• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

حقيقــة التشيّـع

لم تحظ طائفة من طوائف الإسلام باهتمام المؤلفين والباحثين قديماً وحديثاً، كما حظيت الشيعة بذلك، ويعود السبب في ذلك إلى اُمور، منها: أنَّ الشيعة كانت على مرّ الأيام تمثل المعارضة الجادة للاتجاهات المنحرفة التي تبنّتها الحكومات المتعاقبة على العالم الإسلامي. وكانت تلك الحكومات تجد نفسها مضطرّة لتسخير وسائل إعلامها ضد هذه الطائفة وتسعى في الحطّ منها وإظهارها أمام المسلمين بمظهر الفرقة الزائغة عن الحقّ، وتسميتها بالمبتدعة.
ومن ناحية اُخرى فإن التفاف الشيعة حول أهل البيت(عليهم السلام)، والاستهداء بتعاليمهم دون سواهم، وما كان يحظى به أهل البيت النبويّمن محبّة واحترام من قبل المجتمع الاسلامي، كان يثير مخاوف هذه الحكومات من أن يبثّ الشيعة تعاليم أهل البيت بين الناس، الذين كان أغلبهم قد وقعوا ضحية التعاليم المنحرفة التي روّجتها الحكومات الظالمة، ونشر الأحاديث المفتعلة المنسوبة للنبيّ(صلى الله عليه وآله)والتي كانت تحاول اظهار هذه الحكومات على أنّها أنظمة إسلامية تستمدّ شرعيّتها من تعاليم الإسلام. لذا كان لابدّ لها من الوقوف بوجه المدّ الشيعي وتحديده لمنع تسرّب أفكاره الثورية الصحيحة في صفوف المسلمين.
فلم تجد هذه الحكومات والحال هذه بداً من الاهتمام بهذه الطائفة، بتسخير وسائل إعلامها المتاحة للنيل من سمعة هذه الطائفة وتنفير الناس منها بنسبة معتقداتها إلى اُصول فاسدة لا تمتّ الى الإسلام بصلة، أو إظهارها كفرقة أجنبيّة عن المجتمع العربي والإسلامي. ونستعرض فيما يلي باختصار الآراء المختلفة في أصل التشيّع والتي يستهدف منها أصحابها تشويه الحقائق وسترها للحيلولة دون الوصول إليها.
شبهة الاُصول اليهودية:
إنّ أخطر التهم التي توجّه للتشيّع هو زعم أنّ اُصوله يهودية تستمد جذورها من تعاليم عبدالله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام في وقت متأخر، ورحل من بلاده ـ اليمن ـ ليطوف الحجاز والشام والعراق ومصر ويبث عقائده الفاسدة بين المسلمين والمتمثلة بالقول بأنّ علياً(عليه السلام)وصيّ النبيّ(صلى الله عليه وآله).
