التأمّل والدقة عند قراءتها، وتراهم يخلطون بين التوحيد والشرك، فيتهمون المسلمين من أهل السنّة ومن الاثني عشرية بالشرك، وتراهم لا يميزون بين الشرك الأكبر المخرج عن الإسلام وبين الشرك الأصغر الذي قد يوجد عند بعض المسلمين مع بقاء إسلامهم، وتراهم لا يميزون بين مراتب الكفر وأنواعه، فهم يخلطون بين الكفر الذي ليس له علاقة بالردّة والخروج عن الإسلام وبين الكفر الذي يعطي مفهوم الردّة والارتداد عن الإسلام، ومن ثَمَّ يتهمون الفرق الإسلامية المخالفة لهم بالردّة والخروج عن الإسلام، ويحكمون على كثيرٍ من المسلمين السنّة والاثني عشرية بالكفر الأكبر، وتراهم يخلطون بين الفلسفة والزندقة، فيتهمون فلاسفة المسلمين بالزندقة، وتراهم لا يميزون بين التصوّف المعتدل والتصوّف المنحرف، فيحكمون على كلِّ الصوفية بالكفر، وتراهم لا يميزون بين مراتب الغلو وأنواعه، فهم يخلطون بين الغلو الذي ليس له علاقة بالردّة والكفر وبين الغلو الذي له علاقة بذلك.
الصنف الرابع: وهم المصابون بالطائفية والحزبية المذهبية والكراهية والخصومة لكل من خالفهم من المذاهب الإسلامية، والكراهية والخصومة تمنعهم من سماع المذهب الآخر المخالف لمذهبهم؛ لأنهم يحكمون على كل مذهب إسلامي يخالفهم بالغلو قبل سماعه وقبل قراءته، فلديهم أحكامٌ مسبقة ضد هذه المذاهب الإسلامية قبل معرفتها.
وهذا الصنف يحسبون أنّ كلّ من خالفهم في فكرةٍ أو رأي يعدّ من الغلاة المنحرفين، ومنْ ثمّ حكموا على الاثني عشرية وعلى جمهور أهل السنّة بأنّهم من فِرَق الغلاة؛ لأنّهم رفضوا بعض أفكارهم وآرائهم الخاصّة.
الصنف الخامس: وهم الذين رأوا أنّ الاثني عشرية قدّموا بعض الإشكالات والتنبيهات للوهابيين، ولم يتحمّلوا هذه التنبيهات وتلك الإشكالات، واعتبروها هجوماً على الفكر الوهابي، وأثناء حماسة الدفاع عن الوهابية ضد تلك الإشكالات ـ التي كان ينبغي أن يجيبوا عنها ـ أنكروا الكثير من المسلمات عند أهل السنّة وعند الاثني عشرية، لأنّ ردة الفعل عند كتاب الوهابية جعلتهم يخرجون من الحالة العقلية المنطقية إلى الحالة الانفعالية العاطفية، فواجهوا تلك الإشكالات العلمية باتهامات تولّدت أثناء حماسة الدفاع عن الوهابية، وما كان من الوهابيين إلاّ أنْ جمعوا كل مقالات الغلاة التي ذكرها كُتَّاب الفِرَق من السنّة والاثني عشرية ثُمّ نسبوها للاثني عشرية ولجمهور أهل السنّة. وهكذا؛ ولّدت حركة ردة الفعل الوهابية خلطاً وتخليطاً خطيراً بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، بل وبين جمهور أهل السنّة وبين فرق الغلاة.
إنّ الوهابيين استحضروا أمامهم تلك الإشكالات العلمية والقوية التي أوردها الاثنا عشرية وكبار أهل السنة على الفكر الوهابي، وعجزوا عن معالجة تلك الإشكالات، وأدركوا أنّ هنالك نقصاً معيناً في الفكر الوهابي، واستنفذوا كل جهدهم في دفعه إلى أن استغرقوا كل قوةٍ لديهم دون جدوى، حينئذ خلقت ردت الفعل عندهم منهجاً خطيراً يسعى إلى صياغة حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه بصورة مشوهّة؛ لأنّ ا لهدف من تقرير تلك الحقائق والخصائص قد أصبح أسيراً لردّة الفعل، بحيث أصبح الرد على الاثني عشرية هو المحرّك الأول والأخير فيما تبذله الوهابية، وغاب عنهم ـ أثناء الاستغراق في الرد على هذا المذهب ـ أن يعرضوا حقائقه وخصائصه كما هي في ذاتها، وكما هي في كتب الاثني عشرية، وكما هي في كتب أهل السنّة الذين لم يتأثرّوا بالمنهج الوهابي.
الصنف السادس: وهذا أخطر أصناف الوهابية الذين كتبوا ضد الاثني عشرية؛ لأنّ أصحاب هذا الصنف اندسوا في صفوف البسطاء من الوهابيين، وألصقوا أنفسهم بالوهابية ـ والوهابية منهم بريئة ـ، وكتبوا كتباً في الدفاع عنها، وكانوا يسعون إلى تحقيق أهداف خطيرة من خلال الدخول في الجماعة الوهابية. هؤلاء عندما طردهم كبار علماء أهل السنّة، بعد أن اكتشفوا مآربهم الخبيثة المغرضة، وعندما أدركوا أنّهم يسعون بكل وسيلة للحصول على الجاه والشهرة والثروة؛ اضطروا للدخول مع الوهابية؛ من أجل أن يحققوا أغراضهم بعد أن فضحهم أهل السنّة. ومن أمثال هذا الصنف (عبد الله علي القصيمي النجدي) الذي سافر من المملكة العربية السعودية إلى مصر، وبعد أن طرده أهل السنّة من مصر واختلف مع علماء الأزهر الشريف، حينئذ كتب كتابه
(الثورة الوهابية)، الذي رحّب به علماء الوهابية في العالم ورفضه علماء أهل السنّة، وكتب ـ أيضاً ـ (الصراع بين الإسلام والوثنية)، وأطلق كلمة (الوثنية) على المذهب الاثني عشري، وفرح بسطاء الوهابيين بهذا الكتاب، ثم بعد ذلك أعلن القصيمي الإلحاد وأنكر الأديان السماوية، وهاجم الأنبياء، وأعلن الوهابية البراءة منه ولعنوه، ولكن بعد أن رسم لهم صورة غريبة عن الاثني عشرية، وما زالت هذه الصورة مؤثرة على بعض بسطاء الوهابيين إلى اليوم.
والسادسة: ومما ساعد على توسيع هذه المشكلة الخطيرة عند الوهابية الغموض الشديد الذي اكتنف بعض الكلمات، في القرن الأوّل ا لهجري والفترة الزمنية القريبة منه، بحيث إنّ قدماء أهل السنّة وقدماء الاثني عشرية كانوا يطلقون كلمة (التشيع) على الفرق المنتسبة للتشيع، والتشيع منها براء. ومثل هذه الأجواء هيّأت لخصوم الاثني عشرية أن ينسبوا إليها مقالات تلك الفرق المغالية التي أطلق عليها القدماء كلمة (التشيع)؛ من خلال التلاعب والخلط بين مفهوم ومضمون كلمة (الاثني عشرية) التي تعبر عن مذهب واحد، وبين كلمة (التشيع) التي تعبّر عن فرق ومذاهب كثيرة، كفّر بعضها الاثني عشرية وأهل السنّة.
ولا شك أنّ الكلمات إذا لم تُعرّف تعريفاً دقيقاً فسوف تترك مجالاً للمغرضين الخبثاء، أو المخلّطين البسطاء في التلاعب بمضامينها ومحتوياتها ومعانيها حسب ما يريدون، بعيداً عن الضوابط والمعايير العلمية في تعريف الكلمات.
والسابعة: ومما ساعد على توسيع هذه المشكلة الخبيثة ـ عند أتباع المنهج الوهابي في دراسة المذهب الاثني عشري ـ تواجد بعض رجال الفِرَق المغالية في
القرون الأُولى في مدينة الكوفة، مع أنّ التاريخ يبيّن بصورة صريحة أنّ رجال الغلاة كانوا محصورين ومعدودين في شرذمةٍ قليلةٍ، كانت منبوذة من قبل أكثرية ساكني الكوفة من أهل السنّة ومن الاثني عشرية، ثم انقرضت تلك الشرذمة من الغلاة، بعد أن رفضهم وحاربهم المسلمون من الاثني عشرية ومن أهل السنّة الذين سكنوا الكوفة في القرون الأُولى.
وسنثبت بالدليل والبرهان أنّه إذا دخلت الاثنا عشرية مدينة ـ أي مدينة ـ، فلا بد أن يغادر ويهاجر الغلو من هذه المدينة. وسنتناول هذا الموضوع عندما نبيّن موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة، وبحثناه ـ أيضاً ـ في كتابنا (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).
الثامنة: يجب ملاحظة أنّ الأوضاع السياسية المعادية والمقاطعة والمحاربة لأهل البيت النبوي في العصرين الأموي والعباسي؛ ولّدت مذابحَ كبيرة جرت على أهل بيت النبوة. وإذا كان هذا قد جرى على أهل بيت النبي ـ رغم مقامهم الكبير عند كلّ المسلمين ـ فمن الطبيعي أن يتعرض شيعتهم من الاثني عشرية للظلم بصورة مضاعفة عشرات المرات. وتلك الأوضاع مكنّت خصومهم من أن ينسبوهم إلى فِرق الغلاة. ولا شك أنّ الضعيف والمظلوم والمغلوب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه أمام خصمه القوي والظالم والغالب.
والآن حان الوقت لتلخيص المواضيع التي أشرنا إليها حتى تستقر في ذهن القارئ الكريم:
1 ـ الموضوع الأول: توضيح وتبيين المرحلة الأُولى للمذهب الاثني عشري، وأنّ الخطأ في هذه المرحلة سوف يتولد وينبثق عنه مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفِرَق الغلاة.
2 ـ الموضوع الثاني: بعد أن انتهينا من توضيح وتبيين المرحلة الأُولى لمعرفة المذهب الاثني عشري، أشرنا بصورة مختصرة إلى أسباب وعوامل تكوين أو توسيع مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الوهابية.
3 ـ الموضوع الثالث: أشرنا بصورة مختصرة إلى الآثار الخطيرة والنتائج الخبيثة التي نجمت من الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية؛ فبعد أن انبثقت مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفِرَق الغلاة من الخطأ في المرحلة الأُولى؛ تولّدت من هذه المشكلة الخطيرة تلك النتائج والآثار الخبيثة التي سبق أن ذكرناها بصورة مختصرة.
* * * *
وحان الوقت لتناول أسباب وعوامل تكوين أو توسيع مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الوهابية، بعد أن ذكرناها بصورة مختصرة:
أولاً: القسم الأول من الأسباب والعوامل: جهل أتباع المنهج(46) الوهابي بالمذهب الاثني عشري وهذا الجهل يتمثل في عدة أسباب:
السبب الأول(47): الجهل بمعنى الغلو:
(الغلو) هو أمرٌ مرفوض لدى كل الفرق الإسلامية، فلا توجد فرقة إسلامية تقبل الغلو. وكراهية (الغلو) عند جميع الفرق الإسلامية ينبعث من تحذير القرآن والسنّة النبوية منه، إذ بيّنا للمسلمين أنّ انحراف الأديان يقترن ـ دائماً ـ بالغلو.
وتاريخ الغلو مع تاريخ الانحراف توأمان، و لهذا فنحن لا نستطيع أن نَجِدَ انحرافاً من دون أن يكون مبدأه ومنشأه ظهور الغلو.
وهناك شيء مسلّم به من الوجهة التاريخية وهو: إنّ كلّ الفِرَق التي تنتسبُ إلى الإسلام ـ وهي بعيدةٌ عنه ـ كان الغلو وراء انحرافها عن الإسلام.
ونحن لا نريد هنا أن نذكر كل ما ورد في شأن الغلو في الكتاب والسنّة، ولا نحاول هنا أن نبحث عن الآثار الخطيرة للغلو؛ كما لا نحاول أن نبحث عن الفِرَق المغالية، ولا عن منابع الفِرَق المغالية وتأثير المجوسية واليهودية والنصرانية على تلك الفرق، فهذه المواضيع لا ترتبط ارتباطاً كاملاً بموضوع هذا الكتاب.
أما الذي نريد أن نبحث عنه ويرتبطُ بموضوع هذا الكتاب ولم يتم البحث عنه في مكان آخر فهو معالجة تعريف الوهابية لهذه الكلمة، فمنذ أن نشأت الوهابية في القرن الثامن عشر الميلادي وحتى الوقت الحالي، وهي تُعرِّف هذه الكلمة (الغلو) بصورة غريبةٍ عن تعريف أهل السنّة والاثني عشرية لهذه الكلمة.
وقد أدّى ذلك التعريف الغريب للغلو ـ مع الأسف ـ إلى توسيع مدلول ومفهوم كلمة الغلو عند الوهابية، حتى أصبحوا يتهمون كل المذاهب الإسلامية بالغلو. وأذكرُ أنّني عندما كنت أدرسُ في السعودية ـ وكنت يومئذٍ وهابياً ـ كنا نتعلّم ـ مع الأسف ـ تعليماً غريباً يؤدّي إلى تزييف وتشويه صورة الاشاعرة والماتريدية الذين يمثلّون جمهور أهل السنة، ويؤدّي إلى تشويه وتزييف صورة الاثني عشرية. ولم يكن هذا النمط من التعليم يُمثِّل الحكومة السعودية، بل كان يُمثّل تياراً منبوذاً ومرفوضاً من قبل الحكومة السعودية.
وكان لأسلوب التعليم ـ في تلك الفترة ـ أثرٌ سيءٌ على مفهوم الغلو عندي، حتى إنّني كنتُ من هواة اتهام المسلمين من أهل السنّة ومن الاثني عشرية بـ (الغلو). ومن النتائج الخطيرة لاتهامي للمسلمين بـ (الغلو)، التي تركت خطراً على نظرتي لأهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية أو نظرتي للاثنى عشرية؛ أنّني كنت أسيء الظن بكبار علماء أهل السنّة من القدماء والمتأخرين؛ لأنّهم كانوا إما أشعرية أو ماتريدية، ونحن ندرس في الجامعات السعودية أنّ هؤلاء كلَّهم من الغلاة المنحرفين.
وقد صوّر علامة أهل السنة في العصر الحديث الإمام (يوسف القرضاوي) تلك الحالة المأساوية، التي خَلَقت حقداً عند الوهابية لقدماء أهل السنة ولقدماء الاثني عشرية ومتأخريهم ومعاصريهم، بسبب أنّهم اتهموا جمهور أهل السنَّة من الماتريدية والاشاعرة واتهموا الاثني عشرية بالغلو، بعد أن وسّعوا من مدلول الغلو وفسَّرو كلمة (الغلو) تفسيراً غريباً.. وفي هذا يقول الإمام الشيخ (يوسف القرضاوي) ـ حفظه الله ـ:
(إنّ تشويه الرموز الإسلامية، وتحطيم الأعلام، وتدمير القمم؛ عمل لا يستفيد منه غير أعداء الإسلام، وخصوم المسلمين. وهو ـ للأسف ـ ما أصبح هواية لبعض المنتمين إلى الدين [يعني الوهابيين]، لقد زرت المملكة العربية السعودية في العام الماضي، فوجدتُ أمراً رابني وساءني: مجموعة من الكتب تتهم العلماء والدعاة، [مثل اتهامهم بالغلو] وتوسعهم سباً وقذفاً، صَنَّفَ هذه الكتب بعض الإخوة الغلاة ممن ينسبون أنفسهم إلى السلفية، والحق أنّ السلفية منهم براء.
لم يكن هؤلاء يدعون عالماً كبيراً، [من أهل السنة أو من الاثني عشرية] سابقاً أو لاحقاً أو معاصراً، يخالفهم في قضيةٍ ما، إلاّ كالوا له الذم بأوسع مكيال.
لم يسلم مِنْ طول ألسنتهم الباقلاني، ولا إمام الحرمين، ولا الإسفراييني، ولا الغزالي، ولا الرازي، ولا النووي، ولا ابن حجر العسقلاني، ولا السيوطي، ولا غيرهم من المتقدمين.
كما لم يسلم منهم من المحدّثين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ورشيد رضا، وفريد وجدي.. وغيرهم من دعاة الإصلاح.
وكذلك لم يسلم منهم من بعدهم من المفكرين والدعاة المودودي، والندوي، وحسن البنا، وسيد قطب، والغزالي، والقرضاوي، ومحمد عمارة، وفهمي هويدي... وغيرهم من الأموات والأحياء)(48).
إلى أن يقول:
(ونسي هؤلاء [يعني: الوهابيين] أنَّ حُسن الظن بالمسلمين أولى من سوئه، وأنّ الأصل حمل حال المسلمين على الصلاح، والتماس المعاذير لأهل الإسلام، وافتراض نية الخير منهم)(49).
ويرى كبار أهل السنّة في العالم الإسلامي أنّه ليست نظرة الوهابيين للغلو غريبة فحسب، بل إنّ نظرتهم للدين الإسلامي بصورة كلية غريبة عن هذا الدين، وفي هذا يقول إمام أهل السنّة في العصر الحديث الشيخ محمد الغزالي:
(إنّ فهم هؤلاء الناس [يعني: الوهابيين] للدين غريب)(50).
ومن ثَمّ اعتبر الإمام الغزالي الوهابية أخطر خصوم الصحوة الإسلامية... وقال ـ رحمه الله ـ:
(الصحوة الإسلامية المعاصرة مهدَّدة من أعداء كثيرين، والغريب أنّ أخطر خصومها نوع من الفكر الديني يلبس ثوب السلفية [يعتقد الإمام الغزالي أن الوهابية لا علاقة لها بالسلفية]، وهو أبعد الناس عن السلف، إنّها ادعاء السلفية وليست السلفية الصحيحة)(51).
* * * *
إذن، ينبغي للوهابية أن تلتفت إلى كلمات علماء أهل السنّة وكلمات علماء الاثني عشرية في نقد طريقتها في طرح مسألة (الغلو)، وأنْ تمارس طريقة النقد الذاتي لأسلوبها في فهم كلمة (الغلو). وبعد أن تنتهي من مرحلة النقد لمفهومها عن الغلو يجب أن تنتقل الوهابية إلى مرحلة إعادة النظر في فهمهم وتفسيرهم لكلمة (الغلو)؛ لأنّ الإنسان لا يمكن أن يعيد النظر في فهمه وإدراكه إلاّ إذا مارس مرحلة النقد الذاتي لذلك الفهم، فإذا لم يمارس هذه المرحلة فمن المحال أن يعيد النظر ـ من جديد ـ إلى فهمه وإدراكه السابقين ويميز الصواب والخطأ فيهما.
ونستنتج من ذلك: إنّه لا يمكن للوهابية أن تقوم بعملية تصحيح لمفهومها الغريب عن كلمة (الغلو) إلاّ من خلال مرحلتين:
المرحلة الأولى: النقد الذاتي لمفهومها عن كلمة (الغلو).
المرحلة الثانية: إعادة النظر من جديد إلى كلمة (الغلو).
أمّا إذا بقيت الوهابية جامدة على تفسيرها الغريب لكلمة (الغلو)، فلن يكون بمقدورها أن تستوعب انتقادات كبار أهل السنّة وكبار الاثني عشرية على تفسيرها لهذه الكلمة.
إنني لاحظت من خلال قراءتي للكتب التي كتبها الوهابيون عن الغلو والغلاة أنّهم وقعوا في أخطاء كثيرة في تحديد وتعريف كلمة (الغلو)... وأنّهم وسّعوا من مدلول هذه الكلمة وأدخلوا فيها محتويات ومضامين غريبة عنها.
ولا بد لنا من الإشارة إلى حقيقة هامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع هذا الكتاب وهي: إنّ الوهابية ـ من حيث لا يعلمون ـ لم يميزوا بين معنى (الغلو) الذي ذكره فقهاء أهل السنّة وفقهاء الاثني عشرية، في أبواب ومسائل أحكام المرتدين الخارجين عن الإسلام، وبين معنى (الغلو) الذي يُطلق ـ أحياناً ـ على بعض رواة الحديث من المسلمين، ولا يُقصد منه ـ غالباً ـ ذلك المعنى الخطير للغلو الذي ذُكر في أبواب ومسائل أحكام المرتدين.
ونرى أنّه من الضروري أن نذكر ـ هنا ـ تعريف علماء أهل السنّة وعلماء الاثني عشرية لذلك الغلو الذي ذكروه في أبواب ومسائل أحكام المرتدين، وفي الغلاة الذين وقعوا في هذا النمط من الغلو يقول أحد أئمة أهل السنّة الإمام الشهرستاني ـ رحمه الله ـ (ت: 548 هـ):
(وهم الذين غلوا في حقِّ أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية، وحكموا فيهم بأحكام الإ لهية، فربّما شبّهوا واحداً من الأئمة بالإله، وربّما شبهوا الإله بالخلق، وهم على طرفي الغلو والتقصير. وإنّما نشأت شبهتهم من مذاهب الحلولية، ومذاهب التناسخية، ومذاهب إليهود والنصارى)(52).
ونستخلص من كلام الشهرستاني: إنّ الغلو الذي ذُكر في مسائل وأبواب أحكام المرتدين يرتكز على مرتكزين أساسيين:
المرتكز الأول: تإليه الإنسان.
والمرتكز الثاني: أنْسَنتْ الإله.
ولا شك أنّ القولَ باتحاد الذات الإ لهية أو حلو لها في الإنسان ـ أي إنسان ـ يقتضي أنسنت الذات الإ لهية؛ كما أنّ القول بقدم الإنسان ـ أي إنسان ـ يستلزم تإليه الإنسان. والباحث عن الفِرَق المغالية ـ التي غالت غلواً ـ بهذا المعنى الذي ذكرناه ـ يجد أنّ مقالات هذه الفرق لا تخرج عن هذين المرتكزين الأساسين الخطيرين.
إذن، فالغلو الذي ذُكر في أبواب ومسائل أحكام المرتدين يشتمل على صفات معينة وردت في كلام الشهرستاني، أما الغلو الذي يطلقه علماء الرجال على بعض رواة الحديث فهو في الغالب لا يرتبط بذلك الغلو، بل يرتبط بمسائل فرعية خلافية بعيدة عن قضايا أُصول الدين الإسلامي.
وعدم ملاحظة الوهابية للفرق بين معنى الغلو الذي ذُكر في أبواب ومسائل أحكام المرتدين، وبين معنى الغلو الذي يُطلق ـ أحياناً ـ على بعض رواة الحديث من المسلمين؛ جعلهم يقعون في أخطاء كثيرة سوف نذكرها في البحوث القادمة.
وتكمن الخطورة الكبرى في الخلط عند الوهابية بين معنى الغلو الذي ذُكر في أبواب ومسائل أحكام المرتدين، وبين معنى الغلو الذي أطلق على بعض رواة الحديث مِن المسلمين، ذلك الخلط الخطير جعل الوهابية تخلط بين رجال الغلاة بالمعنى الأول وبين رجال الغلاة بالمعنى الثاني؛ كما صنع الوهابي المعاصر عبد الرحمن عبد الله الزرعي ـ حفظه الله ـ في كتابه (رجال الشيعةِ في الميزان)، وقد خلط في هذا الكتاب ـ من حيث لا يعلم ـ بين رواة الحديث من المسلمين الذين أطلق عليهم كلمة (الغلو)؛ لأجل اختلافهم مع بعض علماء الرجال في مسائل فرعية خلافية، وبين رجال الغلاة بالمعنى الذي ذكره العلماء في أبواب ومسائل أحكام المرتدين، وهم من الرجال الذين أجمع على تكفيرهم علماء الاثني عشرية وعلماء أهل السنّة.
ولو كان (عبد الرحمن الزرعي) أدرك معنى ومفهوم الغلو ومراتبه وأنواعه لما وقع في هذا الخلط الخطير؛ الذي يلزم منه تكفير الكثير من رواة الحديث النبوي.
وسنقوم بدراسة نقدية لكتاب الزرعي عندما نتحدث عن السبب الثالث في تكوين مشكلة الخلط بين الاثني وفِرَق الغلاة(53).
إنّ الوهابيين المعاصرين عندما يقرؤون الكتب الرجالية عند قدماء أهل السنة، يجدون أنّ قدماء أهل السنّة أطلقوا كلمة (الغلو) على رواة اختلفوا معهم في مسألة (التفضيل بين الصحابة)، وحسبوا أن اطلاق كلمة (الغلو) على هؤلاء كان بسبب أنّهم يقولون بتإليه غير الله ـ تعالى ـ.
* * * *
وكلمة أُخرى لا بدّ من الإشارة إليها، لأنّ لها تأثيراً خطيراً على إخفاقات الوهابيين ـ من حيث لا يعلمون ـ في تعريف الغلو، وهي: إنّ علماء الجرح والتعديل من أهل السنّة قد أطلقوا كلمة (الغلو) على الرواة المسلمين الذين يخالفونهم في مسائل فرعية؛ كما أطلقوا كلمة (الغلو) على القائلين بالتإليه أو الحلول أو الاتحاد.. أو.. أو.. الخ. هذه الأفكار الخطيرة التي تؤدي إلى تإليه الإنسان أو انسنت الإله. ولم يكن يعلم علماء الرجال أنّه ستأتي الجماعة الوهابية وتقع في خلط وخبط، بسبب أنّهم استخدموا كلمة (الغلو) في مفهومين مختلفين اختلافاً جوهرياً؛ لأنّ المعنى الأول للغلو يطلق على المسلمين والمعنى الثاني لا يطلق إلاّ على المرتدين، وبالتالي خلطت الوهابية ـ من دون قصد ـ بين الرواة المسلمين وبين الرجال المرتدين المنتسبين للإسلام.
* * * *
ومن ثَمّ لم يكن بد ـ وقد ابتعدت الوهابية من حيث لا يعلمون عن مفهوم الغلو عند قدماء أهل السنّة ـ من أن نفصلَ ونميز بين حقيقة (الغلو) عند أهل السنّة وبين حقيقة (الغلو) عند الجماعة الوهابية؛ لأنّ الوهابية بعد أن وسعت من مدلول كلمة (الغلو) أصبحت ترى أنّ جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية من فرق الغلاة الضالين والمنحرفين، وأصبحت الوهابية تطلق كلمة (الغلو) على الاثني عشرية، من دون ملاحظة الفرق بين مفهوم ومراد قدماء أهل السنّة من كلمة (الغلو) عندما أطلقوه على (الاثني عشرية)، وبين مفهوم ومراد قدماء أهل السنّة من كلمة (الغلو) عندما أطلقوه على (الخطابية). ومن هنا وجدت مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وبين الغلاة عند الوهابية من جهة، ومشكلة الخلط بين جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية وفرق الغلاة من جهة أُخرى. وهذا هو الذي يفسّر لنا سرّ الحملة العنيفة التي قام بها الوهابيون ضد الاثني عشرية وضد جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية.
* * * *

