يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ}(1)، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(2)، ويقول لموسى لمّا طلب رؤيته: {لَنْ تَرَانِي}(3).
فكيف تقبلُون بالأحاديث المرويّة في "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم" بأنّ الله سبحانه يتجلّى لخلقه ويَروْنَه كما يرون القمر ليلة البدر(4)، وأنّه ينزل إلى سماء الدنيا في كلّ ليلة(5)، ويضع قدمه في النار فتمتلئ(6)،
وأنّه يكشف عن ساقه لكي يعرفهُ المؤمنون(7)، وأنّه يضحك ويتعجّب. وإلى غير ذلك من الرّوايات التي تجعل من الله جسماً متحرّكاً ومتحوّلا، له يدان ورجلان، وله أصابع خمسة يضع على الأوّل منها السماوات، وعلى الإصبع الثاني الأرضين، والشجر على الإصبع الثالث، وعلى الرابع يضع الماء والثرى، ويضع بقية الخلائق على الإصبع الخامس(8)، وله دار يسكُن فيها، ومحمدٌ (صلى الله عليه وآله وسلم) يستأذن للدخول عليه في داره ثلاث مرّات(9)، تعالى الله عن ذلك عُلوّاً كبيراً، سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون.
والجواب على هذا عند أئمة الهُدى ومصابيح الدّجى هو التنزيه الكامل لله سبحانه وتعالى عن المجانسة، والمشاكلة، والتصوير، والتجسيم، والتشبيه، والتّحديد، يقول الإمام علي (عليه السلام) في ذلك:
"الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يُحصي نعماءهُ العادّون، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا ينالُه غوصُ الفطن، الذي ليس لصفته حدّ محدود، ولا نعت موجود، ولا وقتٌ معدود، ولا أجل ممدُودُ... فمن وصف الله سبحانه فقد قرنَهُ، ومن قرنَهُ فقدْ ثنّاهُ، ومن ثنَّاهُ فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهلَه، ومن جهلَهُ فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حَدَّهُ، ومن حدّهُ فقد عَدَّهُ، ومن قَال فِيمَ فقدْ ضمَّنه، ومن قال علامَ فقد أخلَى منه، كائنٌ لاَ عن حَدَث، موجودٌ لا عن عَدَم، مع كلّ شيء لا بمُقارنة، وغيرُ كلّ شي لا بمزايلة، فاعِلٌ لا بمعنى الحركات والآلةِ، بصيرٌ إذْ لا منظور إليه من خلقِهِ..."(10).
وإنّي أُلفِتُ نظر الباحثين من الشباب المثقفين إلى الكنوز التي تركها الإمام علي (عليه السلام)، والتي جُمعتْ في "نهج البلاغة"، ذلك السفر القيّم الذي لا يتقدّمه إلاّ القرآن، والذي بقي مع الأسف مجهولا لدى أغلبية النّاس، نتيجة الإعلام والإرهاب والحصار المضروب من قبل الأمويين والعبّاسيين على كل ما يتّصل بعلي بن أبي طالب (عليه السلام).
ولستُ مبالغاً إذا قلتُ بأنّ في "نهج البلاغة" كثيراً من العلوم والنصائح التي يحتاجها النّاس على مرّ العصور، وفي "نهج البلاغة" علم الأخلاق، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وإشارات قيّمة في علم الفضاء والتكنولوجيا، إضافة إلى الفلسفة، والسّلوك، والسياسة، والحكمة.
وقد أثبتُ ذلك شخصياً في الأطروحة التي قدّمتها إلى جامعة السوربون، والتي نُوقِشتْ على مواضيع أربعة اخترتها من "نهج البلاغة"، وحصلتُ من خلالها على شهادة الدكتوراه.
فيا ليتَ المسلمين يولون "نهج البلاغة" عناية خاصّة، فيبحثون فيه كلّ الأطروحات وكل النّظريات، فهو بحر عميق كلّما غاص فيه الباحث استخرج منه اللؤلؤ والمرجان.
____________
1- الأنعام: 103.
2- الشورى: 11.
3- الأعراف: 143.
4- صحيح البخاري 7: 205 كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر، صحيح مسلم 1: 112 كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية.
5- صحيح البخاري 2: 47 كتاب التهجّد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، صحيح مسلم 2: 175 كتاب صلاة المسافر، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.
6- صحيح البخاري 8: 186 كتاب التفسير، باب (وتقول هل من مزيد).
7- صحيح البخاري 8: 182 كتاب التفسير، باب يوم يكشف عن ساق.
8- صحيح البخاري 6: 33 كتاب التفسير، باب قوله: (وماقدروا الله حقّ قدره).
9- صحيح البخاري 8: 183 كتاب التفسير، باب قوله (وعلّم آدم الأسماء كلها)، صحيح مسلم 1: 124 كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنّة منزلة فيها.
10- نهج البلاغة: 1: 15، الخطبة الأولى.