• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الرابع الشيعة والسنّة النبوية المطهّرة

موقف الفريقين من السنّة النبوية:
إنّ مما يفترى به على الشيعة من قبل بعض الحمقى بأنهم ينكرون سنة المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا هراء ما بعده هراء، وننقل آراء بعض علماء أهل السنة حول موقف الشيعة من السنة النبوية المطهرة.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "الإمام الصادق": "السنة المتواترة حجة عندهم بلا خلاف في حجيتها، والتواتر عندهم يوجب العلم القطعي.... إنّ إنكار حجية السنّة النبوية المأثورة بالتواتر عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كفر لأنه إنكار للرسالة المحمدية، أما إنكار حجية أقوال الأئمة فإنّها دون ذلك تعد فسقاً ولا تعد كفراً" (1).
ويقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه ـ دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين ـ: "...ومن هؤلاء الأفّاكين، من روّج أنّ الشيعة اتباع علي، وأنّ السنيين أتباع محمد، وأنّ الشيعة يرون أنّ علياً أحق بالرسالة أو أنّها أخطأته إلى غيره، وهذا لغو قبيح وتزوير شائن" ثم يقول: "إنّ الشيعة يؤمنون برسالة محمد ويرون شرف علي في انتمائه إلى هذا الرسول وفي استمساكه بسنته، وهم كسائر المسلمين لا يرون بشراً في الأولين ولا في الآخرين أعظم من الصادق الأمين...فكيف ينسب لهم هذا الهذر" (2).
ولا يوجد أي اختلاف بين أهل السنة والشيعة حول مكانة السنة النبوية المطهرة ووجوب الأخذ بها، ولكنهم اختلفوا حول طريقة نقل هذه السنة إلى الأجيال اللاحقة لجيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو طريقة التثبت منها. فيكفي عند أهل السنة إيصال اسناد الحديث بنقل الثقة عن الثقة إلى أي من الصحابة الذين يعتقدون بعدالتهم جميعاً، وعندهم صحيحا البخاري ومسلم لا يشك قطعاً بصحة أحاديثهما حتى أصبحا وكأنّهما بنفس مرتبة القرآن الكريم من حيث الصحة، وإلاّ فما معنى إلزام الغالبية العظمى من أهل السنة لأنفسهم بقبول كل ما احتواه هذان الصحيحان؟ وتأكيداً لذلك، ننقل رأي الشيخ أبو عمرو بن الصلاح من مقدمة شرح النووي على صحيح مسلم: "جميع ما حكم مسلم رحمه الله بصحته في هذا الكتاب ـ صحيح مسلم ـ فهو مقطوع بصحته، وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه، وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع ـ ثم أضاف ـ: "...ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطىء،والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ" (3).
وأما الشيعة فإنّهم يشترطون أولاً إيصال أسناد الحديث إلى أي من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) محتجين بقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): "إني تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي "(4).
وبقوله تعالى: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا) (5)، وأما الشروط الأخرى فأهمها عرض الرواية على كتاب الله ثم النظر في متنها وسندها ومقارنتها بروايات أخرى ثبتت بالتواتر القطعي، وأخيراً عرضها على العقل، وأي رواية ينقصها أي من هذه الشروط، فإنّ الأخذ بها يكون محل نظر وتأمل.
وكتب الحديث الرئيسية عند الشيعة أربعة هي: (الكافي، من لا يحضره الفقيه، الاستبصار، التهذيب)، وجميع الروايات في هذه الكتب خاضعة للتحقيق، ففيها الغث والسمين، ولا يرون صحة جميع الروايات المخرجة في هذه الكتب، حيث أنّه لا يوجد عند الشيعة كتاب يوضع قبال كتاب الله في الصحة، كما هو الحال عند الشيخين البخاري ومسلم في صحيحيهما.
ففي كتاب ـ مصادر الحديث عند الشيعة الإمامية ـ للعلامة المحقق السيد محمد حسين الجلالي، تقسيم لأحاديث الكافي حيث يقول: "مجموع الأحاديث التي فيه 121، 16 حديثاً، منها 485، 9 حديثاً ضعيفاً، و114 حديث حسن و118 حديث موثق و302 حديث قوي و5702 حديث صحيح" وهذا يظهر بوضوح كيف ضعّف علماء الشيعة آلاف الأحاديث في الكافي. فأين هذه الحقيقة من تشدق بعض الأفّاكين مثل ظهير والخطيب القائلين بأن كتاب الكافي عند الشيعة هو كصحيح البخاري عند أهل السنة، ثم يدعون أن اسمه "صحيح الكافي"، وهذا كذب صارخ يكرروه في كتبهم المسمومة بهدف تضليل القارىء بإضفاء صفة الصحة على روايات ضعيفة اقتبسوها من الكافي أو غيره من كتب الحديث عند الشيعة لإقامة الحجة عليهم وإدانتهم بها.