النتائج الخطيرة لتوسيع مدلول كلمة (الغلو) عند الوهابية

على أننا نحب أن نذكر النتائج الخطيرة لتوسيع مدلول كلمة (الغلو) عند الوهابية، ويكفينا أن نعرف أثر توسيع مدلول كلمة (الغلو) على كيفية تعامل الوهابية مع مخالفيها من الاثني عشرية ومن أهل السنّة، من أجل قضايا كان يجب أن تعالجها الوهابية بحكمة، لكن الوهابية حشرَت كلمة (الغلو) في هذه القضايا وخلقت ضجة وفتنة مفتعلة ومتخيلة ـ من حيث لا تعلم ـ بين المسلمين، تحت غطاء محاربة الغلو في هذه القضايا التي اختلف حو لها علماء الإسلام، وأصبحت الوهابية تحسب وتظن أنّ من خالفها في قضية معينة من هذه القضايا الخلافية يعتبر من الغلاة المنحرفين.
* * * *
ولعله مما يحتم علينا هنا أن نذكر أهمّ القضايا التي خلقت الوهابية بسببها فتنة بين المسلمين، بسبب توسّعها في مفهوم كلمة (الغلو). وإليك تلك القضايا ا لهامة بالترتيب:
القضية الأُولى: وهي الضجة الكبرى المفتعلة التي خلقتها الوهابية ـ من دون قصد ـ بسبب قضية (الصفات الخبرية للذات الإ لهية)، فهم اعتبروا كل من خالفهم في قضيّة (الصفات الخبرية) من أهل السنّة والاثني عشرية من الغلاة.
وقد كتبوا مئات الكتب في الرد على أهل السنّة وفي الرد على الاثني عشرية؛ لأنّهم أصبحوا في نظرهم من الغلاة والمنحرفين. وعمّت العالم الإسلامي معركة كبيرة حول (الصفات الخبرية للذات الإ لهية) ضاعفت من التمزيق للصف الإسلامي.
وبدلاً من أنْ يكون البحث عن الصفات الإ لهية عاملاً لتوحيد المسلمين أصبح البحث عن هذه القضية عاملاً لتمزيق الصف الإسلامي، وأصبحت الوهابية تتخيل معركة كبيرة بين فريقين:
الفريق الاول: هم الوهابيون المسلمون الذين يفسرون (الصفات الا لهية) على الطريقة الوهابية.
والفريق الثاني: هم من الغلاة المنحرفين الضالين من أهل السنّة ومن الاثني عشرية الذين يقولون بتأويل آيات الصفات.
وقد تكلّم علماء أهل السنّة عن الفتنة التي أوجدتها الوهابية عندما أطلقوا كلمة (الغلو) على كل الذين رفضوا منهجهم في تناول الصفات الإ لهية ـ من أهل السنّة والاثني عشرية ـ في الكثير من كتبهم، ورأوا أنّه كان الاولى للوهابيين أن يطرحوا منهجهم في تناول آيات الصفات من دون اتهام المسلمين من الاثني عشرية وأهل السنّة بـ (الغلو).
ونجد أنّ العلامة السنّي (محمد عادل عزيزة) ـ حفظه الله ـ من أجل أنْ يبين للوهابيين أنّ قدماء أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية لم يكونوا من الغلاة؛ احتج عليهم بشخصية لا يطعنون فيها، وهو الإمام (ابن كثير الدمشقي)، فبين في كتابه المعروف (عقيدة الإمام الحافظ ابن كثير ـ من أئمة السلف الصالح ـ في آيات الصفات) أنّ الإمام ابن كثير كان يُؤول بعض آيات الصفات.
فكأنّه يريد أنْ يقول لهم: إذا كان جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية من الغلاة لأنّهم أولوا آيات الصفات، فلماذا لا يكون ابن كثير الدمشقي من الغلاة؟! لأنني ساثبت في كتابي (عقيدة الإمام الحافظ ابن كثير في آيات الصفات) أنّه ينهج نهج أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية ونهج الاثني عشرية في القول بتأويل الصفات، لا منهجكم وطريقكم.
وتأتي أهمية هذا الكتاب أنّه صدر في ظل الحملة الشديدة من قبل الوهابيين على الاثني عشرية وأهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية، الذين يرون أنّ تأويل آيات الصفات لا يمكن أن يكون سبباً في أن نجعل القائلين بالتأويل من الغلاة ومن أهل الضلال.
ولم يتمكن علماء الاثني عشرية وعلماء أهل السنّة أن يجدوا صلة تربط بين القائلين بتأويل آيات الصفات من أهل السنّة والاثني عشرية وبين الغلاة، وانتقدوا الوهابية لأنّها تريد أن تلصق كلمة (الغلو) بهؤلاء الذين يمثّلون جمهور الأُمة الإسلامية، ومن ثَمّ بيّنوا أنّ مفهوم الجماعة الوهابية عن (الغلو) يعتبر مفهوماً جديداً بعيداً عن معناه ومفهومه عند أهل السنّة والاثني عشرية.
ونحن سوف ننقل ـ هنا ـ نماذج من كلمات أهل السنّة التي كتبت بقصد (الدفاع) عن القائلين بتأويل الصفات من أهل السنّة والاثني عشرية؛ في وجه المهاجمين لهم الذين اتهموهم بالغلو من الوهابيين.
ولقد واجه أهل السنّة جماعة جامدة بسيطة وبريئة تتهم كل من يخالفها في موضوع (الصفات الإ لهية) بـ (الغلو)، وبسبب هذا الاتهام الخطير أصبحت الوهابية تحتقر جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية وتحتقر الاثني عشرية، وتطوّر الأمر حتى خلقت الوهابية فتنة بسبب موضوع الصفات، وقد صوّر أهل السنّة هذه الفتنة بهذه الصورة، قال العلامة السني (محمد عادل عزيزة):
(ولقد قصدت بنشر هذا العمل تضييق شقة الخلاف بين المسلمين، وإماتة الحفائظ والأضغان بينهم، فقد بلينا في هذا العصر وأصاب كثيراً من علماء أهل السنّة ما أصابهم من اتهام [يقصد من قبل الجماعة الوهابية]، ونبز بالألقاب، وافتراء وتضليل وتكفير ومسبّة.. وغير ذلك؛ لقو لهم في آيات الصفات بقول مالك وأحمد الشافعي...)(54).
والذي يقرأ كتاب الشيخ (محمد عادل عزيزة) يجد أنّ الشيخ حاول دراسة مسألة الصفات بلغة بعيدة عن طريقة الوهابيين، أي بعيدة عن لغة الاتهام بالغلو، فهو يقول:
(كما أنّ هذه الرسالة الصغيرة التي جمعت شتات أقوال الحافظ ابن كثير السلفي في آيات الصفات، تجعل المسلم المتحرر من ربقة العصبية وا لهوى أكثر اتزاناً وهدوءاً في حكمه على من قال بقول ابن كثير، الذي شهدت له الأمة بسلامة المعتقد والعدالة، ودقة النقل، وسعة العلم وغزارته. وعندها لا يستطيع أن يعتقدَ أن التأويل لبعض آيات الصفات ضلال ومروق عن الدين [يقصد الشيخ الوهابيين الذين يتهمون أهل السنّة والاثني عشرية بالغلو والانحراف بسبب تأويل آيات الصفات]، وقد قال به حبر الأُمة سيّدنا عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ عند تفسير قوله تعالى (يومَ يكشفُ عن سَاقٍ)(55)، قال ابن كثير: قال ابن عباس: يكشف عن أمرٍ عظيم. كما لا يمكنه أن يعتقدَ أنّ التفويض منهج أهل الضلال)(56).
وفي الحقيقة أنّ الإشكالية الكبرى لا تعود إلى طريقة الوهابية في تناول آيات الصفات، ونحن نحترم وجهة نظرهم في آيات الصفات، إنّما الإشكالية تعود لأنّهم يرون أن جمهور أهل السنّة من القدماء والمتأخرين، وهكذا قدماء ومتأخري الاثني عشرية؛ قد أصبحوا من الغلاة بسبب تأويل آيات الصفات. وبسبب هذا الاتهام بالغلو تلقّى أهل السنّة والاثنا عشرية من الوهابية ـ منذ ظهورها في القرن الثامن عشر الميلادي ـ شتى الضربات وا لهجمات التي لم تضع أوزارها إلى اليوم.
ونحن نقرأ في كلمات أهل السنّة وكلمات الاثني عشرية عبارات كثيرة ترسم عمق المعاناة من الوهابية. ونطلب من القارئ أن يتأمّل في كلمات العلامة السنّي الدكتور (محسن عبد الحميد) ـ حفظه الله ـ وهو يتحدث عن المشاكل التي أثارتها الوهابية ـ من حيث لا تعلم ـ، عندما اتّهمت الذين خالفوها من السنّة والاثني عشرية بالغلو، قال في كتابه (تفسير آيات الصفات):
(وقد لاحظت ولاحظ معي العاملون في الحقل الإسلامي الحديث في السنوات القليلة الأخيرة تياراً [يعني: التيار الوهابي] يزعم أنّ منهجه قائم على تصحيح العقيدة، ومحاربة مظاهر الشرك في المجتع الإسلامي.. يُشغِل الجو الإسلامي بالمساجد وغيرها بمناقشات عقيمة حول تفسير آيات الصفات الخبرية).
إلى أن يقول:
(وكان هذا الوضع المؤلم دافعي الأوّل في العودة إلى آيات الصفات وقراءتها قراءة جديدة)(57).
ولقد شغلت هذه الفتنة الوهابية ـ التي جعلتهم يحسبون أنّ جمهور أهل السنّة وأنّ الاثني عشرية قد أصبحوا من الغلاة الضالين والمنحرفين ـ الكثير من علماء أهل السنّة منذ ظهور الوهابية.
وفي هذا السياق نذكر العلامة والمفكّر السنّي الدكتور (محمد عياش الكبيسي) ـ حفظه الله ـ الذي عالج هذه الفتنة الوهابية في كتابين من مؤلفاته، ومما قاله في شأن هذه الفتنة الوهابية:
(ولقد دفعني هذا [أي: الفتنة التي أثارتها الوهابية بين المسلمين بسبب قضية تفسير آيات الصفات] ـ أيضاً ـ لاختيار موضوع البحث في رسالة الماجستير (الصفات الخبرية عند أهل السنّة والجماعة)، وقد قمت فيها باستقراء تام لجميع الصفات الخبرية في الكتاب والسنّة، مبيّناً أقوال العلماء فيها من السلف والخلف)(58).
وقال ـ أيضاً ـ بعد أن بحث بحثاً مفصّلاً في آيات الصفات، وقدّم بعض الملاحظات حول تفسير آيات الصفات:
(هذه الملاحظات تقودنا ـ أيضاً ـ إلى أن نفسح صدورنا لتقبل الخلاف في تفسيرها، ولا ينبغي أن تعدّ الفيصل بين الإيمان والكفر وبين التوحيد والشرك، لا سيما أنّ السلف لم يقفوا عندها طويلاً، ومَنْ وقف عندها فسّرها بتفسيرات كثيرة، تصح أن تكون الجذور الحقيقية للمذاهب الكلامية في الصفات)(59).
ويجب أن أذكر حقيقة هامة ترتبط بموضوع هذا الكتاب، أي (المنهج الجديد والصحيح في الحوار مع الوهابيين) وهذه الحقيقة ناتجة من خلال تجربة شخصية مرّ بها كاتب هذه السطور عندما كان وهابياً، وهي: لقد كنت أعتقد أنّ مَنْ خالف الوهابية في مسألة الصفات فهو ضال ومغال ومنحرف عن الإسلام، وأعتقد أنّ رأي الوهابية في الصفات لا يمكن أن يحتمل الخطأ بأيّ صورة من الصور. وأذكر عندما كنت في جامعة الإمام محمد بن سعود في سنة (1988م) كانت هنالك حملة شديدة على أهل السنّة من الأشعرية والماتريدية بسبب موضوع الصفات، وكنّا نتبرّأ من العلامة والمفكر السنّي (عبد الفتاح أبو غدة)، ومن الإمام (محمد الغزالي المصري)، ومن العلامة السنّي (محمد علي الصابوني)، ومن الإمام (حسن البنا)، ومنْ العشرات من علماء أهل السنَّة؛ لأنّهم خالفوا الوهابية في مسألة الصفات.
وبعد أن تركت الوهابية اكتشفت المشاكل التي تكتنف نظريتهم حول الصفات وبدأت الحوار معهم حول الصفات، لكنني أرى أنّ الحوار معهم حول الصفات لن يكون مثمراً إلاّ إذا جعلناهم يحسنون الظن برأي أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية، ورأي الاثني عشرية الذي يقوم على أساس تأويل آيات الصفات كما أننا لا يمكن أن نستنقذهم إلا إذا أحسنا الظن بهم، فهم إخواننا إلاّ أنّهم يتصفون بالبساطة في التفكير.
وطريقتي في الحوار معهم أنني أذكر كلمات العلماء الذين تثق بهم الوهابية كابن كثير ـ مثلاً ـ، تلك الكلمات الصريحة في تأويلهم آيات الصفات؛ لأنك إذا ذكرت له اسم شيخ الطائفة الإمام (محمد بن الحسن الطوسي) من الاثني عشرية، أو ذكرت له اسم الإمام (أبو حامد الغزالي) من أهل السنَّة، فلن يتحمّل مجرّد ذكر اسمهما، فكيف سيسمع رأيهما؟! ومنْ ثمَّ بعد أن تذكر له رأي الإمامين الطوسي والغزالي لا بد أن تأتيَ له بما يؤيدهما من كلام ابن كثير، حينئذٍ بالإمكان أن يحسن الظن برأي الإمامين. وهذه الطريقة اضطر إليها العلامة السنّي محمد عادل عزيزة في كتابه (عقيدة الحافظ ابن كثير في آيات الصفات).
إذن، فلا داعي لذكر علماء أهل السنّة أو علماء الاثني عشرية الذين ينفرُ منهم الوهابيون، بل يكفي أن تجد ما يؤيدهم من كلام ابن كثير، حينئذ سيقبلون ما تريد أن تبينه لهم حول الصفات، والعبرة بالأفكار لا بالاشخاص.
وا لهدف الرئيسي هو التقريب بين الوهابيين وبين الاثني عشرية من جهة، وبينهم وبين أهل السنة من جهة ثانية، وبين الاثني عشرية وأهل السنّة من جهة ثالثة.
* * * *
وإن من الحكمة في التعامل مع هذه الجماعة الوهابية البريئة والبسيطة التي تحتاج منّا إلى المعالجة والمعاينة لا المجادلة والمخاصمة؛ أنْ ننظر إليها كما ينظرُ الطبيبُ إلى المريض الذي يحملُ له المحبّة والمودّة، فهو يبذل كل ما لديه من جهدٍ من أجل أنْ يجلب له الدواء ويزيل عنه الداء. ولا شك أنّ الطبيب الذي يسيء الظن بمريضه لا يستطيع معاينة مريضه ومعالجته.
إنّ أتباع هذه الجماعة البريئة يحسبون أنّ كل المذاهب الكلامية الإسلامية من أهل السنّة ومن الاثني عشرية قد أصبحوا من الغلاة، ومن ثَّم فهم يرون أنّ العالم الإسلامي قد امتلأ بالغلاة، فلا توجد مدينة أو قرية من مدن وقرى المسلمين إلاّ وفيها غلاة! وهم لا يعرفون أنّهم يعيشون في حالة نفسية جعلتهم يتوّهمون أن المسلمين من أهل السنّة ومن الاثني عشرية أصبحوا من الغلاة.
لقد عشت هذه الحالة النفسية فترة زمنية من حياتي، وكنت أحسب أنّ المسلمين من أهل السنّة ومن الاثني عشرية قد صاروا من فرق الغلاة، وكنت أعتقد أنّه لم تسلم من الغلو إلاّ الجماعة(60) (الوهابية) الناجية. ولم يكن يخطر ببالي أنني أعيش في حالة نفسية تولّد منها الشعور بأنّ المسلمين أصبحوا غلاة، ومن ثَمّ قررت في بداية حياتي أنْ أخوض معركة مع الذين كنت أحسبهم من الغلاة، وفي هذه الفترة من حياتي قررت أن أبدأ بمعالجة الغلو عند الاثني عشرية، ثم أشرع في معالجة الغلو عند جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية. وبالفعل حسبت نفسي طبيباً يقفُ أمام رجل ـ أعني المذهب الاثني عشري ـ، وبعد أن كشفت على هذا الرجل خُيّل إليّ أنّه مصابٌ بمرضٍ خطير أطلق عليه الأطباء مرض (الغلو).
ولا زلت أذكر تلك اللحظة التي كنت أحسب فيها أنّني سأعالج المذهب الاثني عشري من مرض الغلو، وكتبتُ لأجل هذه المعالجة كتاب (الصلة بين الاثني عشرية وفِرَق الغلاة)، ثم ظهرَ لي قبل طباعة الكتاب أمرٌ لم أكن أحسبه؛ ظهر لي أنّني كنت أعيش في حالة نفسية جعلتني أحسب أنّ ذلك الرجل ـ أعني المذهب الاثني عشري ـ قد أُصيب بمرض الغلو، ولكنني اكتشفت ـ بعد حين من الزمن ـ أنّ هذا الرجل لم يكن مريضاً، بل اكتشفتُ أنّ هذا الرجل ـ أعني المذهب الاثني عشري ـ من المتخصصين في معالجة الغلو، ومن المتخصصين ـ أيضاً ـ في معالجة الأمراض النفسية. وتبين ليّ أنني كنتُ مصاباً بحالة نفسيةٍ جعلتني أتوهم أنّ هذا الرجل ـ أعني المذهب الاثني عشري ـ قد أُصيب بمرض الغلو الكبير الخطير، حينئذٍ قررتُ أنْ أُعالج حالتي النفسية عند هذا الرجل.. وهكذا؛ انعكست المعادلة، فأصبح الطبيب يتعالج عند الذي كان يحسبه مريضاً.
وقصتي مع هذا الرجل ـ أعني المذهب الاثني عشري ـ تشبه قصة طبيبٍ أُصيب بمرض السرطان في رأسه، وبسبب شدّة المرض تكوّنت عنده حالة نفسية، فأصبح يحسب أنّ كل رجلٍ سليمٍ في العالم قد أُصيب بمرض السرطان، كما كنت أحسَبُ أنّ المسلمين من أهل السنّة والإثنى عشرية قد أُصيبوا بمرض الغلو. وكان هذا الطبيب يكشف على الرجل السليم ـ أي رجلٍ ـ ويخبره بأنّه مصابٌ بمرض السرطان، إلى أن جاءهُ رجلٌ سليم مُتخصصٌ في معالجة أمراض السرطان ومتخصص ـ أيضاً ـ في معالجة الأمراض النفسية، فكشف عليه الطبيب وأخبره أنّه قد أُصيب بالسرطان، ولكن هذا الرجل ـ بسبب أنّه كان متخصصاً في أمراض السرطان وأمراض الحالات النفسية ـ لاحظ أنّ الطبيب قد خلط بين أنواع وأصناف الامراض، كما لاحظ سلامة أولئك الرجال الذين حسبهم الطبيب من المصابين بالسرطان، وحينئذ قرر هذا الرجل أن يذهب إلى الطبيب، وبعد محادثات طويلة بينة وبين الطبيب تبين له أنّ الطبيب مصابٌ بحالة نفسية؛ فقرر أن يكشف على الطبيب ـ على الرغم أنه جاء من أجل المعالجة عند هذا الطبيب ـ، وعند الكشف عليه استيقن أنّ الطبيب كان مصاباً بمرض السرطان في رأسه؛ فلذلك تصور الطبيب أنّ البشرية كلّها قد أُصيبت بمرض السرطان. وهكذا؛ انعكست المعادلة فأصبح الطبيب يتعالج عند هذا الرجل الذي جاء من أجل أن يكشف عليه هذا الطبيب ـ بعد أن كان يعالجه ـ، وتبين أنّ الطبيب هو المريض، وأنّ هذا الرجل ـ الذي حَسِبَ الطبيب أنّه مريض ـ كان سليماً سلامةً تامة.
* * * *
والشيء الجديد في هذا الكتاب هو أنّ الدراسات السابقة كانت تدافع عن الأنا (الاثني عشرية) ضد تهمة الآخر (الوهابية)؛ لأنّها تتهم الأنا (الاثني عشرية) بأنها مصابة بـ (مشكلة الغلو)، لكن هذا الكتاب عكس المعادلة واثبت أنّ الآخر (الوهابية) مصابة بـ (مشكلة الخلط الأكبر لا الأصغر) فحسب بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، وتطالبه ـ أعني تطالب الوهابية ـ بأن يدفع عن نفسه هذه الحقيقة (حقيقة الخلط الأكبر لا الأصغر)(61)، فحسب بعد أن ظل يتهم الأنا
(الاثني عشرية) منذ ظهور الآخر (الوهابية) في القرن الثامن عشر.
ومنذ أكثر من قرنين كان هذا الآخر (الوهابية) يحسب نفسه طبيباً يعالج الأنا (الاثني عشرية) من (مشكلة الغلو)، ويجعل الأنا (الاثني عشرية) موضوعاً للبحث والدراسة والتحليل، ولكن الأنا (الاثني عشرية) اكتشف أن الآخر (الوهابية) مريضٌ بـ (مشكلة الخلط الأكبر الخطير لا الخلط الأصغر)، وأصبح الآخر (الوهابية) موضوعاً ومدروساً ومبحوثاً عنه، بعد أن كان يحسب نفسه دارساً وعارفاً وطبيباً، وأخذ الأنا (الاثني عشرية) يبحث عن (علل مشكلة الخلط الأكبر) عند الآخر (الوهابية)، بعد أن كان الآخر (الوهابية) ـ في السابق ـ يبحث عن (علل مشكلة الغلو) عند الأنا (الاثني عشرية).
ويمكن لنا تصوير وتجسيم هذه القضية بالشكلين الآتيين:


