وأما المدلّسون من رجال الحديث فكان علينا أن نجتنب من أحاديثهم في المسائل الخلافية بين الأمّة أيضاً، ونردّ شهادتهم، حتى لو حكم أكثر أئمّة الحديث أو كلّهم بوثاقتهم، وحتى لوصرّحوا بالتحديث.
وذلك لأنّ من حذف اسم الضعفاء من الأسانيد بزعم نصرة الحقّ لا يستبعد منه أن يكذب لنفس العلّة. وما أكثر أصحاب هذا العمل الشنيع بين المحدّثين! حتى قال شعبة: { ما رأيت أحداً من أصحاب الحديث إلاّ يدلّس، إلاّ ابن عون وعمرو بن مرّة }(1).
ولأجل توضيح خطورة هذه الظاهرة بشكل أوسع لا بأس بأن نتعرّض لشرح شيء من أحوال أحد المدلّسين، فلاحظ:
فهذا محمّد بن مسلم أبو الزبير المكيّ الّذي كان مشهوراً بالتدليس، ومع ذلك وثّقه أئمّة الحديث ورووا عنه فى مدوّناتهم، وحكموا بالاتصال على كلّ ما صرّح بالتحديث من روايته، وكذا على كلّ ما رواه عن جابر بن عبد الله، إذا ورد ذلك من طريق الليث بن سعد.
أما سبب حكمهم الأوّل؛ فهو أنّ الثقة عندهم إذا قال (حدّثنا) فلا يحتملون منه أن يكذب فيه. وأما سبب حكمهم الثاني؛ فذلك أنّ الليث زعم أنّه طلب من أبي الزبير أن يعلّم له على كلّ ما رواه عن جابر مباشرة، ففعل(2).
ولا يخفى أنّ المدلّس يمكن أنّ يقول: (حدثني فلان)، من دون أن يسقط بينه وبين ذلك الشيخ أحداً، إلاّ أنّه ليست هناك وثيقة على أنّه لا يحذف مَنْ فوق شيخه. وسيتضح صدق هذا الكلام عن قريب ان شاء الله تعالى.
وأما الحكم باتّصال كلّ ما رواه الليث عن أبي الزبير؛ فهو من العجائب، فطلبه من أبي الزبير بأن يُعلّم له على كلّ ما رواه عن جابر مباشرة هل يكون وثيقة قطعية على أنّ أبا الزبير لا يخونه في ذلك أيضاً؟ ولأجل توضيح الأمر لاحظ الرواية التالية:
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم؛ من طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة "(3).
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والطبراني وغيرهم؛ من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، عن أم مبشر، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد؛ الّذين بايعوا تحتها "(4).
وأخرج ابن راهويه وأحمد وأبو يعلى والطبراني؛ من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أم مبشر، عن حفصة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إنّي لأرجوا أن لا يدخل النار أحد ان شاء الله ممّن شهد بدراً والحديبية "(5).
فلاحظ كيف حذف أبو الزبير اسم أم مبشر وحفصة من الإسناد، ونسب الحديث إلى جابر الّذى كان مقبول الحديث عند جميع الأمة. وإذا لاحظت رواية الليث عن أبي الزبير ترى أنّ الإسقاط منها كان أكثر من رواية ابن جريج عنه.
ثم إنّ خيانة أبي الزبير لم ينحصر بإسقاط الرواة من الإسناد، بل إنّك تلاحظ كيف قام بقصّ الحديث وتحريف متنه، ممّا كان سبباً لتبديل معناه وتغييره بصورة كاملة؛ فحذف قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) " إني لأرجو "، الّذي كان يدلّ على أمله ورجاءه في أن لا يدخل النار أحد ممّن شهد بدراً والحديبية. ولم يكتف أبو الزبير بذلك، بل لما رأى أنّ جملة " ان شاء الله " في الحديث تدلّ على التعليق قام بحذفها أيضاً، فصار مضمون كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّاّ قطعياً بعد أن كان رجاء تعليقياً!!
وبهذا يتّضح ما حلّ بالإسلام من المصيبة والبلاء؛ فاعتمد علماء الحديث على كلّ مَنْ تظاهر بالورع والعبادة، من دون أن يعتبروا من خياناتهم المتكررة في مزاولة حرفة التدليس وحذف الضعفاء من الأسانيد، فقبلوا جميع ما جاء به هؤلاء بعنوان أنّه وحي نطق به النبيّ الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحكموا في الأمور والحوادث من زاوية ذلك، فوقع ما وقع، وحدث ما حدث.
____________
1 - هكذا حكى عنه الحافظ العسقلاني في آخر كتاب [ طبقات المدلّسين ].
2 - ميزان الاعتدال: 4 / 37 - 40 م: 8169، تهذيب التهذيب: 9 / 390 م: 729.
3 - مسند أحمد: 3 / 350، صحيح ابن حبان: 11 / 127 ح: 4802، سنن أبي داود: 2 / 624 ح: 4653، سنن الترمذي: 6 / 168 ح: 3860، السنن الكبرى للنسائي: 6 / 464 ح: 11508.
4 - مسند أحمد: 6 / 420، صحيح مسلم: 2 / 490 ح: 2496، السنن الكبرى للنسائي: 6 / 395 ح: 11321، المعجم الكبير: 25 / 103 ح: 269، الآحاد والمثاني: 6 / 102 ح: 3317.
5 - مسند أحمد: 6 / 285، مسند ابن راهوية: 1 / 189 - 190، مسند أبي يعلى: 12 / 472 ح: 7044، المعجم الكبير: 23 / 206، 208 ح: 358، 363، الآحاد والمثاني: 6 / 102 ح: 3317.