موقف الفريقين من عصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم):
في الوقت الذي يثير فيه بعض المغرضين والأفّاكين إشاعات كاذبة بتفضيل الشيعة لأئمتهم على شخص الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكما هو سائد في مفهوم الكثير من أهل السنة، فإنني وجدت من خلال بحثي أنّ الشيعة يقدّسون النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بدرجة تفوق بكثير مكانته بنظر أهل السنة.
فالشيعة يقدّسون سنة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويرون كفر من ينكر حكماً أمر به النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه أفضل الأولين والآخرين، فهم يرون ضرورة التمسك بالأئمة الإثني عشر من أهل البيت(عليهم السلام) بوصفهم أوثق الطرق نقلاً لسنة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم يدرأون عن كل ما أحيط بمسألة عصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من شبهات وأقاويل، فهو بنظرهم معصوم في أمور الدين والدنيا وقبل النبوة وبعدها.
وأمّا أهل السنة فإنّهم أيضاً يفضلون شخص النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على الأولين والآخرين، إلاّ أنّهم يرون أنّ عصمته محدودة بالأمور الدينية فقط، والتي هي بنظرهم الأمور المتعلقة بتبليغ الرسالة ليس إلاّ، وما دون ذلك فهو كغيره من البشر يخطىء ويصيب.
وقبل أن نفنّد هذا القول، نعرض للقارىء صوراً مما يعتقده أهل السنة بشأن عصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لنرى بصورة جلية حقيقة موقفهم بهذا الشأن، ومن خلال ما يعتبرونه أصح الكتب بعد كتاب الله. فعن عائشة(رضي الله عنه) قالت:
"...حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، فقال له النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ (... ثلاثاً) فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: يا خديجة، مالي؟ ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي. وهو ابن عم خديجة أخو أبيها، وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية من الانجيل ما شاءالله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ما رأى فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً أكون حياً حين يخرجك قومك، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أو مخرجي هم؟...." (6).
فهل يعقل أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يعلم بأنّ ما أنزل عليه كان النبوة وأنّ ورقة بن نوفل ـ النصراني ـ هو الذي أعلمه بذلك؟؟ وتستمر عائشة(رضي الله عنه) بروايتها هذه بما هو أغرب من ذلك، وبما تقشعر له الأبدان:
"... ثم لم ينشب ورقة حتى توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردي من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدّى له جبريل فقال: يا محمد، إنّك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك" (7).
وهل يمكن لمسلم أن يصدق بأن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يحفظ القرآن بكامله؟ فانظر إذن لما أخرجه البخاري بالإسناد إلى عائشة(رضي الله عنه) قالت:
"سمع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) رجلاً يقرأ في المسجد، فقال: رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها في سورة كذا وكذا (8).
وأما بالنسبة لما يزعمونه من جواز سهو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد روي بالإسناد إلى جابر بن عبدالله أنّه قال:
"إنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) جاءه عمر بن الخطاب يوم الخندق فقال: يا رسول الله، والله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس تغرب وذلك بعدما أفطر الصائم، فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والله ما صليتها، فنزل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بطحان وأنا معه فتوضأ ثم صلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب" (9).
وعن أبي هريرة قال:
"أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فلما قام في مصلاه ذكر أنّه جنب، فقال لنا: مكانكم، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبّر فصلينا معه" (10).
وعن أبي هريرة أيضاً:
"فصلى بنا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، ووضع يده عليها وفي القوم يومئذ أبوبكر وعمر فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة؟ وفي القوم رجل كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يدعوه ذا اليدين، فقال: يا نبي الله، انسيت أم قصرت؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، قالوا: بل نسيت يا رسول الله، قال: صدق ذو اليدين" (11).
ويصل الأمر ـ على حد زعمهم ـ إلى أن يتمكن أحد اليهود من أن يسحر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فيتهيأ للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه فعل الشيء وما فعله، وسؤاله لعائشة عن نزول الوحي عليه أم لم ينزل، وهل أتى أهله أم لم يأتي؟
فعن عائشة(رضي الله عنه) قالت:
"مكث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كذا وكذا يخيل إليه أنّه يأتي أهله ولا يأتي، فقال لي ذات يوم: يا عائشة إن الله تعالى أفتاني في أمر استفتيته فيه: أتاني رجلان فجلس أحدهما عند رجلي، والآخر عند رأسي، فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما بال الرجل؟ قال:مطبوب، يعني مسحوراً. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم" (12).