ومن هنا تجدني ـ دائماً ـ أؤكد بأنّ أكثر الوهابيين من المخلّطينَ البسطاء الأبرياء لا من المغرضين الخبثاء، ومن هنا أطلقت كلمة (بريئة) على الوهابية. ولا شك أنّ الرجل المصاب بالتخليط والخلط لا يمكن معاملته بنفس الطريقة التي نتعامل بها مع الرجل السليم من الخلطِ والتخليط، ولكنه يخلط قصداً وعمداً من أجل تحقيق أغراضه الخبيثة؛ كما لا يمكن تسوية القاتل عمداً بالقاتل خطأً.
إنّنا نسعى في هذا الكتاب وفي كل كتاباتنا ومحاضراتنا ومقالاتنا إلى استنقاذ هذه الجماعة الوهابية من مشكلة الخلط الأكبر، ولا يمكن أن نستنقذها من هذا المستنقع الخطير ـ مشكلة الخلط ـ إذا كنا نسيء الظن بهذه الجماعة، كما لا يمكننا استنقاذ هذه الجماعة المبتلاة بالخلط إذا قسونا عليها أو استخدمنا معها طريقة فظة وغليظة؛ لأنّها سوف تنفرُ وتشتدُ خلطاً (ولو كُنْتَ فَضّاً غَلِيظَ القَلبِ لانفضّوا من حَوْلِكَ)(62).
ولا شك أنّ الطبيب المتخصص في معالجة الأمراض النفسية لا يمكن أنْ يعالج مريضه المصاب بحالةٍ نفسية إذا كان يسيء الظن به أو يُغلظ عليه. وحين نعالج الوهابية من هذه المشكلة سوف يتم تحقيق فكرة التقريب بين الاثني عشرية والوهابية، وسوف نحافظ على الوحدة الإسلامية المقدسة وبالتالي سوف نفشل المخططات الصليبية والصهيونية التي تسعى للقضاء على المودة والأخوة الموجودة بين المسلمين الاثني عشريين وبين المسلمين الوهابيين.
* * * *
القضية الثانية: الفتنة التي خلقتها الوهابية بين السنّة والسنّة من جهة، وبين السنّة والاثني عشرية من جهة أخرى؛ لأجل بعض المسائل التي ظن الوهابيون أنها من مسائل (أُصول الدين)، مع أنها في حقيقتها من مسائل (العقيدة) لا من مسائل (أُصول الدين). وقد أدى هذا الفهم الخاطئ لأن تطلق الوهابية كلمة
(الغلو) على مخالفيها في قضايا حسبتها أنها من مسائل (أُصول الدين).
إنّ الوهابية، وبسبب معاناتها من مشكلة الخلط في كل شيء كان من الطبيعي أن تخلط بين ما أطلق عليه الخلف من أهل السنّة لا السلف (مسائل العقيدة)، وبين ما أطلق عليه سلف أهل السنّة (مسائل أُصول الدين). وكان من نتائج هذا الخلط أنّ الوهابيين لا يميزون بين من خالف بعض (مسائل العقيدة) التي لا ترتبط بأُصول الدين، وبين من خالف مسألة من مسائل (أصول الدين)، ومن ثَمّ أطلقوا كلمة (الغلو) على الكثير من أهل السنّة وعلى الاثني عشرية؛ لأنّهم خالفوا الوهابية في بعض مسائل العقيدة التي لا علاقة لها بـ (أُصول الدين).
إنّ الوهابيين يحسبون أنّ أيّ مسألة من مسائل العقيدة يجب أن تكون ـ أيضاً ـ من مسائل أُصول الدين؛ لأنّهم يرون أنّ هناك علاقة تساوي بين مسائل العقيدة وبين مسائل أُصول الدين (مسائل العقيدة = مسائل أُصول الدين).
إنّه بالإمكان لنا أن نقول: إنّ كل مسألة من مسائل أصول الدين يجب أن تكون من مسائل العقيدة، ولكن ليس كل مسألة من مسائل العقيدة يجب أن تكون من أُصول الدين، فبعض مسائل العقيدة من أُصول الدين وبعض مسائلها ليس من أصول الدين(63). ولا يصح أنْ نخلط بين مسائل العقيدة المرتبطة بأُصول الدين وبين مسائل العقيدة المنفصلة عن أصول الدين.
وتكمن أهميّة هذا البحث بعد أن وجدنا الوهابيين يرفضون التقريب بين أهل السنّة وبين الاثني عشرية، حتى جعل الوهابي المعاصر (ناصر القفاري) رسالته في الدراسات العليا تحت عنوان (مسألة التقريب)، واعتبر هذا الوهابي ـ وكل الوهابيين ـ أنّ مسألة التقريب بين أهل السنّة وبين الاثني عشرية، وبين الاثني عشرية والوهابية لا يمكن أن تتم وتتحقق في عالم الواقع؛ لأنّ الخلاف بين أهل السنّة والاثني عشرية وبين الاثني عشرية والوهابية ـ في رأيه ورأي الوهابيين ـ هو خلافٌ في أُصول الدين.
وحينما بحثت في هذه المسائل الخلافية ـ بين أهل السنّة وبين الاثني عشرية ـ وجدت أنّه لا يوجد لها علاقة بأُصول الدين، بل هي إما ترجع إلى بعض مسائل العقيدة التي قال علماء أهل السنّة أنّها لا علاقة لها بأُصول الدين، وإما ترجع إلى قضايا فرعية فقهية لا تتصل بمسائل أُصول الدين ولا بمسائل العقيدة، ومن ثَمّ فلا بد أن نعالج هذا الخلط عند الوهابية بين بعض (مسائل العقيدة) وبين (مسائل أصول الدين). وهذه التفرقة ليست من عندنا، بل إنّنا سننقل لإخواننا الوهابيين كلاماً قيماً للامام ابن تيمية رحمه الله ـ ولا يمكن لهم أن يطعنوا في كلام ابن تيمية ـ، قال في تبيين ضرورة التمييز بين بعض مسائل العقيدة وبين مسائل أُصول الدين:
(إنّ المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية، وأسميت تلك (مسائل أصول) وهذه (مسائل فروع)، فإنّ هذه تسمية محدثة، قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين. وهي على المتكلمين والأصوليين أغلب)(64).
وحتى يعلم القارئ أنّ الوهابية تخلط بين (مسائل أُصول الدين) وبين بعض (مسائل العقيدة)، وكان من نتائجه أن أطلقوا كلمة (الغلو) على جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية وعلى الاثني عشرية، كما رفضوا التقريب بين أهل السنّة وبين الاثني عشرية، والتقريب بين الاثني عشرية والوهابية؛ أرى ـ هنا ـ من الضرورة أنْ أنقل ما قاله أحد علماء أهل السنّة الذين لا تطعن فيهم الوهابية وهو العلامة (محمد عبد الحليم حامد)، حيث يقول في هذا الخلط الخطير عند الوهابية تحت عنوان سمّاه (تسمية العقيدة بأصول الدين تسمية تشريفية)، يقول:
(واستقرت هذه التسمية [يعني: التسمية الجديدة لمسائل العقيدة بأُصول الدين] على مَرّ الأجيال إلى عصرنا هذا، وهنا حقائق هامة ينبغي الانتباه إليها وهي: إنّ هذه التسمية لم تعهد في القرون الثلاثة الفاضلة، إنّها تسمية جديدة جرت على لسان علماء الكلام ابتداءً وبعض الفقهاء، حسب ما قسموا مسائل الدين إلى
(أصول) وتعني مسائل العقيدة، (وفروع) وتعني مسائل الأحكام العملية (الفقه).. هذا التقسيم راج وانتشر واستقرّ عند أهل السنّة وعلماء الكلام. وهذه هي الحقيقة الغائبة.
فأهل السنّة عندما يطلقون تسمية أصول الدين على العقيدة [يعني: عندما يطلقون أُصول الدين على بعض مسائل العقيدة التي لا ترتبط بأُصول الدين] يريدون بذلك تشريف العقيدة).
إلى أن يقول:
(ولا يقصدون [أهل السنَّة] بذلك [يعني: باطلاق أصول الدين على بعض مسائل العقيدة] أنّ كل مسائل العقيدة أصول، بل إنّ فيها الفروع أيضاً).
إلى أن يقول:
(هذه هي نظرة علماء السلف ـ رحمهم الله ـ. وهذه نظرة دقيقة رشيدة حفظت لمذهب أهل السنّة استقامته واعتداله، وعصمتهم من السقوط في هاوية التكفير السحيقة، وحفظتهم من رمي الغير بسهام الزيغ والضلال والزعزعة والميوعة).
إلى أن يقول:
(فالإسلام عظيم متين لا يهدم بسهولة لمجرد خلاف أو زلة في مسائل من مسائل العقيدة [يجب أن نميز بين الزلة في مسائل أصول الدين وبين الزلة في بعض مسائل العقيدة] دون نظر إلى حجم هذه المسألة ووزنها).
إلى أن يقول:
(وهذه الحقيقة ليست استنباطاً سبقتُ إليه، وإنّما هي مدونة في كتب عالم جليل من علماء السلف، وإمام عظيم من أئمتهم؛ إنّه شيخ الإسلام ابن تيمية)(65). ثُمّ ذكر كلاماً طويلاً مفصّلاً للإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في ضرورة عدم الخلط بين مسائل أصول الدين وبين بعض مسائل العقيدة التي لا علاقة لها بأُصول الدين.
ويتحتم على كل وهابي أن يراجع كلام الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ؛ حتى لا يخلط بين مسائل أُصول الدين وبين بعض مسائل العقيدة التي ترتبط بفروع الدين لا باصوله، وحتى لا يعتبر أكثر المسلمين من الغلاة ومن أهل الضلالة.
والحاجة إلى جلاء هذه الفكرة هي حاجة ضرورية للوهابية؛ لأنّها إذا أدركت الفرق بين (أصول الدين) وبين بعض (مسائل العقيدة)، سوف تحسن الظن بالكثير من المسلمين من السنّة ومن الاثني عشرية، وسوف تعرف أنّها بحاجة إلى تجديد نظرتها حول (مسألة التقريب) بين أهل السنّة وبين الاثني عشرية، وحول (مسألة التقريب) بين الإثني عشرية والوهابية، وحول (مسألة التقريب) بين أهل السنّة والوهابية؛ لأن الوهابية لم تعارض هذا التقريب إلاّ لظنها أنّ الخلاف بين السنّة والاثني عشرية هو خلاف في (أصول الدين)، ولظنها أن الخلاف بين الاثني عشرية والوهابية هو خلاف في (أصول الدين)، ولظنها أن الخلاف بين أهل السنّة والوهابية هو خلاف في (أصول الدين). وهي لا تدري أنّها تعاني من خلط كبير بين مسائل أُصول الدين وبين بعض مسائل العقيدة التي هي في الأصل من فروع الدين.
كما نعتقد أنّ معالجة مشكلة الخلط عند الوهابية ـ بين أُصول الدين وبين بعض مسائل العقيدة المرتبطة بفروع الدين ـ تكون مدخلاً ضرورياً من أجل معالجتهم من مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، ومن أجل معالجتهم ـ أيضاً ـ من مشكلة الخلط بين جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية وبين فِرَق الغلاة، ومن أجل أن يقبلوا فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وأنّه لمن سعادة الوهابية وحسن حظها أنْ تدرك أنّ أُصول الدين كما أرادها الله لا تتفق مع أُصول الدين التي رسموها، وخلطوا بين أُصول الدين كما أرادها الله وبين بعض مسائل العقيدة المرتبطة بفروع الدين. ومن ثَمّ ستجد الوهابية أنّ هذه المسائل الخلافية بين أهل السنّة والاثني عشرية، والمسائل الخلافية بين الاثني عشرية والوهابية، والمسائل الخلافية بين أهل السنّة والوهابية لا علاقة لها بأُصول الدين كما أرادها الله، ولن تثير فتنة بين السنّة والاثني عشرية، ولن تصطدم مع جمهور أهل السنّة من الأشاعرة المخالفين لها، حينئذ سوف تعيش الوهابية والاثنا عشرية في أُخوةٍ ووئام، وسوف تعيش الوهابية وأهل السنّة في سعادة تامة. وهذا ما يطلبه الله ـ تعالى ـ من كل أتباع هذا الدين، وما ينبغي أن يتحقق ليرضى الله ـ سبحانه ـ عن هذه الأُمة.
* * * *
والله يعلم بحالي فكم من الشهور والسنين مضت وأنا أبحث ـ ليلاً ونهاراً ـ عن حلٍ؛ من أجل تخفيف حدّة النزاع بين أهل السنّة والوهابية من جهة، وبين الاثني عشرية والوهابية من جهة أُخرى، وبين أهل السنّة والاثني عشرية منْ جهة ثالثة الذين هم أبناء أُمة واحدة. وتبين لي بما لا مجال للشك فيه أنّ الجماعة الوهابية ـ منْ دون قصد ـ كانت وراء توسيع ذلك النزاع، وأنّ من النادر أن تجد كتاباً تنشره الوهابية إلاّ وأقرأه بتمعن وإتقان، حتى أستطيع أن أبحث عن العلة التي جعلت هذه الجماعة تثير الفتنة بين السنّة وبين الاثني عشرية، وجعلتها تنعزل عن بقية المسلمين من أهل السنّة بعد أن صاروا من الغلاة في نظرها، حتى مَنَّ الله عليّ واكتشفت العلة بعد بحث طويل، واستيقنت أن العلة تكمن في (مشكلة الخلط عند الوهابية بين الاثني عشرية وفرق الغلاة)، حينئذ بدأت أدرس الخلط بصورتيه العامة والخاصة(66) عند الجماعة (الوهابية)، والبحث عن أسباب علاجه.
وقد لاحظت أنّ الخلط من أخطر الأمراض الفكرية التي تصيب الإنسان، فبدأت بتحليل علله والبحث عن دوائه، والتفكير في كيفية علاج الوهابية منه، بعد أن كنت ـ سابقاً ـ أحد ضحايا مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة.
وقد لا يصدق القارئ أنني كنت أثناء البحث عن العلل التي جعلت الوهابية تكون سبباً للفتنة بين السنّة وبين الاثني عشرية، وتكون سبباً في عز لها عن بقية المسلمين من أهل السنَّة، لا سيما وأنا أتابع دماء المسلمين التي تسيل في الباكستان من أهل السنّة ومن الاثني عشرية ومن الوهابية، بعد أن فتنت بين أبناء الأمة الواحدة كتابات الوهابي إحسان إ لهي ظهير ـ من حيث لا يعلم ـ، وكنت أحياناً ـ من شدّة التأسف على الحالة المأساوية التي وصلت إليها الوحدة الإسلامية المقدسة بسبب كتابات الوهابية ـ أجد نفسي أبكي في زاوية مكتبتي، إلى أنْ أذن الله ـ تعالى ـ لي وعرفت أنّ الوهابية تعاني من داء
(الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة)، بل من داء الخلط بصورة عامة. وبعد أن عرفت هذه المشكلة عرفت حقيقة الوهابية.
لقد نشرت الوهابية المئات بل الآلاف من المقالات والمحاضرات والكتب التي تتحدث عن (مشكلة الغلو عند الاثني عشرية)، بل عن (مشكلة الغلو عند كل المسلمين ما خلا الوهابية). لكنني بعد أنْ اكتشفت داء (الخلط) عند الوهابية التفت نظري إلى أنّ هنالك (مشكلة خلط عند الوهابية)، لا (مشكلة غلو عند الاثني عشرية)، أو (مشكلة غلو عند أهل السنَّة).. مشكلة الخلط عند الوهابية جعلتني أدرك أنّ الوهابية تخلط بين السبئية وبين الاثني عشرية، كما خلطت بين جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية وبين الغلاة الضالين والمنحرفين، وكما خلطت بين المشركين وبين المسلمين.
إنّني أعتقد أنّ الوهابيين إخواننا لا خصومنا، وهم لا يضمرون العداء لأهل السنّة أو للاثني عشرية، ولكنهم بسبب الإصابة بمشكلة الخلط بيننا وبين فرق الغلاة لم يفهمونا. ومن الواجب علينا أن نستخدم كل وسيلة شرعية حتى نعالج إخواننا من هذه المشكلة، وحين يتم علاجهم سوف ترون كيف ستتحول تلك الخصومة والكراهية ـ للاثني عشريين ولجمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية ـ إلى اخوةٍ إسلامية مستحكمة؛ بين الوهابيين وبين الاثني عشريين من جهة وبين الوهابيين وأهل السنّة من جهة أُخرى، عند ذلك يفرح المؤمنون الذين يقدّسون الوحدة الإسلامية ويشتدّ غيض أعداء الإسلام.
* * * *
وهذا الكتاب محاولة لتصحيح الحوار بين الوهابيين وبين الاثني عشريين، إذ الحاجة إلى هذه القضية ضرورية؛ لأن تصحيح الحوار بيننا سيساعد على التقريب بين الاثني عشرية والوهابية، وعلى سبيل المثال عندما نتناول معهم موضوع (التوسل بذات الرسول الأعظم بعد وفاته) لا بد لنا ـ قبل أن نتناول هذا الموضوع مع الوهابيين ـ أن نتناول في البداية هذه القضية، وهي: هل الخلاف حول موضوع (التوسل بذات الرسول الأعظم بعد وفاته) بين المجيزين والمانعين هو خلاف في مسألة من مسائل أُصول الدين أم لا علاقة لهذا الاختلاف بأُصول الدين؟
وعندما يجيب إخواننا الوهابيون بأنّ الاختلاف في هذا الموضوع هو اختلاف في مسائل العقيدة.
نقول لهم في الجواب على ذلك: بأنّ مسائل العقيدة تنقسم إلى قسمين ـ كما هو رأي الإمام ابن تيمية رحمه الله ـ: القسم الأول من مسائل العقيدة يرجع إلى أُصول الدين، والقسم الثاني من مسائل العقيدة يرجع إلى فروع الدين.
وحين يرى إخواننا الوهابيون أنّ الاختلاف في موضوع (التوسل بذات الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته) هو خلافٌ في أُصول الدين؛ لا بد أن نبين لهم أنّهم قد أُصيبوا بمشكلة الخلط بين مسائل أُصول الدين وبين مسائل العقيدة، ولا بد قبل الحوار في هذا الموضوع من معالجتهم من هذه المشكلة، حتى يتبين لهم أنّ هذا الاختلاف حول هذا الموضوع هو خلافٌ في فروع الدين لا أُصوله، وعلى فرض أنّه خلاف في مسألة عقائدية، لكنه خلاف في مسألة عقائدية لا تتصل بمسائل أُصول الدين. وقد نحتاج معهم إلى حكمة وتؤدة حتى نعالجهم من مشكلة الخلط بين أُصول الدين وبعض مسائل العقيدة التي لا علاقة لها بأُصول الدين.
وبديهي أن نبين لهم أنّ المذاهب الأربعة المعروفة (مذهب الإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله) لم تجعل الاختلاف حول هذا الموضوع من الاختلاف في مسائل (أُصول الدين).
وغني عن الذكر أننا قد نحتاج أن نذكر لهم أقوال أهل السنّة في أنّ الاختلاف حول هذه المسألة هو خلافٌ في مسألة فرعية لا أصولية ولا عقائدية ـ في نظر بعض علماء أهل السنّة ـ.
كما أنني أرفض أن نتهم الوهابيين بكراهية الرسول الأعظم ـ والعياذ بالله ـ أو التنقيص منه، لأنّهم يرفضون التوسل به بعد مماته؛ إذ لا ترابط بين رفض التوسل بالنبي بعد الممات وبين كراهيته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، فلا يصح أن نقابل خطأ الوهابيين بخطأ مثله.
وفي هذه المسألة نذكر لإخواننا الوهابيين ـ على سبيل المثال ـ ما قاله الإمام الشيخ حسن البنا ـ رحمه الله ـ حول هذا الموضوع، قال ـ رحمه الله ـ:
(والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه موضع خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة)(67).
وإذا تبين لهم أنّ الاختلاف في هذا الموضوع هو اختلاف فرعي لا أُصولي، حينئذ سوف نستطيع أنّ نستنقذهم من اتهامنا واتهام أهل السنّة بالشرك؛ لأنّهم يعلمون أنّ الاختلاف في المسائل الفرعية لا علاقة له بالشرك أو الكفر، وإنّما يتصل بالخطأ والصواب.
ولا بد لنا من استخدام هذه الطريقة في هذه المسألة وفي كلِّ مسألة مع الوهابية؛ لأنّهم بسبب مشكلة الخلط بين أُصول الدين وبين فروع الدين قد خلقوا فتنة خطيرة بينهم وبين أهل السنّة من جهة وبينهم وبين الاثني عشرية من جهة أخرى حول هذه المسألة. وقد عانى الإمام الغزالي من الفتنة التي خلقتها الوهابية ـ من حيث لا تعلم ـ حول هذه المسألة، وفي هذا يقول ـ رحمه الله ـ:
(ونعود إلى التوسل بذات الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين يدعو المسلم ربّه؛ إنّ الخلاف بين المجيزين [يعني: أهل السنّة والاثني عشرية] والمانعين [يعني: المصابين بمشكلة الخلط وهم الوهابية] كاد يشبه الخلاف بين دينين، ولم أر لذلك سبباً معقولاً)(68).
وهذا صحيح في عمومه، ولكن يبقى أن نشير أنّه يوجد سبب معقولٌ لهذا الخلاف الذي وصفه الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ بأنّه (كاد يشبه الخلاف بين دينين)، وهذا السبب المعقول يكمن في مشكلة الخلط بصورة عامة التي يعاني منها العقل الوهابي، فهذه المشكلة جعلته يخلط بين ما هو من أُصول الدين وما هو من فروع الدين.
وما دام أنّ الموضوع يتعلق بأُصول الدين عند الوهابية فقد أصبحت تتعامل مع مخالفيها في هذه المسألة كما يتعامل المسلمون مع الديانات الأُخرى؛ فهي تتهمهم بالشرك، كما تتهمهم بالغلو.. وفي هذا يقول الإمام الغزالي موجهاً خطابه للوهابيين الذين اتهموا أهل السنّة والاثني عشرية بالشرك بسبب أنّهم توسلوا إلى الله ـ أثناء الدعاء ـ بأحدٍ من خلقه:
(وبقي أن ننصح هواة الإتهام بالشرك [يعني: المصابين بمشكلة الخلط] أن ينظفوا سرائرهم وألسنتهم من سوء الظن، ولا يبنوا أحكاماً على أوهام..(69))(70).
* * * *
والقضية الثالثة ـ قضية حكم الأخذ بخبر الآحاد في مسائل الاعتقاد ـ: من أهمّ القضايا التي خلقتْ الوهابية ـ من حيث لا يعلمون ـ بسببها فتنة ومعركة بين المسلمين(71)، ودخلت الوهابية باسم أنصار القائلين بحجية خبر الآحاد في مجال الاعتقاد، واتهمت القائلين بعدم حجية خبر الآحاد في مجال الاعتقاد بالغلو، فاستعرت الحرب بينها وبين هؤلاء.
وولدت معركة خطيرة بعيدة عن البحث العلمي، حتى أصبح القارئ يشعر بأنّ هنالك حزبين لا يلتقيان أبداً؛ الحزب الأوّل ضالع في الأخذ بخبر الآحاد في مجال الاعتقاد، والحزب الثاني مؤيد للتيار الذي يرفض الأخذ بخبر الآحاد في مجال الأعتقاد. وهكذا؛ خلقت الوهابية من هذه القضية تمزقاً شاملاً بين المسلمين.
وأشهد أنّه ما دخلت الوهابية في قضية ـ أي قضية ـ إلاّ وصنعت ضجّة، وهي تظن أنّها تصنع ذلك في مصلحة الإسلام والمسلمين. ولا يمكن أن نعالجهم إلا إذا استنقذناهم من تخليطهم المعيب في كل مذهب أو قضية يتناولونها.
وحينما يعرض علماء أهل السنّة وعلماء الاثني عشرية قضية (الأخذ بخبر الآحاد في مسائل الاعتقاد) يحسنون طرحها، ويحسنون تقديم الحكم فيها، بطريقة بريئة من نزوات اتهام المسلمين بالغلو والانحراف.
أمّا الوهابيون فكيف رسموا هذه القضية؟
لقد رسموها بحالة تقتضي أن تسوء علماء الإسلام من أهل السنّة والاثني عشرية والوهابية وتسر خصوم الإسلام(72).
ولست أتحامل على الوهابيين، وإنّما أُطالبهم أنْ لا يتهموا أعلام الإسلام بالغلو لأجلِ مخالفتهم في هذه القضية.
وفي الحقيقة أنّ اتهام الوهابيين لمخالفيهم من أهل السنّة ومن الاثني عشرية بالغلو أصبح معلوماً لكل من قرأ كتب الوهابيين أو حضر في مجالسهم؛ فلا يخالفهم المسلم ـ أي مسلم ـ في قضية إلاّ ويصفونه بأنّه من الغلاة. وبسبب توسعهم في مدلول الغلو أصبح الكثير من المسلمين في العالم الإسلامي مسجلين في قائمة الغلاة المنحرفين!
ولذلك تجد أنّ الوهابيين ـ من حيث لا يعلمون ـ هدموا حدود الغلو وتجاوزا معاييره التي رسمها الكتاب والسنّة، ورسموا صورة للغلو غريبة لا يقبلها علماء الإسلام من أهل السنّة والاثني عشرية وتوسعوا في فهم حقيقة الغلو توسعاً كبيراً، حتى إنّك من النادر أن تجد علماً من أعلام الإسلام إلاّ واتهموه بالغلو وأصبحت الوهابية تعدّ بعض القضايا المستندة إلى الكتاب والسنّة من الغلو، مع أنّها من صميم الإسلام وبهذا وسعوا دائرة (الغلو) أيّما توسيع حتى جعلوا الاثني عشرية من الغلاة. ولو أخذنا بمفهوم الوهابيين عن الغلو لكان من المستحيل أنّ تجد إنساناً (معتدلاً) في هذا الوجود!!
* * * *
وأعود إلى ما ذكرت آنفاً من البحث عن قضية (حكم العمل بالخبر الآحاد في مسائل الاعتقاد)، وحتى يستبين الأمر لإخواننا الوهابيين في أنّ الذين خالفوهم في هذه القضية ليسوا من الغلاة؛ سوف أوضح لهم أنّ بعض الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يخالفونهم في هذه القضية، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنّ عائشة ـ رضوان الله عليها ـ ردت خبر عمر ـ رضي الله عنه ـ في حديث (تعذيب الميت ببكاء أهله عليه) وقالت: ((رحم الله عمر، والله ما حدّث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه)).
وقالت: ((حسبكم القرآن (ولا تزروا وازرةٌ وزرى أُخرى)(73)..))(74).
وإذا كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تتعامل مع هذه الرواية بهذه الصورة فكيف يصرّ الوهابيون على اتهام المسلمين بالغلو لأنّهم لم يأخذوا بعقائد وهابية مستقاة من أحاديث آحادية؟!
وحينما يقذف الوهابيون إخوانهم من أهل السنّة ومن الاثني عشرية بالغلو في المرحلة الأُولى، يتهمونهم في المرحلة الثانية بالشرك؛ لأنّهم ـ في نظرهم ـ خالفوا رواية آحادية صدرت من قبل رجل يحتمل عليه الخطأ والنسيان، أو يحتمل أنّهم أخطأوا في تعديله؛ إذ يجوز أن يكون ظاهره العدالة وغاب عنهم حقيقة أمره وخفاياه.
وهل من المنطق أن نتهم المسلمين بالغلو لأجل رفضهم عقيدة مبنية على رواية آحادية لم يأخذ بها إلاّ بعض الوهابيين؟ بل هل يجوز لنا أن نتهم السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ بالغلو لأنّها ردتْ حديثاً آحادياً؟.. ومن هنا قال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: ((... ردّ من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث))(75).
وعلماء الاثني عشرية وعلماء أهل السنّة لم يحاربوا كل ما ورد من الأحاديث الآحادية، بل حاربوا الأحاديث الآحادية التي تسيء إلى عقيدة الإسلام الصافية والنزيهة.
ونحن لا نشك أنّ هذه القضية من أخطر القضايا التي جعلت الوهابية البريئة تتهمُ المسلمين بالغلو؛ لأنّ الوهابية عندما أصرّت على الأخذ بأخبار الآحاد في مسائل أُصول الدين وقعت في أخطاء كثيرة، وادخلت الوهابية ـ من حيث لا تعلم ـ قضايا كثيرة بعيدة عن الإسلام إلى مسائل أُصول الدين. كما أنّ هذه القضية الخطيرة هي التي جعلت الوهابية تتهم المسلمين بالغلو؛ لأنّهم رفضوا العقائد الوهابية التي تكونت عند الوهابيين بسبب اعتمادهم على أخبار آحادية في إثبات أُصول عقيدتهم... وجعلهم الإيمان بالأخذ بأَخبار الآحاد في اثبات العقائد الشاذة يكفرون مَنْ عداهم مِنْ المسلمين؛ لأنّهم لم يعملوا بالأخبار الآحادية الظنية إذا كانت تأتي بأُمور شاذة في مسائل العقيدة.
وحتى يُحسن الوهابيون الظن بمخالفيهم في هذه القضية يستحسن أن ننقل لهم أقوال علماء أهل السنّة في هذه القضية، حتى يعرفوا أنّهم خالفوا جمهور المسلمين في هذه القضية، ثُمّ اتهموهم بالغلو وفي هذه القضية يقول القاضي عياض:
(قال ابن القاسم وابن وهب: رأيت العمل [يعني: عمل أهل المدينة] اقوى من الحديث [يعني: أقوى من حديث الآحاد])(76).
وإذا كان الإمام مالك ـ رحمه الله ـ يرد حديث الآحاد في بعض المسائل الفقهية إذا تعارض الخبر الآحادي مع السيرة العملية لأهل المدينة؛ فكيف يصّر الوهابيون على الأخذ ببعض أخبار الآحاد في مجال مسائل العقيدة، ثُمّ يتهمّون من شكك فيها بالغلو، ويتهمونه بمحاربة السنّة النبوية؟ وإذا كانوا يتهمون علماء أهل السنّة وعلماء الاثني عشرية بالغلو، لأنّهم شككوا في بعض عقائد الوهابية المستقاة من أخبار آحادية؛ فما هو قو لهم في الصحابة وفي الأئمة الأربعة الذين شككوا في بعض المسائل الفرعية المبنية على أخبار آحادية؟.. ولو أنصفوا لاحتملوا العذر لعلماء أهل السنّة ولعلماء الاثني عشرية كما احتملوه للصحابة وللأئمة الأربعة.
وفي الحقيقة أنّ اعتقاد الوهابيين بالأخذ بالخبر الآحادي في مجال العقيدة قد جعلهم يدخلون في العقيدة مسائلَ غريبة وخطيرة، ثم يتهمون كل سني أو اثني عشري بالغلو إذا خالف هذه العقائد الغريبة والخطيرة!
ولولا أنني أكره التشنيع على المسلمين، وأنني من دعاة التقريب بين الاثني عشرية والوهابية؛ لذكرتُ بعض عقائد الوهابيين الغريبة التي انبثقت وتولدت من بعض الروايات الآحادية التي رفضها أهل السنّة والاثنا عشرية.
ويكفي ـ هنا ـ أن نذكر لإخواننا من الوهابيين ما جاء عن الإمام أحمد في هذه القضية.
وفي هذا قال العلامة الشيخ يوسف القرضاوي ـ حفظه الله ـ:
((وقد وجدت الحنابلةُ مختلفين في هذه القضية، نظراً لاختلاف ما روي عن الإمام أحمد بشأنها، وتبين لي أنّ معظم الأصوليين المحققين في المذهب [الحنبلي] يميلون إلى أنّ حديث ـ أو خبر الواحد ـ لا يفيد اليقين. وبتعبير آخر: لا يقتضي العلم. ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في (العدة)، وأبو الخطاب في (التمهيد)، وابن قدامة في (الروضة)، وابن تيمية في (المسودة)(77)..)).
والوهابيون لا يعلمون أنّهم خالفوا الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في هذه القضية، حيث ثبت أنّه قال:
((.. إنّ هذا من أخبار الآحاد فكيف يثبت به أصل الدين الذي لا يصّح الإيمان إلاّ به))(78).
وهكذا؛ نجد الإمام الشاطبي يقول:
(.. الظن في أُصول الدين فإنّه لا يغني عند العلماء؛ لاحتماله النقيض عند الظان، بخلاف الظن في الفروع فإنّه معمول به عند أهل الشريعة، للدليل الدال على إعماله، فكان الظن مذموماً إلاّ ما تعلّق منه بالفروع. وهذا صحيح ذكره العلماء في هذا الموضع)(79).
 بل خالف الوهابيون ـ من حيث لا يحتسبون ـ جمهور الأُمة، حيث ذهب جمهور أهل السنَّة إلى (أنّ الأحاديث الآحادية(80) لا يجوز الاحتجاج بها في المسائل العقائدية، وذلك لعدم القطع بثبوتها).
وكل من بحث عن هذه القضية اتضح له أنّ هذا هو مذهب جمهور الأُمة، وأنّه مذهب إمام الحرمين في (البرهان)، والسعد في (التلويح)، والإمام الغزالي في (المستصفى)، والإمام ابن عبد البرّ في (التمهيد)، والإمام ابن الأثير في مقدمة (جامع الأصول)، وصفي الدين البغدادي في (قواعد الأُصول)، والإمام ابن قدامة الحنبلي في (روضة الناظر)، وعبد العزيز البخاري في (كشف الأسرار)، وابن السبكي في (جمع الجوامع)، والمهدي في (شرح المعيار)، والإمام الصنعاني في (إجابة السائل)، وابن عبد الشكور في (مسلم الثبوت)، والإمام الشنقيطي في (مراغي الصعود)... الخ... الخ... وغيرهم كثير من كبار قدماء أهل السنَّة ومتأخريهم ـ رحم الله امواتهم وحفظ أحياءهم ـ.
وحتى يزداد الأمر وضوحاً أذكر أقوالاً أُخرى في توضيح وتبيين هذه القضية، لعل الله يهدي إخواننا الوهابيين إلى الرشاد فلا يتهمون مخالفيهم بالغلو لأجل هذه القضية الخلافية.
وفي هذه القضية يقول الإمام الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ:
(خبر الواحد لا يقبل في شيءٍ من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها).
وقال الإمام أبو اسحاق الشيرازي ـ رحمه الله ـ:
(أخبار الآحاد لا توجب العلم)(81).
وقال الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ:
(... خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلومٌ بالضرورة، فإنا لا نصدق بكل ما سمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين..)(82)!
وقال العلامة الشيخ ابن عبد الشكور ـ رحمه الله ـ:
(الأكثر من أهل الأُصول ومنهم الأئمة الثلاثة على أنّ خبر الواحد إن لم يكن معصوماً لا يفيد العلم مطلقاً، سواء احتف بالقرائن أو لا)(83).
إلى أن قال:
(ولو أفاد خبر الواحد العلم لأدى إلى التناقض إذا أخبر عدلان بمتناقضين...)(84).
وقال الإمام أبو منصور عبد القاهر البغدادي ـ رضوان الله عليه ـ:
(وأخبار الآحاد متى صح إسنادُها، وكانت متونها غير مستحيلةٍ في العقل كانت موجبةً للعمل بها دون العلم)(85).
وقال الإمام البيهقي ـ رحمه الله ـ:
(... ترك أهلُ النظر من أصحابنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع..)(86).
وقال الإمام فخر الدين الرازي ـ رحمه الله ـ:
(اعلم أنّ المراد في أُصول الفقه بخبر الواحد الخبر الذي لا يفيد العلم واليقين)(87).
وقال ـ أيضاً ـ ينتقد الذين يأخذون بأخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد:
(... ثُمّ إنّهم يتكلمون في ذات الله تعالى وصفاته بأخبار الآحاد، مع أنّها في غاية البعد عن القطع واليقين)(88).
وفي الأخير أذكر ما جاء في هذه القضية عن المعاصرين من أهل السنَّة.
قال الإمام الشيخ محمد الغزالي المصري ـ رحمه الله ـ:
(لقد تخرجتُ في الأزهر من نصف قرن، ومكثتُ في الدراسة بضع عشرة سنة، لم أعرف خلا لها إلاّ أنّ أحاديث الآحاد يفيد الظن العلمي، وأنّه دليل على الحكم الشرعي ما لم يكن هناك دليل أقوى منه. والقول بأنّ حديث الآحاد يفيد اليقين ـ كما يفيد المتواتر ـ ضرب من المجازفة المرفوضة عقلاً ونقلاً)(89).
ويقول ـ أيضاً ـ في أثناء رده على الوهابيين الذين اتهموا كبار علماء أهل السنَّة وعلماء الاثني عشرية بالغلو بسبب رفضهم بعض العقائد الوهابية الشاذة الثابتة بأخبار الآحاد:
(حديث الآحاد يعطي الظن العلمي أو العلم الظني، ومجاله الرحب في فروع الشريعة لا في أُصو لها. ونحن نؤكد أنّ خبر الواحد قديماً وحديثاً ما كان يفيد إلاّ الظن... ومع ذلك ففي عصرنا قوم [يعني: الوهابية] يريدون بخبر الواحد إثبات العقائد التي يكفر منكرها، وهذا ضرب من الغلو الممجوح)(90).
وقال الإمام يوسف القرضاوي ـ حفظه الله ـ:
(حديث الآحاد وإثبات العقائد... وهذا... مؤسس على أمرين:
1 ـ إنّ العقائد لا بد أن تُبنى على اليقين لا على الظن.
2 ـ وإنّ أحاديث الآحاد ـ وإن صحتْ ـ لا تفيد اليقين، بل لا يفيد اليقين إلاّ المتواتر.
ونصوص القرآن تؤيد الأمر الأول؛ [يعني: أنّ نصوص القرآن تؤيد أنّ العقائد لا بد أن تبنى على اليقين لا على الظن] فإنّ الله تعالى ذم المشركين بقوله:
(وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم:28).
وأقوال جمهور علماء الأُصول (أُصول الدين وأُصول الفقه) تؤيد الأمر الثاني [يعني: تؤيد أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين].
وهذا التوجه في التعامل مع أحاديث الآحاد في العقائد هو الشائع لدى المدارس والجامعات الدينية الشهيرة في العالم الإسلامي، مثل: الأزهر، والزيتونة، والقرويين، وديوبند، وما تفرع منها)(91).
ويقول الشهيد المفكر الاسلامي سيد قطب ـ رضوان الله عليه ـ:
(وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة، والمرجع هو القرآن، والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أُصول الاعتقاد)(92.).
وفي هذا يقول الإمام الأكبر محمود شلتوت ـ رحمه الله ـ:
(.. وهكذا؛ نجد نصوص العلماء (متكلمين وأصوليين) مجتمعة أنّ خبر الآحاد لا يفيد اليقين، فلا تثبت به العقيدة، ونجد المحققين يصفون ذلك بأنه ضروري لا يصح أن ينازع أحد في شيء منه)(93).
إلى أن يقول:
(ومن هنا يتأكد ما قررناه من أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة، ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات؛ قولٌ مجمع عليه، وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء)(94).
وهكذا وهكذا هنالك عشرات الأقوال بين أيدينا التي ذكرها كبار أهل السنّة في هذه القضية، وإنّما ذكرناها من أجل إقناع إخواننا الوهابيين أن يعذروا علماء أهل السنّة الذين خالفوهم في هذه القضية، الخلافية ولا داعي لجعلها سبباً في تمزيق الصف الإسلامي.
صورة مختصرة عن السبب الثالث من أسباب مشكلة الخلط عند الوهابية(95):
للاثني عشرية مواقفها الشديدة من الغلو والغلاة، تلك المواقف التي بها تفردت عن سائر المذاهب الإسلامية، ولم يتخذ أيُّ مذهبٍ من مذاهب الإسلام مواقفاً حاسمة وشديدة من الغلو والغلاة كمواقف الاثني عشرية الشديدة ضد الغلو والغلاة؛ لأنّ الاثني عشرية في حقائقها وفي خصائصها تخالف تلك التصورات المنحرفة للغلاة، والمذهب الاثني عشري ـ بسبب استلهام حقائقه وخصائصه من القرآن الكريم والسنّة الصحيحة ـ لا يلتقي مع التصورات المجوسية والوثنية والغنوصية(96) للغلاة، منذ أول الطريق إلى منتهاه. وهو ـ بناء على الحقائق الثمان الرئيسية، وبناء على كل خصائصه التي لا تفارق القرآن والسنّة أبداً ـ لم يفكِّر لحظة واحدة بضم الغلو والغلاة إلى الإسلام، بل إنّ المذهب الاثني عشري يسعى لاستنقاذ الغلاة من التصورات الوثنية وضمهم إلى الإسلام، وهنالك الكثير من الغلاة الذين استنقذهم المذهب الاثنا عشري من الوثنيات وضمهم إلى الإسلام.
ونحن لسنا بحاجة لأن نبين لهم أكثر من ذلك إذ الواقع خيرُ دليلٍ، فلقد شاهدت وحاورت وصادقت بعض الغلاة الذين هجروا الغلو وضمهم المذهب الاثني عشري إلى الإسلام.
* * * *
ونحن لم نكتب هذا البحث إلاّ لأنّ جهل إخواننا الوهابيين بمواقف المذهب الاثني عشري من الغلو والغلاة؛ من الأسباب الرئيسية لتضّخم مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وبين فرق الغلاة عند الجماعة الوهابية، ومن ثَمّ فاخواننا من اتباع الجماعة الوهابية بحاجة ماسة إلى تبيين وتوضيح (مواقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة)، تقرِّب إليهم هذه المواقف كما هي في مصادرها في كتب الاثني عشرية.
وقارئ هذا البحث لا بد له أنْ يعلم أنّ التباين بين المذهب الاثني عشري وبين فرق الغلاة من البديهيات؛ لأنّ الاثني عشرية تتبع النصوص القرآنية كلمة كلمة وتتمسك بالسنّة ولا تتخطاها..
وهذا البحث إنّما كتب للذين لديهم شبهة؛ إذ الشبهة قد تجعل الأمر البديهي الصريح بحاجة إلى توضيح. ولا شك أنّ الذي يتبع منهج كبار علماء أهل السنَّة في العصور القديمة والعصر الحديث لا يحتاج إلى هذا البحث؛ لأنّهم لا يشكون في المفارقة والمباينة بين الاثني عشرية وفرق الغلاة(97).
وهذا البحث يتناول سبباً من أهمِّ الأسباب التي وسّعت مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الجماعة الوهابية. ولا شك أنّ الجماعة الوهابية لو كانت تعلم موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة لما خلطت بين الاثني عشرية وبين فرق الغلاة.
ويشتمل هذا البحث على خمسة أقسام:
القسم الأول: يتناول (موقف الاثني عشرية من التصورات الوثنية للغلاة).
القسم الثاني: يتناول (موقف الاثني عشرية من التشريعات الوثنية للغلاة).
والقسم الثالث: يتناول (موقف الاثني عشرية من الشخصيات الوثنية للغلاة).
القسم الرابع: يتناول (موقف الاثني عشرية من الروايات الوثنية للغلاة).
القسم الخامس: يتناول (موقف الاثني عشرية من الكتب الوثنية للغلاة).
وفيما يلي صورة للأقسام الخمسة التي تبين وتوضّح موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة:


