• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

التجسيم ورؤية الله تعالى

قال تعالى في سورة البقرة: { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ }(1).
قال تعالى في سورة البقرة: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }(2).
هذا أيضاً بحثٌ آخر من أبحاث المقارنة بين الأمم السابقة، وكيف أنّ اليهود والنصارى قد جسّموا الإله وحدّدوه بزمان ومكان وبكيفيّة جسميّة، حيث تبعهم المسلمون في ذلك، وفعلوا نفس الفعل بوعي أو بغير وعي، لا أدري، ولكنّ هذا الأمر قد حصل بالفعل، وكتب الحديث عند أهل السنّة تُظهر موضوع التجسيم بشكل صريح وواضح.
فقبل أنْ انتقل إلى إثبات ما ذكرت من خلال كتب أهل السنّة وصحاحهم، أحبّ أنْ أقدّم بين يدي القارئ العزيز رأي الفرقة الناجية واعتقاد أهل البيت وعقيدتهم في هذا الموضوع، حيث إنّهم لم يتّبعوا اليهود والنصارى في سننهم بالنسبة إلى التجسيم، وإنّما التزموا وتقيّدوا بالنصوص الشرعيّة من الآيات القرآنيّة، فهم كعادتهم لا يخرجون عن النصّ الشرعي كانوا دائماً يتّبعونه ويلتزمون به ولا يتعارضون معه.
ولذلك فإنّهم يأخذون بالآية الشريفة وهي قوله تعالى في سورة الأنعام: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }(3)، وقوله تعالى في سورة الأعراف:
{ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ }(4).
وقال تعالى في سورة الشورى: { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيٌْ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }(5).
فالله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، لا يحدّ في زمان، ولا يحوزه مكان، الأوّل بلا بداية، والآخر بلا نهاية، تقدّس وتنزّه عن المكان والزمان والجسد، ولا تستطيع العقول أنْ تدرك كنه ذاته، جاء في نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) :
من خطبة له(عليه السلام): " الحمد لله الدّال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليّته، وباشتباههم على أنْ لا شبه له. لا تستلمه المشاعر، ولا تحجبه السواتر، لافتراق الصانع والمصنوع، والحادّ والمحدود، والربّ والمربوبّ. الأحد بلا تأويل عدد، والخالق لا بمعنى حركة ونصب. والسميع لا بأداة، والبصير لا بتفريق آله، والشاهد لا بمماسة، والبائن لا بتراخي مسافة، والظاهر لا برؤية. والباطن لا بلطافة. بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها، وبانت الأشياء منه بالخضوع له، والرجوع إليه. من وصفه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله، ومن قال: "كيف" فقد استصوفه، ومن قال: "أين" فقد حيزه. عالم إذ لا معلوم، وربّ إذ لا مربوب، وقادر إذ لا مقدور "(6).
ومن خطبة له(عليه السلام): " وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له: الأوّل لا شيء قبله، والآخر لا غاية له، لا تقع الأوهام له على صفة، ولا تعقد القلوب منه على كيفية، ولا تناله التجزئة والتبعيض، ولا تحيط به الأبصار والقلوب "(7).
ومن خطبة له (عليه السلام): " الحمد لله الأوّل فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده، والظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه "(8).
سئل الإمام الكاظم(عليه السلام) عن قوم يزعمون أنّ الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا فقال: " إنّ الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أنْ ينزل، إنّما منظره في القرب والبعد سواء، لم يبعد منه قريب، ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج إلى شيء، بل يحتاج إليه وهو ذو الطول، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. وأمّا قول الواصفين: إنّه ينزل تبارك وتعالى، فإنّما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكلّ مّتحرك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرك به، جلّ وعزّ عن صفة الواصفين، ونعت الناعتين وتوّهم المتوهمين "(9).
عن أبي حمزة الثمالي، قال: سأل نافع بن الأزرق أبا جعفر(عليه السلام) فقال: أخبرني عن الله متى كان؟ فقال له: " ويلك، أخبرني أنت متى لم يكن حتّى أخبرك متى كان، سبحان من لم يزل ولا يزال فرداً صمداً لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً "(10).
عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، قال: جاء رجل إلى أبي جعفر(عليه السلام)فقال له: يا أبا جعفر، أخبرني عن ربّك متى كان؟ فقال: " ويلك، إنّما يقال لشيء لم يكن: متى كان، إنْ ربّي تبارك وتعالى كان ولم يزل حيّاً بلا كيف، ولم يكن له كان ولا كان لكونه كون كيف ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا ابتدع لمكانه مكاناً ولا قوي بعد ما كوّن ولا كان ضعيفاً قبل أنْ يكوّن شيئاً، ولا كان مستوحشا قبل أنْ يبتدع شيئاً، ولا يشبه شيئاً مذكوراً، ولا كان خلواً من الملك قبل إنشائه، ولا يكون منه خلواً بعد ذهابه، لم يزل حيّاً بلا حياة، وملكاً قادراً قبل أنْ ينشئ شيئاً، وملكاً جباراً بعد إنشائه للكون، فليس لكونه كيف، لا له أين، ولا له حدّ، ولا يعرف بشيء يشبهه، ولا يهرم لطول البقاء، ولا يصعق لشيء، بل لخوفه تصعق الأشياء كلّها، كان حيّاً بلا حياة حادثة ولا كون موصوف، ولا كيف محدود، ولا أين موقوف عليه ولا مكان جاور شيئاً، بل حيّ يعرف، وملك لم يزل له القدرة والملك، أنشأ ما شاء بمشيّته، لا يحدّ ولا يبعّض، ولا يفنى، كان أوّلاً بلا كيف، ويكون آخراً بلا أين، وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه، له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين، ويلك أيّها السائل، إنّ ربّي لا تغشاه الأوهام، ولا تنزل به الشبهات، ولا يحار ولا يجاوره شيء، ولا تنزل به الأحداث، ولا يسأل عن شيء ولا يندم على شيء، ولا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى "(11).