يقول فريد وجدي: وكان ابن السوداء (عبد الله بن سبأ) في الأصل يهودياً من أهل الحيرة، فأظهر الإسلام وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورئاسة، فذكر لهم أنّه يجد في التوراة أنّ لكلّ نبيّ وصياً، وأنّ علياً وصي محمد..(1) وأصل هذه الرواية في تاريخ الطبري(2) عن طريق سيف بن عمر المطعون في عدالته بشدة من قبل المحدّثين.(3) وقد نقل بعض المؤرخين الذين جاءوا بعد الطبري الرواية كما هي حتى صارت مشهورة. فاعتمد عليها المؤلفون في الفرق قديماً وحديثاً دون تمحيص أو تدقيق، وهي الرواية التي قال عنها ابن حجر: لايصح سندها.(4) ولكنّ المؤلفين لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، بل ظلّوا يرددونها على مرّ القرون، فقال ابن تيمية: لمّا ذهل أعداء الإسلام من قوة هذا الدين ونفاذ سلطانه وسرعة انتشاره، وقفوا قلقين حيارى، ولم يكن لهم قوة لمقاومته بالسيف، فلجأوا إلى طريق آخر للكيد، وهوالدخول في الإسلام نفاقاً، وهدم بنيان الإسلام من الداخل، وتمزيق وحدة المسلمين بنشر الفتنة، والذي فكّر وقدّر ثم دبّر وخطط له، هو عبد الله بن سبأ وشرذمته.(5) ويمكن ملاحظة اتجاهين مهمّين فيما يتعلق بشخصية عبد الله ابن سبأ: أحدهما يحاول أن يلصق بهذه الشخصية مهمة إثارة الفتنة في الساحة الإسلامية، وتحميلها أوزار كلّ المشاكل التي ظهرت بين الصحابة في زمن عثمان بن عفّان معتمدة على رواية الطبري الآنفة الذكر، والتي تعطي لابن سبأ دوراً اُسطورياً غير معقول ولا منطقي، وتجعل من عدد كبير من خيار الصحابة أتباعاً لهذا اليهودي المتستّر بزي الإسلام، بينما يفترض الاتجاه الآخر أنّها شخصية من نسج الخيال، للرواية الضعيفة التي أوردها الطبري عنه.
إنّ بعض المصادر التاريخية تفرض وجود هذه الشخصية ولكنها ترفض الدور الخطير الذي نسب إليها. وذلك لأن الروايات التي جاءت في مصادر الشيعة والسنّة ـ عدا رواية الطبري ـ تؤكد أنّ هذه الشخصية قد ظهرت في فترة خلافة علي(عليه السلام)، وأنّها قد غلت في شخصيته إلى حدّ التأليه، وأنّ ابن سبأ قد وجد أتباعاً له في هذا الاتجاه المنحرف، ولكن حركته لم تكن بذات خطورة كبيرة كالتي يصوّرها بعض الباحثين لأغراض في النفس، ولوكان ابن سبأ بهذه الدرجة من الأهمية، لما أهملته كتب الحديث المعتمدة لدى الجمهور وبخاصة الصحاح التي تخلو من أي إشارة إليه. وقد فطن بعض المستشرقين والباحثين إلى أنّ لتضخيم دور ابن سبأ أهدافاً سياسية اُخرى للنيل من الشيعة، يقول فلهوزن: والحقّ أنّ التلقيب بلقب السبئيّة إنّما كان يطلق على الشيعة وحدهم، واستعماله الدقيق ينطبق على غلاة الشيعة فحسب، ولكنه كلمة ذم تطلق على جميع الشيعة على السواء.(6) ويقول الدكتور محمد عمارة: أمّا فيما يختصّ بموضوعنا، موضوع التاريخ لنشأة التشيّع فإنّ وجود ابن سبأ ـ على فرض التسليم بوجوده ـ لايصلح دليلاً على أنّ التشيّع ظهر في ذلك التاريخ(7).. وحتى الشيعة لا يروون عنه شيئاً من ذلك.. ومن هنا فإنّ عصره لا يصحّ أن يتّخذ بدءاً لتاريخ الشيعة والتشيّع بالمعنى الفني المعروف.(8)
لكن المشكلة أنّ قضية ابن سبأ قد باتت تمسّ بعض عقائد الجمهور التي ساهمت السياسة في تشكيلها. ومن المدهش أن يثور جدل عنيف على صفحات بعض الصحف السعودية ـ كصحيفة الرياض وغيرها ـ بين عدد من الاساتذة والباحثين حول دور ابن سبأ الموهوم، وليس من داع لهذا النقاش إلاّ إصرار بعض الباحثين غير المنصفين لردّ عقائد الشيعة إليه من ناحية، ومن ناحية اُخرى فإنّ بعض الباحثين المنصفين إلى حدّ ما ينظرون إلى ابن سبأ على أ نّه يمثّل جزءاً من عقيدة الجمهور، إذ يقول الدكتور حسن بن فهد الهويمل: والجدل حول ابن سبأ يأخذ ثلاثة مستويات:
المستوى السائد عند المؤرّخين الإسلاميين، وهو ثبوت وجوده وثبوت دوره في الفتنة بكلِّ حجمها المبالغ فيه.