القسم الأول(98): موقف الاثني عشرية من التصورات الوثنية للغلاة:
للمذهب الاثني عشري دور عظيم في انقاذ المسلمين من العقائد الوثنية والتصورات المنحرفة للغلاة.. ولم يكن مستطاعاً أن تنحصر التصورات المنحرفة للغلاة لولا تلك الجهود العظيمة التي بذ لها المذهب الاثني عشري في مواجهة الغلو والغلاة. وسوف يتَّضح ويتبين لنا الطريقة المنهجية والموضوعية التي اتخذها المذهب الاثني عشري في مواجهة الغلو والغلاة، مما جعل الغلو ينحصر ويتأقلم في شرذمة قليلة.. ولولا الاثنا عشرية لانتشرت تصورات الغلاة بين المسلمين.
* * * *
لقد كانت أهم الصور المنحرفة التي وقف المذهب الاثني عشري منها موقفاً حاسماً هي: الصورة التي تقتضي (تأليه الإنسان) وسلب صفة العبودية منه. وتلك الصورة ناشئة من عدم الفصل بين طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية، وبين مقام الإله ومقام الإنسان، وبين خصائص الإله وخصائص الإنسان.
لقد بيّن الأئمة الاثنا عشر ـ من لدن الإمام علي إلى الإمام المهدي ـ، في المئات من أقوا لهم المدّونة في كتب الاثني عشرية مقام (الإنسان) ومكانته، وصرّحوا بأنّ الإنسان مهما ارتقى في مراتب الكمال من المحال أنْ يرتقي من مقام العبودية إلى مقام الألوهية، ومن المحال أنْ يحصل على خاصّية من خصائص الذات الإ لهية. وأقوال الأئمة الاثني عشر هي استلهام من نصوص القرآن والأحاديث النبوية الصحيحة، وتبيين لما نزل في القرآن وما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.
ومن هنا تجد أُسلوب القرآن وأُسلوب السنّة بصورة واضحة وجلية في كلماتهم المفردة وفي عباراتهم المركبّة، وتجد تأثيرهما ـ القرآن والسنّة ـ بصورة ملموسة في كلِّ أقوا لهم. ولا بد للقارئ من التأمّل في أقوا لهم حتى يلاحظ انبثاقها وتولّدها من القرآن والسنّة النبوية.
ونحن نجد في كلّ أقوا لهم ما يقتضي شمول العبودية لكل شيء، وتفرّده ـ سبحانه ـ بالألوهية وأنها من مختصاته، فهي ألوهية لله ـ سبحانه ـ وعبودية لكل ما عداه ـ سبحانه ـ، وكل ما عداه فهو من عبيده.. ولأنّ أساس انحراف الغلاة يتمثّل ويتجسّم في تأليه الإنسان أو إعطاء خاصّية من خصائص الألوهية للعبيد؛ فقد كثرت أقوال الأئمة الاثني عشر على تأكيد صفة العبودية لكلّ ما عدا الله، ولأنّ الغلاة ـ لعنهم الله ـ ادّعوا إلوهية الأئمة الاثني عشر ـ والعياذ بالله ـ أو ادّعوا لهم خاصّية من خصائص الألوهية ـ والعياذ بالله ـ، فقد ركّزت أقوال الأئمة الاثني عشر تركيزاً كبيراً على تقرير وتأكيد عبوديتهم لله ـ تعالى ـ، وسلك الأئمة الاثنا عشر كل المسالك، واتبعوا شتى أساليب الإبانة والتعبير لتقرير صفة العبودية لله ـ تعالى ـ، والخضوع التام له، ولتقرير صفة البشرية لأنفسهم.
ولقد توسع الأئمة الاثنا عشر في استعراض حقيقة وصفهم بالعبودية والخضوع لله، وكل ذلك لأنّ نفي (حقيقة وصفهم بالعبودية) هي القاعدة التي يرتكز عليها الغلاة ـ لعنهم الله ـ، وهي القاعدة التي تنبثق منها كل تصوراتهم المغالية المنحرفة. والخضوع لمقام الألوهية جلي في جميع أقوال الأئمة، من لدن الإمام علي إلى الإمام المهدي. واحتلت هذه الحقيقة مساحة كبيرة في كتب الاثني عشرية التي جمعت أقوال الأئمة الاثني عشر.
إنّ حقيقة صفة العبودية للأئمة الاثني عشر يقررها الأئمة الاثنا عشر في مئات الأقوال المروية عنهم في كتب الاثني عشرية، وسنحاول أنْ نستعرض بعض الأقوال الواردة عنهم في تقرير هذه الحقيقة، وعلى القارئ الكريم أنْ لا ينسى أنْ يتذكر الأثر الحاسم لأقوال الأئمة الاثني عشر في محو التصورات الوثنية للغلاة، ولا ينسى ـ أيضاً ـ دور أصحاب الأئمة الاثني عشر الذين حفظوا هذه الأقوال ورعوها ودوّنوها حتى وصلت إلينا.
ونحن نبتغي ونهدف من عرض أقوال الأئمة الاثني عشر أنْ يكون قارئ هذا البحث على علم بأنّ هذه الأقوال إنّما تواجه الغلو وفرق الغلاة؛ الذين يقول بتكفيرهم علماء الاثني عشرية، لكننا نأسف لإخواننا الوهابيين الذين لم يدركوا أقوال الأئمة الاثني عشر، وظنوا أنّها موجهة نحو الاثني عشرية لا الغلاة، ومن هنا نجدهم في كتاباتهم يذكرون هذه الأقوال تحت باب (أقوال الأئمة الاثني عشر في ذم المذهب الاثني عشري).
ولو كان الوهابيون غير مصابين بـ (مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وبين فرق الغلاة) لما وقعوا في هذا الخطأ الخطير، لكن لا غرابة في هذا الخطأ الخطير بعد أنْ سيطرت عليهم (مشكلة الخلط).
* * * *
والآن نمضي في عرض صفة (عبودية الأئمة الاثني عشر) من خلال أقوا لهم التي آمن بها أتباع المذهب الاثني عشري، فقد روي عَنْ الإمام جعفر الصادق عن آبائه أنّه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ترفعوني فوق حقّي فإنّ الله ـ تعالى ـ اتّخذني عبداً قبل أن يتّخذني نبياً))(99).
وهذه الحقيقة ((اتّخذني عبداً)) توسّع الأئمة الاثنا عشر في عرضها؛ لأنها تبين أنّ مقام الإنسان مهما بلغ من الكمال فهو مقام العبودية لله سبحانه.
وروي عن الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ أنه قال: ((.... إيّاكم والغلو فينا، قولوا: إننا عبيد مربوبون...)).
وحقيقة ما قاله الإمام علي ((أننا عبيد مربوبون)) هي الحقيقة الأساسية والرئيسية، والحقيقة الواقعية التي آمن بها كلّ أتباع المذهب الاثني عشر.
ويرى المراجع لكتب الاثني عشرية اهتمام الأئمة الشديد في وصف أنفسهم بأنّهم عبيد لله ـ سبحانه ـ، ومربوبون له وكل كتاب من كتب الاثني عشرية عندما يتناول صفات الأئمة الاثني عشر يذكر هذه الحقيقة.
وهذه الصفة (صفة عبودية الأئمة الاثني عشر لله سبحانه) هي الصفة الأساسية للأئمة الاثني عشر عند الاثني عشرية، وتهتم كتب الاثني عشرية بتقرير صفة عبودية الأئمة الاثني عشر لله ـ سبحانه ـ في مواضع كثيرة، حتى استقرت هذه الحقيقة في نفوس كل الاثني عشرية، ووجدت حية قوية واقعية.
وعندما كنت أراجع أقوال الأئمة الاثني عشر حول هذه الحقيقة أقف متأملاً، وأقوم بتطبيق ما يذكره علماء الأئمة الاثني عشر وما ذكره الأئمة أنفسهم، فأجد تمام المطابقة بينهما، وأن ما قاله علماء الاثني عشرية هو عين ما ذكره الأئمة، حتى أصبحت عبودية الأئمة الاثني عشر ـ عند الاثني عشرية ـ من الحقائق الأساسية في هذا المذهب العظيم، وأصبحت هذه الحقيقة تملي على الاثني عشرية حياتهم، وتواجههم في كلِّ درب، وتعايشهم بالليل والنهار... عند ذلك لم يعدْ للغلو في الأئمة الاثني عشر مجال عند الاثني عشرية، ولم يعد للغلاة مكان.
وقد وضعت الحواجز القوية والمنيعة بين الاثني عشرية وبين الشرذمة القليلة المغالية المنبوذة من قبل الاثني عشرية، وبطلت ومحيت التصورات الوثنية للغلاة التي كان يعتقد بها شرذمة من الغلاة، وثبت في عالم الواقع الاثني عشري ـ الذي عشناه ولمسناه في فترة طويلة ـ حقيقة صفة عبودية الأئمة الاثني عشر لله سبحانه.
إنّ كل اثني عشري يدرك ويؤمن بما قاله الإمام الثامن (الإمام الرضا) من الأئمة الاثني عشر حيث يقول ـ رضوان الله عليه ـ:
((إنّ من تجاوز بأمير المؤمنين ـ كرم الله وجهه ـ العبودية فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين))(100).
وكل اثني عشري يؤمن بما قرره الإمام الرضا ـ رضوان الله عليه ـ من الفصل التام بين مقام الألوهية ومقام العبودية، وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية.
وعبودية الإمام علي لله ـ تعالى ـ هي القضية الأولى والقضية الكبرى في مذهب الاثني عشرية، الذين يؤمنون بكل ما ورد عن الأئمة الأحد عشر الذين جاءوا بعد الإمام علي؛ من أقوال تنفي الألوهية عن الإمام علي، وتنفي عنه أي خاصية من خصائص الألوهية، وتثبت وتقرر للإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ صفة العبودية لله ـ سبحانه ـ والخضوع له.
وكلّ اثني عشري يؤمن بما قال الإمام الرضا ـ رضوان الله عليه ـ في هذه العبارة المقتطفة: ((... أوليس علي ـ كرم الله وجهه ـ كان آكلاً في الآكلين، وشارباً في الشاربين، وناكحاً في الناكحين، ومحدثاً في المحدثين؟!
وكان مع ذلك مصليّاً خاضعاً بين يدي الله ذليلاً، وإليه أوّاهاً منيباً، أفمن هذه صفته يكون إ لهاً؟ فإنّ كان هذا إ لهاً فليس منكم أحدٌ إلاّ وهو الله؛ لمشاركته له [يعني: للإمام علي] في هذه الصفات الدالات على حدوث كل موصوف بها))(101).
وتتجلى هذه الأقوال بصورة واضحة وصريحة في كلمات علماء الاثني عشرية(102)؛ التي انبثقت وتولّدت من أقوال الأئمة الاثني عشر في تقرير عبوديتهم لله ـ سبحانه ـ. وكما انبثقت أقوال الأئمة الاثني عشر من الكتاب والسنة النبوية، فقد انبثقت أقوال علماء الاثني عشرية من أقوال الأئمة الاثني عشر ـ عليهم السلام ـ كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية في كل كتب الاثني عشرية، وتتجلى ـ أيضاً ـ في الواقع الفعلي المعاش للاثني عشرية المعاصرين.
* * * *
والحاجة إلى جلاء هذه الحقيقة هي حاجة ضرورية؛ من أجل معالجة الجماعة الوهابية التي تتهم الاثني عشرية بتأليه الأئمة الاثني عشر ـ والعياذ بالله ـ، ومن هنا نحن ما كتبنا هذا الكتاب إلاّ من أجل استنقاذهم من هذه التهمة الخطيرة. كما أنّ الحاجة إلى جلاء هذه الحقيقة الأساسية عند الاثني عشرية هي حاجة ضرورية؛ من أجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية بين الاثني عشرية وبين الوهابية الذين ظلموهم في هذه التهمة الخطيرة.
* * * *
وقبل أن نمضي في عرض الجهد الطويل لعلماء الاثني عشرية، الذي بذلوه في محاربة الغلو والغلاة(103)نحبُّ أن نقرر حقيقة تنفعنا في تجلية موقف الاثني عشرية من الغلو وفرق الغلاة، وتنفعنا في تجلية دور علماء الاثني عشرية في حفظ المسلمين من الغلو وفرق الغلاة، وتنفعنا ـ أيضاً ـ في تجلية موقف علماء الاثني عشرية من كلِّ المعتقدات والتصورات المغالية والمنحرفة لفرق الغلاة، وهذه الحقيقة تقول: إنّ أقوال الأئمة الاثني عشر في نفي صفة الألوهية عن الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ والتي ذكرنا بعضها؛ كان لها قوة دافعة في حياة الاثني عشريين، وحققت غرضها في استجاشة ضمير الاثني عشريين وتحريكهم ضد كل التصورات والاعتقادات المنحرفة؛ التي لا تتفق مع العقيدة الاثني عشرية المستلهمة من القرآن والسنّة.
ولقد استحالت تلك الأقوال إلى واقع ملموس ومحسوس، يدركه كل من عايش وجالس الاثني عشريين، وقد عشتُ معهم ثلاثة عشر عاماً. لقد قادت تلك الأقوال المذهب الاثني عشري إلى الاعتدال والوسطية في كيفية التعامل مع الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ، وفصلت هذه الأقوال بين الاثني عشرية وبين أي اعتقادٍ لا يلتقي مع الكتاب والسنّة؛ لأنّ الاثني عشريين لهم اهتمام شديد بتطبيق أقوال الأئمة الاثني عشر المستلهمة من الكتاب والسنّة، بسبب الأدلة والبراهين القوية والنصوص النبوية الصريحة في النصّ على الأئمة الاثني عشر(104)، وفي وجوب اتباعهم والتمسك بهم؛ لأنّهم لا يخالفون الكتاب والسنة. ومن هنا حين نستعرض النصوص الواردة عن الأئمة الاثني عشر في تقرير صفة العبودية لله ـ سبحانه ـ(105) لأنفسهم، وحين ننقل أقوا لهم؛ إنّما نستعرضها وننقلها لأنها ليست مجرّد أقوال تقال، بل هي أقوال استقرّت في ضمير الاثني عشريين، واستقرت في حياتهم. وهي ليست أقوالاً تلفظها شفاه الاثني عشريين، وليست أقوالاً بعيدة عن واقع حياة الاثني عشريين، بل استحالت هذه الأقوال إلى عقيدة إيجابية آمن بها الاثنا عشريون.
وإلى هنا نكون قد قدّمنا صورة مقتضبة عن المرحلة الأُولى في دراسة المذهب الاثني عشري، ونشرع الآن في تبيين المرحلة الثانية لدراسة هذا المذهب.
* * * *