وعن عائشة(رضي الله عنه) أيضاً أنّها قالت:
"سحر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أنّه يخيل إليه أنّه فعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه ثم قال: أشعرت يا عائشة أنّ الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟"(13).
وقد رفض الشيخ محمد عبده هذه الروايات التي تقول بوقوع الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)تحت تأثير السحر لأنها تتعارض مع قوله تعالى: (وقال الظالمون إن تتبعون إلاّ رجلاً مسحوراً) (14).
وأما عن تحكم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بشهواته، فقد أخرج البخاري في صحيحه بالرواية عن أبي هشام قال:
"إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لما كان في مرضه جعل يدور في نساءه ويقول: أين أنا غداً؟ حرصاً على بيت عائشة. قالت عائشة:فلما كان يومي سكن" (15).
وعن عائشة(رضي الله عنه) قالت:
"كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تبتغي بذلك رضا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)" (16).
ومما يفهم أيضاً من الروايتين أعلاه، أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقسم لكل من نسائه يومها وليلتها، إلاّ أنّ الرواية التالية تتعارض معهما. فعن أنس بن مالك قال:
" كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يدور على نساءه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن احدى عشرة، قال: قلت لأنس أو كان يطيقه؟
قال: كنا نتحدث أنّه أعطي قوة ثلاثين" (17).
ويقول كذلك أهل السنة أنّ الآيات الكريمة: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعلّه يزكّى * أو يذّكّر فتنفعه الذكرى....) (18) قد نزلت عتاباً للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لعبوسه بوجه عبدالله ابن مكتوم والذي كان ضريراً، وأنّ سبب إعراض الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عنه حسب ما يرويه أهل السنة هو انشغاله بالحديث مع عتبة بن ربيعة، وأبي جهل بن هشام، والعباس بن عبدالمطلب، واُبي، وأمية بن خلف، يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم، وقد طلب ابن مكتوم من الرسول حينها أن يقرؤه ويعلمه مما علمه الله حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لقطعه كلامه وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه من العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم.
والشيعة يرفضون ذلك ويقولون إنّ هذه الآيات نزلت بحق رجل من بني أمية أعرض عن ذلك الأعمى وليس الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم). وقد ذكر العلامة محمد حسين الطباطبائي في تفسيره "الميزان":
"... وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أنّ المراد بها هو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بل خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه، بل فيها ما يدل على أن المعني بها غيره لأن العبوس ليست من صفات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)مع الأعداء المباينين فضلاً عن المؤمنين المسترشدين. ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة.... وقد عظم الله خلقه(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال ـ وهو قبل نزول هذه السورة ـ: (وإنك لعلى خلق عظيم)، فكيف يعقل أن يعظم الله خلقه أول بعثته ويطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية ويذمه بمثل التصدي للأغنياء وإن كفروا والتلهي عن الفقراء وان آمنوا واسترشدوا" (19).
واعتماداً على الروايات السابقة وأمثالها أخذ أهل السنة اعتقادهم بعدم اشتمال عصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ للأمور الدينية والتبليغية فقط، ولكن الله تعالى أمر بالاقتداء برسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) مطلقاً وبدون أي قيد أو شرط، فقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيّ يوحى)(20)، وكذلك قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (21). يدل على عدم تقييد عصمته بل إطلاقها، وإذا جاز أن يخطىء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّ الله يكون قد أمرنا بخطأ، وهذا ما نستعيذ بالله أن نقول بمثله.
وإنّ تسرّب الروايات التي تمس بعصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالإضافة إلى أنّها من وضع الوضاعين حتى تتخذ مطاعن على دين الاسلام، فإنّه يحتمل أيضاً أسباب أخرى لوضعها منها ما يصلح ليكون مؤيداً لموقف بعض الصحابة عندما قالوا في الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يهجر ـ وهو في مرضه الأخير ـ عندما طلب منهم أن يأتوه بكتاب يكتبه لهم حتى لا يضلوا بعده، فلا غرابة بعد ذلك من وجود بعض الروايات والتي تجعل من أحد الصحابة يصيب في مسائل أخطأ فيها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وذلك على حد زعم مروّجي مثل هذه الروايات. ومنها ما نسب بشأن نزول آية الحجاب بعد تنبيه عمر بن الخطاب لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بضرورة تحجب نسائه فعن أنس قال:
"قال عمر(رضي الله عنه): قلت: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ـ وفي رواية أخرى، قال عمر للرسول: احجب نساءك، قالت: فلم يفعل ـ فأنزل الله آية الحجاب"(22).
