• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الوصول الى يثرب واقامه الدوله

الوصول الى يثرب:
نجا النبى من موامره القتل التى خططت لها زعامه بطون قريش، ونجا ايضا من مطارده خيل البطون ورجلها بعد فشل موامره القتل، وتابع رحلته المباركه الى يثرب، وسبقت وصوله اليها انباء هجرته، ونجاته من القتل والمطارده.
لقد سمع سكان يثرب ومن حولها الكثير الكثير عن رسول‏اللّه واختلفوا بشانه اختلافا كبيرا حتى قبل ان يهاجر اليهم، فمنهم من آمن به واحبه حبا شديدا، وترقب بشوق بالغ قدومه، واعتبر هذا القدوم فاتحه خير وبركه على الجميع.
ومنهم من فوجى‏ء بدخول الاسلام الى يثرب، ومن سرعه انتشاره، فكره النبى كرها شديدا دون ان يراه، وحكم عليه مزاجيا قبل ان يستمع اليه، وتمنى من كل قلبه لو ان بطون قريش قد تمكنت منه فقتلته شر قتله، ووضعت له ولدينه حدا وبالتالى فقد كره قدومه، واعتبر هذا القدوم شرا مستطيرا.
وبالرغم من اختلاف يثرب ومن حولها بشان النبى وبشان دينه، الا ان الجميع اعتبروه شخصا مميزا، وبطلا صمد امام ضغوط بطون قريش ال‏23 طوال 13 سنه، ونجا من محاوله قتله، ومن عمليه مطارده البطون له، ويبدو ان الذين بايعوه فى العقبه الكبرى قد نجحوا نجاحا باهرا بالاعداد لقدومه، فتولدت حاله من الانبهار العام، جعلت الجميع يتلهفون على مشاهده الرجل النبى، واخفى الكارهون له ولدينه ولقدومه مشاعرهم بالكره، واظهروا له غير ما ابطنوا، وابدوا كياسه بالغه، وحسن ضيافه، بعد ان اخذوا بحاله الانبهار العام.
وهكذا خرجت يثرب ومن حولها عن بكره ابيها، ولاول مره فى تاريخها، لتستقبل النبى مظهره له كل مشاعر الاعجاب والاحترام، والفرح بقدومه، وعرض عليه العديد من وجهاء يثرب ان يحل ضيفا عليهم، ومن جمله الذين عرضوا عليه ذلك عبداللّهبن ابى (زعيم المنافقين)، وتنافسوا لينالوا شرف ضيافته، وخرج النبى بحل ادهش المتنافسين على استضافته، وقطع تنافسهم، حيث قرر ان يحل بالمكان الذى تبرك فيه ناقته الماموره.
القوى الفاعله فى يثرب عند قدوم النبى اليها:
1- الاوس والخزرج:
كانت تسكن يثرب وما حولها قبائل عربيه، اكثرها واهمها على الاطلاق الاوس، والخزرج، وكل قبيله من هاتين القبيلتين ترى ان السياده اذا آلت للقبيله الاخرى منهما فانه حط من قدرها، وانتقاص من كبريائها، ولم تتوصلا مع الزمن الى قاسم مشترك، مما جر عليهما المتاعب والويلات، وغرس فى نفوس المنتسبين اليهما بذور الحسد والتنافس والكراهيه والحقد، فاذا تبنى الاوس موقفا، فالخزرج يتبنون بالضروره الموقف المناقض له، واذا اندفعت الخزرج نحو خير، اندفع الاوس لينالوا اوفره، وانقسمت كل قبيله من هاتين القبيلتين الى بطون متعدده، وجرى تنافس صامت بين هذه البطون لا يقل حده واثرا عن التنافس الذى كان يجرى بين القبيلتين الام.
كل هذا اوجد حاله من الت‏اكل الداخلى فى المجتمع اليثربى الذى تشكل القبيلتان اسسه وقوامه، وشعورا عميقا بالحاجه الى حل ياتى من خارج يثرب، وسعت كل قبيله منهما لتتبنى هذا الحل، ولتكون لها اليد الطولى بايجاده، وهذا يفسر السرعه الهائله التى انتشر بها الاسلام فى يثرب ومن حولها.
والخلاصه ان اهم القوى الفاعله فى يثرب يكمن فى الاوس والخزرج.
