بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الميامين ، وبعد.
خلق الله تعالى الخلق متمايزين في صفاتهم الخلقية من الطول والقصر والصحة والسقم والنحافة والبدانة وغيرها ، وتلك سنّة الله تعالى في خلقه وكونه .
إنّ أمّة الإسلام التي بعث فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله) أمة عالمية، ودعوته للناس كافة، وهذا الكيان الضخم ليس أنموذجاً متكرراً في البشر ، وليس بالكيان المتكلّس في الفهم والوعي ، ولكن كيان متمايز حتّى في حياة النبي(صلى الله عليه وآله) ، فمن أصحابه من طفق في السوق يبيع ويشتري(1) ، ومنهم من لازم النبي(صلى الله عليه وآله) على العلم والصحبة ، ومنهم من أحبّ الرسول(صلى الله عليه وآله)حبّاً شديداً فوق نفسه(2) ، ومنهم من كان وسطاً بين العلم والكسب(3) ،ومنهم من فهم إشارات الرسول(صلى الله عليه وآله) وتلميحاته ، ومنهم من كان وعاء للعلم ، وكلّهم من رسول الله(صلى الله عليه وآله) أخذ ، وهذه قسمة الله تعالى في خلقه ، وكذلك ميّزهم وعدّدهم .
بيد أنّه بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) بدأت الأُمّة مرحلة أُخرى من التمايز الخُلقي الذي جعل فئة من الأمّة تتباعد رويداً رويداً ، غير أنّ الإسلام يتّسع لكل هؤلاء على اختلافهم وتمايزهم .
وبموت النبي(صلى الله عليه وآله) اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ينظرون في أمر الأمّة ، ولمن تؤول قيادة الأمّة ، حتّى أصبح أبو بكر خليفة ، وكان هذا موضع خلاف ، وفيه ثلاثة آراء :
الرأي الأول : أنّ النبي استخلف أبو بكر بالنص الخفي أو الجلي .
ومن ذلك ما روي عن جبير بن مطعم قال : "أتت امرأة النبي(صلى الله عليه وآله)فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك(صلى الله عليه وآله) كأنّها تقول : الموت . قال(صلى الله عليه وآله) : "إن لم تجديني فأتي أبا بكر" .
وفي الصحيحين عن عائشة عن أبيها رضي الله عنهما ، قالت : "دخل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) في اليوم الذي بُدىء فيه ، فقال : ادعي لي أباك وأخاك حتّى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمّ قال : "يأبى الله والمسلمون إلاّ أبا بكر" .
وفي رواية "فلا يطمع في هذا الأمر طامع" .
وفي رواية قال : "ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر لأكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه ، ثمّ قال : معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر" .
وروي عن عائشة رضي الله عنها ، أنّها سئلت من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلف؟
والظاهر ـ والله أعلم ـ أنّ المراد أنّه لم يستخلف بعهد مكتوب ، ولو كتب عهداً لكتبه لأبي بكر ، بل قد أراد كتابته ثمّ تركه ، وقال : "يأبى الله والمسلمون إلاّ أبا بكر" . فكان هذا أبلغ من مجرد العهد ، فإنّ النبي(صلى الله عليه وآله)دلّ المسلمين على استخلاف أبي بكر ، وأرشدهم إليه بأمور متعددة ، من أقواله وأفعاله ، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك ، حامد له ، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ، ثمّ علم أنّ المسلمين يجتمعون عليه ، فترك الكتاب اكتفاءً بذلك ، ثمّ عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس ، ثمّ لما حصل لبعضهم شك ، هل ذلك القول من جهة المرض؟ أو هو قول يجب اتّباعه؟ ترك الكتابة اكتفاءً بما علم أنّ الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر . فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمّة لبيّنه بياناً قاطعاً للعذر ، لكن لمّا دلّهم دلالات متعددة على أنّ أبا بكر المتعيّن ، وفهموا ذلك ، حصل المقصود(4) .