وأيضاً ما نسبه أهل السنة بشأن آية النهي عن الصلاة على المنافقين بأنها نزلت مؤيدة لموقف عمر بعد أن أصرّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)على الصلاة على ابن أبيّ المنافق، فيروى عن عبدالله بن عمر أنّه قال:
"لما توفي عبدالله بن أبيّ جاء ابنه إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أعطني قميصك اكفنه فيه وصل عليه واستغفر له. فأعطاه قميصه وقال له: إذا فرغت منه فآذنّا، فلما فرغ آذنه به فجاء ليصلي عليه فجذبه عمر فقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ـ فنزلت ـ (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره). فترك الصلاة عليهم" (23).
وفي رواية أخرى عن عمر نفسه قال:
"... فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) "(24).
والحقيقة في تلك الحادثة أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد خير بالصلاة على المنافقين والاستغفار بقوله تعالى: (استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) (25) وقد اختار الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الصلاة على ذلك المنافق لما في ذلك من فائدة عظيمة ومصلحة متوخاة واستئلافاً لقومه الخزرج، وقد أسلم بذلك منهم ألف رجل، وقد كانت صلاته(صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك المنافق قبل نزول النهي عن ذلك، فآية (استغفر لهم أو لا تستغفر....) لا تدل على النهي الذي فهمه عمر واعترض على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وخطأه بسببه، ونزول آية النهي عن الصلاة على المنافقين لا تدل أبداً على خطأ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)في صلاته على عبدالله بن أبي والعياذ بالله، فهي تكون خطأ لو فعلها بعد نزول آية النهي وليس قبل. ولا يستفاد من هذه الحادثة سوى خطأ عمر وشدة اعتراضه على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكما اعترف عمر نفسه بذلك، حيث يروى عنه أنّه قال: "أصبت في الإسلام هفوة ما أصبت مثلها قط، أراد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصلي....الخ" (26).
ومثل ذلك ما يُروى أخذ الفداء من الأسرى يوم بدر، وأنّ الآية (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم) (27) نزلت ـ على حسب رأي أهل السنة ـ عتاباً للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بسبب أخذه الفداء من أسرى بدر وعدم قتله لهم، في نفس الوقت الذي كان فيه عمر بن الخطاب يريد قتلهم جميعاً، فنزلت الآية مؤيدة لرأي عمر، ورووا ما يؤيد رأيهم قولاً وضعوه من عندهم، ونسبوه إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن معنى الآية السابقة الذي يتضمن تهديداً بالعذاب الشديد ولكن لمن ذلك التهديد؟ فيروي أهل السنة أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يبكي مع أبي بكر حيث قال: "إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل عذاب ما أفلت منه إلاّ ابن الخطاب" (28).
وحقيقة هذه الحادثة: أنّ الآية السابقة قد نزلت قبل معركة بدر وتنديداً بالصحابة الذين فضلوا العير وما تحمله قافلة أبو سفيان على القتال، وذلك عندما استشارهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ليرى مدى استعدادهم ورغبتهم لقتال المشركين، فالنهي في الآية ليس في مطلق أخذ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) للأسرى وإنما النهي عن أخذ الأسرى دون قتال المشركين كما كان يريد بعض الصحابة عندما استشارهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بأخذ القافلة منهم أو قتالهم. وكيف يعقل أن تكون هذه الآية التي تهدد الذين لا يريدون إثخاناً في الأرض (أي القتال) قد نزلت تنديداً بالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أثخن في المشركين وقتلهم شر قتلة! وقد قتل في تلك الموقعة سبعين من صناديد قريش.
أبو هريرة وكثرة روايته للحديث:
نظراً لكثرة ما رواه أبو هريرة من أحاديث، فقد ارتأيت إلقاء بعض الضوء على شخصيته، حيث أجمع رجال الحديث على أن أبا هريرة كان أكثر الصحابة حديثاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، على حين أنّه لم يصاحب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ عاماً وتسعة أشهر ـ أو ثلاثة أعوام حسب بعض الروايات ـ وقد احتوت صحاح أهل السنة على 5374 حديثاً روى منها البخاري 446 حديثاً.