2- القبائل اليهوديه:
ويسكن المدينه وما حولها مع الاوس والخزرج قبائل يهوديه ارتبطت مع هاتين القبيلتين باحلاف عشائريه، وتعاطت التجاره، واحتكرتها، وتمركزت بها رووس الاموال، وتعاملت بالربا، ومارست اذكاء نار الفتنه بين بطون هاتين القبيلتين، وكونت لنفسها نفوذا هائلا، ولكنها لم تفكر بالسياده على يثرب لاحساسها العميق بانها عنصر اجنبى لا يقبل اليثاربه حكمه، ومن اهم القبائل اليهوديه فى يثرب بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظه.
وعلى الرغم من ان الاوس والخزرج جميعا عرب، اصلهم واحد الا ان احساسهم بهذا الرباط لا يكاد يذكر بسبب ضراوه الت‏اكل الداخلى، وعنف التنافس واثرهما المدمر.
ومع ان القبائل اليهوديه كانت تدين بالديانه اليهوديه، وتشعر جميعا بوطاه الغربه، الا ان الرابطه العامه بين هذه القبائل تكاد ان تكون معدومه عمليا بسبب عمق التنافس المادى بين هذه القبائل، بدليل ان رسول‏اللّه(ص) قد هرسها فيما بعد قبيله بعد قبيله وهى تتفرج على بعضها دون ان تحرك ساكنا او تحتج احتجاجا يذكر.
3- المسلمون الانصار:
وهم الذين اسلموا من بطون الاوس والخزرج او تظاهروا بالاسلام، وقد عرفوا جميعا بالانصار، وطبيعه العلاقه بين القبيلتين القائمه على التنافس الحاد والسعى الحثيث الى السبق والفوز والتقدم عجلت بدخول منتسبى القبيلتين معا فى دين الاسلام، حتى لا تسبق قبيله قبيله، او تختص قبيله بالفضل دون الاخرى، ففى فتره يسيره دخل افراد القبيلتين، او تظاهروا بالدخول فلم يعد بامكان اى فرد من افراد هاتين القبيلتين ان يعلن اعتناقه لغير دين الاسلام، وهكذا عم الاسلام اسميا المدينه وما حولها، ولم يبق من هولاء السكان على دينه القديم غير اليهود، ومع هذا اسلمت مجموعه منهم، بمعنى ان سكان يثرب وما حولها دخلوا فى الاسلام او تظاهروا بدخوله طوعا وبدون اكراه.
وكان للصادقين منهم دور بارز فى نشر الاسلام فى يثرب وفى تهيئه المجتمع اليثربى نفسيا لقبول قياده النبى، وفى خلق حاله الانبهار العام التى دفعت الجميع لاستقباله، وعجلت بانتشار الاسلام، وتكون من هولاء الصادقين فى ما بعد مع من هاجر جيش النبى الذى دانت له العرب، والصادقون موزعون على مختلف بطون قبيلتى الاوس والخزرج.
والخلاصه ان مسلمى الانصار شكلوا قوه كبرى فاعله وموثره ومتميزه عن غيرها من القوى الفاعله فى يثرب.
4- المسلمون المهاجرون:
وهم الذين اسلموا من سكان مكه، وهاجروا قبل النبى او بعده واستمر تدفقهم على يثرب حتى فتح مكه، وبعد الفتح ادرك الاذكياء من اهل مكه ان الاسلام هو طريق الدنيا وطريق الاخره معا، وان مفتاح ذلك هو موالاه محمد او التظاهر بموالاته وتصديقه، والخلاصه لقد تجمعت فى يثرب قوه فاعله ومتميزه عن غيرها عرفت (بالمهاجرين) وكانت اكثريتها من بطون قريش وبعضهم من الموالى الذين امتحن اللّه قلوبهم للايمان.
5- المنافقون:
فوجئت الاغلبيه الساحقه من رجالات يثرب بانتشار الاسلام، وسرعه توغله فى النفوس، مثلما فوجئت بحاله الانبهار العام بشخصيه الرسول، وبقدره الدين الجديد، وقدره نبيه على استقطاب الناس وخلق آليه الاستقطاب.
واكتشفت ان معارضه النبى او معارضه دينه مجابهه هى بمثابه انتحار سياسى يجر على صاحبه سخط العامه، والعزل التام عن اى دور فى القياده او التوجيه ويخرجه من دائره الضوء.
وتفتقت ذهنيتهم المريضه عن مبدا خطير قدروا انه الحل الوحيد وهو مبدا:
(الاسلام التام فى الظاهر والكفر التام فى الباطن).