والمستوى الاستشراقي والشيعي المتأخر، وهو انكار وجود ابن سبأ، ومن ثم انكار دوره، وعندما أقول الشيعي المتأخر فإنّما اُشير إلى أنّ المتقدمين من الشيعة لم ينكروا وجود ابن سبأ، وإن نفوا بعض أثره.
والمستوى المتوسط، وهو إثبات وجود ابن سبأ والتقليل من دوره في الفتنة، وهذا ما أميل إليه..
ويأتي الدكتور الهلابي ومن بعده حسن المالكي مع تيّارالمتشددين المنكرين لوجود هذه الشخصية. ومع قراءتي لما كتبا ووقوفي على الجهد المبذول في التقصيّ، إلاّ أنني لا أطمئنّ لما ذهبا إليه، ولا أرتاح له; لأنّ في نسف هذه الشخصية نسفاً لأشياء كثيرة وتفريغاً لكتب تراثية لكبار العلماء من أمثال: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن حجر، والذهبي وغيرهما، فابن سبأ أو ابن السوداء يشكلّ مذهباً عقائدياً، ويشكّل مواقف اُخرى لوتداعت لكنّا أمام زلزلة تمسّ بنايات كثيرة! (9) من هنا يتبيّن أنّ مسألة وجود ابن سبأ ودوره الاُسطوري يشكّل اتجاهاً عقائدياً عند البعض، يترتب على وجوده الحفاظ على قدسية التراث بكلّ ما فيه من غث وسمين، وإن كانت الحقيقة أنّ مسألة ابن سبأ قد أصبحت سلاحاً في أيدي المناوئين للتشيّع، في محاولتهم إلصاق عقائدهم به ليس إلاّ.
شبهة الاُصول الفارسية:
من المعلوم أنّ دولة بني اُميّة كانت دولة عربية خالصة، اعتمدت سياسة إبعاد الموالي والحطّ من شأنهم إلى أقصى الحدود، ومحاولة تمجيد العرب وتفضيلهم عليهم في كلّ شيء. وكانت مسألة إلصاق تهمة العجمة بخصومها هي إحدى وسائل الحرب الإعلامية التي تتبنّاها، والتي ظلّت مستمرة قرابة قرن من الزمان، ممّا ساعد على ترسيخ هذا الاتجاه الفكري عند عامة الناس.
وبما أنّ الشيعة كانوا القوة المعارضة الرئيسة لحكم الاُمويين، والتي كان خطر انتشار مبادئها يهدد كيان الدولة الاُموية في الصميم، فإنّ وسائل إعلام هذه الدولة لم تكتف بالصاق تهمة انتماء الشيعة إلى اُصول يهودية عن طريق ابن سبأ، بل حاولت أن توحي بأنّ فكرة التشيع فكرة فارسية مستوردة جاءت عن طريق الفرس بعد فتح بلادهم.
وقد ركّز بعض الباحثين المعاصرين على هذه المسألة، بل إنّ بعضهم قد بالغ أكثر، فحاول الجمع بين الاُصول اليهودية والفارسية معاً، يقول أحمد عطية الله:
تشتمل التعاليم السبئية على جذور العقيدة الشيعية التي نبعت من اُصول يهودية، وتأثرت بالمزدكية الفارسية، فرأس هذه الفرقة يهودي يمنيّ الأصل، بينما شاعت بعض العقائد الفارسية المزدكية إبّان الاحتلال الفارسي لبعض أهل الجزيرة العربية، لهذا صادفت السبئية هوىً لدى بعض أهل العراق المجاورين للفرس.
وقال أيضاً: (الحقّ الإلهي) وهي نظرية انتقلت إلى السبئية والشيعة عامة من الفرس، وتقوم على أنّ علياً هو الخليفة بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأنّه استمدّ حقّه في الإمامة من الله، وينتقل هذا الحق بالوراثة الى أهل بيته(10).
