ولما رأى الشيخ العالم كلامي منطقيّا وحجتي مقبولة قال : أنصحك لوجه اللّه تعالى مهما شككت فلا تشك في الخلفاء الراشدين ، فهم أعمدة الإسلام الأربعة إذا هدّمت عمودا منها سقط البناء !!
قلت : أستغفر اللّه يا سيدي فأين رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذن إذا كان هؤلاء هم أعمدة الإسلام ؟
أجاب: رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو ذاك البناء ! هو الإسلام كلّه .
ابتسمت من هذا التحليل وقلت : أستغفر اللّه مرة أخرى يا سيدي الشيخ ! فأنت تقول من حيث لا تشعر : بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن ليستقيم إلاّ بهؤلاء الأربعة بينما يقول اللّه تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}(1) . فقد أرسل محمدا بالرسالة ولم يشركه فيها أحدا من هؤلاء الأربعة ولا من غيرهم ، وقد قال اللّه تعالى في هذا الصّدد : {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}(2) .
قال : هذا ما تعلّمناه نحن من مشايخنا وأئمتنا ، ولم نكن نحن في جيلنا نناقش ، ولا نجادل العلماء مثلكم اليوم الجيل الجديد ! أصبحتم تشكّون في كل شيء ، وتشكّكون في الدين ! وهذه من علامات الساعة ، فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لن تقوم الساعة إلاّ على شرار الخلق(1) .
فقلت : يا سيدي لماذا هذا التهويل ، أعوذ باللّه أن أشكّ في الدين أو أشكك فيه ، فقد آمنت باللّه وحده لا شريك له ، وملائكته وكتبه ورسله ، وآمنت بأنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أفضل الأنبياء والمرسلين ، وخاتمهم وأنا من المسلمين ، فكيف تتّهمني بهذا ؟
قال : أتهمك بأكثر من هذا ! لأنّك تشكك في سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لو وزن إيمان أمّتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر(2) .
وقال في حقّ سيدنا عمر : عرضت علىّ أمتي وهي ترتدي قمصاً لم تبلغ الثدي ، وعرض علىّ عمر وهو يجرّ قميصه ، قالوا : ما أوّلته يا رسول اللّه ؟ قال : الدين(3) .
وتأتي أنت اليوم في القرن الرابع عشر لتشكك في عدالة الصحابة وبالخصوص أبي بكر وعمر! ألم تعلم بأنّ أهل العراق هم أهل الشقاق ، هم أهل الكفر والنفاق !!
ماذا أقول لهذا العالم المدّعي العلم الذي أخذته العزّة بالإثم ، فتحوّل من الجدال بالتي هي أحسن إلى التهريج والافتراء ، وبثّ الإشاعات أمام مجموعة من الناس المعجبين به ، والذين احمرّت أعينهم وانتفخت أوداجهم ، ولاحظت في وجوههم الشر .
فما كان منّي إلاّ أن أسرعت إلى البيت وأتيتهم بكتاب الموطأ للإمام مالك وصحيح البخاري ، وقلت : يا سيدي إنّ الذي بعثني على هذا الشك هو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه ، وفتحت كتاب الموطأ وفيه روى مالك أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لشهداء أحد : هؤلاء أشهد عليهم ، فقال أبو بكر الصديق : ألسنا يا رسول اللّه إخوانهم أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : بلى ولكن لا أدري ما تُحدثون بعدي! فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال : إنّنا لكائنون بعدك(1) .
ثم فتحت صحيح البخاري وفيه : دخل عمر بن الخطاب على حفصة وعندها أسماء بنت عميس فقال ـ حين رآها ـ : من هذه ؟ قالت : أسماء بنت عميس ، قال عمر : الحبشية هذه ، البحرية هذه ، قالت أسماء : نعم ، قال : سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) منكم ، فغضبت وقالت : كلا واللّه ، كنتم مع رسول اللّه يطعم جائعكم ، ويعظ جاهلكم ، وكنّا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ، وذلك في اللّه وفي رسوله ، وأيم اللّه لا أطعم طعاما ، ولا أشرب شرابا حتى أذكر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن كنّا نؤذى ونخاف ، وسأذكر ذلك للنبي أسأله واللّه لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه !
فلمّا جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت : يا نبي اللّه ، عمر قال : كذا وكذا .
قال : فما قلت له . قالت : كذا وكذا .
قال : ليس بأحقّ بي منكم ، وله ولأصحابه هجرة واحدة ، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان ، قالت : فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث ، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم ما في أنفسهم ممّا قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(1) .
وبعد ما قرأ الشيخ العالم والحاضرون معه الأحاديث تغيّرت وجوههم وبدأوا ينظرون بعضهم إلى بعض ، ينتظرون ردّ العالم الذي صُدم ، فما كان منه إلاّ أن رفع حاجبيه علامة التعجّب وقال : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}(2) .