المرحلة الثانية: (مرحلة المعرفة التحليلية للمذهب الاثني عشري)

والأمر الثاني الذي يجب مراعاته والالتزام به حينما نريد طرح (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) على أخواننا الوهابيين، حتى لا يرفضوا مسألة التقريب بين الاثني عشرية والوهابية وحتى لا يتعرضوا للانزلاق والخطأ، وحتى لا يرتكبوا جريمة التشويه في حقِّ (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) من حيث لا يعلمون؛ هو أن نبين لهم ضرورة دراسة هذه المرحلة، بعد أن وضحّنا لهم المرحلة الأولى. كما سنوضح لهم أنّ هدف (المرحلة الأولى) يتلخَّص في معالجتهم واستنقاذهم من مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، وتحقق هذا ا لهدف عندما بيّنا لهم في المرحلة الأُولى الفرق بين الحقائق والخصائص المرتبطة والمتعلِّقة بالاثني عشرية، وبين الأوهام المرتبطة والمتعلِّقة بفرق الغلاة. أما ا لهدف الرئيسي لهذه المرحلة (مرحلة المعرفة التحليلية للاثني عشرية) فهو يتبلور في تحليل ودراسة الحقائق التي أثبتنا ـ في المرحلة الأُولى ـ ارتباطها وتعلقها بالاثني عشرية بالدليل والبرهان، ولا علاقة لنا بالأوهام التي ثبت لنا عدم انتسابها للاثني عشرية في المرحلة الأُولى ـ أيضاً ـ.
والحقائق التي سوف نقوم بتحليلها ودراستها هي الحقائق الموجودة في الكتب المعتبرة عند الاثني عشرية. وهذه الحقائق ليست شيئاً آخر سوى الثمرة الطبيعية لما تحتويه الكتب المعتبرة عند الاثني عشرية.
وكلمة أُخرى في المنهج الذي نتوخاه في هذا الكتاب وهي: إنّنا قسّمنا الحقائق المستخرجة والمستلهمة من كتب الاثني عشرية إلى ثمان حقائق، وفي هذه المرحلة الثانية سوف نتناول (أربع حقائق) من حقائق الاثني عشرية، وسنتناول في المرحلة الثالثة (مرحلة المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري) الحقائق الأربع المتبقية من حقائق الاثني عشرية الثمان.
والذي يقرأ هذه المرحلة دون أن يراجع المرحلة الأُولى من هذا الكتاب قد لا يدرك البيان الذي سنقدّمه حول الحقائق الأربع التي سنتناو لها في هذه المرحلة، وسنرى هذا بوضوح كلما تقدم بنا البحث.
وقد أطلقنا على هذه المرحلة بـ (المرحلة التحليلية للمذهب الاثني عشري)، لأننا سوف نقوم في هذه المرحلة بدراسة تحليلية لمحتويات ومضامين حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
ولعله مما يُحتم الالتزام بهذا المنهج الذي وضعناه لغرض تصحيح منهج أتباع الجماعة الوهابية في دراسة الاثني عشرية، ولغرض التقريب بين الاثني عشرية والوهابية أن نُدرِكَ حقيقة هامة، وهي: إنّنا وجدنا أنّ الطابع العام فيما كتبه أتباع الجماعة الوهابية حول الاثني عشرية لم يكن يستند على الدراسة التحليلية لمضامين ومحتويات الاثني عشرية، بل كان يستند على الدراسة التحليلية لمضامين ومحتويات مقالات فِرق الغلاة؛ التي ذكرها قدماء أهل السنَّة وذكرها قدماء الاثني عشرية في كتب المقالات والفرق، فتلقف تلك المقالات أتباع الجماعة الوهابية وحسبوها من حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
والغريب أنّ بعض المتأخرين من أهل السنَّة اعتمدوا على تلك الدراسات الوهابية عن الاثني عشرية، وهم يعلمون أنّ أتباع الجماعة الوهابية اعتمدوا على تلك المقالات التي نسبها علماء أهل السنَّة، وعلماء الاثني عشرية في كتب الفرق للفرق المغالية والمنحرفة التي كفرها الاثنا عشرية.
وقد لاحظت أنّ المحققين من أهل السنَّة أدركوا هذه الحقيقة ا لهامة، ومن ثَمّ رفضوا مقالات الجماعة الوهابية ضد الاثني عشرية، بعد أن علموا أنّ منبعها المقالات التي أثبتها أهل السنَّة والاثني عشرية عند ذكر فِرَق الغلاة، وأخذوا يدرسون الاثني عشرية من خلال تحليل مضامينها ومحتوياتها.
وهذا هو الذي يفسّر لنا سرّ الاختلاف بين فتوى (إحسان إ لهي ظهير) الذي حكم بتكفير الاثني عشرية، وفتوى إمام أهل السنَّة وشيخ الأزهر (محمود شلتوت) الذي حكم بأنّ الاثني عشرية مسلمون، فالإمام الأكبر اعتمد على الدراسة التحليلية لمضامين الاثني عشرية، فحكم بأنّ الاثني عشرية مسلمون، وإحسان إ لهي ظهير اعتمد على تلك المقالات، فحكم بكفر الاثني عشرية، ومن هنا تأتي الأهمية الكبرى لهذه المرحلة.
إنّ المنهج السليم يقتضي أنْ ندرس مضامين ومحتويات المذهب ـ أيّ مذهب ـ قبل الحكم عليه بالكفر.
وسبق أنْ أشرنا أنّ قصدنا في هذه المرحلة (مرحلة المعرفة التحليلية للمذهب الاثني عشري) إنّما هو عرض بعض الحقائق ا لهامة عند الاثني عشرية، وأشرنا إلى أننا سنتناول أربع حقائق.
ولعله يتحتَّم أن ندرك هذه الحقائق الأربع ا لهامة بصورة مجملة، وسوف نتناول هذه الحقائق بصورة مفصّلة في القسم الثاني من هذا البحث(106).