فهذا الباحث يريد أن يربط بين توارث الأئمة(عليهم السلام)للإمامة وبين الأفكار الفارسية التي تسرّبت إلى المسلمين، بحجة أنّ الفرس كانوا يؤمنون بالملكية الوراثية، وهذا الرأي قد ذهب إليه كثير من الباحثين وبعض المستشرقين.
الحقيقة لو أنّنا أخذنا هذا الرأي بنظر الاعتبار، لكان لزاماً علينا أن نقول: إنّ الاُمويين هم الذين قد أخذو بهذا المبدأ، لأنّهم حوّلوا الخلافة إلى ملك عضوض يتوارثه الأبناء عن الآباء، والدولة الاُموية عربية خالصة كما أسلفنا، لذا فإنّ مسألة تأثرهم بهذا التقليد الفارسي أمر مستبعد، وعلى هذا الأساس فإنّ استلهام الشيعة لهذا المبدأ أمر مستبعد أيضاً، بل أكثر استبعاداً إذا ماعرفنا أنّ التشيّع كان عربيّاً خالصاً كما سوف نثبت فيما بعد.
ويعزو بعض الباحثين فكرة التشيّع إلى أنّ أكثر الشيعة الأوائل من الفرس، حيث يقول الشيخ محمد أبو زهرة: وفي الحقّ إننا نعتقد أنّ الشيعة قد تأثروا بالأفكار الفارسية حول الملك ووراثته، والتشابه بين مذهبهم ونظام الملك الفارسي واضح. ويزكي هذا أنّ أكثر أهل فارس الآن من الشيعة، وإنّ الشيعة الأولين كانوا من الفرس (11).
أما أنّ أكثر أهل فارس الآن هم من الشيعة، فهذا صحيح، ولكن فات الشيخ أبو زهرة أنّ معظم أهل فارس قد دخلوا في التشيّع في فترة متأخرة خصوصاً في زمن الدولة الصفوية.
أمّا أنّ الشيعة الأوّلين كانوا من الفرس، فهذا غير صحيح، فإنّ استقراء التاريخ يثبت بشكل قاطع أنّ الشيعة الأوائل كانوا في جلّهم من العرب الأقحاح، وقد أثبت ذلك المؤلفون القدماء، حيث يظهر أنّ التشيّع كان منحصراً في مناطق محدودة من بلاد فارس، وكانت بدايته في مدينة قم، مع العلم أنّ أهل قم كانوا من العرب وليسوا من الفرس!
يقول ياقوت الحموي عن مدينة (قم): إنّها مدينة مستحدثة إسلامية لا أثر للأعاجم فيها، وأوّل من قصدها: طلحة بن الأحوص الأشعري..وأهلها كلّهم شيعة إمامية، وكان بدء تمصيرها في أيّام الحجاج بن يوسف سنة (83 هـ).. ولما انهزم ابن الأشعث ورجع الى كابل منهزماً كان في جملة اُخوة يقال لهم: عبد الله والأحوص وعبد الرحمن واسحاق ونعيم، وهم بنو سعد بن مالك بن عامر الأشعري، وكان متقدم هؤلاء الاُخوة عبد الله بن سعد، وكان له ولد قدريّ في الكوفة، فانتقل منها إلى قم وكان إمامياً، وهو الذي نقل التشيع إلى أهلها فلا يوجد بها سنيّ قط.(12) كما ويثبت الحموي أنّ التشيع لم يدخل مدينة الري إلاّ في زمن المعتمد العباسي، حيث يقول: وكان أهل الري أهل سنّة وجماعة، إلى أن تغلب أحمد بن الحسن المادراتي عليها، فأظهر التشيّع وأكرم أهله وقرّبهم، فتقرب الناس إليه بعد تصنيف الكتب في ذلك، فصنّف له عبد الرحمن بن أبي حاتم كتاباً في فضائل أهل البيت وغيره، وكان ذلك في أيام المعتمد، وتغلّبه عليها في سنة (275 هـ)(13).