أمّا أبو هريرة نفسه فيقول: "ما من أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أحد أكثر حديثاً عنه مني إلاّ ما كان من عبدالله بن عمر، فإنّه كان يكتب ولا أكتب" (29)، وكل ما رواه ابن عمر 722 حديثاً، لم يخرج منها يخرج منها البخاري سوى سبعة أحاديث، ومسلم 20 حديثاً.
وأما سبب كثرة مصاحبة أبي هريرة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد أجاب هو نفسه عن ذلك عندما قال:
"يقولون أنّ أبا هريرة يكثر والله الموعد، ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ وإنّ إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإنّ اخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً ألزم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)على ملء بطني. فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون" (30).
"إنّ الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وإنّي كنت ألزم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بشبع بطني حتى لا آكل الخمير، ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة. وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع وإن كنت لاستقرىء الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطمعني، وكان أخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى أن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها" (31).
وقد عبر أبو هريرة عن تقديره لتصدق جعفر بن أبي طاب عليه بالطعام بأنه قال فيه: " ما احتذى بالنعال ولا ركب المطايا، ولا وطىء التراب بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من جعفر بن أبي طالب (32)". فما هو المعيار الذي اعتبره أبو هريرة بتفضيله جعفر بن أبي طالب على جميع الصحابة؟
وقد روى مسلم في صحيحه أنّ عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) ضرب أبا هريرة لما سمعه يحدث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ـ من قال لا إله إلا الله دخل الجنة (33) ـ، وروى ابن عبدالبر عن أبي هريرة نفسه قال: لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة (34).
وقال الفقيه المحدث رشيد رضا: "لو طال عُمُر عمر حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة" (35)، وقال مصطفى صادق الرافعي:".... فكان بذلك ـ يعني أبو هريرة ـ أول راوية اتهم في الإسلام "(36).
وعند حدوث معركة صفين، فقد كان تشيع أبو هريرة لمعاوية، وقد كوفىء على حسن روايته للحديث ومناصرته لهم بأن أغدقوا عليه، فكان مروان بن الحكم ينيبه عنه في ولاية المدينة، فتحولت أحواله من حال إلى حال، وقد روي عن أيوب بن محمد أنه قال:
"كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان؟ لقد رأيتني وإنّي لآخر فيما بين منبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)إلى حجرة عائشة مغشياً علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويُرى أنّي مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلاّ الجوع" (37).
وما يرتبط بتشيعه لبني أمية كتمانه لبعض حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن روايته لها ستعرض حياته للموت، فعن أبي هريرة نفسه قال:
"حفظت عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعاءين، فأمّا أحدهما فبثثته، وأمّا الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم" (38).
وأين هذا من قول أبي هريرة نفسه:
"إنّ الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً، ثم يتلو ـ (إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلاّ الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)(39).(40) ومن خلال هذه الأدلة الدامغة تتبين حقيقة أبي هريرة وأمانته
في رواية الحديث، والتي تجعل منه شبيهاً بوعاظ السلاطين في زماننا، ويتضح سبب إعراض الشيعة عن رواياته، وبما يصلح أن يكون رداً على مغالاة أهل السنة بقبول أحاديث أبي هريرة، وطعنهم في كل من يوجه إليه النقد.
ففي اختصار علوم الحديث، قال ابن حنبل وأبوبكر الحميدي وأبوبكر الصيرفي: "لا نقبل رواية من كذب في أحاديث رسول الله وان تاب عن الكذب بعد ذلك" (41)، وقال السمعاني: "من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه" (42).
ونعرض فيما يلي بعضاً من روايات أبي هريرة والتي أخرجها البخاري في صحيحه، نبدأ بزعم أبي هريرة بأنّ موسى (عليه السلام)قد فقأ عين ملك الموت!
فعن أبي هريرة قال: "أرسل ملك الموت إلى موسى(عليهما السلام)، فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. فرد الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل شعرة سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر" (43).
وعن أبي هريرة قال: "يقال لجهنم هل امتلأت، وتقول هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط " (44).
وعن أبي هريرة قال: "قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟"(45).
والرواية الأخيرة تتناقض مع ما يعتقده أهل السنة من استقرار الله جل وعلا على العرش، فنزوله إلى السماء الدنيا في آخر الليل ـ كما يزعم أبو هريرة ـ يعني بقائه فيها طوال ألـ 24 ساعة من الليل والنهار لدوام وجود وقت آخر الليل على الأرض ولكن في بقع مختلفة نظراً لكروية الأرض! ترى لو كان أبو هريرة يعلم بكروية الأرض، فهل كان ليروي مثل هذه الروايات؟
وعن أبي هريرة أيضاً قال: "قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلاّ أنّه آدر، فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبة، فخرج موسى في أثره يقول: ثوبى يا حجر، ثوبي يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس: وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضرباً. فقال أبو هريرة: والله إنّه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضرباً بالحجر" (46).