وقد أكّدت أمّ المؤمنين عائشة هذا المعنى في حديث رواه البخاري عندما ذكر مثل هذا البحث أمامها، حيث كان الصحابة يتداولونه ويعتقد قسم كبير منهم بالتجسيم.
روى البخاري في صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدّثك أنّ محمّداً صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه فقد كذّب ثمّ قرأت: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ... }(12)(13).
ولكن مقابل هذه الرواية تجد أنّ كتب أهل السنّة وصحاحهم تخالف ذلك مخالفة تامّة، وسوف أتعرّض لجملة من هذه الأحاديث التي تتناول بعض المعتقدات في الله عند السنّة، وممّا يجدر ذكره أيضاً أنّ علماءهم اختلفوا في أبحاثهم الفقهية فقالوا: هل تجوز رؤية الله في الآخرة أو لا تجوز؟ فمنهم من أجاز ذلك ومنهم من منع، واختلفوا أيضاً: هل تجوز رؤيته في الدنيا أو لا تجوز؟ فمنهم من أجاز ذلك في المنام مثلاً، ومنهم من لم يجوّز ذلك، ولا زال الخلاف قائماً حتّى اليوم، والأسباب في ذلك كثيرة، منها ترك اتّباع الآية الشريفة التي أكد فيها ربّ العزّة سبحانه وتعالى أنّه لا تدركه الأبصار، ومنها عشرات الأحاديث الموضوعة، والتي نسبوها إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والموجودة في أصحّ الكتب بعد كتاب الله عندهم، وهناك أسباب أخرى تجعلهم لا يردّون مثل تلك الأحاديث، بل يعتقدون بها ويأخذونها أخذ المسلّمات، وهي عدم البحث في الصحابة وأنواعهم ويعتبرونهم كلّهم عدول، يأخذون منهم كلّ شيء وقد أثبتّ لك في بحث حقيقة الصحابة كلّ ما يتعلّق بهذا الموضوع فراجعه.
وإليك عزيزي القارئ جملة مّما يعتقد به أهل السنّة في الذات الإلهيّة حسب ما أوردته صحاحهم.
رووا بأنّ صورة الله الجسميّة على صورة آدم:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلق الله عزّ وجلّ آدم على صورته، طوله ستّون ذراعاً، فلمّا خلقه قال: اذهب فسلّم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يجيبونك، فإنّها تحيّتك وتحيّة ذريتك. قال: فذهب فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة الله. قال: فزادوه ورحمة الله. قال: فكلّ من يدخل الجنّة على صورة آدم، وطوله ستّون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتّى الآن(14).
روى في كنز العمّال: رأيت ربّي في حظيرة من الفردوس في صورة شابّ عليه تاج يلتمع البصر(15).
روى في كنز العمّال: رأيت ربّي في صورة شاب له وفرة ( الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الاذن. طب في السنّة عن ابن عبّاس ونقل عن أبي زرعة أنّه قال: هو حديث صحيح )(16).
روى في كنز العمّال: رأيت ربّي في المنام في صورة شاب موفر في الخضر عليه نعلان من ذهب وعلى وجه فراش من ذهب  (طب في السنّة عن أمّ الطفيل )(17).
قال في الدرّ المنثور: وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي، عن بعض أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: " سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: رأيت ربّي في أحسن صورة. فقال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى يا محمّد؟ قال: قلت:
أنت أعلم أي ربّ! قال: فوضع يده بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي. قال: فعلمت ما في السموات والأرض، ثمّ تلا هذه الآية: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ }(18)(19).
روى ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق عن أبي رزين بن لقيط بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " رأيت ربّي بمنى عند النفر على جمل أورق عليه جُبّة صوف أمام الناس "(20).
له قدم يضعها في جهنّم:
روى البخاري في صحيحه: حدّثنا محمّد بن موسى القطّان: حدّثنا أبو سفيان الحميري سعيد بن يحيى بن مهدي حدّثنا عوف، عن محمّد، عن أبي هريرة رفعه، وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان: يقال لجهنّم: هل امتلأت، وتقول: هل من مزيد، فيضع الربّ تبارك وتعالى قدمه عليها، فتقول: قط قط(21).
روى البخاري في صحيحه، حدّثنا عبد الله بن محمّد، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمّر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: " تحاجّت الجنّة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنّة: ما لي لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله تبارك وتعالى للجنّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنّما أنت عذابي أعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكلّ واحدة منهما ملؤها، فأمّا النار: فلا تمتلئ حتّى يضع رجله فتقول: قط قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض "(22).