والمقدسي يؤكد أنّ الغالب على أهل فارس هو المذهب الحنفي والشافعي، ولم يشر إلى وجود للتشيع بينهم في زمنه، حيث يقول: ولم أر السواد الأعظم إلاّ من أربعة مذاهب: أصحاب أبي حنيفة بالشرق، وأصحاب مالك بالمغرب، وأصحاب الشافعي بالشاش وخزائن نيسابور، وأصحاب الحديث بالشام ـ وبقية الأقاليم ممتزجون والغلبة ببغداد للحنابلة والشيعة... وبالكوفة الشيعة إلاّ الكناسة فانها سنّة ـ وفي الموصل حنابلة وجلبة للشيعة.(14) وينقل لنا ابن الفقيه نصاً مهمّاً على لسان محمد بن علي قائد الثورة العباسية على الاُمويين، وهو يوصي أفراد تنظيمه بما يجب عمله، ويقسّم لهم المناطق التي تصلح للعمل فيها لبثّ دعوتهم، فيقول: أمّا الكوفة وسوادها فشيعة عليّ وولده، وأمّا البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكفّ، وتقول: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة فحرورية مارقة وأعراب أعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأمّا أهل الشام فليس يعرفون إلاّ آل أبي سفيان وطاعة بني مروان وعداوة راسخة وجهل متراكم، وأمّا مكة والمدينة فقد غلب عليها أبوبكر وعمر. ولكن عليكم بخراسان، فإنّ هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء ولم يتوزعها النحل، وهم جند لهم أجسام وأبدان ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة من أجواف منكرة، وبعد فانّي أتفاءل إلى المشرق والى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق.(15) وقد اعترف الكثير من المستشرقين والباحثين المعاصرين بهذه الحقيقة، إذ يقول الدكتور عبد الله فياض: أما الأدلة التاريخية التي تؤيد ظهور التشيّع بين العرب وفي بيئة تغلب عليها الصفات العربية، وهي الكوفة، فأهمها:
أولاً: كان أنصار عليّ الذين أيّدوه في حربه مع خصومه يتكوّنون في الغالب الأعم من عرب الحجاز والعراق، ولم نعثر على اسم فرد ذي أهميّة أو قائد كبير من قوّاد عليّ من كان إيراني الأصل.
ثانياً: كان الذين يكتبون للحسين(عليه السلام) يستقدمونه سنة (60 هـ) للكوفة كلهم ـ كما يظهر من الأسماء التي وردت في الكتاب المنسوب لأبي مخنف ـ من زعماء القبائل العربية الساكنة في الكوفة وسوادها حينذاك.
ثالثاً: كان أنصار سليمان بن صرد الخزاعي في حركة التوابين، كلّهم تقريباً من القبائل العربية المعروفة.(16) وأكّد على النقطة الأخيرة، المستشرق فلهوزن، حيث قال: اجتمع في النخيلة أربعة آلاف من التوّابين، وكان بينهم عرب من كل القبائل وكثير من القرّاء ولم يكن بينهم أحد من الموالي(17).