فالمنافق ينطق بالشهادتين، ويعلن بلسانه ان القرآن كلام اللّه، ويسبح، ويصلى، ويصوم ويزكى، وينفق ويتصدق، ويعتمر، ويحج، ويخرج للجهاد مع الرسول، او يعتذر عن الخروج، ويبالغ بالاعتذار اذا تخلف حتى يقبل الرسول عذره، فمن حيث الظاهر هو مسلم من جميع الوجوه.
لكنه فى قراره نفسه كافر بكل ما جاء به محمد، يكره النبى، ويكره قيادته للمجتمع، يحقد على النبى وعلى اهل بيته، وعلى من يحبهم ويواليهم، ويحب الذين عادوا النبى واهل بيته فيتخذه وليجه له ووليا، ويتربص الفرص لنقض كلمه الاسلام من اصولها.
لقد ترسخت فكره النفاق، وصارت مشكله النفاق من اعظم المشكلات التى واجهت النبى ومن والاه، حيث عمت هذه الظاهره، المدينه وما حولها، فعبداللّهبن ابى يسكن مع ابنه فى بيت واحد، ومع هذا فالوالد زعيم المنافقين، والابن عبد صالح يوالى اللّه ورسوله، ولقد عبر القرآن عن ذلك خير تعبير قال تعالى:
(وممن حولكم من الاعراب منافقون، ومن اهل المدينه مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (406).. لقد تحول المنافقون الى قوه رهيبه، فقد كثر عددهم حيث شكلوا الاكثريه الساحقه من مجتمع المدينه، ولكن فاعليتهم كانت ملجومه بقياده النبى الحكيمه، وبوجوده المبارك.
وقبول المسلمين لهذه القياده وكم حاول النبى ان يصلحهم، وان يهديهم سواء السبيل، ولكنهم اختاروا العمى على الهدايه، وذهبت كل المحاولات ادراج الرياح.
رقصوا طربا واصلحوا انفسهم!!!
عندما انتقل النبى الى جوار ربه، رقص المنافقون طربا وفرحوا بموته، وفرحوا عندما دب الخلاف بين اتباعه، وكانت سعادتهم لا توصف عندما خرج اهل بيت النبوه من دائره الحدث والتاثير واقصوا عن قياده الامه.
هنالك اختفت كلمه النفاق وتبخر المنافقون تماما، وكانهم كانوا ينتظرون موته ليصلحوا انفسهم قبل ان يرتد اليك طرفك، وليعلنوا ولاءهم المطلق للسلطه التى خلفت النبى!!
ان هذا لشى‏ء عجاب.
وبعد ان استعرضنا القوى الفاعله فى يثرب عند قدوم النبى، سنبين بما امكن من الايجاز كيف تعامل النبى مع هذه القوى؟
الاعلان عن قيام الدوله الاسلاميه:
بعد نجاه النبى من موامره قتله التى خططت لها زعامه بطون قريش، وافلاته من مطارده خيل البطون ورجلها له، تابع رحلته المباركه الى يثرب، ووصلها ووجد سكان يثرب ومن حولها من الاعراب قد خرجوا عن بكره ابيهم ليستقبلوه، وليظهروا او يتظاهروا باظهار فرحتهم بقدومه، بغض النظر عن حقيقه نواياهم، ودوافعهم لهذا الاستقبال والخروج، وبغض النظر عن اختلافهم الكبير بشان النبى كما اسلفنا.
ومن الموكد ان سكان يثرب ومن حولها، كانوا بواقع الحال احد ثلاثه:
1- فاما مومن صادق يعتبر موالاه النبى وطاعته جزءا من دينه وهذا حال الذين امتحن اللّه قلوبهم للايمان من المهاجرين والانصار، كسعدبن عباده، وسعدبن معاذ، والمقداد، وعماربن ياسر.
2- واما منافق يتظاهر بالاسلام وبموالاه النبى رغبه او رهبه، ويبطن الكفر بالاسلام والحقد على النبى وآله واوليائه، ويقيم اوثق العلاقات مع اعدائهم كحال عبداللّه بن ابى، واصحاب مسجد الضرار، والذين ت‏امروا على قتل النبى.