يأتيهم بغير الصورة التي يعرفونها:
روى البخاري في صحيحه، حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد ابن أبي هلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال: " هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً ". قلنا: لا، قال: " فإنّكم لا تضارّون في رؤية ربّكم يومئذ إلا كما تضارّون في رؤيتهما ". ثمّ قال: " ينادي مناد: ليذهب كلّ قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كلّ آلهة مع آلهتهم، حتّى يبقى من كان يعبد الله، من برّ أو فاجر، وغُبّرات من أهل الكتاب، ثمّ يؤتى بجهنّم تُعرض كأنّها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنّا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أنْ تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنّم. ثمّ يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون نريد أنْ تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون، حتّى يبقى من كان يعبد الله، من برّ أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منّا إليه اليوم، وإنّا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كلّ قوم بما كانوا يعبدون، وإنّما ننتظر ربّنا، قال: فيأتيهم الجبّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أوّل مرّة، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: أنت ربّنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه، فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كلّ مؤمن "(23).
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، أنّ ناساً في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: يا رسول الله! هل نري ربّنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " نعم ". قال: " هل تضارّون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب " قالوا: لا. يا رسول الله! قال: " ما تضارّون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارّون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذّن مؤذّن: ليتّبع كلّ أمّة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد، كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب، إلا يتساقطون في النار، حتّى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من برّ وفاجر، وغبّر أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنّا نعبد عزير ابن الله. فيقال: كذبتم ما اتّخذ الله من صاحبة ولا ولد. فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا، يا ربّنا! فاسقنا. فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنّها سراب يحطّم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار. ثمّ يدعى النصارى. فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنّا نعبد المسيح ابن الله. فيقال لهم: كذّبتم، ما اتّخذ الله من صاحبه ولا ولد. فيقال لهم: ماذا تبغون. فيقولون: عطشنا يا ربّنا! فاسقنا. قال: فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنّم كأنّها سراب يحطّم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار.
حتّى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من برّ وفاجر، أتاهم ربّ العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها. قال: فما تنتظرون؟ تتّبع كلّ أمّة ما كانت تعبد. قالوا: يا ربّنا! فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنّا إليهم ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: نعوذ بالله منك. لا نشرك بالله شيئاً ( مرّتين أو ثلاثا ) حتّى أنّ بعضهم ليكاد أنْ ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود. ولا يبقى من كان يسجد اتّقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة. كلّما أراد أنْ يسجد خرّ على قفاه. ثمّ يرفعون رؤوسهم، وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أوّل مرّة. فقال: أنا ربّكم. فيقولون: أنت ربنا. ثمّ يضرب الجسر على جهنّم، وتحلّ الشفاعة، ويقولون: اللهمّ! سلّم سلّم(24).
روى مسلم في صحيحه، عن عطاء بن يزيد الليثي، أنّ أبا هريرة أخبره أنّ ناساً قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله! هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " هل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدر " قالوا: لا يا رسول الله! قال: " هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب " قالوا: لا يا رسول الله! قال: " فإنّكم ترونه كذلك، يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتّبعه، فيتّبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتّبع من كان يعبد القمر القمر، ويتّبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله تبارك وتعالى، في صورة غير صورته التي يعرفون. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: نعوذ بالله منك. هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا. فإذا جاء ربّنا عرفناه. فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: أنت ربّنا، فيتّبعونه. ويضرب الصراط بين ظهري جهنّم. فأكون أنا وأمّتي أوّل من يجيز "(25).
روى البخاري في صحيحه، عن عبيدة، عن عبد الله، أنّ يهوديّاً جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمّد، إنّ الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثمّ يقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه، ثمّ قرأ:
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }(26)، قال يحيى بن سعيد: وزاد فيه فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله: فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعجّباً وتصديقاً له(27).
ورى البخاري في صحيحه، عن عبيدة، عن عبد الله رضي الله عنه قال: جاءحبر من الأحبار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمّد إنّا نجد: أنّ الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثمّ قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }(28).
روى أحمد في مسنده، عن علقمة عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم، أبلغك أنّ الله عزّ وجلّ يحمل الخلائق على إصبع والسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، فضحك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه، فأنزل الله عزّ وجلّ { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }(29).
روى الطبري في تفسيره، عن عبيدة السلماني، عن عبد الله، قال: جاء يهودي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمّد، إنّ الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والخلائق على إصبع، ثمّ يقول: أنا الملك، قال فضحك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه وقال: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }(30).
وروى أحمد في مسنده، عن عبد الله بن مسعود قال جاء حبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمّد، أو يا رسول الله، إنّ الله عزّ وجلّ يوم القيامة يحمل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، يهزهنّ فيقول: أنا الملك. قال: فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر. ثمّ قرأ: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }، إلى آخر الآية(31).
روى البخاري في صحيحه عن جرير قال: كنّا عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنظر إلى القمر ليلة، يعني البدر، فقال: " إنّكم سترون ربّكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإنْ استطعتم أنْ لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ". ثمّ قرأ: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا }(32)، قال إسماعيل: افعلوا: لا تفوتنكم(33).
جعلوا له عينين وأنّه ليس أعور:
روى البخاري في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنّا نتحدّث بحجّة الوداع، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا، ولا ندري ما حجّة الوداع، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره، وقال: " ما بعث الله من نبيّ إلا أنذره أمّته، أنذره نوح والنبيّون من بعده، وإنّه يخرج فيكم، فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أنّ ربّكم ليس على ما يخفى عليكم ثلاثاً إنّ ربّكم ليس بأعور، وإنّه أعور العين اليمنى، كأنّ عينه عنبة طافية، إلا أنّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلّغت "، قالوا: نعم، قال: " اللهمّ اشهد، ثلاثاً، ويلكم، أو ويحكم، اُنظروا، لا ترجعوا بعدي كفّاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض "(34).