الحقيقة الأُولى: (حقيقة الألوهية والنبوة في المذهب الاثني عشري)

إنّ أوّل حقيقة من الحقائق التي طُرِحت في كتب الاثني عشرية هي: (حقيقة الألوهية والنبوة)، واحتلت هذه الحقيقة ا لهامة والأساسية أكبر مجال في الفكر الاثني عشري.
ويدرك كل من راجع كتب الاثني عشرية أنّ هذه الحقيقة هي موضوع الاثني عشرية وغايتها، فكتب العقيدة عند الاثني عشرية هي تعريف بالله وبالنبوة، تعريف لتوحيده في الألوهية، وتوحيده في الربوبية.. وتعني كل كتب الاثني عشرية بضرورة الفصل والتمييز بين خصائص الألوهية وخصائص العبودية، وضرورة تجريد العباد من خصائص الألوهية؛ فالله هو وحده المتفرد بالألوهية، وكل ما وراءه ـ سبحانه ـ فهو من خلق الله.
إنّ الاهتمام الشديد لدى الاثني عشرية بهذه الضرورة ـ أي ضرورة الفصل بين الله سبحانه وبين العباد المخلوقين ـ هو الذي جعل الاثني عشرية يقفون موقفاً عدائياً من الفرق المغالية. وإذا راجع القارىء الكمية ا لهائلة من الكتب التي كتبها الاثنا عشريون في الرد على الغلاة، وقرأ محتويات هذه الردود، يجد أنّ هذه الردود كانت تأكّد على تكفير الغلاة؛ لأنّهم أهملوا ضرورة الفصل بين مقام الألوهية ومقام العبودية. ومن أجل هذه الضرورة كفّر الاثنا عشرية الغلاة الذين يقولون بالحلول والاتحاد؛ إذ إنّ هذا القول يلزم منه عدم الفصل بين مقام الألوهية ومقام العبودية.
ومن أجل هذه الحقيقة الكبرى حارب الاثنا عشرية الغلو والغلاة، حتى أصبحوا في العصر الحديث شرذمة قليلة منبوذة ومطرودة من قبل كل الاثني عشريين.
والقسم الآخر من هذه الحقيقة الأُولى هي قضية (النبوة) إذ إننا نعتقد ـ من خلال الدراسة الطويلة للمذهب الاثني عشري لفترة ثلاثة عشر سنة متواصلة(107) ـ أنّ منهج الاثني عشرية وطريقتهم في طرح قضية (النبوة) وعرضها يتفق تماماً مع منهج القرآن في عرض هذه القضية ا لهامة. ونطلب من القارئ الكريم أن يرجع في معرفة هذه القضية وغيرها إلى كتب الاثني عشرية وحدها، ليجد فيها أنّها تعرض قضية النبوة من خلال الاعتماد على النصوص القرآنية.
ونحب أن يكون معروفاً لقارئ هذا الكتاب أنّ الاثني عشرية حاربوا الغلاة؛ لأنّهم لم يعتمدوا على القرآن في معرفة قضية النبوة، وخرجوا عن منهجه، وأنكروا حقيقة قرآنية مسلّمة وهي حقيقة (إنّ قضية النبوة خُتمت بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم)، كما حاربوا الغلاة؛ لأنّهم أنكروا حقيقة قرآنية مسلّمة وهي حقيقة (أفضلية محمد على كلِّ البشر).
وملحوظ في كتب الاثني عشرية أنّها تقوم بتجلية حقيقة خاتمية النبوة بمحمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وتجد كل مَنْ كتب مِنْ الاثني عشرية حول نبوة النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يذكر أنّه آخر وخاتم الأنبياء، ويكفر من يزعم أنّ هناك نبيّاً بعده؛ فلا نبوة بعده، ولا رسالة جديدة بعد رسالته. وتلمس في مواضع كثيرة في الكتب التي كتبها الاثنا عشرية ضد الغلاة؛ ا لهجوم الشديد على الذين يزعمون أنّ النبوة لم تختم بمحمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.
ونحبُّ في الأخير أنْ يكون معروفاً لقارئ هذا الكتاب أنّ هذه الحقيقة الأُولى عندما عرضت في كتب الاثني عشرية لم تعرض بصورة مستقلة عن القرآن والسنّة، بل إنّ القارئ لكتب الشيعة سوف يجد بصورة صريحة أنّ هذه الحقيقة مأخوذة بكاملها وتمامها من نصوصّ القرآن ومن السنّة الشريفة(108).
الحقيقة الثانية: (حقيقة الشرائع والأحكام في المذهب الاثني عشري)
ولعله مما يميز هذا المنهج الذي رسمناه هو أنّه التزم بالترتيب العلمي والمنطقي بين الحقائق الثمان التي يتكوّن منها هرم الاثني عشرية، بحيث إنّه إذا أدركت الحقيقة الأُولى فسوف تدرك بقية الحقائق. فهذه الحقائق تسير على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد، مترتبة بشكل هرمي، وكل حقيقة تسوقنا إلى الحقيقة التي بعدها؛ فمن السذاجة والعبث محاولة الإصابة في إدراك الحقيقة التالية إذا لم تحالفنا الإصابة في إدراك الحقيقة السابقة.
وإذا كانتْ الحقيقة الأُولى تتحدّث عن العقيدة، وكان الطابع العام لها هو الحديث عن الجنبة الفكرية، فإنّ الحقيقة الثانية تتحدّث عن جانب عملي.. الحقيقة الأُولى تتحدّث عن ممارسات العقل، وهذه الحقيقة تتحدث عن ممارسات الجسد. وهذا هو الفرق بين الحقيقتين. ولا يمكن التفكيك بين الحقيقتين، فالإيمان بالحقيقة الأُولى يقتضي العمل بالحقيقة الثانية.
ومن ثَمّ فالحديث عن هذه الحقيقة في كتب الاثني عشرية لا ينفصل عن الحديث عن الحقيقة الأُولى؛ لأنّ هذه الحقيقة هي من مقتضيات الحقيقة الأُولى (حقيقة الألوهية والنبوة)، وتنبثق منها انبثاقاً ذاتياً؛ فإذا كانت الحقيقة الأولى في كتب الاثني عشرية تقرر أنّه لا إله إلاّ الله، ولا معبود إلاّ الله، ولا خالق إلاّ الله، ولا نافع ولا ضار إلاّ الله، ولا مدبر إلاّ الله، ولا مشرِّع إلاّ الله، فإنّ هذه الحقيقة الثانية تقول: ((ما دام أنّه قد تقرر وثبت في الحقيقة الأُولى أنّه لا مشرِّع إلاّ الله؛ فيجب إذن أن لا تستمد الشرائع والأحكام إلاّ من القرآن الكريم والسنّة الشريفة)).
ومن ثَمّ فحين يراجع الإنسان كتب الشرائع والأحكام الفقهية في كتب الاثني عشرية، سيجد أنّها مستخرجة ومنبثقة ومستنبطة من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، وأنّ منهج كتب الاثني عشرية في عرض الشرائع والأحكام لا يخالف منهج القرآن والسنّة في عرض الشرائع والأحكام، ومن ثَمّ رتبوا الشرائع والأحكام بنفس الصورة التي عرضها القرآن، وتعاملوا بصورة مباشرة مع النصوص القرآنية.
وطريقتهم ـ في كتبهم الفقهية ـ أنْ يشرعوا بالبحث عن أحكام الصلاة، ثُمّ أحكام الصيام، ثم أحكام الزكاة والخمس، ثم أحكام الحج.
وحين رأى الاثنا عشرية أنّ الغلاة انحرفوا في تأويل الشرائع والأحكام عن منهج القرآن والسنّة، وحرّفوا معانيها إلى معانٍ باطنية غريبة عن معانيها الشرعية واللغوية مما يقتضي تعطيلها؛ كفرّوهم وتبرّأوا منهم.
ويندرُ أن تجد كتاباً من كتب الاثني عشرية في أُصول الفقه لا يهاجم تأويلات الباطنية الغلاة ـ لعنهم الله ـ، كما أنّ كتب الاثني عشرية أجمعت على أنّ غرض الغلاة من التأويلات الباطنية للنصوص القرآنية هو استباحة الشرائع والأحكام المحرمة، ومن ثَمّ كفّرت كتب الاثني عشرية الذين استباحوا ترك الشرائع والأحكام، بحجة أنّ ولاية الأئمة تغني عن الالتزام بالشرائع والأحكام.
وفي هذه الحقيقة سوف نستعرض ـ أيضاً ـ بعض الأحكام المعروضة في كتب الاثني عشرية التي يستنكرها الذين لم يراجعوا الأدلة القرآنية والحديثية التي تثبتها(109)، وسوف نستعرض مشكلة الذين يخلطون بين موقف الاثني عشرية من الشرائع والأحكام وموقف الغلاة منها.

الحقيقة الثالثة: (حقيقة أهداف المذهب الاثني عشري)

إنّه لا يمكن معرفة نوع أهداف مذهب من المذاهب ـ أي مذهب ـ ومعرفة طبيعته إلاّ عند معرفة نوع اعتقادات ذلك المذهب (الحقيقة الأولى)، ومعرفة شرائع وأحكام ذلك المذهب (الحقيقة الثانية).
ومن أخطاء منهج الجماعة الوهابية في دراسة الاثني عشرية أنّهم يبحثون عن أهداف الاثني عشرية قبل البحث عن مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية، وقبل البحث عن الحقيقتين السابقتين للاثني عشرية، ومن ثَمّ نراهم ينزلقون في مشكلة الخلط بين (أهداف الاثني عشرية وأهداف فرق الغلاة)، مع أنّ أهداف الاثني عشرية لا بد أن تنبثق من خلال موقفها من الحقيقتين الأساسيتين السابقتين، فإنّه لا يمكن أن نفصل بين أهداف الإنسان ومعتقداته؛ لأنه حينما تنفصل أهدافه عن معتقداته يعيش في فترة صدام ونزاع داخلي مع نفسه، نزاع بين المعتقد وا لهدف، وسوف يخلق هذا النزاع في حياته انفصاماً في شخصيته.
وقد لاحظنا ـ أيضاً ـ أنّ خطأ أتباع الجماعة الوهابية، في إدراك الحقيقتين الأساسيتين السابقتين عند الاثني عشرية قد قادهم بالضرورة الفكرية إلى الخطأ في إدراك (حقيقة أهداف الاثني عشرية)، بل إنّ خطأهم في فهم الحقيقة الأُولى عند الاثني عشرية قد قادهم إلى الخطأ في فهم كل الحقائق التي بعدها(110).

والحقيقة الرابعة: (حقيقة معنى بعض المصطلحات في المذهب الاثني عشري).

إنّ الذي جعلني أهتّم بهذه الحقيقة هو: أنني رأيت أن منهج أتباع الجماعة الوهابية قد عرّف بعض المصطلحات المطروحة بكثرة عند الاثني عشرية تعريفاً مختلفاً اختلافاً عميقاً عن تعريف بعض المحققين من أهل السنَّة لهذه المصطلحات، ومن ثَمّ فلن أدرس في هذه الحقيقة إلاّ المصطلحات التي اختلف حول تعريفها أتباع الوهابية مع المحققين من أهل السنَّة ومع علماء الاثني عشرية، مثل مصطلح: البداء، والتقية، والعصمة، والمصحف.
وكما ذكرت في مقدمة هذا الكتاب بأنّ أهم شرط من شروط نجاح حوار الاثني عشرية مع الوهابية هو تعريف وتبيين وتوضيح المصطلحات المتداولة بين الاثني عشرية والوهابيين؛ ليتم التقريب بين المتحاورين ـ وكلهم مسلمون ـ، لأننا وجدنا تلك المصطلحات تتفق من حيث اللفظ والغلاف الخارجي، مع وجود الاختلاف العميق بين تعريف الاثني عشرية لهذه المصطلحات وبين تعريف الوهابية لها.
وما لم يفهم كل واحدٍٍ منّا مراد الآخر، ومراد علمائنا الاثني عشريين أو الوهابيين من تلك المصطلحات، فلن تتحقق فكرة التقريب بين الاثني عشرية والوهابية، وبالتالي سوف نفرِّط ونقصِّر في حق الوحدة الإسلامية المقدّسة.
وكاتب هذا الكتاب اهتم في كتاباته ومحاضراته بفكرة التقريب بين الاثني عشرية وبين الوهابية، وهذه الحقيقة الرابعة سوف تخفف من مشكلة الصراع بين الاثني عشرية والوهابية.
ولا شك أنّنا إذا أدركنا الحقائق الثلاث السابقة للاثني عشرية، فسوف يكون لدينا اليقين بأنّه لا يمكن أن يكون هنالك مصطلح عند الاثني عشرية يتنافى مضمونه ومحتواه مع النصوص القرآنية والأحاديث النبوية(111).
وبعد؛ فهذه الحقائق الأربع أشرنا إليها إشارة مختصرة في هذا العرض السريع لمنهج تفهيم الوهابية للمذهب الاثني عشري، وسنقوم بدراستها في مرحلة المعرفة التحليلية.
وقبل أنْ نختم هذا العرض نذكر تنبيهاً ضرورياً في نهاية هذه المرحلة وهو:
لقد كان من ضروريات هذا المنهج أنْ ندرس الحقيقة السادسة (حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري) في هذه المرحلة (مرحلة المعرفة التحليلة للمذهب الاثني عشري)، وأن تُدرس في المرتبة الثانية بعد الحقيقة الأُولى، لكننا نعلم أنّ الوهابية لا يمكن أنْ تستوعب حقيقة الإمامة عند الاثني عشرية إلاّ في مرتبة متأخرة، ومن هنا آثرنا أن نذكر (الإمامة عند الاثني عشرية) في المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل دراسة الاثني عشرية. كما أننا لا نشك أنّ
(خاصّية الغيبة)(112) كان يجب أنْ تدرس في هذه الحقيقة (حقيقة الإمامة)؛ لارتباطها الوثيق بهذه الحقيقة، بل لانبثاقها منها، لكننا آثرنا تأخير البحث عنها؛ لأنّ الإيمان (بالغيبة) يحتاج إلى مقدمات لا بد من ذكرها قبل الحديث عن (الغيبة).
والآن حان الوقت للاستعراض السريع للمرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل دراسة الاثني عشرية.

المرحلة الثالثة: (مرحلة المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري).

والأمر الثالث الذي يجب مراعاته والالتزام به حينما نريد طرح (حقائق الاثني عشرية وخصائصها) على إخواننا الوهابيين، حتى لا يتعرضوا للانزلاق والخطأ، وحتى لا يرتكبوا جريمة التشويه في حق (حقائق الاثني عشرية وخصائصها)، وحتى نقنعهم بضرورة التقريب بين الاثني عشرية والوهابية؛ هو أنْ ندرس هذه المرحلة بعد ادراك المرحلة الأُولى والمرحلة الثانية. وسبق أنْ ذكرنا هدف المرحلتين السابقتين، أما ا لهدف الرئيسي لهذه المرحلة فيتبلور في معرفة جذور المذهب الاثني عشري.
ولعله مما يحتم الالتزام بهذا المنهج ـ الذي وضعناه لغرض تصحيح منهج الجماعة الوهابية في دراسة الاثني عشرية، ولغرض التقريب بين الاثني عشرية والوهابية ـ أنْ ندرك حقيقة هامة، وهي: إنّنا وجدنا أنّ الطابع العام فيما كتبه أتباع الجماعة الوهابية ومقلدوهم من بعض أهل السنَّة المعاصرين حول الاثني عشرية؛ كان يبدأ بالبحث عن جذور المذهب الاثني عشري قبل أنْ يقوم بدراسة تحليلية لمضامين ومحتويات هذا المذهب، أي قبل أنْ يدرس المرحلة الثانية، مع أنّه لا خلاف بين العلماء المحققين أنّ المعرفة الجذرية ـ لأيّ مذهب من المذاهب ـ تنبثق انبثاقاً ذاتياً من (المعرفة التحليلة)؛ فالمعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري هي فرع عن التحليل الكامل لحقائقه وخصائصه (المرحلة الثانية في هذا المنهج). وكل دراسة عن مذهب ـ أيّ مذهب من المذاهب ـ لا تقوم على أساس هذا الترتيب العلمي بين المرحلتين تعتبر دراسة فاشلة، لا يمكن أن يرتضيها العقل السليم ولا الشرع الحكيم.
إنّ مشكلة أتباع الجماعة الوهابية أنهم يبحثون عن (حقيقة نشأة الاثني عشرية)، مع أن هذه الحقيقة من صميم المعرفة الجذرية، ولا علاقة لها بالمعرفة التحليلية المرتبطة بالحقائق الأربع للمذهب الاثني عشري. ولو قاموا بدراسة تحليلية لـ (حقيقة الألوهية والنبوة في المذهب الاثني عشري)، و(حقيقة الشرائع والأحكام في المذهب الاثني عشري)، و(حقيقة أهداف المذهب الاثني عشري)، و(حقيقة معنى بعض المصطلحات عند المذهب الاثني عشري)؛ لما أمكن لهم أن يخلطوا بين نشأة الاثني عشرية ونشأة فِرَق الغلاة، فما دامت تلك الحقائق الأربع السابقة ـ عند الاثني عشرية ـ مستلهمة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة؛ فلا بد أن تكون جذور المذهب الاثني عشري ـ منابعه وهويته ونشأته ـ إسلامية، وإلاّ سنقع في مشكلة التناقض.
* * * *
وفي هذه المرحلة سوف ندرس ما تبقى من الحقائق الثمان التي أشرنا إليها، وهي الحقائق الأربع التي لم نذكرها.
ونحب أن ننبه ـ هنا ـ إلى أنّ الحقائق الثلاث (حقيقة منابع الاثني عشرية، وحقيقة هوية الاثني عشرية، وحقيقة نشأة الاثني عشرية وعلل هذه النشأة) ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري. أما حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري فقد سبق أن أشرنا إلى أنّها ترتبط بالمعرفة التحليلة للمذهب الاثني عشري.
ولعله مما يحتم هذا المنهج أنْ ندرك بصورة مختصرة وسريعة هذه الحقائق الأربع الهامة.

الحقيقة الخامسة: (حقيقة منابع المذهب الاثني عشري)(113)

لقد قال أتباع الجماعة الوهابية ـ بسبب مشكلة الخلط عندهم بين الاثني عشرية وفرق الغلاة ـ: بأنّ منابع الاثني عشرية ترجع إلى الفكر المجوسي وما فيه من لوثة وثنية، أو ترجع إلى اليهودية أو النصرانية.
وكان الطابع العام لمنهج الجماعة الوهابية في دراسة الاثني عشرية أنّهم يصدرون تلك الأحكام الشنيعة على منابع مذهب الاثني عشرية قبل التحليل الكامل لمفاهيمه ومحتوياته، ولو درسوا الحقائق الأربع السابقة لعلموا أنّه ما دامت عقيدة الاثني عشرية مستلهمة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وما دامت الشرائع والأحكام عند الاثني عشرية مستقاة منهما، وما دام أنّ أهداف الاثني عشرية مستخرجة من الكتاب والسنّة، وما دامت كل مصطلحات الاثني عشرية تتفق في مضامينها مع القرآن والسنّة.. أقول إذا عرفوا كل هذا فليس من المعقول ـ بعد كل ذلك ـ أنْ يقولوا بأنّ منابع الاثني عشرية ترجع إلى الفكر المجوسي!
إنّ مشكلة أتباع الجماعة الوهابية هي عدم التمييز بين (منابع الاثني عشرية ومنابع فرق الغلاة)، ولو قالوا بأنّ منابع الغلو والغلاة مستمدة من الفكر المجوسي لكانوا مصيبين في ذلك.
وهذا الخلط عندهم بين (منابع الاثني عشرية ومنابع فرق الغلاة) إنّما جاء كنتيجة حتمية لإصابتهم بـ (مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة). ومن ثَمّ لا بدّ لهم من مراجعة المرحلة الأُولى من هذا الكتاب قبل البحث عن منابع الاثني عشرية؛ فمن الخطأ أنْ نعالج مشكلة الخلط عند الوهابية بين منابع الاثني عشرية ومنابع فرق الغلاة قبل معالجة المشكلة الأساسية عندهم التي درسناها سابقاً. ولا يمكن أنْ يدرك (حقيقة منابع الاثني عشرية) من لم يدرك الحقائق الأربع السابقة.
وفي هذه الحقيقة سوف نتحدّث بصورة مفصلة عن مقام القرآن ومقام السنّة في كتب الاثني عشرية، بعد أن تبين لنا في الحقائق السابقة أنّ تلك الحقائق مستقاة من القرآن والسنّة(114).