وعن أبي هريرة أيضاً: "إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء، أقبل حتى إذا ثوِّب بالصلاة ادبر، حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، وكذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى" (47).
وعن أبي هريرة أيضاً قال: "قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه فقالت: لم أخلق لهذا. خلقت للحراثة، قال: آمنت به وأبوبكر وعمر. وأخذ الذئب شاة فتبعها الراعي، فقال الذئب: من لها يوم السبع؟ يوم لا راعي لها غيري؟ قال: آمنت به أنا وأبوبكر وعمر. قال أبو سلمة: وما هما يومئذ في القوم" (48).
والحقيقة أنّ الأحاديث السابقة من الإسرائيليات التي أكثر أبو هريرة من روايتها، وذلك يرجع لكثرة ملازمته لكعب الأحبار اليهودي الذي تظاهر باعتناقه الإسلام.
وعن دخول الجنة، فقد رُوي عن أبي هريرة قوله: "سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: يدخل الجنة من أمتي زمرة هي سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر، فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه، قال: ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعله منهم، ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، ادع الله لي أن يجعلني منهم. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): سبقك عكاشة" (49).
وعن أبي هريرة أيضاً قال: "بينما نحن عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال: بينما أنا نائم، رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته فوليت مدبراً. فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله" (50).
ونختتم روايات أبي هريرة ببعض الفتاوى، التي رُويت عنه منسوبة إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له حذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح"(51)، وأما الفتوى الأخرى عن أبي هريرة أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "لا يمشي أحدكم في نعل واحدة، لينعلهما جميعاً، أو ليحفهما جميعاً" (52).
وقفة مع البخاري في صحيحه:
لقد أصبح من الضروري إلقاء ولو نظرة سريعة على صحيح البخاري بوصفه أصح كتب الحديث عند أهل السنة الذين يعتقدون بصحة جميع ما روي فيه من جهة، وبوصفه الحاوي للكثير من روايات أبي هريرة وذلك الكم الهائل من الروايات التي تطعن بعصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وغيرها من جهة أخرى.
فقد أخرج البخاري أحاديثه (الصحيحة برأيه) من 600 ألف حديث، وكما روي عنه إذ قال: "لم أخرج في هذا الكتاب إلاّ صحيحاً، وما تركت من الصحيح أكثر" (53).
ومأخذنا الأول على الشيخ البخاري هو اعتماده على عدالة سلسلة رواة الحديث كشرطه الوحيد لإثبات صحة الحديث المروي وبدون النظر إلى متنه وما احتواه من معنى الأمر الذي يفسر وجود الاضطراب والفساد والتناقض في كثير من الروايات التي أخرجها. فحتى لو كان الراوي عدلاً، فإنّ ذلك لا يمنع نسيانه جزءاً من الحديث الذي سمعه فضلاً عن احتمالية روايته للحديث بالمعنى لا بعين اللفظ الذي سمعه الأمر الذي يفقد الحديث جزءاً من ألفاظه الأصلية والتي يحتمل أن يكون لها معنى آخر لم يتنبه له الراوي وخصوصاً مع طول سلسلة الرواة التي قد تتضمن في بعض الأحيان لسبعة أو ثمانية أفراد.
وإذا أضفنا صعوبة الوقوف على عدالة الرجال وخصوصاً المنافقين منهم والذين لا يعلم سرائرهم سوى رب العباد، يتضح لنا العيب الأكبر في منهج البخاري في إخراجه لأحاديثه.
وقد قال أحمد أمين تأكيداً لذلك: "إنّ بعض الرجال الذي روى لهم غير ثقات، وقد ضعف الحفاظ من رجال البخاري نحو الثمانين" (54).
وفيما يلي مزيد من الروايات التي عدها البخاري صحيحة وألزم بها أهل السنة أنفسهم على مر العصور. فعن أبي سعيدالخدري، أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال بشأن يوم الحساب: "...فيتساقطون حتى يبقى من كان يعبدالله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وانا سمعنا منادياً ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا؟! فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن" (55).
وعن جرير بن عبدالله قال: "كنا جلوساً ليلة مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: إنّكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته" (56).
ويكفي لرد الروايتين الأخيرتين، بما أخرج البخاري بسنده عن مسروق، قال: "قلت لعائشة(رضي الله عنه): يا أمَّتاه هل رأي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)ربه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب؟ من حدثك أنّ محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم)رأى ربه فقد كذب.