3- واما من اليهود الذين انبهروا بالسرعه التى التف بها اهل المدينه من العرب حول محمد، وادركوا ان محمدا صار سيد المدينه وما حولها، وان لاتباعه الكلمه العليا، وان مصالحهم ونفوذهم تحت رحمه الرجل واتباعه، ومن الحكمه ان يتظاهروا بموالاه محمد الى حين، حرصا على مصالحهم، وتجنبا للسباحه بمعاكسه التيار العام.
تقييم الموقف والبروز العملى لاركان دوله المواجهه:
انتهت فتره مراسم الاستقبال، واستقر النبى فى وطنه الجديد (المدينه المنوره وما حولها) وبرزت عمليا اركان دوله المواجهه، وتولى النبى زمام المبادره لتوجيه هذا البروز، وقاد عمليا وبدون ضجه اعلاميه بلوره اركان دوله المواجهه المستقبليه.
الركن الاول:
السلطه او القياده السياسيه:
محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالضروره هو اس السلطه، وهو القائد وهو المرجع، فهو الرسول الذى اختاره اللّه تعالى لتبليغ رسالات ربه وعينه وليا واماما وجعل طاعته والقبول بشرعيه قيادته ومرجعيته جزءا لا يتجزا من دين الاسلام، وبالتالى فهو المكلف ببيان القرآن وهو الاعلم، والافهم، والاتقى، والافضل بشهاده اللّه تعالى فمن الطبيعى جدا ان يكون هو القائد وهو الامام، وهو المرجع.
وقد احيط سكان يثرب علما بالخطوط العريضه للمواجهه التى جرت بين محمد، وبين زعامه بطون قريش خلال مده ال‏13 عاما التى قضاها النبى فى مكه قبل هجرته، وفهموا بان النبى قد اعلن على‏بن ابى طالب وليا لعهده واماما من بعده كما وثقنا.
فالامام او رئيس السلطه معروف، ونائبه معروف.
ومن الطبيعى ان يتولى الامام او القائد توزيع الادوار وان يستعين بمن يراه مناسبا لتحقيق الغايه الشرعيه من ظاهره السلطه.
وقد بينا ان كل سكان المدينه المنوره وما حولها قبلوا بقياده محمد قلبيا او تظاهروا بالقبول، ومحمد ليس مخولا ان يطلع على نوايا شعبه، بل تعامل مع الظاهر، وترك امر البواطن للّه.
بمعنى ان سكان المدينه وما حولها قد قبلوا وبدون ضغط ولا اكراه بقياده محمد، ومرجعيته.
الركن الثانى:
الشعب:
تكون شعب الدوله الجديده من سكان يثرب وما حولها وهم بالضروره احد اربعه اصناف:
1- المسلمون الصادقون الذين هاجروا من مكه الى المدينه (المهاجرون).
2- المسلمون الصادقون الذين آمنوا من اهل يثرب ومهدوا لقدوم النبى، واعدوا المجتمع اليثربى لتقبل النبى.
3- المسلمون الذين تظاهروا بالاسلام وموالاه النبى -رغبه او رهبه- وابطنوا الكفر والكراهيه لمحمد ولال محمد ولمن والاهم وهم (المنافقون).
4- اصحاب المصالح الذين كرهوا قياده محمد، وكرهوا دينه، ولكن حرصا على مصالحهم وحتى لا يسبحوا بمواجهه التيار العام تظاهروا بقبولهم لقياده محمد للمجتمع الجديد وهم اليهود.
الصنفان الاوليان (المهاجرون والانصار) ظاهرهما كباطنهما مع النبى، ومع القرآن، ومع الدين بلا تردد ظاهرا وباطنا.
واما الصنفان الثالث والرابع:
فظاهرهما مع النبى ومع قيادته للمجتمع وباطنهما كاره لذلك، حاقد عليه، يتربص الفرص لنقضه، ولكنهما لا يظهران الا ودا، بمعنى ان سكان يثرب وما حولها قابلون بقياده محمد، وراضون بها، وبمحض اختيارهم العلنى رضوا ان يكونوا شعب السلطه الجديده، وقبلوا او تظاهروا بالقبول بكافه ترتيبات هذه السلطه.
وهذا عين ما تمنته كل دوله متحضره طوال التاريخ.
الركن الثالث:
المنظومه الحقوقيه (القانون النافذ):
المهاجرون والانصار بالمفهوم الذى وضحناه آنفا، يومنون بان الحل لما ينجم بينهم، وبينهم وبين غيرهم يكمن فى كتاب اللّه وسنه نبيهم.