فقلت : إذا كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أوّل من شكّ في أبي بكر ولم يشهد عليه لأنّه لا يدري ماذا سوف يحدث من بعده ، وإذا كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقرّ بتفضيل عمر بن الخطّاب على أسماء بنت عميس بل فضّلها عليه ، فمن حقّي أن أشك وأن لا أفضّل أحدا حتى أتبيّن وأعرف الحقيقة ، ومن المعلوم أنّ هذين الحديثين يناقضان كل الأحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمر ويبطلانها، لأنّهما أقرب من أحاديث الفضائل المزعومة .
قال الحاضرون : وكيف ذلك ؟
قلت : إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشهد على أبي بكر ، وقال له إنّني لا أدري ماذا تحدثون بعدي ! فهذا معقول جداً ، وقد قرّر ذلك القرآن الكريم ، والتاريخ يشهد أنّهم بدّلوا بعده ، ولذلك بكى أبو بكر ، وقد بدّل وأغضب فاطمة الزهراء (عليها السلام)بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد بدّل حتى ندم قبل وفاته(3) وتمنى أن لا يكون بشرا .
أمّا الحديث الذي يقول : لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر ، فهو باطل وغير معقول ، ولا يمكن أن يكون رجل قضى أربعين سنة من عمره يشرك باللّه ، ويعبد الأصنام أرجح إيمانا من أمّة محمّد بأسرها ، وفيها أولياء اللّه الصالحين والشهداء ، والأئمة الذين قضوا أعمارهم كلّها جهادا في سبيل اللّه ، ثم أين أبو بكر من هذا الحديث ؟ لو كان صحيحا لما كان في آخر حياته يتمنى أن لا يكون بشرا .
ولو كان إيمانه يفوق إيمان الأمة ما كانت سيدة النساء فاطمة بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، تغضب عليه وتدعو اللّه عليه في كل صلاه تصلّيها(1) .
ولم يرد العالم بشي ، ولكنّ بعض الجالسين قالوا : لقد بعث واللّه هذا الحديث الشك فينا ؟!
عند ذلك تكلم العالم ليقول لي : أهذا ما تريده ؟ لقد شككت هؤلاء في دينهم !!
وكفاني أحدهم الردّ عليه ، إذ قال : كلا ، إنّ الحق معه ، نحن لم نقرأ في حياتنا كتابا كاملاً ، واتّبعناكم واقتدينا بكم في ثقة عمياء بدون نقاش ، وقد تبيّن لنا الآن أنّ ما يقوله الحاج صحيح ، فمن واجبنا أن نقرأ ونبحث !! ووافقه على رأيه بعض الحاضرين ، وكان ذلك انتصارا للحق والحقيقة ، ولم يكن انتصارا بالقوة والقهر ولكنّه انتصار العقل والحجّة والبرهان {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1) .
ذلك ما دفعني وشجّعني على الدخول في البحث ، وفتح الباب على مصراعيه فدخلته باسم اللّه وباللّه وعلى ملّة رسول اللّه ، راجيا منه سبحانه وتعالى التوفيق والهداية فهو الذي وعد بهداية كلّ باحث عن الحقّ وهو لا يخلف وعده(2) .
____________
1- سورة الفتح ، الآية : 28 .
2- سورة البقرة ، الآية : 151 .
3- صحيح مسلم : 6/54 ، المستدرك ، الحاكم : 4/456 .
4- تذكرة الموضوعات ، الفتني : 93 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 2/165 ، ح2130 .
5- مسند أحمد بن حنبل : 3/86 ، صحيح البخاري : 1/11 ، تهذيب الكمال ، المزي : 21/325 .
6- كتاب الموطأ ، مالك : 2/461 ـ 462 ح32 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 15/38 .
7- صحيح البخاري : 5/80 ، صحيح مسلم : 8/172 ـ 173 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/104 .
8- سورة طه ، الآية : 114 .
9- روى اليعقوبي وغيره أن أبا بكر قال عند موته : وليتني لم افتش بيت فاطمة (عليها السلام) بنت رسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وأدخله الرجال ، ولو كان أغلق عليَّ الحرب ..
راجع : تاريخ اليعقوبي : 2/137 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/62 ح43 ، تاريخ الطبري : 2/619 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30/418 ، مروج الذهب ، المسعودي : 2/301 ـ 302 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 36 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/47 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 5/203 .
10- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/31 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 104 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/214 ، أعلام النساء ، كحالة : 4/123 ـ 124 .
11- سورة البقرة ، الآية : 111 .
12- كتاب ثم اهتديت ، الدكتور التيجاني : 149 .
الصحابة في ميزان البحث والتحقيق
- الزيارات: 965