ثم قرأت ـ (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)(57) ـ (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب)(58)"(59).
ويقول العلامة العسكري: "إنّ قول الله ـ (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)(60) ـ أي إلى أمر ربها ناظرة "أي منتظرة وذلك مثل قوله تعالى في حكاية قول أولاد يعقوب لأبيهم" (واسأل القرية التي كنا فيها)(61) "أي واسأل أهل القرية". قد (أمر) في تلك الآية، وفي هذه الآية (أهل)، وهكذا تؤول سائر الآيات التي ظاهرها يدل على أن الله تبارك وتعالى جسم" (62).
ومن الإسرائيليات الأخر التي وجدت في كتاب البخاري ما روي عن عبدالله قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: يا محمد، إنّا نجد أنّ الله يجعل السماوات على أصبع، والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلائق على أصبع. فيقول: أنا الملك. فضحك النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر. ثم قرأ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (وما قدروا الله حق قدره)(53) (64).
وعن ابن عمر(رضي الله عنه) قال: "قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، ولا تحيّنوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنّها تطلع بين قرني شيطان، أو الشيطان، لا أدري أي ذلك" (65).
وأنا لا أدري كيف يمكننا التصديق بمثل هذه الخرافات؟ وهذه أخرى عن أبي ذر الغفاري قال: "قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر حين غربت الشمس: تدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، وتوشك أن تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، وتوشك أن تسجد فلا يقبل منها. وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها. فذلك قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم)(66).(67) وعن عمر بن الخطاب قال: "أما علمت أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ الميت ليعذب ببكاء الحي" (68) بالرغم من أنّ الله تعالى يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(69)؟
وروي عن عبدالله قال: "ذكر عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح ما قام إلى الصلاة.
فقال: بال الشيطان في اذنه" (70).
وعن جابر بن عبدالله رفعه قال: "خمروا الآنية وأوكوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، واكفتوا صبيانكم عند العشاء، فإن للجن انتشاراً وخطفة، واطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت" (71).
ونكتفي بهذا القدر من الروايات والتي يوجد غيرها الكثير مما يضع علامة استفهام كبيرة أمام البخاري وصحيحه، وأول ما يترتب على إثباتنا خطأ المقولة الشائعة بصحة جميع ما أخرج في هذا الصحيح هو عدم صلاحية أي حديث فيه ليكون حجة لمجرد إعطاء الشيخ البخاري له صفة الصحة. ولذلك فإنّه يلزمنا إعادة النظر في العقائد التي أخذت بناء على بعض أحاديثه مثل إمكانية رؤية الله تعالى ووضع قدمه في جهنم، وعدم اكتمال عصمة النبي وعدم حفظه جميع القرآن، وفقأ موسى لعين ملك الموت وغيرها الكثير الكثير، مما أخذ مكان الاعتبار والتصديق بالرغم مما فيها من شبهات وخرافات تتخذ مطاعن على دين الإسلام، وهكذا بالنسبة لكتب الحديث الأخرى.
ونتيجة لذلك أيضاً، فإنّه يلزمنا مراجعة تاريخنا الإسلامي وإعادة النظر في كثير مما رواه البخاري وغيره من رجال الحديث حول مكانة الصحابي هذا أو ذاك، وخصوصاً مع وجود تلك المنازعات التي حصلت بينهم والتي لا زالت آثارها واضحة لأيامنا هذه بوجود مذاهب مختلفة فرقت المسلمين وأضعفتهم.





____________
1- "الإمام الصادق" لأبى زهرة.
2- "دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين" للغزالي.
3- صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص19.
4- صحيح الترمذي ج5 ص662 ـ 663، باب مناقب أهل البيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)دار الكتاب العربي.
5- الأحزاب: 33.
6- صحيح البخاري ج9 ص38 كتاب التعبير باب أول ما بدى به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
7- صحيح البخاري ج9 ص38 كتاب التعبير باب أول ما بدى به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
8- صحيح البخاري ج8 ص91 كتاب الدعوات باب قوله تعالى "وصل عليهم".
9- صحيح البخاري ج1 ص165 كتاب الأذان باب قول الرجل للنبي ـ ما صلينا ـ.
10- صحيح البخاري ج1 ص77 كتاب الغسل باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب.
11- صحيح البخاري ج8 ص20 كتاب الأدب باب ما يجوز من ذكر الناس.