وحول مسألة الخلط بين اتجاهات الفرس النفسيّة وبين ميولهم للتشيع، يقول فلهوزن أيضاً: أمّا أنّ آراء الشيعة كانت تلائم الايرانيين، فليست تلك الملائمة دليلاً عليه، بل الروايات التاريخية تقول بعكس ذلك، إذ تقول: إنّ التشيّع الواضح الصريح كان قائماً أولاً في الدوائر العربية، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي.(18) وينقل عبد الله الفيّاض عن ماسنيون قوله: إنّ هَمْدان، القبيلة العظيمة الخطيرة ذات الشوكة والقوة كانت شديدة التشيّع.(19)
سبب آخر:
إنّ من الأسباب التي يتشبث بها بعض الباحثين أيضاً لردّ التشيع إلى الأصل الفارسي، هي قضية زواج الإمام الحسين (عليه السلام) من إحدى بنات الفرس، إذ يقول الدكتور مصطفى الشكعة: وهناك برهان آخر يتمثله الذين يقولون بأنّ التشيع بدأ مذهباً سياسياً وليس عقيدة دينية، ذلك هو اجماع الفرس ـ و لايزالون حتى اليومـ على التشيع لآل علي. والمنطق في ذلك أنّ الفرس يعتقدون أنّهم أنسباء الحسين، لأنه تزوج شهر بانو (سلافة) ابنة يزدجر، بعد أن وقعت أسيرة في أيدي المسلمين، ولقد انجبت سلافة عليّاً زين العابدين(رضي الله عنه)، وإذاً فهم أخوال علي، ويمكن الربط بين تحمّسهم لابن ابنتهم وبين تشيعهم، فتشيّعهم والحال كذلك لا يمكن أن يقال إنه تشيّع عقيدة خالصة، بل هو أقرب إلى تشيع العصبية منه إلى تشيّع العقيدة، وتشيع العصبية يساوي تشيّع السياسة، ففكرة التشيّع من ناحية الفرس على الأقل فكرة سياسية خالصة، بل إنّ بعض الفرس قد أعلن انتصاره لعليّ زين العابدين لما يربط بين الفرس وبين بيت الحسين من نسب!(20) إنّ ممّا يؤخذ على كلام الدكتور الشكعة، هو أنّ الشيعة ليسوا كلّهم من الفرس وحدهم حتى يمكن تقبّل تحليله هذا، فإذا كان الفرس يدينون بتشيّعهم إلى رابطة الخؤولة، للنسب بينهم وبين علي بن الحسين وأبيه الحسين(عليه السلام)، فماذا نقول عن الشيعة من غير الفرس، وخاصة العرب الذين كانو يمثّلون لبّ التشيّع قبل دخول الفرس فيه؟!
ومن ناحية اُخرى، فلو كان زواج الحسين(عليه السلام) من سلافة الفارسية هو الدافع للفرس لاعتناق مذهب التشيع، فإنّ الحسين(عليه السلام)لم يكن وحده الذي تزوج من أميرة فارسية، فقد كان هناك آخرون أيضاً تزوجوا من الأميرات الفارسيات اللواتي اُسرن وجلبن إلى المدينة، فإنّ عبدالله بن عمر قد تزوج اُخت سلافة وأولدها ابنه
سالماً، وإذا كان الحسين (عليه السلام) ابن خليفة المسلمين، فإنّ عبد الله بن عمر كان ابن خليفة المسلمين عمر بن الخطاب السابق في خلافته على خلافة عليّ (عليه السلام).
كما وتزوج محمد بن أبي بكر الاُخت الاُخرى لسلافة وأولدها القاسم الفقيه المعروف. فضلاً عن أنّ محمد بن أبي بكر كان ابن خليفة أيضاً، وأبوه أسبق من أبي عبد الله بن عمر أيضاً في الخلافة.
وقد تمّ زواج الثلاثة في زمن عمر بن الخطاب.(21) من هنا نرى أنّ هذه الحجة داحضة أيضاً، ولا يمكن حمل تشيّع الفرس لهذا السبب غير المنطقي.
الخاتمة:
لقد تبيّن من كلّ ما سبق أنّ بذرة التشيع قد ولدت في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وهو الذي غذّاها ونمّاها باشادته المستمرة بعلي بن أبي طالب(عليه السلام)، ودعوته الناس للالتفاف حوله وإخبارهم بأ نّه على الحقّ، وأنّ شيعته هم الفائزون.