الثاني : أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) نص على خلافة علي بن أبي طالب بالنص الصريح الواضح المتواتر في أكثر من موضع .
منها : ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال : "قام رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوماً فينا خطيباً بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة ، فحمد الله ووعظ وذكره ، ثمّ قال : أمّا بعد ، ألا أيها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين أوّلهما كتاب الله .. ثمّ قال : وأهل بيتى"(5) .
الثالث : الشورى العامّة وعدم الاستخلاف ، وأنّ الأمر شورى بين المسلمين .
ذهب إلى ذلك جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية ، وأنّ خلافة أبي بكر ثبتت بالاختيار ، وكذا ذهبت السيّدة عائشة .
واستدل البعض : بطلب سعد بن عبادة البيعة لنفسه ، وكذلك الحباب ابن المنذر حينما تقدّماً كلاّ منهما لطلب البيعة والخلافة في السقيفة .
احتجّ الذين قالوا لم يستخلف ، بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما ، أنّه قال : "إن أستخلف ، فقد استخلف من هو خير منّي ، يعني أبا بكر ، وإن لا أستخلف ، فلم يستخلف من هو خير منّي ، يعني رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، قال عبد الله : فعرفت أنّه حين ذكر رسول الله(صلى الله عليه وآله) غير مستخلف(6) .
ولكن الشيعة رفضوا القول بالشورى وعدم الاستخلاف ، وذهبوا إلى :
أ ـ أنّ النبي كان إذا أراد الذهاب في سفر لا يترك المدينة دون خليفة عليها ولو كان سفره يوماً واحداً ، فكيف يترك أمر الناس بعده دون راع .
ب ـ من الثابت أنّ الشريعة الإسلامية تفرض الوصية على المسلم حتّى في بعض الميراث البسيط ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}(7) .
فكيف يترك الرسول(صلى الله عليه وآله) هذا الأمر بدون أن يوصي به والحال أنّ استقرار الأمّة متوقف على ذلك ، وبدون ذلك يؤول الأمر إلى تنازع(8) .
يقول ابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة" إنّ حديث الغدير صحيح لا مرية فيه ، وطرقه كثيرة جدّاً ، ومن ثمّ رواه ستة عشر صحابياً ، وفى رواية لأحمد أنّه سمعه من النبي(صلى الله عليه وآله) ثلاثون صحابياً ، وشهدوا به لعلي لمّا نوزع أيام خلافته ، وكثير من أسانيده صحاح وحسان ، ولا يلتفت لمن قدح في صحته ولا لمن ردّه"(9) .
وفي الخصائص للنسائي عن زيد بن أرقم قال : "لما رجع النبي(صلى الله عليه وآله)من حجّة الوداع ، ونزل في غدير خم ، أمر بدوحات فقمن ، ثمّ قال : كأنّي دعيت فأجبت ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : أحدهما أكبر من الآخر ،
كتاب الله وعترتى أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، ثمّ قال : إنّ الله مولاي وأنا وليّ كل مؤمن ، ثمّ أخذ بيد علي(رضي الله عنه) فقال : من كنت وليه ، فهذا وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، فقلت لزيد : سمعته من رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : نعم ، وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلاّ ورآه بعينه وسمعه بأذنيه"(10) .
وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم عن زيد بن أرقم قال : "لمّا رجع رسول الله(صلى الله عليه وآله) من حجّة الوداع ، ونزل غدير خم أمر بدوحات فقمن ، فقال : كأنّي دعيت فأجبت ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، ثمّ قال : إنّ الله عزّ وجل مولاي وأنا وليّ كل مؤمن ، ثمّ أخذ بيد علي(رضي الله عنه) ، فقال : من كنت وليه ، فهذا وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه" .
يقول الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقد أخرجه الحافظ الذهبي في تلخيصه على المستدرك(11) .