فكتاب اللّه، وبيان النبى لهذا الكتاب هما بمثابه المنظومه الحقوقيه او القانون النافذ الذى ينظم العلاقه بين السلطه والامه، او بين افراد الامه وجماعاتها، او بين الكيان السياسى للامه وغيره من الكيانات، ويرسم المسالك لبلوغ الغايات العامه والخاصه.
والمسلمون المنافقون يتظاهرون بذلك، واصحاب المصالح يعلنون انه لا مانع لديهم من ذلك، وانهم يقبلون بكل الترتيبات التى يضعها محمد.
بمعنى ان كل افراد الشعب قبلوا او تظاهروا بقبول القياده السياسيه المتمثله بمحمد، وبقبول القانون النافذ المتمثل بالقرآن الكريم، وبفهم النبى له، وبتوجيهات هذا النبى، والتى تعتبر جزءا لا يتجزا من القانون ومن الاسلام معا.
وهذا اقصى ما تطمح الدول بتحقيقه.
الركن الرابع:
الوطن او الاقليم:
المدينه المنوره وما حولها هى اقليم الدوله من حيث المبدا، وهو غير محدد، لان الارض كلها للّه، ومحمد هو رسوله المكلف بتبليغ رسالات ربه الى نبى البشر، وكلما تبلغ فوج من البشريه الرساله، وصدق بها، ووالى نبى اللّه او الامام الشرعى من بعده فيصبح هذا الفوج آليا جزءا من رعايا الدوله، والارض التى يقيم عليه هذا الفوج تغدو جزءا لا يتجزا من اقليم الدوله الاسلاميه.
فالعبره بالدخول فى دين اللّه، وبموالاه نبيه او القبول بقيادته او قياده الامام الشرعى القائم مقامه، والعبره ان يكون الدخول فى الاسلام والموالاه او التظاهر بهما بدون ضغط ولا اكراه، ومن هنا فان الدوله الاسلاميه معده اصولها لتكون دوله عالميه تسود العالم كله من حيث السلطه، وتضم جماعات الجنس البشرى كلها لتكون شعبا لهذه الدوله، وتنقص الارض من اطرافها لتكون الكره الارضيه اقليما لهذه الدوله.
ترتيب اوضاع الدوله واعدادها للمواجهه:
المواجهه مع بطون قريش قدر محتوم:
النبى العظيم متيقن ان نجاته من موامره القتل، وافلاته من مطارده خيل البطون ورجلها لم يضع حدا لحاله المواجهه بينه وبين زعامه بطون قريش.
وان هذه الزعامه الفاسده لن تقبل بالتطورات الاخيره والتى اسفرت عن ميلاد كيان سياسى جديد فى المدينه المنوره وما حولها برئاسه محمد الذى تعتبره عدوها اللدود.
وبالتالى فان زعامه البطون لن تعترف بهذا الكيان الجديد باى وجه من الوجوه، ولن تخلى بين محمد وبين العرب، بل ستتابع استغلال نفوذها الادبى عند العرب لتصدهم عن محمد وعن دينه، ولتحرضهم عليه.
وزياده على ذلك فان زعامه البطون ستتصدى بالذات لمقاومه محمد والصدام معه ومحاوله القضاء عليه وعلى دينه نيابه عن العرب الذين لم يوكلوها بذلك مما يعنى ان استمرار المواجهه وتصعيدها بين النبى ومن والاه، وبين زعامه بطون قريش ومن والاها قدر محتوم، وامر لا ريب فيه.
فمن الطبيعى والحاله على هذه الشاكله ان يبدا النبى مبكرا باستعداداته لهذه المواجهه، ولمواجهات اخرى محتمله جدا مع فئات اخرى تتعارض مصالحها مع الاسلام ومع نبيه.
وقد راى (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ان اولى اولوياته هو ترتيب الاوضاع الداخليه فى الكيان السياسى الذى وجد نفسه رئيسا له.
طبيعه شعب المدينه المنوره وما حولها:
لكى نفهم التشريعات التى وضعها رسول‏اللّه لترتيب وتنظيم الاوضاع الداخليه لشعب المدينه المنوره وما حولها لا بد من فهم طبيعه تركيبه هذا الشعب الذى وجد النبى نفسه عمليا قائدا له، وهذه التركيبه فى غايه التعقيد والتشابك، بحيث يتعذر على اى رجل فى العالم ان ينجح فى قياده هكذا شعب، او ان يخلق بين افراده وجماعاته حاله من الانسجام والتوافق توهلهم لئن يكونوا طرفا موفقا فى ايه مواجهه جديه.