والوصيّة لعليّ(عليه السلام) ليست من مدّعيات عبد الله بن سبأ، بل هي نص ثابت للنبي(صلى الله عليه وآله)،منذ بداية الإسلام، وقيل عبدالله بن سبأ الموجود أو الموهوم، وقد أدرك الصحابة ذلك من خلال سؤالهم النبيّ(صلى الله عليه وآله)عن وصيّه وإخباره لهم بذلك، حتى اشتهر أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) بهذا اللقب (أي الوصي)، وتغنّت به الشعراء، ودخلت هذه المفردة في معاجم اللغة كلقب له(عليه السلام).
قال ابن منظور: وقيل لعليّ (عليه السلام) وصيّ.(22) وقال الزبيدي: والوصيّ، كغني: لقب عليّ(رضي الله عنه).(23) واستشهد ابن أبي الحديد بعشرات الأبيات التي قيلت من قبل عدد من الصحابة والتي تثبت لقب الوصيّ لعليّ(عليه السلام)(24).
والشيعة الأوائل كانوا من كبار الصحابة وذوي سابقتهم، وهم الذين تمسّكوا بخطّ التشيّع لعليّ(عليه السلام) ونشروه بين أفراد الاُمة.
والشيعة الأوائل كانوا عرباً أقحاحاً. يقول جولد تسيهر: إنّ التشيّع كالإسلام، عربيّ في نشأته وفي اُصوله التي نبت فيها(25).
والذين يحاولون أن يظهروا بأنّ الفرس قد دخلوا التشيّع بهدف هدم الإسلام واعادة الديانة المجوسية الى سابق عهدها، فإنّ عليهم أن يتذكروا أنّ معظم أئمة أهل السنّة كانوا من الفرس، كالبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأبي حنيفة وغيرهم من المحدّثين والفقهاء، فلو كان غرض الفرس هو هدم الإسلام، فينبغي أن يكون غرض اُولئك الأئمة من أهل التسنّن هو نفس الغرض إذا ما جارينا اُولئك في دعواهم.
لكن الحقيقة التي لا مِراء فيها هي أنّ التشيّع إنّما يمثّل خطّ الإسلام الأصيل البعيد عن الانحراف، والذي ظلّ يواجه هذه التيارات المشبوهة على مرّ الأيام، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

والحمدلله ربّ العالمين






____________
1- دائرة المعارف، القرن العشرين: 5/17.
2- تاريخ الطبري: 3/378، أحداث سنة 35 هـ.
3- قال ابن معين: ضعيف الحديث، وقال مرة: فلس خير منه. وقال أبو حاتم متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي، وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي والدار قطني: ضعيف. وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. قال وقالوا: إنّه كان يضع الحديث. قال ابن حجر: بقية كلام ابن حبان: اتهم بالزندقة. وقال البرقاني عن الدارقطني: متروك. وقال الحاكم: اتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط. انظر تهذيب التهذيب: 4/ 259 ـ 260.
4- لسان الميزان: 3/289 ترجمة عبد الله بن سبأ.
5- الصارم المسلول: 1/246.
6- الخوارج والشيعة: 28.
7- قد عرفت سابقاً أنّ التشيع قد بدأ في حياة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، أي في زمان لم يكن فيه أثر وذكر من ابن السوداء.
8- الخلافة ونشأة الأحزاب السياسية: 155.
9- صحيفة الرياض 4 ربيع الأول 1418 هـ.
10- القاموس الإسلامي: 3/249.
11- تاريخ المذاهب الإسلامية: 1/41.
12- معجم البلدان: 7/159.
13- المصدر السابق: 3/121.
14- أحسن التقاسيم: 136/142.
15- مختصر كتاب البلدان: 315.
16- المصدر السابق: 240.
17- تاريخ الإمامية، عن خطط الكوفة: 16.
18- اسلام بلا مذاهب: 173.
19- وفيات الأعيان: 1/455 ط بولاق.
20- لسان العرب: 15/394.
21- تاج العروس: 10/392.
22- انظر شرح نهج البلاغة: 1/143.
23- العقيدة والشريعة في الإسلام: 205.
24- تاريخ الإمامية: 68.
25- الخوارج والشيعة: 194.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page