وفي كنز العمال للمتقي الهندي "أنّ الله مولاي وأنا وليّ كل مؤمن ، من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه" . وأخرج هذا الحديث عن جابر وأبي سعيد وابن عباس وزيد بن أرقم وأبي هريرة .
ويقول الشهرستاني في الملل والنحل : "ومثل ما جرى في كمال الإسلام وانتظام الحال حين نزل قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(12) .
فلمّا وصل غدير خم أمر بالدوحات فقمن ، ونادوا : الصلاة جامعة ، ثمّ قال عليه الصلاة والسلام وهو على الرحال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار ، ألا هل بلّغت؟ ثلاثاً"(13) .
إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة ، وقد رُوي من قِبَل الصحابة والتابعين وعلماء الحديث في كل قرن بصورة متواترة ، فقد نقل حديث الغدير ورواه (110) من الصحابة ، و(89) من التابعين ، و(3500) من العلماء والمحدّثين ، وفي ضوء هذا التواتر لا يبقى مجال للشك في أصالة وصحة هذا الحديث ، كما أنّ فريقاً من العلماء ألّفوا كتباً مستقلة حول حديث الغدير .
وتأسيساً على ما سبق نسوق تلك المحاورة التي دارت بين عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس : "كان الخليفة الثاني يأنس بابن عباس ويميل إليه كثيراً ، فقال له يوماً : يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفس عليّ شي من الخلافة . قال ابن عباس : قلت : نعم ، فقال عمر : لقد كان من رسول الله في أمره ذروة من قول لا تثبت حجة ولا تقطع عذراً ، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الإسلام فعلم رسول الله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك" .
وما جاء في البخاري والطبقات : "أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قال في مرضه الأخير : عليَّ بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً ، فقال عمر : إنّه يهجر ، وقد غلب عليه الوجع"(14) .
وفي النهاية لابن الأثير في مادة (هجر)(15) .
وفي هذا المعنى يقول أحد الشعراء :
أوصى النبي فقال قائلهم قد راح يهجر سيّد البشـر
لكن أبا بكر أصاب ولـم يهجر وقد أوصى إلى عمر
____________
1- منهم عبد الرحمن بن عوف الذي آخى النبي(صلى الله عليه وآله) بينه وبين سعد بن الربيع الخزرجي ، فقال له : إنّ لي زوجين فانظر أيّهما شئت حتّى أطلّقها لتتزوجها وأشاطرك نصف مالي ، فقال : بارك الله لك في مالك وأهلك ، ولكن دلّوني على السوق . تاريخ الإسلام للذهبي 2 : 104 .
2- صهيب بن سنان الرومي منعته قريش بأن يلحق بالرسول في هجرته ، فقال لهم : أرأيتم إن تركت مالي ، أمخلّون أنتم سبيلي؟ قالوا : نعم ، فترك لهم ماله أجمع ، فبلغ ذلك النبي(صلى الله عليه وآله) ، فقال : ربح صهيب .. المرجع السابق 2 : 235 .
3- من هؤلاء أبو بكر وعثمان والزبير وغيرهم .
4- ابن أبي العز الحنفي ، شرح العقيدة الطحاوية ، ص472 ـ 474 .
5- صحيح مسلم 2 : 122 ـ 123 .
6- ابن أبي العز الحنفي ، مرجع سابق ، ص474 . الصفحة 22
7- البقرة : 180 .
8- د. الشيخ أحمد الوائلي ، هوية التشيع ، ص110 .
9- ابن حجر الهيتمي ، الصواعق المحرقة ، ص42 .
10- النسائي ، الخصائص ، ص40 ـ 41 .
11- الحاكم النيسابوري ، المستدرك على الصحيحين 3 : 109 .
12- المائدة : 67 .
13- الشهرستاني، الملل والنحل 1: 163 .
14- البخاري ، صحيح البخاري 5 : 137 ، طبقات ابن سعد 4 : 61 .
15- ابن الأثير ، النهاية 5 : 246 .
الفصل الأوّل : خلفاء الرسول
- الزيارات: 854