روى مسلم في صحيحه، عن قتادة، قال: سمعت أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " ما من نبيّ إلاّ وقد أنذر أمّته الأعور الكذاب، إلا إنّه أعور. وإنّ ربّكم ليس بأعور. ومكتوب بين عينيه ك ف ر "(35).
جعلوا الله يضحك فيعرفونه ويتّبعونه:
روى مسلم في صحيحه، أخبرني أبو الزبير: أنّه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود. فقال: نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا، اُنظر أيّ ذلك فوق الناس. قال فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد، الأوّل فالأوّل، ثمّ يأتينا ربّنا بعد ذلك فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربّنا. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: حتّى ننظر إليك فيتجلّى لهم يضحك قال: فينطلق بهم ويتّبعونه. ويعطى كلّ إنسان منهم، منافق أو مؤمن، نوراً، ثمّ يتّبعونه(36).
جعلوا لله داراً يسكن فيها:
روى البخاري في صحيحه، عن أنس رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: " يحبس المؤمنون يوم القيامة حتّى يُهمّوا بذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسكنك جنّته، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيء، لتشفع لنا عند ربّك حتّى يريحنا من مكاننا هذا. قال: فيقول: لست هناكم، قال: ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهى عنها، ولكن ائتوا نوحاً أوّل نبيّ بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب سؤاله ربّه بغير علم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، قال: فيأتون إبراهيم فيقول: إنّي لست هناكم، ويذكر ثلاث كلمات كذبهنّ، ولكن ائتوا موسى عبداً آتاه الله التوراة وكلّمه وقرّبه نجيّاً، قال: فيأتون موسى فيقول: إنّي لست هناكم، ويذكر خطيئته التى أصاب قتله النفس، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله، وروح الله وكلمته، قال: فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمّداً صلّى الله عليه وسلّم، عبداً غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فيأتوني، فاستأذن على ربّي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أنْ يدعني، فيقول: ارفع محمّد، وقل يُسمع، واشفع تُشفّع، وسل تُعط ، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربّي بثناء وتحميد يعلمنيه، فيحدّ لي حدّاً، فأخرج فأدخلهم الجنّة " قال قتادة: وسمعته أيضاً يقول: " فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنّة ثمّ أعود فأستأذن على ربّي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أنْ يدعني، ثمّ يقول: ارفع محمّد، وقل يُسمع، واشفع تشفّع، وسل تُعطي قال: فأرفع رأسي فأثني على ربّي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثمّ أشفع فيحدّ لي حدّاً، فأخرج فأدخلهم الجنّة، قال قتادة: وسمعته يقول: " فأخرج، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنّة ثمّ أعود الثالثة، فأستأذن على ربّي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أنْ يدعني، ثمّ يقول: ارفع محمّد، وقل يّسمع، واشفع تشفّع، وسل تُعطه، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربّي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثمّ أشفع فيحدّ لي حدّاً، فأخرج فأدخلهم الجنّة "(37).
جعلوا الله ينزل على كرسي يوم الجمعة:
جاء في الدرّ المنثور: أخرج الدارقطني، عن أنس قال: بينما نحن حول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ قال: " أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، قلت يا جبريل: ما هذا؟ قال: هذا يوم الجمعة يعرض عليك ربّك ليكون لك عيداً ولأمّتك من بعدك. قلت يا جبريل: فما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذه الساعة، وهي تقوم في يوم الجمعة، وهو سيّد أيّام الدنيا، ونحن ندعوه في الجنّة يوم المزيد. قلت: يا جبريل: ولم تدعونه يوم المزيد؟ قال: لأنّ الله عزّ وجلّ اتّخذ في الجنّة وادياً أفيح من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة ينزل ربّنا على كرسي إلى ذلك الوادي، وقد حفّ العرش بمنابر من ذهب مكلّلة بالجوهر، وقد حفّت تلك المنابر بكراسي من نور، ثمّ يأذن لأهل الغرفات فيقبلون يخوضون كثائب المسك إلى الركب، عليهم أسورة الذهب والفضّة، وثياب السندس والحرير، حتّى ينتهوا إلى ذلك الوادي، فإذا اطمأنّوا فيه جلوسا، يبعث الله عزّ وجلّ عليهم ريحاً يقال لها: المثيرة، فثارت ينابيع المسك الأبيض في وجوههم وثيابهم، وهم يومئذ جرد مرد مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين، يضرب جمامهم إلى سررهم على صورة آدم يوم خلقه الله عزّ وجلّ(38).
جعلوا الله ينزل كلّ ليلة إلى الدنيا:
روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: " ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له "(39).
روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: " ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له "(40).
روي في كنز العمّال: أمّا الوقوف عشيّة عرفة، فإنّ الله يهبط إلى السماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثا، يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل وكعدد القطر والشجر لغفرتها لكم، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له(41).
قال ابن حجر في الإصابة: وأخرج ابن السكن، وابن أبي خيثمة، والبغوي، وعبد الله بن أحمد في كتاب السنّة له، والطبراني، من طريق إسرائيل، عن ثوير بن أبي فاختة: سمعت رجلاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقال له أبو الخطّاب، وسئل عن الوتر فقال: أحبّ إليّ أنْ أوتر إذ أصلّي إلى نصف الليل، إنّ الله يهبط إلى السماء الدنيا في الساعة السابعة فيقول: هل من داع... الحديث وفي آخره: فإذا طلع الفجر ارتفع وفي رواية أبي أحمد الزبيري، عن الطبراني: أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوتر ولم يرفعه غيره(42).