فشعب المدينه وما حولها يتكون من مجموعه من البطون القبليه المتميزه تماما عن بعضها، الحريصه على وجودها واستقلالها القبلى بالرغم من ارتباطها برابطه الدم والقرابه باحدى القبيلتين الاعظم الاوس والخزرج، وهذه البطون مسكونه بهواجس التنافس والتحاسد والتكاره.
اما بقيه شعب المدينه فهم بطون، او عائلات يهوديه استقرت فى المدينه بعد طول ترحال، ولم يفارقها الاحساس بالغربه، ولا الشعور بانها عنصر اجنبى رغم طول الاقامه، وكثره الثروه وتشابك المصالح.
وقد نشات بين هذه التجمعات القبليه المتنافره تحالفات بين بعض البطون والبعض الاخر، او بين بعض هذه البطون وبعض العائلات اليهوديه فرضتها حاجات واقعيه.
وجاء الاسلام الى المدينه:
واعتنقت كل بطون قبيلتى الاوس والخزرج الاسلام او تظاهرت باعتناقه، ووالت كل بطون الاوس والخزرج رسول‏اللّه بعد هجرته، او تظاهرت بموالاته رغبه او رهبه.
وهكذا وظاهريا جمعوا بين وحده الدين، ووحده الاصل، ووحده الوطن، ووحده القياده.
لكن الامور واقعيا كانت مختلفه جدا، فاكثريه الاوس والخزرج لم يعتنقوا الاسلام انما تظاهروا باعتناقه، ولم يوالوا النبى حقا، انما تظاهروا بموالاته، وهذه الاكثريه هى التى عرفت شرعا (بالمنافقين) حيث تعذر عليها ان تبقى على حالها، او تسبح بمواجهه تيار قوى وجارف، فتظاهرت باعتناق الاسلام، وبموالاه النبى، واضمرت الكفر بالاسلام والحقد على النبى.
واندست مظهره اسلامها وموالاتها للنبى ومبطنه كفرها وحقدها على النبى، تتربص الفرص لنقض كلمه الاسلام من اصولها، وللقضاء على محمد وآله ومن صدق به.
وليس من المستبعد ان هذه الاكثريه بقيت عاكفه على اصنامها تقدم لها فروض الطاعه، وليس بعيدا ان تكون هذه الفئه بلا دين وبلا خلاق.
اما بطون اليهود والعائلات اليهوديه فقد كانت اقل مكرا وابعد غورا، فبعضهم اعتنق الاسلام وصدقوا وهم قله، والاكثريه منهم بقيت على دينها، وبنفس الوقت اظهرت قبولها بقياده النبى، وتعاملت بحذر مع الاكثريه المنافقه، وتعاطفت معها.
وتمنت الاكثريه اليهوديه ان ينجح مخطط المنافقين الرامى الى نقض كلمه الاسلام من اصولها، والقضاء على محمد وآله والمخلصين له، وطبع اللّه على قلوب الفريقين.
اما الفريق الثالث فهم المومنون الذين امتحن اللّه قلوبهم للايمان من المهاجرين والانصار فقد آمنوا باللّه حقا، وصدقوا رسوله، وصدقوا بموالاتهم له.
وكانت عقولهم وهواهم مع اللّه ورسوله.
وبالرغم من قله الفئه المومنه، الا ان اللّه تعالى قد ساعدها بفرض هيبتها، وخلق جوا من الانبهار بوجودها.
التشابك المذهل:
وفوق هذا وذلك وجدت حاله من التشابك العجيب بين تشكيلات شعب المدينه وما حولها، فافراد وبطون الاوس قلبيا مع الذين ينتمون للاوس، وافراد وبطون الخزرج مع المنتسبين للخزرج.
ومن الممكن تجاهل رابطه الدم، والتنافس بين القبيلتين حقيقه من حقائق الحياه ترسخت نهائيا، لقد خففها الاسلام، لكنه لم يقو على اقتلاعها نهائيا من النفوس.
والتحالفات بقيت مصانه، وبقيت آثارها.
ثم ان هنالك ظاهره عجيبه حقا، فقد يكون الاب منافقا ويكون الابن مومنا.