الحقيقة السادسة: (حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري)(115)

إنّ الذي يراجع موضوع الإمامة عند الاثني عشرية، ويطلّع على أدلتهم القوية من النصوصّ القرآنية والأحاديث الصحيحة؛ سوف يعلم بأنّ قضية الإمامة كانت هبة خالصة من الله للبشر، عرفّها لهم عن طريق آخر الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ. ولم تكن الإمامة من صنع الاثني عشريين، ولا هم قالوا بها بسبب الظلم الذي حل على أهل البيت النبوي؛ فقد جاء النصّ الصحيح ـ منذ فجر الإسلام ـ على إمامة الأئمة الاثني عشر، بصورة كاملة حاسمة، قبل أن يتعرّض البيت النبوي للظلم.
إنّ من الخطأ أن يقال: إنّ عقيدة الاثني عشرية في النصّ على الأئمة الاثني عشر لم تعرف إلاّ في القرن الرابع(116)!
إنّ الأمر ليس كذلك أبداً، إنّما كانت عقيدة الاثني عشرية في النصّ على الأئمة الاثني عشر تنتشر بين الناس تدريجاً، مرحلة بعد مرحلة، وكان حديث الاثني عشر موجوداً في الكتب والمجاميع الحديثية السنِّية؛ في صحيح البخاري وغيره، قبل القرن الرابع وقبل أنّ يستكمل عدد الأئمة، وكان الناس يتقبلون النصّ على إمامتهم بعد أن يقرؤوا الأحاديث الصحيحة الدالة على امامتهم، ويدخلون في الاثني عشرية فوجاً بعد فوجٍ، وكان كل إمام من الأئمة الاثني عشر يترك أثراً في ضمير هذه الأُمة، ويخلق استعداداً أكبر لقبول عقيدة النصّ على الأئمة الاثني عشر، وكان الترقي في هذا الاستعداد ينمو كلما تهيأ للأُمة المزيد من المعرفة، لا سيما أنّ كبار المحدِّثين من أهل السنّة كان لهم دور كبير في التأكيد على إمامة الأئمة الاثني عشر؛ فقد اثبتوا أحاديث النصّ على الأئمة الاثني عشر في كتبهم التي كتبوها في القرون الثلاثة الأولى.. وكان لكتب الحديث عند أهل السنّة دورٌ كبيرٌ في استعداد الناس لقبول عقيدة النصّ على الأئمة الاثني عشر، وكان عدد أتباع الأئمة الاثني عشر يزداد، ومجال عقيدة الإيمان بإمامتهم يتسع، وكانت هنالك ـ دائماً ـ مهاجمة ومحاربة للنصّ على إمامة الأئمة الاثني عشر من قبل الحكّام المعاصرين للأئمة الاثني عشر؛ خوفاً أنْ تهدد هذه العقيدة عروشهم. وكان خط هذه العقيدة يبرز ويظهر عندما يضعف الحكام، ويأخذ با لهبوط والانحسار عندما تقوى شوكتهم.
وقد قدّمنا الأدلة القوية على إمامة الأئمة الاثني عشر عندما استعرضنا هذه الحقيقة في كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية)، لكن الذي يهمنا في هذه الدراسة المختصرة والفكرية أنْ ننبه على حقيقة هامة وهي: إنّنا وجدنا أنّ اتباع الجماعة الوهابية ـ بسبب الخلط بين قادة الاثني عشرية وقادة الغلاة عندهم ـ لم يدركوا دور الأئمة الاثني عشر (أوصياء الرسول الأكرم) في تعريف الناس بعقيدة النصّ على إمامتهم، فينسبون مسألة النصّ على إمامة الأئمة الاثني عشر إلى قادة الغلاة، ولا يلتفتون إلى أنّ مسألة إمامة الأئمة الاثني عشر بعد الرسول موجودة في صحيح البخاري وفي أكثر كتب أهل السنّة الحديثية. ولا يمكن لهم أنْ ينسبوا أحاديث النصّ على الأئمة الاثني عشر إلى قادة الغلاة.
وقد أخطأ منهجُ الجماعة الوهابية عند حديثه عن عقيدة النصّ على إمامة الأئمة الاثني عشر، وغَفِل عن الدراسة العميقة للحديث الذي أجمع عليه كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يزال الدين محفوضاً ما وليهم اثنا عشر))(117). كما أنّهم لم يكلفوا أنفسهم بمراجعة محتويات ومضامين الأدلة القوية من الكتاب والسنّة التي يقدمها الاثنا عشرية لاثبات إمامة الأئمة الاثني عشر، ثم يقولون ـ من دون علم ـ إنّ هذه العقيدة من صنع الغلاة ومن مقالات المجوسية!!
إننا نعتقد أنّ مذهب الاثني عشرية يطير بجناحين:
أحدهما: حديث الثقلين(118).
والجناح الآخر: حديث الاثني عشر.
وما لم تدرك الوهابية هذين الحديثين لا يمكن لها أن تفهم حقائق وخصائص المذهب الاثني عشري.

الحقيقة السابعة: (حقيقة هوية المذهب الاثني عشري) (119)

ولا بد من التنبيه إلى حقيقة هامة وهي: إنّه لا يمكن معرفة نوع ا لهوية الفكرية لأيّ مذهب من المذاهب قبل الدراسة التحليلية العميقة لمحتويات ومضامين فكر المذهب الذي نريد معرفة هويته الفكرية. ولقد سار منهج أتباع الجماعة الوهابية في طريق يخالف هذه الحقيقة ا لهامة، فقالوا ـ ابتداء من دون بحث في كتب الاثني عشرية ـ: إنّ ا لهوية الفكرية للاثني عشرية مجوسية فارسية.
إننا أخرّنا البحث عن هوية الاثني عشرية في هذا المنهج؛ لأنّ الترتيب العقلي والعلمي يفرض علينا أنْ لا نتحدّث عن هوية المذهب الاثني عشري إلاّ بعد دراسته عبر الحقائق الست السابقة.
والغريب أنّ البعض يقول: إننا نسلّم بأنّ ا لهوية الفكرية للاثني عشرية إسلامية وعربية، لكن نقول إنّ ا لهوية العرقية للاثني عشريين الأوائل كانت فارسية!
ونحن سنثبت بالدليل أنّ أوائل الاثني عشرية في القرون الأولى كانوا من العرب، وأن أكثر الفرس آنذاك كانوا من أهل السنَّة، فمن المسلّم تاريخياً أنّ أكثر الفرس وأكثر أهالي إيران كانوا من أهل السنَّة، ومن ثَمّ مدحهم ابن خلدون في مقدمته؛ لأنّهم كانوا قادة المذهب السنِّي. وقد تحوّل أهالي إيران إلى المذهب الاثني عشرية في القرون المتأخرة.
* * * *
إنّه ما دام قد ثبت لنا أن (حقيقة الألوهية والنبوة عند المذهب الاثني عشري) تتفق اتفاقاً كاملاً مع الكتاب والسنّة، وثبت لنا بعد الدراسة التحليلية أنّ شرائع وأحكام الاثني عشرية عين شرائع وأحكام القرآن والسنّة، وتبين لنا بالدليل والبرهان بأنّه لا يمكن الفصل بين الأهداف التي رسمها القرآن والسنّة وأهداف الاثني عشرية، وما دام قد ثبت أنّ منابع الاثني عشرية هما الكتاب والسنّة الشريفة، وقد عرفنا أنّه لا يوجد أدنى خلاف بين حقيقة الإمامة في الكتاب والسنّة وحقيقة الامامة عند الاثني عشرية.. بعد أن ثبت كل هذا فستكون النتيجة الضرورية والحتمية بأنّه لا يمكن التفكيك بين ا لهوية الفكرية للإسلام وا لهوية الفكرية للاثني عشرية.
ولعله مما يحتم الوصول إلى هذه النتيجة أنْ نلتفت إلى ضرورة التدرج في دراسة هذه الحقائق حسب الترتيب العلمي والفكري في هذا المنهج، والذين يبحثون عن هذه الحقيقة (هوية الاثني عشرية) قبل البحث عن المرحلة الأولى، وقبل البحث عن الحقائق الست السابقة سوف ينزلقون في مشكلة الخلط بين (هوية الاثني عشرية وبين هوية فرق الغلاة).
ونحن نسلِّم أنّ هوية فرق الغلاة مجوسية وفارسية أما هوية الاثني عشرية فهي إسلامية عربية.
إننا نرفض الطريقة التي تسلكها الوهابية في التعامل مع المذاهب الإسلامية من خلال التشكيك في هويتها، فليست هوية الاثني عشرية فارسية ولا هوية التسنن فارسية، بل هوية الاثني عشرية والتسنن عربية؛ لأنّ التاريخ يثبت لنا أنّ جذور الاثني عشرية وجذور التسنن ظهرت قبل بدء الفرس في صناعة الأحداث(120).

الحقيقة الثامنة: (حقيقة نشأة المذهب الاثني عشري وعلل هذه النشأة)(121)

القسم الأول: (حقيقة نشأة المذهب الاثني عشري):

إنّ عملية التوفيق بين نشأة الاثني عشرية ونشأة فِرَق الغلاة عند الوهابية كانت تنم عن سذاجة كبيرة، وجهل بطبيعة فكر الغلاة وعناصره الوثنية العميقة، وعدم استقامته على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد، مما يخالف الفكر الاثني عشري الذي يتّحد بصورة كاملة مع الفكر الإسلامي.
إنّ حركة الغلو نشأت في وسط ملوث مشحون بالأساطير المجوسية والخرافات اليهودية والمسيحية، واستمدّ الغلو جذوره من هذه الأساطير ومن هذه الخرافات؛ فمن السذاجة والعبث محاولة التوفيق بين نشأة فرق الغلاة وبين نشأة الاثني عشرية، القائمة على أساس النصوص القرآنية والأحاديث النبوية.
لكن أتباع الجماعة الوهابية ـ بسبب فهمهم الخاطئ ـ خلطوا بين أوّل من قال بالغلو في الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ وهو (عبد الله بن سبأ)، وبين أوّل من قال بالولاء للإمام علي وهو (الرسول الأعظم)؛ نتيجة دراستهم السطحية والساذجة لكتب الفرق والمقالات التي كتبها الاثنا عشرية وقدماء أهل السنّة،فنسبوا مقالات الغلو للاثني عشرية، وأخذوا ـ من حيث لا يعلمون ـ بعملية توفيق متعسِّفة بين نشأة الاثني عشرية ونشأة فِرَق الغلاة المنحرفة.
إنّ الوهابية خلطت بين مقالتين متباينتين؛ المقالة الأولى تقول: (إنّ أوّل من قال بأنّ علياً ـ كرم الله وجهه ـ كان وصياً للرسول الأكرم هو عبد الله بن سبأ اليهودي). وهذه المقالة الأولى يؤمن بها الوهابية؛ لأنّهم لم يميزوا بين هذه المقالة وبين المقالة الثانية الصحيحة التي أجمع عليها كل المسلمين والتي تقول:
(إنّ أول من قال بأنّ علياً كان إ لهاً هو عبد الله بن سبأ)، لكن الوهابية قاموا بعملية تحريف ـ من حيث لا يعلمون ـ للمقولة الثانية، فحذفوا كلمة (اله) ووضعوا بدلاً عنها كلمة (وصي)! وسوف نثبت ذلك بالدليل عند البحث الذي خصصناه لهذه الحقيقة.
وقد أثبتنا في الحقيقة السادسة من كتابنا (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية) بالأدلة القوية من كتب أهل السنَّة أنّ أوّل من قال بالوصية للإمام علي هو الرسول الأعظم؛ فمن السذاجة والعبث هذا الخلط بين هاتين المقالتين المختلفتين؛ بين مقولة (أول من قال بالوصية للإمام علي)، ومقولة (أول من قال بالألوهية للإمام علي)، فالمقولة الأُولى تعتمد على أدلة قوية من القرآن والسنّة، أما المقولة الثانية فتعتمد على عناصر وثنية ملحدة تحاول هدم القرآن والسنّة.
ولقد سار أتباع المنهج الوهابي في دراسة الاثني عشرية ـ أثناء البحث عن حقيقة نشأة الاثني عشرية وعلل هذه النشأة ـ على نفس المنهج الذي اعتمدوا عليه في البحث عن الحقائق السبع السالفة. وهو منهج لا يستقيم على نظام فكري واحد، ولا على أساس منهجي واحد، ولا يعتمد على ملاحظة المرحلة الأُولى من هذا الكتاب، ولا يعتمد على الدراسة التحليلية العميقة لمفاهيم ومحتويات الاثني عشرية قبل البحث عن نشأتها. لكننا لمسنا أنّ المحققين من أهل السنَّة، ومن عقلاء الوهابيين قد أدركوا أنّ أتباع الجماعة الوهابية يخلطون بين نشأة الاثني عشرية ونشأة فِرَق الغلاة.
وقد رفض الكثير من علماء أهل السنَّة المحققين المقالة التي أذاعتها الجماعة الوهابية والتي تقول: (إنّ أول من قال بأنّ الإمام علياً وصي الرسول الأكرم هو عبد الله بن سبأ)، وأثبت أهل السنَّة المحققون أنّ الإمام علياً ـ كرم الله وجهه ـ عُرف بين الصحابة بأنّه وصي الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قبل أنْ يظهر عبد الله بن سبأ، وقالوا: إنّ الجماعة الوهابية نسبت القول بالوصية إلى عبد الله بن سبأ كراهة وتشنيعاً للاثني عشرية، حتى يوهموا العوام بأنّ الاثني عشرية اعتمدوا في عقيدتهم بوصية النبي الأعظم للإمام علي على رجل يهودي هو (عبد الله بن سبأ).
والقسم الثاني: (علل نشأة المذهب الاثني عشري):
لقد ثبت لنا في الحقيقة السادسة (حقيقة الإمامة في المذهب الاثني عشري) بالأدلة النقلية من الكتاب والسنّة أنّ علل وأسباب تمسك الاثني عشرية بالأئمة الاثني عشر يرجع إلى الأدلة القوية من الكتاب والسنّة، ومن ثَمّ فمن السذاجة أنْ نبحث عن علل ولاء الاثني عشرية للأئمة الاثني عشر قبل دراسة
(الحقيقة السادسة). ومشكلة منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية أنّهم يبحثون عن هذه الحقيقة الثامنة قبل البحث عن الحقيقة السادسة.
إنّه إذا ثبت أنّ قضية التشيع والولاء والتمسك بالأئمة الاثني عشر ثابتة بحديث الثقلين وحديث الاثني عشر، وثبت أنّ التمسك بهم يأتي في الدرجة الثانية بعد التمسك بالقرآن والسنة؛ فلا بد من التمييز بين علل تشيع وولاء الاثني عشرية للأئمة الاثني عشر، وبين علل غلو فرق الغلاة في الأئمة الاثني عشر. والذين لا يميزون بين هذين النوعين المختلفين من العلل هم المصابون بـ (مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وبين فرقة الغلاة)، ومن ثمَّ فهم بحاجة إلى دراسة المرحلة الأُولى من هذا الكتاب قبل أنْ يبحثوا عن علل تشيع وولاء الاثني عشرية للأئمة الاثني عشر، ومن هنا يأتي أهمية الترتيب الفكري والمنهجي في هذا الكتاب(122).
إنّه بعد أنْ ثبت لنا من خلال الحقائق السبع السابقة أنّ أدلة الاثني عشرية ترجع إلى الكتاب و السنّة، ويكفي أنْ نقرأ كتب أُصول الفقه عند الاثني عشرية، حينئذ سوف تجعلنا هذه الأدلة نؤمن بأنّ القرآن الكريم هو الأساس الأوّل في طرح كل تلك الحقائق السبع عند الاثني عشرية، وتأتي بعد القرآن الكريم الأحاديث الصحيحة. وما دام أنّه قد ثبت في الحقيقة الأُولى (حقيقة الالوهية والنبوة) عند الاثني عشرية أنّها مستلهمة من القرآن والسنّة، وهكذا؛ في الحقيقة الثانية ثبت أنّ الشرائع والأحكام مستلهمة من القرآن والسنة، وهكذا؛ إلى الحقيقة السابعة.. بعد أن ثبت كل ذلك فلا بد أنْ يتبين ويتضح لنا نوع
(علل ولاء الاثني عشرية للأئمة الاثني عشر) التي تتفق مع سنخية القرآن والسنّة.
* * * *