جاء في كنز العمّال: إذا كان ثلث الليل الباقي، يهبط الله عزّ وجلّ، إلى السماء الدنيا، ثمّ تفتح أبواب السماء، ثمّ يبسط يديه فيقول: هل من سائل فيعطى سؤله، فلا يزال كذلك حتّى يسطع الفجر(43).
روي في كنز العمّال، "إذا بقي ثلث الليل الباقي نزل الرحمن تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا، فبسط يده، ألا داع يدعوني فأستجيب له، ألا تائب يتوب فأتوب عليه، ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له، حتّى إذا طلع الفجر صعد على عرشه ".
( البغوي، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه عن جدّه )(44).
روى أحمد في مسنده، عن ابن مسعود: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال إذا كان ثلث الليل الباقي يهبط الله عزّ وجلّ إلى السماء الدنيا، ثمّ تفتح أبواب السماء، ثمّ يبسط يده فيقول: هل من سائل يعطى سؤله؟ فلا يزال كذلك حتّى يطلع الفجر "(45).
جعلوا الله يجلس على العرش:
جاء في الدرّ المنثور: وأخرج أبو داود، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن جبير بن مطعم قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، هلكت المواشي. استسق لنا ربّك، فإنّا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: " سبحان الله! فما زال يسبّح حتّى عرف ذلك في وجوه أصحابه " فقال: " ويحك، أتدري ما الله؟ إنّ شأنه أعظم من ذلك، وإنّه لا يستشفع به على أحد، وإنّه لفوق سماواته على عرشه، وعرشه على سماواته، وسماواته على أراضيه هكذا، وقال بأصابعه مثل القبّة، وإنّه ليئط به أطيط الرحل بالراكب "(46).
قال السيوطيّ في الدرّ المنثور أيضاً: وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي في الردّ على الجهميّة، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، واللالكائي، والبيهقي، عن ابن مسعود قال: بين السماء والأرض خمسمائة عام، وما بين كلّ سماءين خمسمائة عام، ومسير كلّ سماء يعني غلظ ذلك، مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه(47).
وقال السيوطيّ في الدرّ المنثور: وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والدارقطني، عن جابر، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: " إنّ الله ليتجلّى للناس عامّة، ويتجلّى لأبي بكر خاصّة "(48).
وقالوا حملة العرش حيوانات كما في التوراة:
قال ابن ماجة: حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا محمّد بن الصباح، ثنا الوليد بن أبي ثور الهمداني، عن سماك، عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العبّاس بن عبد المطّلب قال: كنت بالبطحاء في عصابة وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمرّت به سحابة، فنظر إليها فقال: ما تسمّون هذه؟ قالوا السحاب، قال: والمزن؟ قالوا: والمزن، قال: والعنان؟ قال أبو بكر: والعنان. قال: كم ترون بينكم وبين السماء؟ قالوا: لا ندري، قال: " فإنّ بينكم وبينها إمّا واحداً أو اثنين أو ثلاثاً وسبعين سنة، والسماء فوقها كذلك، حتّى عدّ سبع سموات، ثمّ فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثمّ فوق ذلك ثمانية أو عال بين اظلافهنّ وركبهنّ كما بين سماء إلى سماء، ثمّ على ظهورهنّ العرش، بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثمّ الله فوق ذلك تبارك وتعالى "(49).
روي في فردوس الأخبار للديلمي، عن العبّاس بن عبد المطلب: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذ ثَمَانِيَةٌ }(50): ثمانية أملاك في صورة الأوعال، ما بين ظلف أحدهم وركبته مسيرة خمسمائة عام(51).
جاء في التمهيد لابن عبد البرّ، عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: حملة العرش أحدهم على صورة إنسان، والثاني على صورة ثور، والثالث على صورة نسر، والرابع على صورة أسد(52).
روي في تفسير الطبري، عن شعيب الجبائي قال: في كتاب الله الملائكة حملة العرش، لكلّ ملك منهم وجه إنسان، وثور، وأسد، فإذا حرّكوا أجنحتهم فهو البرق(53).
عزيزي القارئ، لقد ذكرت لك جملة يسيرة من أحاديث التجسيم والتشبيه، وما تركته هو أكثر بكثير من ذلك، وأيضاً تركت لك آراء العلماء عند أهل السنّة لكي تراجعها خصوصا رأي ابن تيمية وغيره، المهم أنْ تعرف أنّ موضوع التجسيم قد بدأ في عصر مبكّر، وأكثر من روى في ذلك عمر بن الخطّاب الذي عيّن كعب الأحبار قصّاصا يقصّ على المسلمين ما هو موجود في التوراة، ثمّ أبا هريرة الذي تتلمذ على يدي كعب الأحبار، والذي كان ينقل الروايات عنه وينسبها إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلك انتشر التجسيم والتشبيه بين أهل السنّة، فيكون إذن حديث اتّباع الأمم السابقة من اليهود والنصارى في موضوع التجسيم حاصلاً ومنطبقاً عند أهل السنّة، ويكونون بذلك قد خالفوا الآيات الشريفة المذكورة في بداية البحث، ولم ينزّهوا الله سبحانه وتعالى عن المكان والجسميّة والزمان، وتعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيراً.
اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله:
قال تعالى في سورة التوبة: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ }(54).