12- صحيح البخاري ج8 ص22 ـ 23 كتاب الأدب باب إن الله يأمر بالعدل والاحسان.
13- صحيح البخاري ج7 ص176 كتاب الطب باب السحر.
14- الفرقان: 8.
15- صحيح البخاري ج5 ص37 كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة.
16- صحيح البخاري ج3 ص208 كتاب الهبة باب هبة المرأة لغير زوجها.
17- صحيح البخاري ج1 ص76 كتاب الغسل باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد.
18- عبس: 1 ـ 4.
19- تفسير الميزان للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي ج20 ص203 الطبعة الثانية 1974 م.
20- النجم: 3 ـ 4.
21- الحشر: 7.
22- صحيح البخاري ج6 ص148 كتاب التفسير، و ج8 ص66 كتاب الاستئذان.
23- صحيح البخاري ج7 ص185 كتاب اللباس باب لبس القميص.
24- صحيح البخاري ج2 ص121 كتاب الجنائز.
25- التوبة: 80.
26- كنز العمال ج2 ص419 ح4393.
27- الأنفال: 67، 68.
28- الدر المنثور للسيوطي ج4 ص108.
29- صحيح البخاري ج1 ص39 كتاب العلم.
30- صحيح البخاري ج3 ص143 كتاب المزارعة باب ما جاء في الغرس.
31- صحيح البخاري ج5 ص24 كتاب فضائل الصحابة باب مناقب جعفر بن أبي طالب.
32- أخرجه الترمذي ج5 ص654 ح3764، والحاكم بإسناد صحيح ج3 ص209.
33- صحيح مسلم ج1 ص59 ـ 60 ح52 باب من شهد لا إله إلاّ الله مستيقناً دخل الجنة.
34- فقة السيرة للشيخ محمد الغزالي ص41 ط السادسة.
35- مجلة المنار ج10 ص851.
36- تاريخ آداب العرب ج1 ص275.
37- صحيح البخاري ج9 ص275 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب ما ذكر النبي على اتفاق أهل العلم.
38- صحيح البخاري ج1 ص41 كتاب العلم باب حفظ العلم.
39- سورة البقرة: 159، 160.
40- صحيح البخاري ج1 ص40 كتاب العلم باب حفظ العلم.
41- اختصار علوم الحديث ص111.
42- التقريب للنووي ص14.
43- صحيح البخاري ج2 ص117 كتاب الجنائز.
44- صحيح البخاري ج6 ص173 كتاب التفسير باب قوله ـ وهل من مزيد ـ.
45- صحيح البخاري ج2 ص66 كتاب التهجد.
46- صحيح البخاري ج1 ص78 كتاب الغسل باب من اغتسل عرياناً وحده في خلوة.
47- صحيح البخاري ج1 ص158 كتاب الأذان باب فضل التأذين.
48- صحيح البخاري ج3 ص136 كتاب المزارعة باب استعمال البقر للحراثة.
49- صحيح البخاري ج7 ص189 كتاب اللباس باب البرود والحبر والشملة.
50- صحيح البخاري ج4 ص142 كتاب بدء الخلق باب ما جاء في صفة الجنة.
51- صحيح البخاري ج9 ص8 كتاب الديات باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان.
52- صحيح البخاري ج7 ص199 كتاب اللباس باب لا يمشي في نعل واحدة.
53- ابن حجر في مقدمة شرح الباري على صحيح البخاري ص5.
54- ضحى الإسلام لأحمد أحمد ج2 ص117، ص118 رقم 4.
55- صحيح البخاري ج9 ص158 كتاب التوحيد باب وجوه يومئذ ناضرة.
56- صحيح البخاري ج6 ص173 كتاب التفسير باب قوله ـ فسبح بحمد ربك وج9 ص156 باب التوحيد.
57- الانعام: 103.
58- الشورى: 51.
59- صحيح البخاري ج6 ص175 كتاب التفسير باب سورة النجم.
60- القيامة:22.
61- يوسف: 82.
62- معالم المدرستين ج1 ص31.
63- الزمر: 67.
64- صحيح البخاري ج6 ص157 كتاب التفسير باب ـ وما قدروا الله حق قدره ـ.
65- صحيح البخاري ج4 ص149 كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده.
66- يس: 38.
67- صحيح البخاري ج4 ص131 كتاب بدء الخلق باب صفة الشمس والقمر بحسبان.
68- صحيح البخاري ج2 ص102 كتاب الجنائز.
69- الإسراء: 15.
70- صحيح البخاري ج2 ص66 كتاب التهجد.
71- صحيح البخاري ج4 ص157 كتاب بدء الخلق.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page