____________
(*) درسنا وشرحنا المرحلة الثانية في دراسة الاثني عشرية في ص: 137 من هذا الكتاب، كما درسنا المرحلة الثالثة في دراسة الإثني عشرية في ص: 149 من هذا الكتاب.
(1) تناولنا أكثر هذه المباحث في القسم الثاني من هذا الكتاب الذي تحدثت فيه عن رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية.
(2) سورة البقرة: من الآية 42.
(3) سوف نذكر أقوال علماء أهل السنّة في خطورة مشكلة الخلط بين المذهب الاثني عشري وبين فرق الغلاة عند الوهابية في هذه المرحلة.
(4) إن أكبر مشكلة كنتُ أعاني منها حينما كنت وهابياً؛ أنني كنتُ أحسب أنّ كل أنواع الغلو والشرك الموجودة عند غلاة الصوفية توجد بشكل أكبر عند الاثني عشرية، لكنني بعد دراسة طويلة للاثني عشرية وقراءة العشرات من كتبهم التي تتبرأ من الشرك والغلو عند غلاة الصوفية؛ تبين لي الفرق الجوهري بين الاثني عشرية وبين بعض الطرق الصوفية المغالية والجدير بالذكر هنا أنني تناولت موقف الاثني عشرية من الشرك والغلو عند غلاة الصوفية في كتابي (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).
(5) رئيس قسم الأدب العربي في جامعة عين شمس.
(6) في سبيل الوحدة الإسلامية للعلامة مرتضى الرضوي: ص 45. مطبوعات مكتبة النجاح بالقاهرة، ط / 2 سنة 1979. وراجع تمام عبارته في
(ص 24 ـ 26) من هذا البحث.
(7) عبارة مقتطفة من: ص 421.
(8) قال أحد قادة المنهج الوهابي في دراسة الاثني عشرية وهو (إحسان الهي ظهير) في ترجمة العلامة (علي عبد الواحد وافي): (إنّه علمٌ من أعلام مصر)، ثم يقول: (لقد سمعتُ الكثير من علم الدكتور
علي عبد الواحد وافي، وحدّثني عنه العديد من الأصدقاء حتى دفعني الشوق إلى لقائه، وإذا أنا أطرق باب مصر وأدخلها طالباً للعلم). انظر كتاب إحسان ا لهي ظهير (بين الشيعة وأهل السنة ص 6). ولكن إحسان ا لهي ظهير بعد أن وصف العلامة السنّي علي عبد الواحد وافي بأوصاف عظيمة قال: (إنّه انخدع بالمذهب الاثني عشري)!
ونحن نقول: هل من المعقول أن ينخدع بالمذهب الاثني عشري كبار علماء أهل السنَّة في العصور القديمة والمتأخرة والحديثة؟!
ولماذا لم ينخدعوا بالفرق المغالية الأخرى من غير الاثني عشرية، على فرض أنّ الاثني عشرية من فرق الغلاة كما تحسب الوهابية؟!! وليست القضية محصورة بالعلامة الدكتور علي عبد الواحد وافي.
(9) انظر كتابه: ص 11.
(10) رسالة التقريب: ص 250، العدد 3، السنة الأُولى، شهر شعبان 1414 هـ.
(11) التزمت حتى يتم التمييز بين ما أنقله من المصادر وبين تعليقي أن اضع تعليقاتي بين معقوفتين [].
(12) عبارة مقتطفة: من ص 48.
(13) كان من كبار علماء أهل السنَّة في العصر الحديث، ويعد من الذين جمعوا بين الدراسة الأزهرية القديمة والدراسة الحديثة في الجامعات الاوربية، وتميز بسعة ثقافته وقوة منطقه. وهو من الشخصيات التي اعتمد عليها في كتبه الشهيد سيد قطب، واعتمد عليها ـ أيضاً ـ الشيخ محمد الغزالي في بعض كتبه، وقد كان وزيراً للأوقاف المصرية.
(14) في كتابه القيم (الفكر الإسلامي في تطوره)، الفصل الرابع والأخير: ص 140.
(15) الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي: ص 235، ا لهامش رقم 1.
(16) أعلن الدكتور طه حسين توبته عمّا كتبه في الطعن الذي وجهه للقرآن الكريم في كتابه (الشعر الجاهلي) أو في كتابه (الأيام)، كان ثمرة هذه التوبة كتابه القيم (مرآة الإسلام). ونحن نرفض الذين ما زالوا يحاكمونه إلى كتبه التي تراجع عنها، يجب أن يحاكم بما انتهى إليه لا بما بدأ به.
(17) عبارة مقتطفة من: ص 35.
(18) انظر: ص 33 ـ 34 من هذا الكتاب.
(19) كتاب (بين الشيعة وأهل السنّة) للعلامة الدكتور عبد الواحد وافي: ص 4.
(20) إيران من الداخل، فهمي هويدي: ص 322، ط / 2، 1408 هـ ـ 1988م، مركز الاهرام للترجمة والنشر.
(21) عبارة مقتطفة: من ص 6.
(22) انظر: ص 33 من هذا البحث.
(23) عبارة مشهورة للإمام حسن البنا نقلها عنه تلميذه وزعيم الاخوان المسلمين الاستاذ عمر التلمساني المصري في كتابه القيم (ذكريات لا مذكرات): ص 250.
(24) وكل هذه الاكاذيب نسبت ظلماً وزوراً إلى المذهب الاثني عشري.
(25) انظر كتاب (لعلك تضحك) للكاتب المصري أنيس منصور: ص 201 الطبعة الثالثة، 1998، مطبعة نهضة مصر ـ القاهرة.
(26) يعني عند الاثني عشرية.
(27) انظر كتاب (خطط الشام): ج 6، ص 251.
(28) يقصد الفقه الاثني عشري.
(29) صرح بذلك لـ (مجلة العالم الإسلامية) المشهورة، العدد 91.
(30) سورة آل عمران: 28.
(31) الإمام الصادق، محمد أبو زهرة: ص 22.
(32) الإمام الصادق، محمد أبو زهرة: ص 151
(33) مجلة (رسالة الإسلام) المصرية، ونحن نأسف كثيراً اننا وجدنا بعض المسلمين يحاربون فكرة التقريب بين الاثني عشرية والوهابية، مع أنهم يقولون بأن كلا الطائفتين من المسلمين. والغريب من هؤلاء أنهم يزعمون أن الخصومة بين الاثني عشرية وبين الوهابية اشد من الخصومة بين المسلمين وبين اليهود!!! وهذا بهتان عظيم والله المستعان على ما يقولون.
(34) الإسلام وحركة التاريخ، أنور الجندي: ص 28.
(35) في القسم الثاني من هذا الكتاب.
(36) أُصول مذهب الشيعة الإمامية لاثني عشرية للشيخ الدكتور ناصر القفاري حفظه الله، مقدمة الكتاب: ج1، ص10 ـ 11.
(37) ستصدر مؤسسة الفكر الاسلامي كتاباً تناولتُ فيه نقد منهج ناصر القفاري في الكتابة عن الاثني عشرية.
(38) نقلنا عبارته في ص 47 ـ 48 من هذا الكتاب.
(39) وهو من كبار مفكري أهل السنّة في العصر الحديث، وكان مشرفاً على الدراسات الإسلامية بجامعة (عليكرة) با لهند.
(40) كلمة مقتطفة من مقدمة علامة أهل السنّة حامد حنفي داود لكتاب عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر: ص 20 ـ 23. وانظر كتاب في سبيل الوحدة الإسلامية للسيد مرتضى الرضوي: ص 75 ـ 83، مطبوعات النجاح في القاهرة، ط 3، سنة 1400 هـ ـ 1980م.
(41) تناولناها بصورة مفصلة في القسم الثاني من هذا الكتاب.
(42) درسنا أكثر هذه الأسباب في كتابنا (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية) الذي يعتبر القسم الثاني من هذا الكتاب.
(43) وهو أحد مؤسسي المنهج الوهابي في دراسة المذهب الاثني عشري.
(45،44) مختصر التحفة الاثني عشرية، اختصرها وهذبها السيد محمود شكري الألوسي سنة (1301 هـ) وقدّم لهذا الكتاب محب الدين الخطيب ـ رحمه الله ـ: ص 2 ـ 3. الطبعة التركية.
(46) نظراً إلى تكرار ذكر كلمة منهج في هذا الكتاب فلا بد من تعريفها بصورة مختصرة:
مفهوم المنهج: المعنى اللغوي للكلمة: المنهج أو المنهاج يعني الطريق الواضح، وَنَهَجَ الطريقُ: وَضُحَ واستبان، وصار نهجاً بيناً واضحاً (ابن منظور، لسان العرب: 2 / 383).
وفي القرآن الكريم (لكلٍ جَعَلنا شِرعةً ومِنهاجاً) (المائدة: 48)، أي طريقاً واسعاً واضحاً في الدين (ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 2 / 588).
والمعنى الاساسي لكلمة (منهج) هو: الطريق أو السبيل أو الخطة المحددة للوصول إلى غاية معينة (المعجم الفلسفي / 195. د ـ محمد زيان عمر).
(47) لن نتناول في هذا الكتاب إلا السبب الأول من أسباب وعوامل مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الوهابية مع إشارة مقتضبة إلى السبب الثالث، وتفصيل البحث عن هذه الأسباب تناولته في كتابنا (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).
(48) كتاب (الشيخ الغزالي كما عَرفته رحلة نصف قرْن)، تأليف الإمام ام الدكتور يُوسف القرضاوي ـ حفظه الله ـ: ص 263. الطبعة الأولى 1417 هـ. دار الوفاء ـ المنصورة ـ مصر.
(49) المصدر السابق.
(50) هموم داعية للإمام محمد الغزالي: ص 152.
(51) سر تأخر العرب للإمام محمد الغزالي: ص 52.
(52) كتاب الملل والنحل للإمام أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني الشافعي الأشعري.
(53) تناولنا نقد كتاب عبد الرحمن الزرعي في كتابنا (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).
(54) عقيدة الإمام الحافظ ابن كثير في آيات الصفات ـ من أئمة السلف الصالح ـ للعلامة محمد عادل عزيزة: ص 7.
(55) سورة القلم: الآية 42.
(56) عقيدة الإمام الحافظ ابن كثير في آيات الصفات: ص 7- 8.
(57) تفسير آيات الصفات للعلامة السنّي الدكتور محسن عبد الحميد، مقدمة الكتاب.
(58، 59) العقيدة الإسلامية في القرآن ومناهج المتكلمين للعلامة الدكتور السنّي محمد عياش الكبيسي: ص 122، هامش رقم: 122.
(60) من أجل تحقيق فكرة التقريب بين الاثني عشرية وبين الوهابية ـ التي هي الغرض من تأليف هذا الكتاب ـ لا بد من مراعاة قضية عدم استخدام الكلمة التي تتعارض مع هذه الفكرة، ومن هنا عنى كاتب هذه الدراسة أن يطلق على الوهابية كلمة (جماعة) لا كلمة (فرقة)؛ لأنني رأيت أن كلمة (فرقة) مرفوضة عند الاثني عشريين وعند الوهابيين، ولا يمكن أن تتحقق قضية التقريب إلا إذا تعاملنا وفقاً للآداب الإسلامية المقدسة عند الاثني عشرية وعند الوهابية.
(61) ونحن نستخدم كلمة الخلط في هذا الكتاب بمعنى خلط الشيء بالشيء بصورة كبيرة وكاملة، بحيث يحسب الرائي انّ هذين الشيئين المختلفين متساويان، من قبيل قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا...) التوبة 102. ومعنى كلمة (خلطوا) في الآية الكريمة ـ كما ذكر المفسرون ـ: أي مزجوا وضمّوا. ووردت في القرآن الكريم كلمة أخرى قريبةٌ من حيث المعنى لـكلمة (الخلط) وهي: كلمة (اللبس)، كما في قوله تعالى: (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ...) البقرة 42. ووردت كلمة (الخلط) في السنّة النبوية في موارد عديدة، قال الإمام مجد الدين ابن الأثير ـ رحمه الله ـ (ت 606): ((خلط: في حديث الزكاة (لاخِلاط ولا ورَاط))، الخِلاط: مَصْدَر خَالَطه يُخالطُه مُخالَطة وخِلاطاً، والمراد به أن يخْلط الرجل إبله بإبل غيره..). النهاية في غريب الحديث والأثر (ج 2، ص 62).
ووردت كلمة (الخلط) في الروايات المنقولة عن الأئمة الاثني عشر الذين أشار إليهم البخاري ومسلم في صحيحيهما بنفس هذا المعنى، قال الإمام المحدِّث الطريحي (ت 1085 هـ) في تفسيره
لمعاني كلمة (الخلط) في روايات الأئمة الاثني عشر: (الاختلاطُ بالشيء: الامتزاج به، سواء كان مع التمييز وعدمه). مجمع البحرين (ج 4، ص 246).
وبإمكاننا هنا أن نقسم الخلط إلى قسمين:
القسم الأول: (الخلط الأصغر)، وهذا النوع من الخلط موجود عند بعض علماء المذاهب الإسلامية، ولا يترتب على هذا النوع من الخلط نتائج خطيرة؛ لأنّه خلط في المسائل الفرعية.
القسم الثاني: (الخلط الأكبر)، وهذا النوع من الخلط موجود عند الوهابية، وهو خلطٌ خطير وكبير؛ لأنّ من مظاهره السقوط في هاوية التكفير الأكبر للمسلمين. وهو خلط في مسائل أُصول الدين لا فروع الدين. وأبرز مورد لهذا النوع من الخلط؛ الخلط الذي وقع فيه الخوارج حين خلطوا بين معنى (الحكم) في قوله تعالى (إِن الحُكْمُ إلاّ للهِ...) الانعام: 57 وبين معنى (التحكيم) في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا) النساء 35. ونتيجة لهذا الخلط الأكبر ـ عند الخوارج ـ بين مفهوم ومعنى (الحكم) في تلك الآية الذي هو من مختصات الذات الإ لهية، وبين معنى ومفهوم (التحكيم) في هذه الآية الذي لا علاقة له بالمعنى الأول؛ إذ إن كل رجل يختلف مع رجل آخر لا بد لهما أن يحكّما رجلاً ثالثاً.. أقول نتيجة لهذا الخلط الأكبر عند الخوارج كفروا الإمام عليّاً وكفرّوا كبار الصحابة!
ومن نماذج هذا الخلط عند الوهابية أنّهم خلطوا بين الغلو الأكبر الذي يُخرج عن الإسلام، وبين الغلو في مصطلح بعض المحدثين الذي أطلقوه ـ احياناً ـ على رواة الحديث من المسلمين، ومن هنا كفروا الاثني عشرية!
(62) سورة آل عمران: من الآية 159.
(63) وحسب تعبير علماء المنطق يكون بين أُصول الدين ومسائل العقيدة عموم وخصوص مطلق.
(64) راجع البحث الذي كتبه العالم السنّي محمد عبد الحليم حامد حول هذا الموضوع في كتابه (معاً على طريق الدعوة شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الشهيد حسن البنا). وإنّما أشرت إلى هذا العالم لأنه ليس صوفياً ولا شيعياً حتى تتأمل الوهابية في كلامه، فهو رجل ليس من خصومهم.
(65) نفس المصدر: ص 134 ـ 137.
(66) الخلط بصورة خاصة يرتبط بمشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة عند الوهابية. والخلط بصورة عامة عند الوهابية يشمل الكثير من القضايا والمسائل التي خلطت فيها الوهابية، منها: الخلط بين أُصول الدين وبعض مسائل العقيدة، ومنها: الخلط بين جمهور أهل السنة وبين فرق الغلاة.
(67) الأصل الخامس عشر من الأُصول العشرين التي اقترحها الإمام حسن البنا ـ رحمه الله ـ من أجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية بين أهل السنّة والوهابية من جهة، وبين أهل السنّة والاثني عشرية من جهة أُخرى، وبين الوهابية والاثني عشرية من جهة ثالثة.
(68) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، الغزالي: ص130. ط / الأولى 1997م، دار الشروق ـ القاهرة ـ مصر.
(69) نفس المصدر السابق.
(70) مشكلة الخلط عند الوهابية تنقسم إلى قسمين:
أ ـ القسم الأول: مشكلة الخلط عند الوهابية بصفة عامة، وهذه تشمل نماذجاً كثيرة من الخلط.
ب ـ والقسم الثاني: مشكلة الخلط عند الوهابية بصفة خاصّة، وأعني بها (مشكلة الخلط عند الوهابية بين الاثني عشرية وفرق الغلاة).
(71) كتب الوهابيون رسائل عديدة في هذه القضية، منها: (الأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد في الأحكام والعقائد) للشيخ الوهابي سليم ا لهلالي ـ رحمه الله ـ، ومنها: رسالة (أصل الاعتقاد) للوهابي الدكتور عمر بن سليمان الأشقر ـ حفظه الله ـ، ومنها: (أخبار الآحاد في الحديث النبوي) للوهابي الشيخ عبد الله الجبرين ـ رحمه الله ـ. وغيرها كثير.
(72) كما صنع الوهابي الشيخ محمد بن عبد الله الوهيبي ـ حفظه الله ـ في كتابه (حجيَّة الآحاد في العقيدة وشبهات المخالفين) حيث يذكر سبب تأليفه لكتابه قائلاً:
(... أما بعد؛ فإنّ المسلمين بحاجة ماسة إلى تذكيرهم أصول عقيدتهم كما فهمها السلف الصالح، بعدما تكاثر أهل البدع، وكثرت شبهاتهم [يعني شبهات كبار علماء أهل السنّة وعلماء الاثني عشرية]، وتأثر بها بعض الفضلاء. ومن هذه الأصول ا لهامة التي اضطرب فهمها لدى بعض الدعاة؛ مسألة حجية خبر الآحاد في العقيدة، حيث تأثر البعض بشبهات المتكلمين ودعاواهم حين فرّقوا بين العقائد والأحكام أو الأصول والفروع، وادّعوا أنّ الآحاد لا يحتج به في الأُصول. وممن تأثر بذلك بعض كبار الدعاة، ممن عرف منهم الدفاع عن السنة).
راجع الكتاب المذكور: ص 4. ط / الأُولى سنة 1415 هـ، دار المسلم ـ الرياض ـ السعودية.
(73) سورة الزمر: 7.
(74) صحيح البخاري: حديث رقم 1288.
(75) المسودة للإمام ابن تيمية: ص 245 ـ 247.
(76) ترتيب المدارك: ج 1، ص 66، باب ما جاء عن السلف والعلماء في وجوب الرجوع إلى عمل أهل المدينة.
(77) (الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن) للإمام العلامة يوسف القرضاوي ـ حفظه الله ـ: ص 125. طبعة / دار الوفاء، مصر، ط / الأولى سنة 1417 هـ ـ 1997م.
(78) منهاج السنة: ج 2، ص 133.
(79) الاعتصام للإمام الشاطبي: (1 / 235).
(80) ذهب جمهور العلماء أنّ الحديث الآحادي هو ما عدا المتواتر.
(81) التبصرة: ص 298.
(82) المستصفى للإمام الغزالي: 1 / 145.
(83) مسلم الثبوت بشرح فواتح الرحموت: ج 2، ص 121 ـ 122.
(84) المصدر السابق.
(85) أُصول الدين للإمام عبد القاهر البغدادي: ص 12.
(86) الاسماء والصفات للإمام البيهقي: ص 357.
(87) المعالم للإمام فخر الدين الرازي: ص 138.
(88) انظر كتابه (أساس التقديس).
(89) السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث للإمام الشيخ محمد الغزالي: ص 74.
(90) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين للشيخ الإمام محمد الغزالي: ص 68.
(91) انظر كتاب: (الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن) للإمام الشيخ يوسف القرضاوي ـ حفظه الله ـ: ص 123 ـ 124.
(92) في ظلال القرآن، الشهيد المفسِّر سيد قطب: 6 / 4008.
(93، 94) الاسلام عقيدة وشريعة للإمام شلتوت: 74 ـ 76.
(95) أشرنا سابقاً إلى أنّ الاسباب والعوامل الأُخرى للمشكلة قد تناولناها في كتابنا (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).
(96) الغنوصية: أصل بمعنى الغنوص ـ المعرفة. والمقصود بها التوصل بنوع من الكشف إلى المعارف العليا، أو هو تذوق تلك المعارف تذوقاً مباشراً. انظر (نشأة الفكر الفلسفي 1 / 186) للنشار. ويدخل من ضمن الغنوصية كل الفرق المنحرفة والوثنية والمذاهب ا لهندية كالبراهمه والتناسخية وغيرها، كما تدخل ـ أيضاً ـ المذاهب المجوسية كالزرادشتية والمانوية وغيرها.
(97) راجع ما قاله حول هذا الموضع العلامة والمفكر السنِّي أنور الجندي ـ رحمه الله ـ في كتابه (الإسلام وحركة التاريخ): ص 421. وانظر ص 33 من كتابنا هذا. وانظر ـ أيضاً ـ ما قاله العلامة السنِّي مصطفى الشكعة في كتابه (إسلام بلا مذاهب) ص 187. وارجع إلى ص 34 ـ 42 من هذا الكتاب.
وارجع إلى جدول آراء الفرق الأربع عند ذكرنا لآراء الفريق الأول (الوهابية)، والفريق الثاني والفريق الثالث (أهل السنة)، والفريق الرابع (الاثني عشرية) من كتابنا (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
(98) تناولنا هذا القسم وبقية الأقسام الأُخرى التي تبين موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة في كتاب مستقل تحت عنوان (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة)، وسوف نذكر هنا خلاصّة القسم الأُول من ذلك الكتاب.
(99) ذكر الشيخ عبد الحليم الجندي في كتابه (الإمام الصادق) بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت والتي تؤكد عبوديتهم لله سبحانه.
(100) راجع ما نقله العلامة عبد الحليم الجندي في كتابه الإمام جعفر الصادق، حيث نقل بعض روايات أهل البيت التي تفصل بين مقام الالوهية ومقام العبودية.
(101) المصدر السابق.
(102) ذكرنا أكثر هذه الأقوال في كتابنا (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية) عند تناول الحقائق الثمان للاثني عشرية.
(103) ذكرنا هذه الجهود العظيمة في كتابنا (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).
(104) ذكرنا هذه النصوص الموجودة في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم في كتابنا (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية) عند تناول الحقيقة السادسة من حقائق الاثني عشرية.
(105) ذكرنا هذه النصوص في كتابنا (موقف الاثني عشرية من الغلو والغلاة).
(106) يراجع البحث التفصيلي لهذه الحقائق الأربع في كتابنا (حقائق الاثني عشرية وخصائصها بين أهل السنّة والجماعة الوهابية) والذي بينت فيه رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية، الفصل الأول والفصل الثاني من الباب الثاني من ذلك الكتاب.
(107) منذ سنوات وأنا أحضر بحوث الخارج، وهي أعمق وأهم مرحلة في دراسة الاثني عشرية، ولم أشرْع في دراسة بحوث الخارج إلا بعد أن أكملتْ دراسة مرحلة المقدمات ومرحلة السطوح.
(108) سنتناول هذه الحقيقة الكبرى وا لهامة في الفصل الثاني من الباب الثاني من كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
(109) مثل: حكم المتعة، وحكم السجود على التربة، وحكم مسح القدمين في الوضوء. (يراجع حول هذه القضايا الفصل الأول من الباب الثاني عند الحديث عن هذه الحقيقة؛ حقيقة الشرائع والأحكام في المذهب الاثني عشري). وسوف نتناول هذه الحقيقة بصورة مفصّلة في الفصل الأول من الباب الثاني من كتاب
(رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
(110) انظر الدراسة الموسعة حول هذه الحقيقة في الفصل الثاني من الباب الثاني في كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
(111) انظر دراستنا عن هذه الحقيقة في الفصل الثاني من الباب الثاني في كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
(112) نحن لا نشك أن (خاصّية الغيبة) ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمرحلة المعرفة التحليلية للاثني عشرية.
(113) وهذه الحقيقة تعد الحقيقة الأُولى في المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري.
(114) انظر دراستنا عن هذه الحقيقة في الفصل الأول من الباب الثالث من كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
(115) وهذه الحقيقة تعدّ الحقيقة الثانية في مرحلة المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري.
(116) أجمع المسلمون من أهل السنّة ومن الاثني عشرية أنّ الرسول الكريم قد أوصى لاثني عشر خليفة من بعده، كما ذكر ذلك الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه، والإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه، وعشرات من كبار محدِّثي أهل السنة والاثني عشرية. والكثير من هذه الكتب كانت موجودة قبل القرن الرابع.
(117) انظر مصادر حديث الاثني عشر الفصل الأول من الباب الثالث عند دراستنا المفصّلة لهذه الحقيقة في كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
(118) قال الكاتب الوهابي الذائع الصيت الدكتور محمد علي البار ـ حفظه الله ـ في كتابه (الإمام علي الرضا ورسالته الطبية) تحت عنوان: (حديث الثقلين):
((وقد أخرج مسلم في صحيحه حديث زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال: قام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فينا خطيباً بماء يدعى خُمّا بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: أما بعد؛ ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أو لهما كتاب الله فيه ا لهدى والنور؛ فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي...)).
وحديث الثقلين هذا قد ورد في سنن الترمذي عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أثقل من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض؛ فانظروا كيف تخلفوني فيهما)).
 ثم قال الشيخ السعودي الوهابي:
((والغريب حقاً أن حديث الثقلين هذا، رغم وروده في صحيح مسلم وفي سنن الترمذي، وحسّنه الحاكم النيسابوري في المستدرك ومسند الإمام أحمد، إلا أنّ معظم المعاصرين من العلماء والخطباء يجهله أو يتجاهله، ويوردون بدلاً عنه حديث ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي)). وهو في موطأ الإمام مالك، وفي سنده ضعف وانقطاع، وإن كان متنه ومعناه صحيحاً. وكان من الواجب إيراد الحديثين كلاهما معاً لاهميتهما في الباب، أما كتمان هذا الحديث الشريف الصحيح فهو مِنْ كتمان العلم الذي هدّد الله ورسولَهُ فاعلَه...)).
وقال العلامة الحافظ محمد ناصر الدين الالباني ـ رحمه الله ـ في (سلسلة الأحاديث الصحيحة):
((حديث العترة وبعض طرقه ـ 1761 ـ: يا أيّها الناس! إني قد تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتابَ الله، وعترتي أهل بيتي)).
ثم قال الالباني: (.. الحديث صحيح، فإن له شاهداً من حديث زيد بن أرقم... أخرجه مسلم (7 / 122 ـ 123) والطحاوي في (مشكل الآثار) (4 / 368)، وأحمد (4 / 366 ـ 367) وابن أبي عاصم في (السنة) (1550 و1551)، والطبراني (5026) من طريق يزيد بن حيان التميمي عنه، ثُمّ أخرجه أحمد (4 / 371) والطبراني (5040) والطحاوي من طريق علي بن ربيعة قال: ((لقيت زيد بن أرقم وهو داخل على المختار أو خارج من عنده، فقلت له: أسمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي؟ قال: نعم)). واسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، وله طرق أخرى عند الطبراني (4969 ـ 4971 و4980 ـ 4982 و4050) وبعضها عند الحاكم (3 / 109 أو 148 و533)، وصحح هو والذهبي بعضها.
وشاهد آخر من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: ((إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي؛ الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)) أخرجه أحمد (3 / 14 و17 و26 و59)، وابن أبي عاصم (1553 و1555) والطبراني (2678 ـ 2679) والديلمي (2 / 1 / 45)، وهو إسناد حسن في الشواهد، وله شواهد أخرى من حديث أبي هريرة عند الدارقطني (ص 529) والحاكم (1 / 93) والخطيب في الفقيه (56 / 1) وابن عباس عند الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي).
ثم ذكر الألباني تخريجات كثيرة للحديث وقال: ((بعد تخريج الحديث بزمن بعيد كتب عليّ أن أهاجر من دمشق إلى عمان، ثُمّ أن أسافر منها إلى الإمارات العربية.. فلقيت في قطر بعض الاساتذة والدكاترة الطيبين، فأهدى إليّ أحدهم رسالة له مطبوعة في تضعيف هذا الحديث، فلما قرأتها تبين لي أنه حديث عهد بهذه الصناعة، وذلك من ناحيتين ذكرتهما له:
الأولى: إنّه اقتصر في تخريجه على بعض المصادر المطبوعة المتداولة، ولذلك قصر تقصيراً في تحقيق الكلام عليه، وفاته كثير من الطرق والأسانيد التي هي بذاتها صحيحة أو حسنة فضلاً عن الشواهد والمتابعات، كما يبدو لكل ناظر يقابل تخريجه بما خرجته هنا.
الثانية: إنّه لم يلتفتْ إلى أقوال المصححين للحديث من العلماء، ولا إلى قاعدتهم التي ذكروها في مصطلح الحديث: (إن الحديث الضعيف يتقوى بكثرة الطرق)، فوقع في هذا الخطأ الفادح من تضعيف الحديث الصحيح.
وكان قد نمي إليّ قبل الالتقاء به واطلاعي على رسالته أن أحد الدكاترة في الكويت يضعف هذا الحديث، وتأكدت من ذلك حين جاءني خطاب من أحد الإخوة هناك، يستدرك عليَّ إيرادي الحديث في (صحيح الجامع الصغير) بالأرقام (2453 و2454 و2745 و7754)، لأن الدكتور المشار إليه قد ضعفه، وأن هذا استغرب مني تصحيحه! ويرجوا الأخ المشار إليه أن أعيد النظر في تحقيق هذا الحديث، وقد فعلت ذلك احتياطاً، فلعله يجد فيه ما يدل على خطأ الدكتور، وخطئه هو في استرواحه واعتماده عليه، وعدم تنبّهه للفرق بين ناشئ في هذا العلم ومتمكن فيه، وهي غفلة أصابت كثيراً من الناس الذين يتبعون كل مَنْ كتب في هذا المجال، وليستْ له قدم راسخة فيه. والله المستعان)). انتهى كلام الشيخ الإمام الالباني رضوان الله عليه.
وإنما ذكرته بتمامه لأنني رأيت أن الوهابيين ما زالوا يطبعون ويوزعون كتاب الدكتور (علي أحمد السالوس) حول تضعيف حديث الثقلين، وهم يعلمون أنّ هذا الدكتور لا علم له بالحديث ولا برجاله، وهم يعلمون ـ أيضاً ـ أن الألباني لم يذكر هذا الكلام بطوله إلا للردِ على الدكتور علي أحمد السالوس.
(119) هذه الحقيقة تعد الحقيقة الثالثة في مرحلة المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري.
(120) انظر الفصل الثاني من الباب الثالث في كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).
(121) هذه الحقيقة تعد الحقيقة الرابعة في المعرفة الجذرية للمذهب الاثني عشري.
(122) درسنا هذه الحقيقة ا لهامة في الفصل الثاني من الباب الثالث في كتاب (رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية).


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page