قال السيوطي في الدرّ المنثور: أخرج ابن سعد، وعبد بن حميد، والترمذي وحّسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ في سورة براءة: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ }فقال: " أمّا أنّهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنّهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه "(55).
وفي الدرّ المنثور أيضاً: أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننه، عن أبي البختري رضي الله عنه قال: سأل رجل حذيفة رضي الله عنه فقال: أرأيت قوله تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ }، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، ولكنّهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه(56).
وفيه أيضاً أخرج أبو الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان، عن حذيفة رضي الله عنه { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ }، قال: أما إنّهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنّهم أطاعوهم في معصية الله(57).
عزيزي القارئ، أظنّك بعد قراءة الكتاب الذي بين يديك، سوف تصل إلى الإجابة على هذا السؤال، وهو هل اتّخذ المسلمون أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله يحلّون لهم الحرام ويحرّمون عليهم الحلال كما فعل اليهود والنصارى؟
أعتقد بأنّك سوف تجيب على هذا السؤال بكلّ سهولة ويسر بعد أنْ قرأت كيف نقض الصحابة عهودهم وبيعتهم لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) التي عقدوها لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) يوم غدير خمّ، وعيّنوا شخصاً آخر وهو أبو بكر الذي لم يعيّنه الله ولا رسوله، ثمّ اتّخذوه بعد ذلك قدوة، فما قال وأمر اتّبعوه، وما أنكر ومنع تركوه حتّى ولو كان ذلك مخالفاً لله ولرسوله.
ولقد قرأت عزيزي القارئ بحث التغيير والانقلاب بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وتغيير الأحكام بحسب الأهواء والآراء وكيف تمسّك المسلمون بكلّ تلك المتغيّرات والقوانين التي غيّرها أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية على حساب النصوص الشرعيّة القطعيّة الثبوت، القطعيّة الدلالة، فما حرّم أولئك حرّمه المسلمون، ولا زالوا حتّى اليوم متّبعين في ذلك آراء وأهواء أئمّتهم الذين لم يفرض الله طاعتهم، ولم يجعل لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أيّة فضيلة، وكذلك ما فرض أولئك على المسلمين لا زال المسلمون حتّى اليوم يعتبرونه فرضاً ولا يمكن أنْ يتنازلوا عنه، حتّى ولو كان ذلك على حساب الدليل من القرآن والسنّة الصحيحة، أليس هذا ما نشاهده اليوم ويطبّقه المسلمون من أهل السنّة.
فلقد قال عمر بن الخطّاب: متعتان كانا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحجّ(58).
ومع أنّ الله أحلّ ذلك للمسلمين، وفعله رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أنّ المسلمين السنّة - ولأنّ المحرّم لهم عمر الذي يعتبرونه مشرّعا - حتّى اليوم يتبنّون هذا الرأي ويعتبرونه تشريعاً، حتّى ولو خالف الآيات القرآنيّة، ويحاولون جهدهم أنْ يلصقوا تحريم ذلك إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
روى أحمد في مسنده، عن ابن عبّاس قال: تمتّع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عبّاس: ما يقول عرية؟ قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عبّاس: أراهم سيهلكون. أقول: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويقول: نهى أبو بكر وعمر(59).
وكذلك عندما اخترعوا للمسلمين غسل الرجلين في الوضوء بدل مسحهما، مخالفين بذلك كتاب الله وسنّة نبيّه، ولكن اتّبعوا أئمّتهم الذين اتّخذوهم من دون الله، فنبذوا حكم الله - الذي في آية الوضوء - وراء ظهورهم، وتركوا تطبيق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك الأمر الإلهي، واتّبعهم المسلمون السنّة حتّى يومنا هذا، وصار الأمر على الغسل بدل المسح. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن ماجة، عن ابن عبّاس قال: أبى الناس إلا الغسل، ولا أجد في كتاب الله إلا المسح(60).
وقس على ذلك كلّ التغييرات التي حصلت بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، كأحكام الطهارة، والوضوء، والصلاة، والحجّ، والصيام، والزكاة، والطلاق، والزواج، والمعاملات، والمأكولات، والمشروبات، وغير ذلك، ولا زال المسلمون حتّى اليوم يبرّرون كلّ تلك التغييرات والتبديلات بقول عمر، وأبو بكر، وعثمان، ومعاوية، أو فعل عمر، وأبو بكر، وعثمان، ومعاوية، يبرّرون كلّ ذلك بالرغم من وضوح المخالفة لأمر الله ورسوله، ولكن كما قلت لك: يقدّمون أحبارهم ورهبانهم على كلام الله وسنّة رسوله، وهم مستعدّون لتقديم الغالي والرخيص في سبيل نصرة أولئك وآرائهم، ولو كان ذلك على حساب المقام الإلهي، ومرتبة الرسالة والنبوّة، كما بيّنت لك في غير موضع من هذا الكتاب، ولقد صدق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)عندما قال في ذلك ما قال، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة، وليكونن أئمّة مضلون، وليخرجن على أثر ذلك الدجّالون الثلاثة(61).
ولقد قرأت عزيزي القارئ كيف جسّم أولئك الذات الإلهيّة، واتّبعهم المسلمون السنّة على ذلك، ودافعوا عن أقوالهم وأثبتوه في صحاحهم ومسانيدهم، وحتّى لو كان ذلك مخالفاً للقرآن الكريم.