ومهما تمكن الاسلام من قلب الولد فعسير جدا عليه ان يترك اباه، فعندما كثر الحديث عن ضروره قتل عبداللّهبن ابى عز ذلك على ابنه المومن واستاذن النبى بقتل اباه، حتى لا يقتله غيره ويكون مضطرا لمشاهده قاتل ابيه، فيطمئنه النبى ويوكد له بانه سيحسن صحبته ولن ياذن لاحد بقتله.
تلك هى الخطوط العريضه:
هذه هى الخطوط العريضه لطبيعه المجتمع الذى وجد النبى نفسه قائدا له، وهو مجتمع يتعذر على اى رجل فذ ان ينجح بقيادته وتوحيده لكن النبى موهل الهيا، وهو ذروه الوجود الانسانى.
فقد كان، ببصيرته الثاقبه وبعون اللّه، على علم كامل بطبيعه التشكيلات البشريه التى يتكون منها شعبه، وهو لم يتوقع بان يحكم شعبا من الملائكه، لذلك عمم ان يتعامل مع الواقع كما هو، وان ينقله بحدود قدرته على الاحتمال، وتدريجيا مما هو كائن الى ما ينبغى ان يكون او لاقرب نقطه مما ينبغى ان يكون.
على طريق التنظيم:
الدستور المكتوب:
لترتيب الاوضاع الداخليه لشعب المدينه وما حولها تمهيدا لاعداده للمواجهات، وضع النبى دستورا مكتوبا عرف بالصحيفه، وهو بمثابه عهد من الرسول، وتكون هذا الدستور النبوى من 48 ماده مصاغه صياغه دستوريه من جميع الوجوه.
وعند الوقوف على المعانى اللغويه للكلمات والمصطلحات التى وردت فى هذا الدستور، وبعد الاطلاع على التشريعات الاسلاميه التى صدرت خلال حياه النبى فيما بعد، وبعد الاحاطه بتفاصيل النظام السياسى الاسلامى، يجد الباحث الموضوعى المتجرد ان هذه الصحيفه التى وضعها رسول‏اللّه لغايات تنظيم المجتمع المدينى واعداده للمواجهه، هى دستور دوله من جميع الوجوه.
وهى افضل دستور يمكن ان يوضع لترشيد المجتمع المدينى فى هذه المرحله، فقد اختيرت الفاظه لتكون هينه على الاسماع، خفيفه الوقع، توقظ مجتمع المدينه، ولا تهيجه.
المضمون العام للدستور:
يتضمن الدستور ترتيب الاوضاع الداخليه فى مجتمع المدينه وما حولها فى حالتى السلم والحرب، وبيان مجمل لحقوق الجماعات التى تكون المجتمع وواجباتها، وحدد طبيعه العلاقات بين الجماعات المكونه لشعب المدينه، وبين السلطه المتمثله بشخصه الكريم.
فحافظت كل جماعه على وجودها، واعطيت قدرا كافيا لاداره شوونها وحل اشكالاتها، وعندما يتعذر عليها الحل فالمرجع هو رسول‏اللّه.
وتضمن الدستور اعلانا ضمنيا ومكتوبا ولاول مره بان رسول‏اللّه هو اعلى سلطه فى البلاد، وحكمه هو الفصل بحل الخلافات، ورسم الدستور افقا للعلاقات بين هذا الكيان السياسى وبين غيره من الكيانات السياسيه المنتشره فى الجزيره.
وتضمن الدستور موادا تنص بوضوح بان زعامه بطون قريش هى عدوه الجميع ولا يجوز لاى فرد او جماعه من جماعات شعب المدينه وما حولها ان تعقد صلحا منفردا معها، او ان تتحالف مع اى بطن من البطون المنتميه لزعامه بطون قريش.
واشتملت الصحيفه موادا تتيح للجماعات حريه الحركه فى عمومها والرجوع للنبى عند الاختلاف، وتضمنت مبادى‏ء تبرز اهميه قيم معينه.
ومع علم النبى بخطوره ظاهره النفاق، وبكثره المنافقين، الا انه لم يشر لهذه الظاهره، ولا لاتباعها، ولم يعترف بوجودها، انما تعمد تجاهلها واغفالها تماما، طمعا بالاصلاح او الاستطلاع وتعبيرا عن حسن نيه السلطه الجديده نحو شعبها وتفهما منها لنوازع النفس البشريه.
نماذج من مواد هذا الدستور (407):
الماده الاولى:
(هذا كتاب من محمد النبى رسول‏اللّه بين المومنين والمسلمين من قريش واهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم انهم امه واحده من دون الناس).