ولقد قرأت كيف طعنوا في عصمة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ووصيّته حتّى يصطنعوا لاؤلئك فضائل لا وجود لها على حساب المقام الإلهي ومنزلة النبوّة والرسالة بحيث جعلوهم بمنزلة الأنبياء، وحتّى وصل بهم الأمر أنْ وضعوا حديثاً على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يدّعون فيه أنّ رسول الله قال: لو كان من بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطّاب(62).
لقد وصل بهم الغلوّ إلى أكثر من هذا الحدّ، ولكن يكفيك أنْ تشاهد عشرات المخالفات للآيات القرآنيّة من المسلمين السنّة مقابل تطبيق آراء وأحكام أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية.
لقد ألغى عمر بن الخطّاب البسملة من الفاتحة وطبّق ذلك معاوية وفرضه على المسلمين، ومع أنّها آية من القرآن الكريم، فإنّك تجد الملايين من المسلمين السنّة يتّبعون سنّة أولئك ولا يقرؤون البسملة في صلاتهم ولا يجيزونها في صلاتهم.
وكذلك فرض عمر بن الخطّاب وضع اليدين على الصدر، أي التكتّف في الصلاة، مع أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفعله، بل سدل يديه، ولكن لأنّ الأمر من عمر، لا زال المسلمون السنّة يطبّقونه ويتّبعون سنّة عمر في ذلك.
لقد حثّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على قيام شهر رمضان، فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وصلّى في شهر رمضان، لكنّه نهى عن صلاة القيام جماعة، ولكنّ عمر بن الخطّاب رأى أنْ يبتدع بدعة لم يفعلها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بل نهى عنها وفرضها عمر على المسلمين.
عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنّه قال: خرجت مع عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرّقون، يصلّي الرجل لنفسه، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط ، فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون(63).
ولا زالت هذه البدعة تطبّق بحذافيرها من قبل المسلمين السنّة، مع علمهم بأنّ ذلك مخالفاً للشرع وهو بدعة، وأنّ كلّ بدعة ضلالة وأنّ كلّ ضلالة في النار إلا أنّ رأى عمر بن الخطّاب وطاعته أولى من طاعة الله ورسوله، ولذلك بقي المسلمون السنّة على ذلك وحافظوا عليه، حتّى أنّني قرأت رواية عن أمير المؤمنين(عليه السلام) عندما طلب المسلمون منه أنْ يفرض لهم إماماً لصلاة التراويح نهاهم عن ذلك، وأخبرهم أنّ ذلك يخالف سنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فتركوه واجتمعوا لأنفسهم وقدّموا بعضهم، فأرسل إليهم الإمام الحسن(عليه السلام)، لينهاهم عن ذلك، فخرجوا يصيحون: واعمراه(64).
لقد كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) يحاول دائما أنْ يعيدهم إلى سنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنْ يتّخذوا من قوله وفعله وتقريره قدوة وحجّة ; لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول في سورة الحشر: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }(65).
ويقول أنس بن مالك إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لعليّ: " أنت تبيّن لأمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي "(66).
ومع كلّ هذه الدلائل، كانوا يواجهونه بالرفض والنكران ; لأنّهم يريدون متابعة من اتّخذوهم أرباباً من دون الله، فكلّ المسلمين يعرفون كيف كان موقف أمير المؤمنين(عليه السلام) عندما جاءه عبد الرحمن بن عوف منتدباً من عمر بن الخطّاب ليفرض عليه سنة أبي بكر وعمر، فلم يقبل وقال: لا إلا على كتاب الله وسنّة نبيّه، لكنّ عثمان بن عفّان قبل بالبيعة على ذلك، وقبل المسلمون ذلك ورضوا به.
اتّفق مؤرخو الإسلام قاطبة على أنّ أمير المؤمنين عليّاً(عليه السلام) رفض قبول البيعة بعد مقتل عمر، حينما طلب منه عبد الرحمن بن عوف أنْ يبايع على كتاب الله وسنة نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وسيرة الشيخين، فأصرّ أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) على حذف الشق الثالث، وأبي إلا أنْ يبايع على كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ; لأنّه يرى أنّ سيرة الشيخين لا تمثّل مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي المقدّس.
جاء في تاريخ الطبري وغيره: " فقال عبد الرحمن: إنّي قد نظرتُ وشاورت، فلا تجعلنّ أيّها الرهط على أنفسكم سبيلاً، ودعا عليّاً فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنّة رسوله، وسيرة الخليفتين من بعده، قال: أرجو أنْ أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعليّ، قال: نعم، فبايعه فقال عليّ: حبوته حبو دهر، ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون، والله ما ولّيت عثمان إلا ليردّ الأمر إليك... "(67).
روى ابن كثير: صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوقف وقوفاً طويلاً، ودعا دعاءً طويلاً لم يسمعه الناس، ثمّ تكلّم فقال: أيّها الناس، إنّي سألتكم سرّاً وجهراً بأمانيّكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين، إمّا عليّ وإمّا عثمان، فقم إليّ يا عليّ، فقام إليه، فوقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وفعل أبي بكر وعمر؟
قال: اللهمّ لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال: فأرسل يده، وقال: قم إليّ يا عثمان، فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهمّ نعم!(68).
روى البخاري في صحيحه، عن الزُهريّ: أنّ حميد بن عبد الرحمن أخبره: أنّ المسور بن مخرمة أخبره: أنّ الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا، فقال لهم عبد الرحمن: لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر، ولكنّكم إنْ شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلمّا ولوا عبد الرحمن أمرهم، فمال الناس على عبد الرحمن، حتّى ما أرى أحداً من الناس يتّبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتّى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان، قال المسوّر: طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتّى استيقظت، فقال: أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكبير نوم، انطلق فادعوا الزبير وسعداً، فدعوتهما له، فشاورهما، ثمّ دعاني فقال: ادع لي عليّاً، فدعوته، فناجاه حتّى إبهار الليل، ثمّ قام عليّ من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من عليّ شيئاً، ثمّ قال: ادع لي عثمان، فدعوته، فناجاه حتّى فرّق بينهما المؤذّن بالصبح، فلمّا صلّى للناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجّة مع عمر، فلمّا اجتمعوا، تشهد عبد الرحمن ثمّ قال: أمّا بعد يا عليّ، إنّي قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلنّ على نفسك سبيلاً.
فقال: أبايعك على سنّة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن(69) ( أي عثمان ).
والمصيبة العظمى، أنّ المسلمين يعتبرون من خالف أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية مجرماً خارج عن السنّة والجماعة، ومن طبّق أمر الله ورسوله يعتبرونه مجرماً مارقاً زنديقاً، لقد انقلبت المفاهيم وخرج الناس عن الصواب ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، ولا أجد في هذه الأيّام من يطبّق أمر الله وأمر رسوله ويلجأ إلى أمير المؤمنين والأئمّة من بعده سوى أصحاب المذهب الحقّ، الفرقة الناجية، أتباع أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، رزقنا الله زيارة أئمّتنا في الدنيا، وشفاعتهم في الآخرة، حتّى نقدم على الله يوم القيامة مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة من أهل بيته راضين مرضيين.
قال السيوطي: أخرج ابن عدي، عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ }(70)، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعليّ: " هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ".
وأخرج ابن مردويه، عن عليّ قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " ألم تسمع قول الله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ }، أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جثت الأمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين "(71).

والحمد لله ربّ العالمين

تمّ بحمد الله في الثاني عشر من

ذي القعدة/ 1424 هجرية
5/1/ 2004 ميلادية










___________
1- البقرة: 51 .
2- البقرة: 54 .
3- الأنعام: 103.
4- الأعراف: 143.
5- الشورى: 11.
6- نهج البلاغة بشرح محمّد عبده 2: 39 ـ 40.
7- نهج البلاغة بشرح محمّد عبده 1: 148.
8- نهج البلاغة بشرح محمّد عبده 1: 186.
9- الكافي 1: 125.
10- الكافي 1: 88 .
11- الكافي 1: 88 ـ 89 .
12- الأنعام 103.
13- صحيح البخاري 6: 50 .
14- صحيح البخاري 7: 125، صحيح مسلم 8: 149.
15- كنز العمّال 1: 228.
16- كنز العمّال 1: 228.
17- كنز العمّال 1: 228.
18- الأنعام: 75.
19- الدرّ المنثور 3: 396.
20- تاريخ دمشق 27: 396.
21- صحيح البخاري 6: 47.
22- صحيح البخاري 6: 48.
23- صحيح البخاري 8: 181.
24- صحيح مسلم 1: 115 ـ 116.
25- صحيح مسلم 1: 112 ـ 113.
26- الزمر: 67.
27- صحيح البخاري 8: 174.
28- صحيح البخاري 6: 33.
29- مسند أحمد 1: 378.
30- تفسير الطبري 24: 33.
31- مسند أحمد 1: 457.
32- طه: 130.
33- صحيح البخاري 1: 138 ـ 139.
34- صحيح البخاري 5: 126.
35- صحيح مسلم 8: 195.
36- صحيح مسلم 1: 122.
37- صحيح البخاري 8: 183 ـ 184.
38- الدرّ المنثور 6: 292.
39- صحيح البخاري 2: 47.
40- صحيح مسلم 2: 175.
41- كنز العمّال: 5: 71 ـ 72.
42- الإصابة 7: 91.
43- كنز العمّال 2: 111.
44- كنز العمّال 2: 113.
45- مسند أحمد 1: 388.
46- الدرّ المنثور 1: 34.
47- الدرّ المنثور 1: 44.
48- الدرّ المنثور 6: 291.
49- سنن ابن ماجة 1: 69.
50- الحاقة: 17.
51- الفردوس بمأثور الخطّاب 4: 413.
52- التمهيد 4: 9.
53- تفسير الطبري 1: 221.
54- التوبة: 31.
55- الدرّ المنثور 3: 230.
56- الدرّ المنثور 3: 231.
57- الدرّ المنثور 3: 231.
58- شرح معاني الآثار 2: 146، كنز العمّال 16: 519، واللفظ للثاني.
59- مسند أحمد 1: 337.
60- اُنظر الدرّ المنثور 2: 262.
61- المستدرك على الصحيحين 4: 528 .
62- مسند أحمد 4: 154، مجمع الزوائد 9: 68.
63- صحيح البخاري 2: 252.
64- اُنظر الشافي في الإمامة 4: 219، واُنظر في ذلك الكافي 8: 63.
65- الحشر: 7.
66- المستدرك على الصحيحين 3: 122.
67- تاريخ الطبري 3: 297، 301، الكامل في التاريخ 3: 71.
68- البداية والنهاية 7: 165، تاريخ الطبري 3: 301، تاريخ الإسلام ( حوادث 11 ـ 40هـ ): ص305.
69- صحيح البخاري 8: 123.
70- البينة: 7.
71- الدرّ المنثور 6: 379.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page