فهذه الماده اعلنت عن ميلاد امه جديده تتكون من المومنين والمسلمين من قريش واهل يثرب وممن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم، وان الذى اعلن عن ميلاد هذه الامه الجديده، هو محمد النبى رسول‏اللّه.
وهذه الامه الجديده تشمل جميع السكان الذين والوا النبى او تظاهروا بالموالاه والذين اعتنقوا الدين او تظاهروا باعتناقه والذين لم يعتنقوا الدين، ولكنهم تظاهروا بقبولهم لقياده النبى وهم اليهود.
لاحظ الماده 25 والمواد 26-36 التى عالجت طبيعه انتماء اليهود للمجتمع الاسلامى بمعنى ان الدستور وجد ليحكم المسلمين واهل الكتاب وليعيش الفريقان فى ظله.
المواد من 3-11 تقر بالوجود الشرعى للتشكيلات القبليه وملحقاتها وترتيباتها، وتدخل مفهومى المعروف والقسط، كذلك فالمواد 24-36 تقر بالوجود السياسى ليهود بطون معينه.
الماده 39:
(يثرب حرام جوفها لاهل هذه الصحيفه) والماده‏42:
(وانه ما كان من اهل هذه الصحيفه من حدث او اشتجار يخاف فساده فان مرده الى اللّه والى محمد رسول‏اللّه..) والماده‏44 قد نصت:
(وان بينهم النصر على من دهم يثرب) ونصت الماده‏38 على:
(وان اليهود ينفقون مع المومنين ما داموا محاربين) ماده‏22:
(وانكم مهما اختلفتم من شى‏ء فان مرده الى اللّه والى محمد).
بمعنى ان يثرب هى وطن الجميع، وان محمدا هو مرجع الجميع، وان النفقات مفروضه على الجميع.
الماده‏43:
وقد نصت هذه الماده على ما يلى:
(وانه لا تجار قريش ولا من نصرها) الماده‏20ب:
(وان لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه مومن).
وببساطه صارت بطون قريش هى عدوه المجتمع.
الماده‏40:
(وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم) والماده‏12:
(وان المومنين لا يتركون مغرما (اى مثقلا بالديون) بينهم ان يعطوه بالمعروف فى نداء او عقل) والماده‏17:
(وان سلم المومنين واحده لا يسالم مومن دون مومن).
تلك نماذج من مواد الدستور النبوى.
تدابير اخرى:
وفى نطاق تنظيم الشعب وتهيئه المجتمع للمواجهه اوجد رسول‏اللّه نظام المواخاه حيث آخى بين المهاجرين فى مكه قبل الهجره، وآخى بينه وبين ولى عهده والامام من بعده على‏بن ابى طالب.
وبعد ان تمت الهجره آخى بين المهاجرين من مكه، وبين انصار المدينه، وآخى بينه وبين ولى عهده على‏بن ابى طالب، واعمالا لمبدا المواخاه اوجد نظام المشاركه والمواساه، حيث قدم الاغنياء اجزاء من اموالهم الى اخوانهم الفقراء، وحض على الانفاق واعتبره اكبر مظاهر الايمان، وشجع الفقراء على اخذ نصيبهم من اموال الاغنياء وذوى الفضل باعتباره حق شرعى لهم، وحض الاغنياء والفقراء على التكافل والتضامن، معلنا انهم شركاء فى مال‏اللّه، ورسم صوره شرعيه لمجتمع الايمان حيث اعتبره بمثابه الجسد الواحد، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وتبع هذه التدابير مجموعه كبيره من التشريعات الاقتصاديه والاجتماعيه والسياسيه خلقت مجتمعه حاله فريده من التماسك والتعاضد بين الجماعه المومنه، وميزتها عن غيرها من الجماعات، وساعد على نجاحها ان رسول‏اللّه وهو قائد المجتمع كان مستوى معيشته لا يختلف عن مستوى افقر افراد الشعب.





________________
406- سوره التوبه، آيه 101.
407- مراجع الدستور النبوى: سيره ابن هشام 1/501وما فوق، ومجموعه الوثائق السياسيه لمحمد حميد اللّه ص 15وما بعدها، والرسول العربى وفن الحرب عند العرب لقائد الجيش السورى اللواء مصطفى طلاس،كما نقلها عن سيره ابن اسحاق، ونظام الحكم فى الشريعه والتاريخ لظافر القاسمى ص 31وما فوق.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page